مدنية العرب في الأندلس
كلام على الأندلس وفتحها
أطلقت
١ العرب على الأندلس اسم الجزيرة من باب التغليب، كما أطلقت اسم الجزيرة على
شبه جزيرة العرب؛ وذلك لأن الأندلس متصلة من أقصى الشمال بجبال البرينات أو الثنايا،
وحدَّها عندهم مسيرة ثلاثين يومًا طولًا، وزهاء عشرين يومًا عرضًا، يطوقها البحران
الظلمات والمتوسط من أطرافها الثلاثة إلا من شمالها الشرقي، ولا تعرف مساحة الأندلس على
التحقيق أيام الحكم العربي، وغاية ما يُقال: إن بلاد البرتقال داخلة في الأندلس وكذلك
برشلونة في الشرق، ولم يبقَ من شبه جزيرة إيبريا أو إسبانيا والبرتقال اليوم أرض لم يصل
إليها حكم العرب سوى بلاد ضئيلة وعرة من الشمال، كانت تُطلق عليها العرب اسم بلاد
الجلالقة وآشتوريا، أو جبال قرقشونة وجبال بنبلونة وصخرة جليقية.
فالعرب ملكوا إذًا معظم شبه جزيرة إيبريا سنة ٩٢ﻫ على يد موسى بن نصير وطارق بن زياد،
وتقدم طارق بن زياد البربري من بر العُدوة
٢ في اثني عشر ألف فارس من البربر وبعض العرب صيرها عسكرين قاد أحدهما بنفسه
ونزل به جبل الفتح
٣ فسُمي جبل طارق به إلى اليوم، وقاد الآخر طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان
مدينة طريف فسُمي به إلى اليوم، وقيل: إن طارقًا أحرق السفن التي حملت جيشه في هذا
الزقاق بين العدوتين، وخطب جيشه لما أطل عليه جيش صاحب طليطلة، فمما قال: أيها الناس
٤ أين المفر، والبحر من ورائكم والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق
والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلكم
عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر
٥ لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن
امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوضت القلوب برعبها
منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا
الطاغية، إلى أن قال: واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا، استمتعتم بالأرفه الألذ
طويلًا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حظكم فيه أوفر من حظي، وقد بلغكم ما أنشأت
هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان … وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من
الأبطال عربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا …
وافتتحت برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف، وانقرضت أمم
القوط وأوى الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب
فتحصنوا بها، وأجازت عسكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط
وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة حتى سكن المسلمون بعد حين أربونة
Nar bonne وصار رباطهم على نهر ردونة، وانقلب موسى إلى الخليفة الأموي
بدمشق يحمل خبر الفتح، ومن الغنائم ما تُحار له العقول، وعُرض عليه الأسرى وكانوا من
أبناء ملوك البربر وملوك الروم وملوك الإسبان وملوك إفرنجة،
٦ وكان عهد الصلح مع الإسبان أن تحفظ على أهل البلاد دماؤهم، فلا يُسبون ولا
يُفرق بينهم وبين أولادهم ونسائهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا تُحرق كنائسهم، وجعلوا
على كل رجل حر بالغ دينارًا في السنة، وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدارًا من
الطلا والخل والعسل والزيت، وعلى العبد نصف ذلك.
جيوش العرب وقبائلهم وحكومتهم في الأندلس
كانت جمهرة الجيش الذي فتح الأندلس مؤلفة من البربر، وليس فيه من العرب إلا القليل،
وأول من دخل الأندلس
٧ مع طارق بن زياد نحو ثلاثمائة من العرب وزهاء عشرة آلاف من البربر، فلما تم
الفتح أرسل الأمويون قبائل من الشام أنزلوها في كور مخصوصة من بلاد الأندلس، وجعلوا لهم
ثلث أموال أهل الذمة طعمة، فنزل في البيرة جند دمشق من مضر وجلهم قيس وأفناء
٨ قبائل العرب، ونزل رية جند الأردن وهم يمن كلهم، ونزل شذونة جند حمص
وأكثرهم يمن، ونزل مدينة «الجزيرة» البربر وأخلاط من العرب قليل، ونزل في جيان جند
قنسرين والعواصم وهم أخلاط من العرب من معد واليمن، ونزل قبائل البربر بلنسية وأكشونبة،
وفي باجة وتدمير جند مصر. وتمازج العرب بسكان البلاد، واغتبط هؤلاء بمقدم العرب، مؤملين
السعادة في أيامهم، وكانت البلاد قبل موافاة الفاتحين أصيبت منذ سنة ثمانٍ وثمانين إلى
سنة تسعين بمجاعة شديدة، ثم وبئت حتى مات نصف أهلها أو أكثر، قال لسان الدين بن الخطيب:
فلما استقر الفتح وبلغ حيث بلغ من التخوم، سكنت العرب الأقطار وتبوأت الديار، ثم دخلت
بعد ذلك العرب الشاميون مع الأمير بلج بن بشر القشيري في عشرة آلاف فارس من أعلام أهل
الشام، وتُسمى الطالعة البلجية، فالداخلون مع موسى وطارق يُسمون بالأندلس في الرسوم
والخطوط والإقطاعات بالبلديين، والداخلون مع بلج بن بشر يُسمون بالشاميين.
