مدنية العرب في جزيرة صقلية
العرب في حوض البحر المتوسط وغزو صقلية
قلنا: إن البحر المتوسط غدا لغزوات العرب بحرًا عربيًّا منذ أوائل الفتح كبحر فارس وبحر الظلمات والمحيط الهندي، وغلب المسلمون كما قال ابن خلدون على هذا البحر (يعني بحر الروم أو البحر المتوسط) من جميع جوانبه: «وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قِبَل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومات من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وإقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج.» قال: «والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على الأكثر من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، كما وقع في أيام بني أبي الحسين ملوك صقلية القائمين بدعوة العبيديين، وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها، وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد بفريسته، وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعددًا، واختلفت في طرقه سلمًا وحربًا، فلم تسبح فيه للنصرانية ألواح.»
العرب في جنوبي إيطاليا
ويطيب لنا أن نقف هنا وقفة قصيرة بعد أن عرفنا استصفاء العرب جزيرة صقلية، ورسوخ أقدامهم فيها أكثر من قرنين، لنعرف إذا كان هممهم في البحر الرومي وقفت عند حد ما فتحوه من الجزر والبلدان والحصون، أم إنهم تعدوها إلى ما وراء ذلك، فالتاريخ يحدثنا أنهم استولوا على عدة ولايات من جنوبي إيطاليا وكانوا يطلقون على أرض إيطاليا البر الطويل أو الأرض الكبيرة، وقد أخذوا قلورية واستولوا على طارنت وبارة وريو وغيرها من بلاد إنكبردة وبوليه وفتحوا جنوة ووصلوا إلى رومية.
وحدثت مذابح عظيمة بين أميرين من أمراء تلك الأرجاء سنة ٨٣٩ فاضطر كلاهما أن يفزع إلى حماية الجيوش العربية، ثم تصافيا في سنة ٨٤٩ على تقسيم الإمارة إلى قسمين: أُطلق على القسم الشرقي منها إمارة بنفنتو، وعلى القسم الثاني الشرقي إمارة سالرن. وتولى المسلمون في بلرم عاصمة جزيرة صقلية غزو البحر من ناحية إيطاليا الشرقية وفي سنة ٨٣٨ احتلوا برندزي، فحاول أمير تلك الجهة أن يدفعهم عنها فما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم بلغ المسلمين أنه يعد حملة عظيمة فأحرقوا برندزي وعادوا إلى صقلية على مراكبهم، واحتل عرب صقلية طارانت سنة ٨٤٠م وهي قاعدة بحرية مهمة في بحر الأدرياتيك، ثم خلفهم فيها بعد حين عرب جزيرة أقريطش (كريت ٨٤٢ أو ٨٤٣م).
وخاف البنادقة على تجارتهم ودفعهم إمبراطور الروم تيوفيل إلى حرب العرب؛ فجهزوا أسطولًا مؤلفًا من ستين مركبًا فأقلع إلى صقلية والتقى بالأسطول الإسلامي أمام طارانت فهلك معظم البنادقة وأُسر من ظل حيًّا، وتقدم المسلمون بأسطولهم نحو الجزء الشمالي من بحر الأدرياتيك من نحو دلماسيا فنهبوا وأحرقوا (٨٤٠م) مدينة أوسرو في جزيرة كرسو، واجتازوا البحر في العرض نفسه فأسروا أناسًا من أنكونا، ولما عادوا إلى مستقرهم غنموا عدة سفن للبنادقة، وهذه الغزوات هي التي أشار إليها ابن الأثير في حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين فقال: إن أسطول المسلمين سار إلى قلورية وفتحها، ولقوا أسطول صاحب القسطنطينية فهزموه بعد قتال فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزومًا فكان فتحًا عظيمًا. ويُقصد بقلورية الجزء الذي يُسمى اليوم شبه جزيرة سالانتينا، وهو الجزء الجنوبي من أبوليه، وفيه طارنت وبرندزي.
