المسلمون والغربيون في الحروب الصليبية
اختلاق الصليبيين الأسباب لقتال المسلمين
ظن الغربيون بعد انقراض الدولة الأموية من الأندلس في ٤٠٧ﻫ أن العرب هناك يتراجع أمرهم في الحال ويصبحون لقمة سائغة؛ لما دب فيهم من الفساد السياسي المؤدي إلى الانحلال الطبيعي، ولكن عاد يوسف بن تاشفين ملك المرابطين من بر العدوة فجمع الشمل المنصدع، وضرب المرابطون ملك الإسبان ضربة شديدة في سنة ٤٨٠ﻫ في وقعة الزلاقة فأعادوا إلى الأندلس حياتها فوقرت في نفوس الإفرنج، وكان أمراء المسلمين ذلوا أمام أعدائهم وأخذوا يدفعون الإتاوات لملوك إسبانيا، وخرجت جزيرة صقلية من أحكام المسلمين في تلك الحقبة.
بيد أن رجال الدين ورجال السياسة في أوروبا ما برحوا منذ طلعت طلائع العرب في البحر المتوسط، وقوي سلطانهم في جزرها، يفكرون في مخرج يؤدي بالغرب إلى ساحل السلامة؛ لأن الإفرنج أيقنوا أن العرب أعلى منهم كعبًا في الحرب، وأرقى منهم مدنيةً، وهم لا يخلون في كل زمان من رجل فذ ينهض بهم، كما كان من المنصور بن أبي عامر (٣٩٢ﻫ) الذي غزا الإفرنج سبعًا وخمسين غزوة موفقة، ورفع من شأن الأندلس بنبوغه فوقاها من السقوط.
وفي أواخر سنة ٤٩٠ﻫ/١٠٩٦م اجتمعت في القسطنطينية جيوش الصليبيين وبعد مصاعب شديدة لقوها في آسيا الصغرى، تقدموا ففتحوا الساحل الشامي، واستولوا على بيت المقدس ظاهرين في مظهر من التوحش والقسوة لا يغبطون عليه، ظانين أن المسلمين لا تهمهم كثيرًا قبلتهم الأولى، ولا يحسبون ألف حساب لاحتلال جزء مهم من صميم بلادهم، وأنهم متى رئموا للمذلة مرغمين في حاضرهم نسوا كل عاقبة وخيمة على مستقبلهم، وما أدركوا أن المسلمين كانوا أسودًا لا مستأْسدين إذا ما وثبوا وثبوا.
جهل الصليبيين والتنظير بين أعمالهم وأعمال المسلمين
أبان الصليبيون في مبدأ غزواتهم عن جهل مطبق في فنون القتال، وما كُتب لهم الفوز في حملتهم الأولى إلا بكثرة جيوشهم، وكانوا في فوضى منذ غادروا ربوعهم حتى دخلوا القسطنطينية واتجهوا إلى الشرق، ونسوا أو تناسوا أن صاحب الروم حليفهم المعنوي، وما تلكئوا مع هذا عن إهانة قومه، وإطالة أيديهم بالأذى على بلاده، فخربوا مصانعها، وسلبوها نعمتها، وعبثوا ببيعها وكنائسها، وجعلوها طعامًا للنار، وارتكبوا كل كبيرة أورثتهم العار، وأثبتوا أنهم من الجهل بحيث لم يهتدوا إلى طريقهم، فضلوا في بلاد الروم وتخطف عسكر السلجوقيين رجالهم ونساءهم، وغلوا في القسوة على أهل كل بلد نزلوه، مثل الرها وأنطاكية والمعرة وطرابلس والقدس، فقاتلوا المحاربين والمسالمين على السواء، وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ لم تأخذهم بهم رحمة.