وما لبث الإسبانيون أن أحسوا بالفرق بين حكم العرب وحكم والغوط «الويزغوت» ورأوا
من
تسامح الفاتحين وتفانيهم في نشر العدل بين الناس ما يثلج له الفؤاد، وأبقت العرب سكان
البلاد على قضائهم وإدارتهم، وقلدوهم بعض الوظائف، ثم وسدوا إليهم الجليل منها، فأحب
الإسبانيون العرب محبة خالصة، ورأوا البون الشاسع بين المدنية التي يحملها المسلمون،
وما كان للغوط من الثقافة المتأخرة، وكانت أقرب إلى الهمجية، ولم يمضِ قرن حتى أخصبت
القرى
٩ وكثرت المزارع، واتصل العمران اتصال الشؤبوب،
١٠ وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وأمست قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية
كعواصم أوروبا اليوم؛ تُنار بالمصابيح ليلًا، ويستضيء الماشي بسرجها ثلاثة فراسخ لا
ينقطع عنه الضوء، وأصبحت مبلطة أزقتها، مرفوعة قماماتها، وهي أول مدينة كان لها ذلك في
العالم، وغدت قرطبة عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، ولا تزال هذه المدينة قائمة، وهي
اليوم عبارة عن مقبرة كئيبة، وكانت في الدهر الغابر تضم مليون نسمة، ويتنزه المرء ساعات
إذا أحب الوصول إليها، وقد تُعد الاستعاضة عن الهلال بالصليب في مدينة قرطبة انتصارًا
عظيمًا للنصارى كما قال لبون، ولكن الهلال كان يحكم أغنى المدن وأجملها وأكثرها سكانًا،
والصليب اليوم لا يخفق إلا على بقايا كامدة من تلك المدينة الزاهرة.
وناهيك ببلدة بلغ عدد مساجدها ألفًا وستمائة مسجد، وحماماتها ستمائة، وفيها مائتا
ألف
دار، وثمانون ألف قصر، ومنها قصر دمشق شيده بنو أمية بالصفاح والعمد، حاكوا به قصرهم
في
المشرق، وأبدعوا بناءه، ونمقوا ساحته وفناءه،
١١ ودور قرطبة ثلاثون ألف ذراع، وفي ضاحيتها ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر
وفقيه، وكان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط
الكوفي، هذا في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع جهاتها؟! وكان في مسجدها الذي بُني على
طراز مسجد دمشق ١٤١٨ سارية تشبه غابة ملتفة، ولما زرناه في سنة ١٩٢١م كان فيه ٨٦٠
سارية.
مدن الأندلس وعمرانها العربي
ومن أهم مدن الأندلس على عهد العرب: الجزيرة الخضراء، المرية، بطليوس، برشلونة، بسطة،
باجة، قادس، شَنترة، شِلب، قلمرية، صلمنقة، وهاتان المدينتان اليوم من مدن العلم في
إسبانيا والبرتقال، ومن مدنها: جيان، غرناطة، وادي آش، وادي الحجارة، شاطبة، شريش،
لشبونة، لوشة، لُورَقَة، مجريط، مالقة، ماردة، لاردة، مرسية، رُنْدة، رَية، شنترين،
إشبيلية، شَذونة، طُرطوشة، طركونة، طُليطلة، أُبُدة، ولنسية، بلنسية، أرجذونة، أرجونة،
فحص البلوط، الزهراء، لُبْلة، أُلب، أخشنبة، قصر أبي دانس، يابرة، جليانة، طلبيرة، قلعة
رباح، مدينة سالم، مدينة غالب، دانية، شقورة، قلعة حماد، تدمير، إستجة، قبرة، غافق،
المدور، بياسة، قسطلة، المُنَكَّب، باغة، أندراس، أودربولة، جزيرة شقر، تُطيلة،
قرقشونة، أُكشونبة، قسطيلية.