ودخل العرب في سنة ٨٤١ خليج كارنار وهزموا أسطول البنادقة شر هزيمة بالقرب من جزيرة سانسغو، والظاهر أن قوات العرب في صقلية انضمت هذه المرة إلى قوات عرب أقريطش فاستولوا على بارة وأحرقوا مدينة كابوا، ثم قويت المنافسة بين الأميرين الحاكمين على تلك الأرجاء من الطليان، فلجأ أحدهما إلى العسكر الإسلامي من الإفريقيين، واعتصم الآخر بالمسلمين من أهل أقريطش، وعاد المسلمون فاحتلوا طارنت مرة ثانية في تلك السنة، وتبدلت الحال في سنة ٨٤٩م بين المتنازعين على الإمارة ثم تصالحا واقتسما إمارة بنفنتو مشترطين أن لا يلجأ أحدهما إلى المسلمين، وقتل القائد المسلم وجنده في معسكر ملك فرنسا لويز الثاني سنة ٨٥١، ثم عاد العرب فحاصروا طارنت بأمر العباس بن الفضل الذي أسكن المسلمين في أرض قلورية (٢٢٥ﻫ).
وظلت بارة إمارة إسلامية تواتر غزواتها على الأصقاع المتاخمة، وفي تلك الحقبة في الغالب سار المفرج بن سلام وفتح أربعة وعشرين حصنًا استولى عليها، كما قال البلاذري، وكتب إلى صاحب البريد بمصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صلاة إلا بأن يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين، وبنى مسجدًا جامعًا، ولعل هذا الفاتح كان من أهل أقريطش لا صلة له مع الآغالبة في إفريقية فعمد إلى الخلافة العباسية في بغداد يراجعها مباشرةً لتصح ولايته، والغالب أن سلطة المفرج بن سلام امتدت إلى سائر بلاد أبوليه، ثم قام الأمير سَعْران وأَخرب إيطاليا الجنوبية ووصلت غاراته إلى جنوبي نابل وسالرن، واشتهر بالإثخان في أهلها إلى أن جاء لويز الثاني ملك فرنسا فنزل إيطاليا وفتح بها سنة ٨٧١ مدينة بارة، وقتل كثيرًا من المسلمين وبذلك انتهت مدة حكم العرب في بارة بعد أن دام تسعًا وعشرين سنة (٨٤٢–٨٧١م)، ولم يخلف المسلمون شيئًا في تلك الأرجاء من آثار علمهم وصنائعهم كما كان منهم في جزيرة صقلية؛ لأن مقامهم فيها لم يطل.
تقويم جزيرة صقلية وعمل العرب فيها
طول هذه الجزيرة بحسب تعريف القدماء سبعة أيام في أربعة أيام، تُدار في خمسة عشر يومًا، ومساحتها السطحية ٢٥٧٤٠ كيلو مترًا مربعًا على اصطلاح المحدثين، وكانت في كل أدوارها مطمح أنظار الفاتحين من الدول البحرية؛ لأنها من أهم منازل الاتصال بين إفريقية وأوروبا وآسيا، وقالوا: إنه كان فيها آخر أيام العرب مائة بلد وثلاثون بلدًا بين مدينة وقلعة غير ما بها من الضياع والمنازل والبقاع، ومن مدنها الخالصة، أطرابنش، مازر، جرجنت، بُثَيرة، سرقوسة، قطانية، بطرنوا، ميقُس، مسينة، رمطة دمنس، قلعة القوارب، قلعة الصراط، قلعة البلوط، قلعة أبي ثور، بطرلية، ثرمة، قرليون، برطفيف، برطنة.
ويقول دييل: إن العرب حملوا معهم إلى جزيرة صقلية مظاهر غريبة من فنهم، وقناطرهم العالية الجميلة، ونقوشهم من المقرنصات، وجمال قاشانيهم ذي الميناء، وفسيفساءهم المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة، وبهيج صناعاتهم الصادرة عن علمهم، وهي من الأعمال الخاصة بالمترفين وأرباب النعيم، وكل ذلك لم يضمحل كل الاضمحلال، لما استولى على الجزيرة سادة جدد بعد أمراء المسلمين، فإن مصانع الدور العربي كانت مثالًا يُنسج عليه في إقامة مصانع العهد النورماني، وكان المهندسون والبناءون من العرب الذين عملوا للأمراء وحملوا إلى ملوك النورمانيين علومهم وإرث تقاليدهم، ولكنهم كانوا أسعد ممن سلفهم؛ ذلك لأن الحظ حظهم، فكانت أعمالهم أكثر خلودًا وبقاءً، وقال أيضًا لما سقطت بلرم في أيدي العرب سنة ٨٣١م، لم يكن فيها سوى ثلاثة آلاف نسمة، فلما غدت عاصمة أمراء المسلمين دخلت حالًا في مضمار الفنون، وكانت خلال عدة قرون في درجة عالية من الحضارة لم يُسمع بمثلها.