وليس القصد هنا ذكر تاريخ الحروب الصليبية وما جرته على بلاد المسلمين من الويلات، بل القصد بيان أثر هذه الحروب في الغرب والشرق، وقد اغتبط الصليبيون بأنهم أوقفوا المسلمين بحملاتهم على الشرق دون التوغل في أوروبا، والغربيون ما فتئوا يحذرون بطش المسلمين، ويقدرون أنه ربما بلغت بهم الجرأة ذات يوم أن يغيروا عليهم غارة رجل واحد، فيكون في ذلك ذهاب بلادهم، وحق لهم هذا التخوف؛ لأن لهم من إذلال ابن تاشفين ملك المرابطين لملك إسبانيا، وضغط السلطان ملكشاه السلجوقي على صاحب القسطنطينية، براهين لا تقبل الرد في إساءة الظن بالمستقبل، وكان يظن أن العنف الذي شاهده المسلمون في الشام من الصليبيين المتحمسين، يدعوهم إلى أن يسيئوا معاملة المستأمنين منهم، أو يعاملوهم على الأقل بالمثل، ولكن المسلمين في جميع أدوار الحروب الصليبية ملكوا اعتدالهم وما خرجوا، وبعض ما نالهم من أعدائهم مما يحرج الصدور، عن حدود شريعتهم، وما أمرت به من الرفق بالناس في دار الحرب ودار السلم، وقد أقر بذلك أكثر مؤرخي الصليبيين، وأعجب بهذه المسامحة كل صليبي، أو كل من لا غرض له من الناظرين في سير تلك الحروب العجيبة.
مجازر الصليبيين
وكان من عادة الصليبيين أن يقتلوا أهل كل بلد يدخلونه في الشام ويخربوا عمرانه ويحرقوا كتبه ومتاعه وآثاره، وفي إحراقهم دار الحكمة في طرابلس، وكان فيها نحو مائة ألف مجلد، أكبر دليل على رعونتهم وخشونتهم، فأوقدوا بما صنعوا نيران التعصب بين المسلمين والنصارى من الشاميين، ومع هذا أمسك المسلمون عن مخاشنة أبناء ذمتهم، وظلوا على ما قضى به الإسلام من حسن معاملتهم، ومن نصارى لبنان من تطوعوا في خدمة الصليبيين، وحاربوا في صفوفهم، وكانوا أدلاء لهم وعيونًا على جيرانهم الذين كانوا عاشوا وإياهم خمسة قرون على غاية الوئام، خالف الصليبيون تعاليم المسيح في الشفقة والإحسان، وامتثل المسلمون أوامر شريعتهم قائلين: «ولا تزر وازرة وزر أخرى.» وما خرج ملوك الإسلام في كل دور عن مراعاة أهل ذمتهم، عملًا بوصية الشارع، وتفاديًا من وعيده من أذاهم، وكانت سياسة الساسة منهم كما كتب الإخشيد صاحب الديار المصرية والشامية والحجازية إلى أرمانوس صاحب الروم على «ما يؤلف من قلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية، ويجمعها على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة، ويكسبها المودة والمحبة.» وإذا وقع من أحد ملوكهم حيف على غير المسلمين كما فعل الحاكم بأمر الله الفاطمي فخرب كنائس النصارى في مملكته، ثم بدا له فأمر بإعادتها إلى سالف عمارتها، فهذا شاذ في الملوك والشاذ لا تُبنى عليه القاعدة المطردة.
حسن معاملة صلاح الدين للصليبيين
كان في القدس لما استرجعها صلاح الدين (٥٨٣ﻫ) من الصليبيين مائة ألف صليبي، منهم ستون ألف راجل وفارس، سوى من تبعهم من النساء والأطفال، فأبقى صلاح الدين على حياتهم، واستوصى بهم خيرًا، ونابذ فقهاءه فيما ارتأوه من معاملتهم بمثل ما عامل به أجداد الصليبيين جمهور المسلمين يوم فتحهم القدس، واكتفى بأن ضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير، وعلى كل امرأة خمسة، وعلى كل طفل دينارين، وعجز بعضهم عن دفع هذه الفدية، فأدى الملك العادل أخو صلاح الدين فدية عن ألفي صليبي، واقتدى به صلاح الدين نفسه فأعفى كثيرين من هذه الغرامة، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، وعامل نساء الإفرنج معاملة لطف وظرف، وسهل سبيل الخروج لملكتين عظيمتين بما معهما من جواهر وأموال وخدم، ورخص للبطريرك الأكبر أن يسير آمنًا بأموال البيع وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم، ولما قال المسلمون لصلاح الدين: إن هذا البطريرك يقوى بما أخذ على حرب المسلمين ثانيةً، قال: لا أغدر به، ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير فقط، فألقى صلاح الدين على الصليبيين درسًا في مكارم الأخلاق وسماحة الإسلام.