ومن المتعذر استقصاء أعمال الأندلسيين في العمران، ووصف أبنيتهم وهندستهم وإبداعهم
في
بناء مدينة الزهراء مثلًا، وكانت على أربعة أميال وثلثي ميل من قرطبة، والزهراء من بناء
الملك الناصر، وكان يقسم جباية البلاد أثلاثًا؛ فثلث للجند، وثلث مدخر، وثلث ينفقه على
عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس يومئذ خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين
ألف دينار، ومن الستوق
١٢ والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار، وهي من أجمل بناء الأندلس
وأجله خطرًا وأعظمه شأنًا كما قال مؤرخو تلك الديار، وما فتئت إلى اليوم بقايا قصور
طليطلة وغرناطة وإشبيلية وغيرها موضع دهشة القادمين لزيارتها من الأمم الراقية. أما
صناعاتهم وجميع أدوات ترقيهم فقد أدخلت في الغرب أمورًا لم يكن لأهلها عهد بمثلها،
ونشروا العلوم والآداب وطبقوا العلم على الزراعة والصناعة، ولا تزال إلى اليوم السدود
التي أقاموها في ولاية بلنسية شاهدة بتفوقهم، يعيش الإسبانيون بفضل هندسة العرب العجيبة
بعد جلائهم عنها منذ أكثر من أربعة قرون، وبفضل هندستهم كانت المياه تجري إلى كل مكان
في بسائط الجزيرة فتحمل الخصب والإمراع، وقد عم الذوق باللذائذ العقلية جميع طبقات
المجتمع في الأندلس، وغدت المنافسة الشريفة على أتمها، فكانوا يكتبون على جميع المصانع
اسم من أمر ببنائها واسم بانيها، والأمة تمدح المحسن بها والمحسن لبنائها، ولم يبرح
الغرب إلى اليوم يدرس أصول بناء العرب، ويعجب بما نقشوه فيها من النقوش، وما عمدوا إليه
من الزينة المشفوعة بالمتانة والعظمة، وقصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة، من آخر ما
خلفه العرب من ذاك المجد المؤثل، وذكر بعض علماء الفرنجة أنه كان في الأندلس على عهد
الحضارة العربية أربعون مليون نسمة من أرباب الصنائع والعمل (وسكان إسبانيا اليوم نحو
اثنين وعشرين مليونًا وسكان البرتقال ستة ملايين).
عمل العرب في الأندلس
غيَّر عرب إسبانيا شكل الأندلس
١٣ في بضعة قرون من حيث المادة والعلم، وجعلوها في منزلة دونها جميع الممالك،
قال لبون: ولكن هذا التبدل لم يتناول الماديات والعقليات، بل تعداها إلى الأخلاقيات؛
فقد علموا وحاولوا أن يعلموا الشعوب النصرانية أثمن الصفات الإنسانية، وأعني بها
«التسامح»، ولقد كان من لطفهم مع الشعب الذي افتتحوا بلاده أن يعقد أساقفتهم مجامعهم
الدينية في إشبيلية سنة ٧٨٢م وفي قرطبة سنة ٨٥٢م وهذا من الأمثلة على حسن مأتاهم، ومنها
تلك الكنائس والبيع الكثيرة التي شادها نصارى الإسبان في العهد العربي في إسبانيا، وكل
ذلك دليل على الحرمة التي كان العرب يعاملون بها المعتقدات التي جُعلت تحت حماية
قانونهم. وقد انتحل الإسلام كثير من النصارى على حين لم يكن لهم في ذلك غير مصلحة
ضئيلة؛ لأن النصارى الذين كانوا في الحكم العربي، ويُطلق عليهم اسم المستعربين، كانوا
يُعاملون كاليهود أيضًا على نصاب واحد من المساواة مع المسلمين، ويمكنهم مثلهم أن
يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت إسبانيا العربية البلد الوحيد في أوروبا الذي كانت
فيه حقوق اليهود مصونة حتى كثر فيها سوادهم، وكما كان يُطلق اسم المستعربين على أبناء
النصرانية الخاضعين لأحكام المسلمين في الأندلس، كان يُطلق اسم المدجَّنين على المسلمين
الخاضعين لحكومة إسبانيا. وقال سيديليو ولبون وغيرهما: كان العرب في إسبانيا من حيث
الأخلاق والعلم والصناعة أرقى من النصارى، وكان في أخلاقهم وصفاتهم شيء من الكرم
والإحسان، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وفيهم الشمم الذي امتازوا به، وكان الإفراط في
حبه مولدًا لجنون البراز المشئوم.
ونشر العرب في بلاد إسبانيا بما خصوا به من حسن المعرفة بالفلاحة وطرائقها المبنية
على التجربة والمشاهدة، ما هو العجب العجاب؛ فزرعوا فلواتها، وعمروا مدائنها، وربطوا
علائق تجارية مع الأمم المجاورة، فظهرت بها الرفاهية، وصفا العيش، وكانت أساطيلهم
التجارية تقلع من مالقة وبجاية والمرية ولشبونة وبرشلونة، تحمل إلى الشرق والغرب حاصلات
الأندلس، وتأتي من البلاد التي أرست فيها ما يلزمها، وأهم ما كان الأندلسيون يهتمون له،
خصوصًا بعد أن قطعوا صلاتهم بالعباسيين، أن لا تقصر بلادهم عن العراق وفارس والشام ومصر
في سلوك سبيل الارتقاء؛ ولذلك كان كثير من خلفائهم يجعلون لهم عمالًا في عواصم الشرق
ينسخون لهم الكتب التي تؤلف حديثًا، ليطلعوا على سير العلم في العهد العباسي الأول
والثاني، ويبتاعوا كل ما تطول إليه أيديهم من الأسفار والطرائف؛ لئلا يفوتهم شيء من علم
علماء المشرق. على أن الرحلة في طلب الحديث ما انقطعت بين الأندلس والمشرق، وكذلك
المشارقة لم يغفلوا عن الرحلة إلى تلك الجزيرة والأخذ عن رجالها، ونقل ما فاتهم من علوم
المغاربة.