وقال: إن العرب في صقلية خلفوا اليونان، وفي خلال قرنين كانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وأدخلوا إلى صقلية العنصر الإسلامي الذي زاد كثيرًا في الغرب وفي وسط الجزيرة، فأصبحت نصف صقلية أواخر القرن الحادي عشر من العرب وباقيها من اليونان، قال: ثم سار النورمان في صقلية على سياسة لم يجعلوا بها فارقًا بين الكاثوليك واليونان والمسلمين، على نحو ما فعل النورمان في الشام بعد قليل، عرفوا كيف يقتبسون العادات ويتخلقون بأخلاق رعاياهم، مراعين كلًّا منهم، موزعين فيهم عطاياهم على السواء، وهكذا ظلوا نورمانيين بأصولهم وغدوا بيزنطيين وعربًا بمدنيتهم، وكانوا في وسط القرن الحادي عشر مثالًا جميلًا نادرًا في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني.
عمران صقلية
ولقد استكثر المسلمون في جميع بلاد صقلية من الجوامع، ومنها ما كان من الطراز الجميل وقد وصف الإدريسي والقزويني وابن حوقل وياقوت ما كان في هذه البلاد، فقالوا: كانت صفة الجامع الأعظم في بلرم «تغرب عن الأذهان لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة والمنتخبة والمخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزاويق والكتابات.» وكان في بلرم نيف وثلاثمائة مسجد، وقد كثرت الجوامع في أكثر المدن مثل قطانية، وكان في قرية البيضاء مائتا مسجد، قال ابن حوقل: «ولم أرَ مثل هذه العدة في بلد من البلدان الكبار على ضعف مساحتها ولا سمعت به.» ووصف الإدريسي مدينة بلرم، فقال: «إن بها أحسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها، في بنائها ودقائق صناعاتها، وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة: فالسماط الأول يشتمل على قصور منيفة ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات، وحوانيت التجار الكبار؛ والسماطان الباقيات فيهما أيضًا قصور سامية ومبانٍ فاخرة عالية.» وكان للمسلمين في القرن الحادي عشر في كل مدينة من مدن صقلية أحياء خاصة ينزلونها، ولهم أسواقهم وحكامهم وحرياتهم، والجوامع مفتحة، والحرية الدينية شاملة، والكنائس تناوح الجوامع.
رجال صقلية
أخرجت صقلية جملة من العلماء والمحَدِّثين والفقهاء والأدباء والأطباء والفلاسفة، وكان في طليعتهم أسد بن الفرات وهو من أصحاب مالك، وأسد بن الحرث صاحب الأسديات في الفقه وكان من أعيان الكتَّاب، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمديس الصقلي الشاعر المبدع صاحب الديوان، وهو القائل عند الجلاء يذكر صقلية:
ومن رجال صقلية أبو عرب الصقلي وابن بشرون وابن الفحام والشريف الإدريسي وابن ظفر وابن القطاع صاحب الدرة الخطيرة والمختار من شعراء الجزيرة جزيرة صقلية، أورد فيه مائة وسبعين شاعرًا، والحسن بن يحيى يُعرف بابن الخزاز وهو صاحب تاريخ صقلية، وللجغرافي ابن حوقل كتاب في محاسن أهل صقلية وكان زارها في سنة ٣٦٢ﻫ، ومنهم ابن سابق وعيسى بن عبد المنعم وابنه محمد، وهذا من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، والطبيب أبو سعيد بن إبراهيم صاحب المنجح في التداوي، وابن القوني الكاتب، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف، وعبد العزيز الأغلبي الكاتب، والمهري والقضاعي والصباغ ومنهم السرقوسي والمازري صاحب التآليف المشهورة والبثيري والكركنتي والشافي والطرابنشي والبلنوبي والسمنطاوي، نسبة إلى مدن في الجزيرة معروفة، هذا إلى عشرات غيرهم كان لهم الفضل على الأمة العربية بتصانيفهم وتحقيقاتهم وصناعاتهم، وما فيهم إلا العالم والأديب والحكيم والمنجم والطبيب والمهندس، وكان لهم يد على الجزيرة بإنهاضها في مادياتها ومعنوياتها.