ما أورثته الحروب الصليبية في أخلاق المسلمين والصليبيين
قال منرو: إن اتهام المسلمين بالجبن قد زال من أذهان الصليبيين، لما التحموا معهم في القتال، ولم يقف تأثير احتكاك الصليبيين بالمسلمين عند حد الإعجاب بشجاعتهم، بل تجاوزه إلى إزالة تحاملات أخرى عليهم، فقد امتزج الصليبيون في سورية وفلسطين امتزاجًا دائمًا متصلًا بأهل البلاد، نصاراهم ومسلميهم، ولما كان عدد الصليبيين ضئيلًا، اعتمدوا على أهل البلاد في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، بل وفي التجنيد أيضًا، وقلما كانوا يميزون بين المسلمين وملاحدة النصارى، وإذ كانوا يعيشون بالقرب من أشراف المسلمين، كانوا يتبادلون وإياهم فروض المجاملات، ويبرمون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرًا من الإفرنج وظلوا أمدًا طويلًا في أسرهم، فكانوا في العادة يعاملونهم معاملة حسنة، ويمنحونهم قسطًا وافرًا من الحرية، فعرف الصليبيون المسلمين عن كثب، وهكذا كان حظ بعض المسلمين في أسرهم عند الصليبيين. وقد نشأت بين الأسر في الأحايين علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض الفريق الآخر من عوامل التعارف مع المسلمين، وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من السوريات والأرمنيات أو من العربيات اللواتي قبلن المعمودية، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عُقدت بين المسلمين والصليبيين؛ بسبب استعانة فريق بآخر ليقاوم منافسًا له أو منازعًا من أبناء دينه. ا.ﻫ.
ومن أهم ما نفع الصليبيين من احتكاكهم بالمسلمين، أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة الباباوية، يحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يُقتلون ويَقتلون على غير فائدة محسوسة. وكان الصليبيون يتجرون في غضون المهادنات في بلاد المسلمين أحرارًا، لا يؤدون سوى رسم خفيف، وكذلك كان المسلمون في البلاد التي احتلها الصليبيون، وأهم الأمم التي انتفعت من ماديات الحرب الشعوب النازلة على شواطئ البحر المتوسط، ولا سيما البنادقة والبيزيون والجنويون من أهل إيطاليا، وكانوا أصحاب السفن التجارية والمواني البحرية، وكان مَنْ وراءهم من سكان أوروبا مضطرًا إلى أن يقصد بلادهم في ذهابه إلى الأرض المقدسة وفي عودته منها؛ لأن القوم استطالوا طريق البر وهي غير أمينة، وصاحب الروم يعارض في مقدمهم عليه، لغدرهم ببلاده، وعيثهم فيها، وعبثهم بمقدساتها، وربما خادن المسلمين وعاهدهم، وابتعد عن مخادنة الصليبيين؛ لأنهم يغدرون ويخونون.
أما متعصبة الشعوبيين من الغربيين فما برحوا بعد أن تجلى تاريخ الحملات الصليبية، وعُرف معرفة لا مجال للشك فيها، يمتدحون من نظام الصليبيين وحسن إدارتهم وسياستهم، ويحاولون أن يبرئوهم من كل وصمة أُلصقت بهم بشهادة مؤرخيهم أنفسهم، وأن يُظهروهم بمظهر العطف واللطف، ويظهروا المسلمين في صورة القسوة والخشونة، منكرين أنه كان بين أمم الشرق القريب، وذاك الغرب البعيد، بون شاسع في الحضارة والثقافة على ما أجمع عليه عقلاء الفريقين، إلا من أعمى الغرض قلوبهم وعيونهم.