ومن أجمل ما وصف به عرب الأندلس قول صاحب فرحة الأنفس: «أهل الأندلس عرب في الأنساب،
والعزة والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال
الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، وهنديون في إفراط
عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها وضبطهم لها ورواياتهم، بغداديون في نظافتهم وظرفهم ورقة
أخلاقهم، ونباهتهم وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم،
ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباطهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم
لأجناس الفواكه، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع،
وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.»
العلم في الأندلس
أنشأ الأندلسيون في كل ناحية المدارس وخزائن الكتب، وأقاموا في العواصم الجامعات التي
كانت وحدها مواطن العلم في أوروبا زمنًا طويلًا، ومما أعان على الاستكثار من الكتب ما
كانت تصدره معامل شاطبة من الورق، وبهذه الطرق الجديدة فاض النور على الرجال والنساء،
وعلى الموافقين والمخالفين، حتى أصبحت قرطبة مدة ثلاثة قرون أكثر مدن العالم القديم
نورًا، وكانت حضرة ملوكها وقصور خلفائها، لكثرة عنايتهم بالعلم، وحرصهم على استجلاب
العلماء إليها من كل فج وصوب، أشبه بمجامع علمية، وقاعات خزائن كتبهم كأنها دور حكمة،
فيها معامل كبيرة خصت بالنساخين والمجلدين والمذهبين والنقاشين، ومن خزائنهم ما كانت
جرائد أسمائها تستغرق عشرات من المجلدات.
ولقد كان الحكم الثاني من أعظم المفضلين على الآداب، نشر العلم في أمته حتى قل فيها
الأميون وأنشأ في عاصمته خزانة كتب فيها من عامة العلوم نحو أربعمائة ألف مجلد، وربما
كان أعلم أمير جاء في الإسلام،
١٤ وكانت جامعة قرطبة في أيامه أعظم جامعات الأرض تُقرأ فيها العلوم الطبيعية
والرياضية والفلكية والكيماوية، وكان عبد الرحمن الثاني عالمًا أديبًا شاعرًا يعرف علوم
الفلاسفة.
ولما ملك الأندلس أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من المرابطين انقطع إليه «من الجزيرة
من أهل كل علم فحوله، حتى أشبهت حضرته حضرة بني العباس في صدر دولتهم، واجتمع له ولابنه
من أعيان الكتَّاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار.» وكان
الفيلسوف ابن طفيل من رجاله هو الذي جلب إليه العلماء من جميع الأقطار، ونبهه على فضل
ابن رشد الفيلسوف.
وكان لملوك الأندلس غرام باصطفاء كبار العلماء للوزارة، يشتملون على الدولة ويدبرون
أمرها، ومنهم من برزوا في السياسة والإدارة وقيادة الجيوش تبريزهم في العلم والأدب،
كابن زيدون وابن عبدون وابن أبي الخصال وابن خلدون وابن الخطيب وابن زهر وابن سعيد وابن
عمار وابن الجد وابن أيمن وابن هود وابن سوار وأبي عبد الله الطاهر وابن فرج وابن لبون
وابن رزين وابن أرقم وابن القلاس وابن غيطون وابن القاسم وابن زمرك وابن حزم وابن جبير
وابن عبد البر وابن السيِّد والبكري وعشرات غيرهم، بيضوا وجه الأندلس، وجرى على هذه
السُنَّة الأمويون ثم المرابطون والموحدون ثم بنو الأحمر، ومن تخلل هذه الدول الكبرى
من
ملوك الطوائف، ونسجوا على أساليب الدولة العباسية والفاطمية والإخشيدية والطولونية
والحمدانية والبويهية والسامانية والغزنوية وغيرها من دول المشرق.
كان عبد الرحمن الداخل بعد أن قطع صلاته بالعباسيين يريد الأندلسيين على أن يعتبروا
إسبانيا وطنهم الحقيقي، ينفق دخل مملكته في الأعمال النافعة؛ لعدم احتياجها إلى الجيوش
الكثيرة والأساطيل البحرية، وكان خلفاؤه يرون أبدًا أن ينسجوا على منواله، وصح أنه كان
لبعض ملوكهم الخالفين جيوش دائمة تحت السلاح مستعدة للوثبة عند أقل بادرة، مما لم يكن
يُعهد في الغرب، ولم يُعرف إلا في بعض الأدوار عند ملوك الشرق، وبلغ من عز الإسلام في
عهد هشام الأموي، وكانوا يشبهونه بتقواه بعمر بن عبد العزيز، أن رجلًا في أيامه، كان
أوصى أن يُفك أسير من المسلمين من تركته، فطلب ذلك فلم يوجد أسير يُشترى ويُفك؛ لضعف
العدو وقوة المسلمين.