خروج المسلمين من صقلية واستيلاء النورمانيين عليها
وما برح النورمانيون جارين على سنن روجر الأول صاحب صقلية في الاعتماد على العرب، ورعايتهم ظاهرًا وباطنًا، وكذلك كان العرب في إخلاصهم حتى إن القاضي جمال الدين بن واصل قاضي القضاة بحماة الفيلسوف المؤرخ، كان أرسله الظاهر بيبرس سفيرًا إلى الإمبراطور صاحب صقلية في سنة ٦٥٩ﻫ، فقال فيه: إنه كان مصافيًا للمسلمين ويحب العلماء، وإنه بالقرب من البلد الذي كان فيه مدينة تُسمى لوجارة، أهلها كلهم مسلمون من أهل جزيرة صقلية، تُقام فيها الجمعة ويُعلن بشعار الإسلام، وكان أكثر أصحاب الإمبراطور مسلمين ويعلن بالآذان والصلاة في معسكره. وقال: إنه عند توجهه من عند الإمبراطور اتفق البابا خليفة الفرنج وريدا فرنس على قصد الإمبراطور وقتاله، بسبب ميله إلى المسلمين؛ ولذلك كان البابا قد حرمه، وقد غلبه الفرنج وذبحوه، وملكوا أخا ريدافرنس في سنة ٦٦٣.
تنصير بقايا الصقليين
وعلى هذا، فقد تنصر بقايا المسلمين في الجزيرة، ولم يجلوا عنها على كل حال بفاجعة كفاجعة الأندلس التي مثلها القسس والأساقفة والكرادلة وديوان التحقيق الديني والملك والملكة والشعب، اتفقوا كلهم باطنًا وظاهرًا على إبادة المسلمين، والملك شارل هو الذي خلع الصقليون طاعته، وقتلوا الفرنسيس على بكرة أبيهم يوم ٢١ آذار سنة ١٢٨٢م/٦٨٢ﻫ.
أثر العرب والعربية في اللغة الإيطالية
أبقى العرب في الجزيرة كثيرًا من عاداتهم، وهي باقية إلى اليوم، وتركوا ألفاظًا كثيرة من لغتهم في اللغة الصقلية والإيطالية، ولا تزال عدة أماكن بصقلية تحمل أسماء عربية، ولا سيما أسماء القلاع والمراسي والشوارع، وتبدأ أسماء القلاع بلفظ «قلتا» أي قلعة، ومنها ما أصبح اليوم مدنًا، مثل: قلعة النساء وقلعة فيمي وقلعة الحسن وقلعة البلوط، وكذلك كلمة مرسى، ومرسى علي، مرسى المينا، منزل الأمير، منزل يوسف، رمل الموز، رمل السلطانة، القنطرة، وادي الطين، رأس القلب، رأس الخنزير، رأس القرن، والقصر من أعظم شوارع بلرم، وفي بلرم الآن قصران جليلان من مباني العرب: اسم أحدهما القبة واسم الآخر قلعة العزيزة، وكان تأثير العرب بعلمهم في هذه الجزيرة أكثر من تأثيرهم بمبانيهم. يقول رينالدي: إن الجزء الأعظم من الكلمات العربية الباقية في الإيطالية التي تفوق الحصر دخلت الإيطالية لا بطريق الاستعمار العربي بل بطريق المدنية التي كثيرًا ما تؤلف بين مظاهر الحياة المختلفة، وقد عدد من هذه الكلمات جانبًا ولا سيما في لغة العلم، ثم قال: إن جنوة اضطرت أن تؤسس سنة ١٢٠٧م مدرسة لتعليم العربية، ويدل على ذلك وجود كلمات عربية في لغة هذه المدينة، وفي اللغات العامية في جميع المدن الإيطالية التي كانت تتجر مع الشرق وصقلية كلمات كثيرة من أصل عربي، دخلت إليها مع التجارة العربية، ولا تزال معاجم لغتهم تحفظ كثيرًا منها. قال وما الهندسة الغوطية إذا أنعمنا النظر إلا الهندسة العربية تقريبًا، ثم أورد أسماء الموازين والمكاييل والألفاظ البحرية التي سرت إلى الطليانية من العربية، وقال: إن آماري «المستشرق الصقلي» أثبت أن صقلية مدينة للعرب، وكذلك إيطاليا مدينة لصقلية، بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه مذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي، بدأت العناية بقرض الشعر، تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي، قال رينالدي: لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي بل إنهم أمدوا قصصنا بشكلها ومادتها، قلنا: وهذا يؤيد ما ذهب إليه وأثبته بالأدلة المعقولة آسين من رجال المشرقيات في إسبانيا من أن دانتي شاعر الطليان اقتبس موضوع روايته المهزلة الإلهية من رسالة الغفران للمعري.