من عاون المتحاربين ومن عاندهم
وبعد، فإذا أحب الشرق أن يحاسب الغرب فيما عادت عليهما هذه الحروب من ربح وخسارة، تكون الصوافي للفريقين على هذه الصورة إجمالًا، علمت الحرب المسلمين أنه لا حياة لهم بغير التضامن، ولقنتهم معنى الجامعة الدينية والمدنية، وكانت ضعفت في بلاد الشام العصبية العربية، فحلت العصبية الدينية محلها، رأى المسلمون جيوش الصليبيين مؤلفة من نورمانيين وإيطاليين وإفرنسيين وألمانيين ونروجيين وسويسريين وغيرهم من أمم أوروبا، فاجتمع عربهم وتركمانهم وأكرادهم على قتال عدوهم المشترك، وتفانى في تحقيق هذا المقصد أولئك الذين كان الاختلاف بينهم على أشد حالاته من الملوك والأمراء، تساوى في التماسك لبلوغ هذا الغرض الفاطميون والأتابكيون ثم الدولتان النورية والصلاحية ثم المماليك من بعد، وكذلك كان شأن غيرهم من صغار الأمراء، واتحدت كلمة أرباب المذاهب المختلفة من المسلمين، ولم يخرج على الجماعة غير شيعة الساحل فإنهم اضطروا على ما يظهر إلى بذل الطاعة للصليبيين، لمكان بلادهم من الأصقاع المحتلة، وكان الدروز إلى جانب أهل السنة، والمعنيون والتنوخيون على رأسهم، وكذلك فريق من النصيرية، أما الإسماعيليون فقد كان غرامهم في الاستيلاء على بعض الحصون لينشئوا لهم دولة بأنقاض البلاد وسكانها، ولطالما اغتالوا كل من يعتقدون عداءه لهم من الأمراء والعلماء، بل بلغت بهم القحة أن يطيلوا أيدي أذاهم على مثل السلطان صلاح الدين، ووثبوا بكثيرين ومنهم صاحب دمشق تاج الدين بوري، ونظام الملك، واعترف الصليبيون في إحدى هزائمهم وحملاتهم أنه كان من نصارى البلاد من خدموا الدولة الإسلامية وقلبوا لهم ظهر المجن، أي إن طائفة من نصارى الشام ناصرت أصحاب البلاد؛ لأنهم رأوا منهم عطفًا وعدلًا في الدول المختلفة التي تقلبت عليهم منذ كان الإسلام، وقاتل الأرمن في صفوف الصليبيين وشكرهم على ذلك البابا غريغوار الثالث عشر في كتاب سنة ١٣٨٣م.
ولم تأخذ الناس ولا قادتهم هوادة فيمن كان يَفُتُّون في عضد المسلمين، ويُتهمون بأن هواهم مع الصليبيين، فقد دبرت الخاتون صفوة الملك على ابنها شمس الملوك صاحب دمشق من يقتله، لما أيقنت أنه استدعى الإفرنج من بلادهم ليسلم إليهم الملك؛ ذلك لأن دمشق والمدن الداخلية عصت على الصليبيين، وحاول هؤلاء غير مرة الاستيلاء عليها، بجيوش جيَّشوها، ومكايد دبروها؛ فضربوا ضربة قاسية كانت لطخة في تاريخهم الحربي، ولطالما أتوا بجيوش جرارة إلى حوران، بل إلى داريا، بل إلى المرج الأخضر من ربض مدينة دمشق، ورجعوا مدحورين مخذولين، ولما شعر صاحب دمشق سنة ٥٢٣ أن الباطنية فاوضوا الصليبيين ليسلموهم دمشق قتل المزدقانيُّ وزيره الخائن، وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية فقتلوا منهم ستة آلاف في يوم واحد، وقيل: أكثر من ذلك، فطفئت فتنتهم، وكانوا يحاولون تسليم دمشق إلى الصليبيين، وتواعدوا وإياهم إلى يوم مخصوص يهجمون فيه عليها، وأحرق الإسماعيلية أسواق حلب في غضون ذلك فافتقر أهلها، وكثيرًا ما استنجد بعض أمراء الصليبيين بالمسلمين فأنجدهم ملوكهم، واستفادوا من تفرق كلمة أعدائهم، ولم يخرج أمراء المسلمين عن القوانين الحربية، ولم يعطوا عهدًا اليوم فينقضوه من الغد.