ترجم عرب الأندلس كتب اليونان واللاتين فكان لهم من ذلك حظ لا يقل كثيرًا عن حظ خلفاء
العباسيين في الشرق، ونجح العرب هناك من وراء الغاية في دراسة الرياضيات والفلك
والطبيعيات والكيمياء والطب، وكانت لهم المخابر والمصانع، ولم يقل نجاحهم في الصناعة
والتجارة عن دولة راقية من دول اليوم، فكانوا يبعثون بحاصلات المعادن ومعامل السلاح
والحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إلى إفريقية وسائر المشرق، على أيدي تجار من
اليهود والبربر، وأهم ما لإسبانيا اليوم من أعمال الري هو من صنع العرب، فإنهم أدخلوا
إلى سهول الأندلس الخصيبة زراعات منوعة، فأصبحت الأندلس جنة كبرى بفضل ثقافتهم العالية،
وتناولت هممهم عامة فروع العلوم والصناعة والفنون، وكانت مشاريعهم العمومية على مثال
مشاريع الرومان بعظمتها وفضل غنائها، وقد أنشأوا الطرق والجسور والفنادق للسياح،
والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل صقع ونادٍ، وكان الأمويون في الغرب كالعباسيين
في
الشرق يجددون عهد بركليس على ما قال رينالدي، وكان الحكم الثاني أكثر ملوك الأندلس
اشتغالًا بالعلم ونشره وعنايةً به، وأجودهم في سبيله، فقد أسس في قرطبة وحدها ٢٧ مدرسة
كان يتعلم فيها أبناء الفقراء مجانًا، وروى دوزي
١٥ أنه كان كل فرد من الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينا كان في أوروبا جميع
النصارى حتى النبلاء والأشراف منهم، لا يفكرون في التعليم، وأنشأ الوزير رضوان النصري
(٧٦٠ﻫ) المدرسة بغرناطة ولم تكن بها. قال ابن الخطيب وهو الرجل الذي قل في الدول أمثاله
ذكاءً لم يكتسب من غير التجر والفلاحة مالًا، وقد أقام من أعمال العمران ما يحسده عليه
أعظم طواغيت الزمان.
يقول لوبس من علماء المشرقيات في البرتقال:
١٦ إن المنورين من مواطنيه البرتقاليين اليوم يقدرون الأمة العربية المجيدة حق
قدرها ويدرسون مآتيها فيما أبقته من آثارها الخالدة، ولا سيما هندستها في المباني التي
أصبحت خاصة بها، تفتخر بها الشعوب المتمدنة لعهدنا وتعجب منها، قال: وتاريخ العرب حافل
بذكائهم وتقدمهم وسيادتهم في كل العلوم والفنون حتى في الزراعة فقد كانوا بعد غزوهم
إحدى المقاطعات واضطرارهم إلى خرابها، يجعلون منها بعد سنين جنات حقيقية، وذلك بفضل
مساعيهم وتفوقهم وتدابيرهم العجيبة.
ميزات الحكومات الأندلسية
ويطول بنا مجال القول إذا حاولنا أن نعرض هنا، لما خدم به الأندلسيون العلم على
فروعه، والأدب في عامة ضروبه، فقد أشرنا إلى بعض ذلك في فصول سابقة كمواطن العربية
وأثرها في اللغات الشرقية والغربية، وحال الغرب في شباب الإسلام، وأثر علوم العرب في
الغرب، وأثر شعر العرب وفنونهم في الأمم الغربية، وتأثير العرب في البلاد المغلوبة،
ويهمنا هنا أن نرسم صورة من صور الأندلس وعمرانها على عهد العرب؛ لأن من هذه الجزيرة
انبعث نور العرب في غربي أوروبا، كما انبعث من جزيرة صقلية إلى أواسط أوروبا، وبذلك
يثبت أن العرب إذا فتحوا جنوبي أوروبا بجيوشهم، فقد حملوا إليها جيوش علمهم وفنهم
وصنائعهم، يحيون موات تلك الأقطار البعيدة من دار أعرابيتهم، ويلقنون أهلها معنى الحياة
الراقية، ويذيقونها طعم السعادة، والعرب وإن كانوا إلى قلة في تلك البلاد، فقد أصلوا
فيها حضارتهم ثمانية قرون، ولولا تخالف نشأ بين رجال الأمر فيهم، لظلوا يحكمون تلك
البلاد، وينتجون ما ينفع الأرض وسكانها، وإن حاربتهم كثير من أمم أوروبا بتحمس
الباباوات لها، حتى تعاون الجميع على إخراجهم، بعد أن قاموا بعملهم الشريف، ونقلوا إلى
البلاد اللاتينية والجرمانية والإنجليزية وغيرها بضاعة علمهم الزاخر وخلقهم
الباهر.