وفي بلرم أنشأ العرب أول مدرسة للطب، وما عُهد مثلها في جميع أوروبا، بل إن مدارس الطب في الغرب أُنشئت بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر الطب في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفينيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، وأخذ يسري إلى كل من استعد للأخذ بمذاهبه من الطليان، هذا مع أن المدنية التي أدخلها العرب إلى جزيرة صقلية كانت أضعف من مدنيتهم في مصر والأندلس، ودلت الآثار أن العرب لما خرجوا من هذه الجزيرة كانت أرقى من اليوم التي دخلوا فيها، فعظم تأثيرهم النافع في صقلية، والتحسين الذي يدخله شعب على شعب هو معيار نفوذ الحضارة التي يحملها الأول إلى الثاني على ما قال لبون.
المقارنة بين صقلية والأندلس
كانت صقلية أزهر الممالك الأوربية في الزمن الذي كان فيه العربي والرومي مرعيًّا جانبهما، مأخوذًا بأيديهما، وكان أثر الرجال الذين ظهروا في جزيرة صقلية أقل بالطبيعة من أمثالهم ممن أنبغتهم الأندلس، والسبب في ذلك ضيق مضطرب هذه الجزيرة، وقصر الزمن الذي دام فيه حكم العرب عليها؛ وهذا لأنها كانت تبعًا لإفريقية يتولى أمرها الآغالبة والعبيديون وغيرهم، وحكم الأندلس أعاظم رجال بني أمية ممن طالت أيامهم، وكانوا وطدوا النفوس على اتخاذها وطنًا أبديًّا لهم لا يلتفتون إلى ما وراءهم إلا بقدر ما ترتبط أمة بأمة بعيدة، متفقة معها في النزعة الدينية والعواطف، وكانوا نقلوا كل ما رأوه وسمعوا به في بلادهم الأصلية من أسباب القوة والعلم والصناعة إلى الأندلس نقلًا صحيحًا وزادوا عليه بثقوب أذهانهم وبما تقتضيه طبائع الأقاليم التي نزلوها.
وإذا جسرنا على الاستنتاج من النتف القليلة التي اتصلت بنا من تاريخ صقلية العربية ندرك أن رجالها في العلم كانوا أقل عددًا أو تأثيرًا من رجال الأندلس، وإنا إذا عددنا في هذه مئات من النابغين، لا نستطيع أن نعد في صقلية عشرات من عيارهم، ومعظمهم من حملة الشريعة والآداب، ويُقال: إن فيها تُرجمت كتب أرسطو وأفلاطون، وليس في صقلية من الملوك والأمراء الذين تولوا أمرها من كانوا بشهرتهم أمثال عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الثالث والحكم ممن أظهروا نبوغًا في حكم الأندلس.
وليس في العلماء الذين قادوا الأفكار فيها أمثال ابن رشد وابن زهر وابن باجة وابن الخطيب وأضرابهم، وهناك دواعٍ أخرى في هذا التفوق في الأندلس، وهذه على بعدها من مواطن العروبة، هاجر إليها ألوف من صميم العرب وسكنوها وعمروها، وأثر في أنسالهم هواؤها، فجاء منهم غربيون شرقيون على أجمل مثال في الشعوب العاملة الذكية. أما صقلية فكان اعتمادها على أناس من العرب وكثير من البربر، وكانت الجزيرة مهاجرًا للاتين الذين جلوا من إفريقية يوم فتح العرب لها، ثم جاءها العرب فاتحين في صقلية، فامتزجوا بأهلها، فلم يكونوا في الحقيقة أمة صقلية كما تكونت أمة أندلسية، وإن كان المسلمون في صقلية كثرة غامرة في أيام حكمهم وبعد زوال سلطانهم عنها.
آثار العرب في صقلية بعد قرون من رحيلهم
وهذا يدل على أن العربية استحكمت ملكتها في السكان حتى إن نصاراهم استخدموها لغة التخاطب والكتابة بعد خروج العرب بمدة طويلة، وأرخوا بالتاريخ الهجري، ولا عجب أن حاسن روجر النورماني فاتح الجزيرة وخلفاؤه جمهور المسلمين فلقوا منهم كل رعاية، ولقي الفاتحون من المسلمين كل نصح في الخدمة؛ فقد روى مؤرِّخونا أن رجار مات قبل التسعين والأربعمائة وملك بعده ولده رجار فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والسلاحية والجاندارية وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج فإنهم لا يعرفون شيئًا منه وجعل له ديوان المظالم يُرفع إليه شكوى المظلومين فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين وقربهم ومنع عنهم الفرنج فأحبوه.