الفوائد التي عادت على المسلمين من حروب الصليبيين
ولقد كان من هذه النازلة الصليبية أن ظهر نبوغ ولاة المسلمين في فن الحرب والسياسة، وقدِّر أن ينشأ ملكان نابغتان نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب، ولولا هذه الغائلة ما ظهرت فضائلهما الكثيرة، ولا اشتُهرت مزاياهما النادرة، فذكر المسلمون بسيرتهما سيرة العمرين، وأرجعت قوة نفسيهما إلى الإسلام بهاءه، ولولا الحروب الصليبية ما ظهر طغتكين نابغة السياسة والإدارة ولا نوابغ الحرب الكامل والظاهر وقلاوون والأشرف وعشرات من القواد والزعماء، ومن حسن التوفيق أن أمراء المسلمين في العهد الصليبي قدروا كلهم حرج الموقف الإسلامي فتضامنوا ولم يختلفوا، وربما لم تتألف قلوبهم في عصر من العصور السابقة واللاحقة تألفهم في تلك الأيام العصيبة، على حين كان أمراء الصليبيين يتنازعون بينهم، وربما تقاتلوا وسفكوا دماء بعضهم بعضًا، ولجئوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم على منافسيهم.
وأجمع المسلمون في مصر والشام والعراق والجزيرة (ديار بكر وديار ربيعة) وما وراءها أنهم إذا لم يشد بعضهم أزر بعض يضمحل الإسلام، ويزول سلطانه في الأنام؛ لأن من ملوك الصليبيين من كانوا يحاولون فتح الحجاز، وهو أرنولد صاحب الكرك، فأنشأ لذلك أسطولًا في بحر القلزم (الأحمر) على أيلة مما يلي الشام، وسار في البحر فرقتان: فرقة أقامت على حصن أيلة تحصره، وأخرى سارت نحو عيذاب تفني المسلمين في تلك الأرجاء، وأهان صاحب الكرك الرسول مرة بكلام رُوي عنه، فحلف صلاح الدين أن يقتله بيده إذا ظفر به، فتمت لصلاح الدين أمنيته في وقعة حطين، لما أخذه أسيرًا مع غيره من أمرائهم وملوكهم، فأبقى عليهم كلهم وضرب عنق هذا بسيفه. وكانت وقعة حطين، وبعدها فتح الساحل والقدس، أول وقعة فاصلة بين العدوين المتقاتلين، ظهر فيها جيش الإسلام بمظهر من مظاهره العظيمة في الفتوح العربية الأولى.
ويلات الحروب الصليبية ومعالجة المسلمين ما كان لهم من نقص
ويُعد في باب الخسائر أن من مدن الساحل الشامي ما خرب برمته؛ خربه أحد الفريقين عمدًا لمقصد حربي، وخرب المسلمون كثيرًا من الحصون والأسوار، مخافة أن تقع ثانيةً في أيدي العدو ويتحصن بها، فتطول مدة الحرب ويهلك الناس على غير طائل، وكانت أكثر أيام الحرب في ضيق شديد من العيش؛ لارتفاع أسعار الحاجيات خمسة أو ستة أضعاف، فظهر البؤس في البلاد لانقطاع الناس عن استثمار زراعتها كما كانت من قبل؛ ولأن غلاتها لا تكاد تسد حاجة جيوش المسلمين الجرارة، ولأن من الأرضين الصالحة للزراعة ما تعطل بحكم الطبيعة، فكانت حمًى يحجز بين المتقاتلين، وربما ابتعد الزراع عن هذا الحمى فراسخ وأميالًا؛ لأن العدو يتقدم ويتأخر في أرض عدوه تبعًا للأحوال العسكرية، وهلك عشرات الألوف من المسلمين فأحدث فقدهم نقصًا في الصفوف، وقلة في اليد العاملة، أما الغربيون فكانوا يقاتلون، فإذا نقص عددهم أتتهم النجدات من أوروبا، وجملة حملاتهم الكبيرة سبع حملات، منها ما جاوز عدده النصف المليون، وقلت في بعض الأحايين نجدات المسلمين، وعددها أقل من عدد نجدات الصليبيين.