قال بعض الباحثين من الفرنسيس: «لما استولى العرب على ناربون وبروفنسيا وغيرهما
عمروهما فأحسنوا عمارتهما، وكان شانجه أمير ليون يستشير بنفسه أطباءهم. وممن تعلموا في
مدارس قرطبة لفنراربل ولابيه دي كلوني، وأخذت فرنسا من العرب أساليبهم في الزراعة، وحفر
الترع والخلجان ونظام الري، وبلدوا في الأندلس النباتات والأشجار التي لم تكن تعرفها،
فانتقلت إلى أوروبا. وأتونا بصناعة السجاد وإنشاء السفن، وفي كنيسة سان تروفيم بأرل
وسانت سيزر وسانت آن نموذجات من منسوجاتهم الثمينة للغاية، وفي كنيسة سان بير بأرل نقوش
عربية على غاية الجمال، وقد أدخلت العرب إلى بلادنا في القرن العاشر النقوش
الرومانية.»
ضعف السياسة العربية
وأصاب الأندلس إدبار بعد ذلك الإقبال، كان من نتيجة اختلاف أمرائها، فسقطت سياستهم
وإن لم تسقط مدنيتهم، تفرقت كلمتهم حتى أمسى بعض عمال الولايات وقضاتها يحاولون أن
ينعتوا بالملك أو الأمير لاستبدادهم بالأمر دون من ولاهم، بل كثر في بعض أدوارهم
الطامعون من أدعياء الخلافة، والراغبون في التلقب بأمير المؤمنين ومن أمرائهم من كان
«منكمشة ولايته، قليلة جبايته، فإن نظره لم يزد على امتداد ناظر.» وجاء زمن كما قال ابن
حزم وطرطوشة وسرقسطة وأفراغة ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد الملك
بن عبد العزيز، والثغر أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين وطليطلة في يد
بني ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني العباد، ومالقة والجزيرة
الخضراء في يد بني برزال من البربر، والمرية في يد زهير العامري ثم ابن صمادح، ودانية
وأعمالها والجزائر الشرقية «الباليار» في يد مجاهد العامري، وبطليوس ويابرة وشنترين
ولشبونة في يد بني الأفطس، وقُسمت الأندلس بعد سقوط الأمويين إلى تسع عشرة مملكة، منها
قرطبة وإشبيلية وجيان وقرمونة والغرب والجزيرة الخضراء ومرسية وبلنسية ودانية وطرطوشة
ولاردة وسرقسطة وطليطلة ولشبونة وغيرها، وكان ذلك بعد ذهاب الحكم من بني أمية سنة ٤٠٧
ولو لم يتداركها ملك الغرب الأقصى ابن تاشفين أواخر المائة الخامسة لما بقيت في أيدي
المسلمين إلى سنة ٨٩٧ﻫ، ولو لم يقم في سنة ٦٣٥ رأس ملوك بني الأحمر ويستولي على غرناطة،
ويضم إليها بلدانًا أخرى مهمة من أمهات مدن الأندلس فيجمع الشمل، لكان المتحتم انحلالها
قبل الأوان.
وكان من اختلاف كلمة المتغلبين ووجودهم وسط أعداء أشداء يسعون كل يوم إلى تأييد
سلطانهم، والأخذ بالقديم من ثاراتهم، ما قبح أثره، وساء خبره ومخبره، كل هذا وأمراء
الطوائف ساهون لاهون «همة أحدهم كأس يشربها، وقينة تسمعه، ولهو يقطع به أيامه.» وبلغ
من
تخاذلهم أن كان ملوك النصارى يأخذون الإتاوة من ملوكها قاطبة مدة سنين طويلة، وأن يلتجئ
أحدهم إلى عدوه الإفرنجي ليعينه على أبيه وأخيه؛ ولذلك رأينا عرب الأندلس يهلكون
لانقسامهم على أنفسهم، أكثر من هجمات الأجانب عليهم، والمرض الداخلي أشق من المرض
الخارجي.
هذا ما كان من فساد سياسة الأندلس وهناك عوامل اجتماعية كان منها ضعف الأندلسيين،
وقد
أشار إلى بعضها ابن خلدون في المائة الثامنة، فقال: إنه ذهب من أهل الأندلس رسم التعليم
وقلت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمرانهم بها منذ مئين من السنين، ولم يبقَ من رسم العلم
فيهم إلا فن العربية والأدب، وأصبح الفقه رسمًا خلوًّا وأثرًا بعد عين، والعقليات لا
أثر لها ولا عين، فانقطع سند التعليم بتغلب العدو على عامتها، وشُغل الناس بمعايشهم
أكثر من شغلهم بما بعدها، وأخذ القوم يتشبهون بالجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير
من
عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، قال حتى لقد يستشعر
من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء.
الانحطاط وتعصب الإسبان
أظننا الآن رسمنا صورة صغيرة من الأندلس في حكم العرب، وما أنتجته من خير للمدنية
في
تلك البلاد وما وراءها، بقي أن نصف ما آلت إليه حالة تلك الأمة مع خصيمتها لما ضعف
أمرها، عمل العرب منذ فتحوا أرض الأندلس ما ينفع سكان البلاد الأصليين، وكانوا في
أيامهم الطويلة التي دامت ما يقرب من عمر مملكة الرومان مثال المسامحة واللطف والحرية،
ولما عاد النصارى فافتتحوا غرناطة آخر معقل للإسلام في أوروبا
١٧ لم يروا الاقتداء بالتسامح الذي أظهره العرب نحوهم خلال عدة قرون، بل كان
منهم على الرغم من المعاهدات المعقودة مع المسلمين، أن اضطهدوا هؤلاء اضطهادًا قاسيًا،
ولم تصح عزيمتهم على طرد العرب طردًا نهائيًّا إلا بعد قرن، فكان التفوق الفكري في
العرب من موجبات بقائهم على رأس جميع الصنائع، رغم ما نالهم من الاضطهاد، والحق مع
الإسبان في اتهامهم العرب بالاستيلاء على الأعمال جميعها؛ ولذلك طالب الشعب الإسباني
بطرد العرب فقط، وأفرط رجال الدين فكانوا يقضون بتقتيلهم على بكرة أبيهم، يحاولون أن
لا
يبقوا منهم ديارًا، وأن لا يُعفى من هذا البلاء النساء والشيوخ والأطفال، واتخذ فيليب
الثاني طريقًا بين بين، مقتصرًا في سنة ١٦١٠ على إعلان طرد العرب، ومصدرًا أمره سرًّا،
بأن يذبح معظمهم قبل أن يتمكنوا من مغادرة أرض إسبانيا، فأهلك نحو ثلاثة
أرباعهم.
ولما انتهى الطرد والمذابح عمت الأفراح البلاد، وظهر أن إسبانيا ستدخل في طور جديد،
وكان هذا التطور الجديد، فنشأت نتائج عظيمة من هذه الإبادة العامة التي لم يقع لها مثيل
في التاريخ، ترك فرديناند للعرب حريتهم الدينية وحرية لغتهم في المعاهدة التي عقدها
معهم، ومنذ سنة ١٤٩٩ بدأ عهد الاضطهادات، فأخذوا يعمِّدون أبناء العرب بالقوة، مدعين
أن
العرب كانوا نصارى، وسيقوا إلى ديوان التحقيق الديني فأحرق منهم من استطاع أن يحرقه،
وسار هذا العمل ببطء للصعوبة في إحراق عدة ملايين من الأنفس، فاقترح الكردينال رئيس
الأساقفة لتطهير أرض إسبانيا من العنصر العربي — وكان هذا الكردينال الحاكم المتحكم في
ديوان التحقيق في المملكة ومن كبار أهل الصلاح والتقوى — أن يقتل بالسيف جميع العرب
الذين لم يدينوا بالنصرانية وفي جملتهم النساء والأطفال، وكان الدومنيكي «بليدا» أشد
قسوة، فقضى أن يقتل العرب بدون استثناء؛ لأنه رأى أنه لا يتأتى أن يعلم إذا كان جميع
المهتدين هم نصارى في قلوبهم، ولاحظ، وهو على حق فيما لاحظ، أنه من السهل على المولى
أن
يميز في الدار الآخرة بين من يستحقون عذابه ومن لا يستحقونه. يقول فولتير: لما فتحت
العرب إسبانيا لم يرغموا قط النصارى الوطنيين على انتحال الإسلام، ولما استولى الإسبان
على غرناطة أراد الكردينال كسيمنس أن ينصِّر كل العرب، دفعته إلى ذلك غيرة دينية، أو
طموح إلى إنشاء شعب جديد يخضع لصولته، وأرغم خمسين ألف عربي على أن يحملوا رمز دين لا
يؤمنون به.
يقول بليدا الدومنيكي: إنه قتل ثلاثة أرباع من جلوا من العرب في طريقهم إلى دار
هجرتهم، قتل مائة ألف من حملة واحدة كانت مؤلفة من ١٤٠ ألفًا وذلك في الطريق إلى
إفريقية، وفقدت إسبانيا في بضعة أشهر مليونًا من رعاياها. ويقول سيديليو ومعظم
المؤرخين: إن عدد من فقدتهم إسبانيا بلغ ثلاثة ملايين، وذلك من فتوح فرديناند إلى طرد
العرب الطرد الأخير، وذكر فاريتي
١٨ وهو من أعظم مؤرخي إسبانيا أنه نُفي من إسبانيا في مختلف العصور مليونان من
اليهود، وثلاثة ملايين من العرب والعرب المتنصرين «الموريسك»، وبلغ من هلك من المتنصرة
أو استُرق منهم أثناء هذه الفاجعة زهاء مائة ألف. قال لبون: إذا قيست مذبحة سان بارتلمي
بمثل هذه المجازر عُدت مناوشة لا شأن لها، ولم يحدث من أشد الفاتحين توحشًا وأقساهم
قلبًا، حادث مثل هذا نُسب إليه ما نُسب لهذه المذابح الثلاث، ومن سوء حظ إسبانيا أن هذه
الثلاثة ملايين من الرعايا التي حرمتهم إسبانيا باختيارها كانوا يؤلفون الطبقة العالية
في العلم والصنائع.
ومع أنه كان في معاهدة تسليم غرناطة
١٩ شروط كثيرة لحماية أنفس المسلمين وأموالهم وإطلاق الحرية الدينية لهم
ليقوموا بشعائر دينهم على ما يحبون لم تُنفذ هذه الشروط زمنًا طويلًا، وبدأ التنصير في
غرناطة بتحريض الكردينال سيزمروس ورئيس الأساقفة فيها منذ سنة ١٤٩٩، وأخذ هذا الكردينال
يدعو المسلمين إلى انتحال النصرانية بالمواعظ والخطب، ثم حاول أن يرفع ما أمكن الكتب
العربية في مختلف فروع العلوم الإسلامية فأمر بإحراقها فثار المسلمون في البيازين
والبشرات والمرية وباجة وقادس ورندة، ورأت إسبانيا في سنة ١٥٠١ أن تخير المسلمين بين
الهجرة أو التنصر، والظاهر أن هذا الأمر لم يطبق بحذافيره وظل المسلمون في الجبال في
حالة أشبه بنصف استقلال أكثر من نصف قرن، ثم نُصِّرَ جميع المسلمين في قشتالة وتُرك
مسلمو أرجون ثم تنصر كثير من المسلمين في شنت مارية الشرق على الوادي الكبير في السنين
الأولى من القرن السادس عشر. وفي سنة ١٥٦٦ صدرت أوامر مجريط تحظر على من بقي من
المسلمين في إسبانيا استعمال اللغة العربية وكان ضعف أمرها حتى بين المسلمين، وأمروا
بأن يتركوا شعائرهم وينزعوا لباسهم ويبدلوا طراز معيشتهم، فثار المسلمون في غرناطة
والبشرات ودامت الحرب سنين حتى صدر الأمر الأخير بطرد العرب سنة ١٦٠٤، فرحل في سنتين
عن
إسبانيا نحو نصف مليون مسلم وطُويت صحيفة الإسلام في شبه جزيرة الأندلس.
أما بلاد البرتقال، أو القسم المعروف بالأندلس أيضًا من ديار البرتقال؛ فقد استولى
عليها العرب عدة سنين وتخلوا عنها ثم عادوا إليها، ولما جلا العرب من لشبونة قبل جلائهم
عن غرناطة بزمان طويل عاملهم البرتقاليون بمعاونة
٢٠ قرصان من الفرنسيس والإنجليز والنورميين والألمان والبلجيكيين معاملة
قاسية: قتلوا الأطفال والرجال، وسبوا الأعراض ودنسوا كل شيء وأحرقوا أقوات المدينة،
فهلك نيف وعشرون ألف نسمة. ذكر ذلك المؤرخ البرتقالي هركولانو مستشهدًا بمؤرخي
البرتقال، ولما أراد الإفرنج القضاء على دولة الموحدين بالأندلس (٦٠٥ﻫ) نادى البابا
بالحرب المقدسة فخفت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا واتحدت قواتها بإسبانيا
وتم للإسبان ما أرادوا.
أباد الإسبانيون في الأندلس كل أثر للعرب، فخربوا بيوتهم بأيديهم، ومن أهم ما قضوا
عليه كتب العرب؛ فقد أمر
٢١ الكردينال كسيمنس — أعدى عدو للإسلام والمدنية — في سنة ١٥١١ بعد أن أحرق
في ساحات غرناطة كمية من كتب العرب، ولا سيما المصاحف المخطوطة، أن تُباد كتب العرب من
بلاد إسبانيا عامة، فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن، ولولا تلك المترجمات إلى العربية
واللاتينية لقُضي على الحضارة العربية بجملتها، وكاد ديوان التحقيق الديني الذي أخذ على
نفسه إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعامًا للنار تلك المخطوطات العربية التي حُفظت في
خزائن كتب الأسكوريال، لولا أن تلطف المركيز فيلادا وحال دون إحراقها.
قام العرب بصنيعهم من تمدين إسبانيا قرونًا طويلة، ونقلوا المدنية إلى الممالك
الأخرى، فكان جزاؤهم يوم ضعفت سياستهم، أن يُقتلوا شر قتلة، وتُباد آثارهم أي إبادة،
ولم يستفد قطر من أقطار الغرب ما استفادته إسبانيا من العرب، ولما جلوا عنها نعق فيها
غراب الدمار وفقدت صنائعها وزراعاتها وعلومها، وأصبحت إسبانيا بعد مدة من خروج العرب
أحط بلاد الغرب. قال ستانلي لانبول: «إن فضل مسلمي الأندلس يتجلى في همجية الإسبان
وتراجعهم في مراقي النجاح، بعد أن خلت أرضهم من الإسلام.» وقال لبون: «ظن الكاردينال
كسيمنس لما أحرق في غرناطة كل ما طالت يده إليه من مخطوطات العرب وكانت ثمانين ألفًا
—
عدا ما أُحرق في المدن الأخرى — أنه يحذف إلى الأبد من كتاب التاريخ ذكرى أعداء دينه،
ولكن الأعمال التي قامت على أيديهم في تلك الأرض تكفي لتخليد ذكرهم على الدهر، وإن نفدت
آثارهم المكتوبة.»