قدر المسلمون قوة أعدائهم حق قدرها، وعرفوا كثرة سوادهم في بلادهم، واعترفوا لهم بالشجاعة، وإن عدوا أحيانًا شجاعتهم خرقاء، بالقياس إلى من يقدرون المسائل بقدرها، لا يجبنون عند اللقاء، ولا يغامرون حين لا تنفع المغامرة، وكان التهور يبدو في صفوف الصليبيين، فيكثر قتلاهم على غير طائل. ومن النقص في المسلمين أنهم قلت معرفتهم بالغربيين، وقلما عُنوا باستطلاع طلع أحوالهم، ولو كانوا على اتصال بهم بادئ بدء، ملمين بأحوال الغرب حق الإلمام، ربما استطاعوا أن يثنوا عزم الغربيين عن إشهار هذه الحرب الزبون، فيعقدون معهم معاهدات ومحالفات ويمنحونهم امتيازات ومسامحات، ويزيلون أسباب الشكوى. وأيقن المسلمون أن الصليبيين كانوا أشد منهم عنايةً بأخذ أخبار بلاد الإسلام في أوقاتها؛ ولذلك كتب لهم النصر أحيانًا، وما لبث المسلمون أن أتقنوا أيضًا فن استقاء الأخبار، بحيث لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة من أحوال أعدائهم، «وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم ومن بعدهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبًا من صاحب خبر وبريد، فلم تخف عندهم أخبار الأقاصي والأداني.» واحتال الصليبيون لاستمالة جيرانهم من المسلمين، فما عدوهم إلا غاصبي أرضهم، دخلاء على الملك الإسلامي، لا يهدأ لهم بال إلا إذا طردوا آخر صليبي عن وطنهم.
استعمل أمراء المسلمين أنواع الخدع الحربية مع أعدائهم، فتوصلوا بدهائهم إلى أن يرشي صاحب دمشق جماعة الصليبيين في القدس بمائتين وخمسين ألف دينار، وأرسلها زيوفا طُليت بالذهب كما قيل، وكان أمراء المسلمين في هذه الديار يعترفون لخلفاء العباسيين بالخلافة، ويستخدمون نفوذهم المعنوي في تقوية أمرهم وسوق الناس إلى الحرب، ولكن كان نفوذ بني العباس إلى ضعف، وتقل الماديات التي تصل إلى الجيش الإسلامي من طريقهم وبواسطتهم.
سياسة المسلمين مع ملوك الصليبيين
لقي أمراء المسلمين عجبًا من شطط ملوك الصليبيين أيام انتصارهم وأيام انكسارهم، وما عاملوهم إلا بالسياسة الرشيدة، وحاسنوهم ما ساعدتهم الحال بما لا يُنتظر أكثر منه من خصم شريف، هكذا كان طغتكين ثم نور الدين ثم صلاح الدين في الحملات الأولى، أما في الحملات الأخيرة فقلب أمراء المسلمين للصليبيين ظهر المجن؛ لإيقانهم أن لين الجانب ما نجع فيهم، ثم عرفوا أن الحال تبدلت في الغرب ففترت حماسة المتحمسين لنجدة الصليبيين في الشرق، فكان من الحزم في ملوك الإسلام أن يستأصلوا الفرنج من أرضهم.
أما صلاح الدين فكانت علائقه بالصليبيين أشد ظهورًا، وعلى يده كانت الوقائع المهمة الحاسمة، وفي أيامه جاء أعظم ملوك أوروبا إلى الشام في حملة عظيمة، وهو ريشاردس قلب الأسد ملك الإنجليز (الإنكتار)، وحاول أن يفض الحرب ونوَّع لذلك الأساليب، فصادق جماعة من مماليك صلاح الدين، ودخل معهم دخولًا عظيمًا بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات متعددة، وكان في كل هذا يخلط الجد بالهزل؛ حتى يتوصل إلى مأربه من استرجاع الأرض المقدسة، وصلاح الدين يعرف ذلك ويغضي عن هذا التلاعب.
كتب ريشاردس إلى صلاح الدين: إن المسلمين والفرنج قد هلكوا وخربت البلاد، وتلفت الأموال والأرواح، وقد بلغ الأمر حقه، وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبقَ منا أحد، وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له وهو عندنا عظيم، فيمنُّ به السلطان علينا ونستريح من هذا العناء الدائم، فأرسل السلطان في جوابه: القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم؛ فإنه مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، فلا يُتصور أن ننزل عنه ولا نقدر على التلفظ بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضًا لنا في الأصل، واستيلاؤكم كان طارئًا عليها لضعف من كان بها من المسلمين، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة، لا يجوز أن نفرط فيه إلا لمصلحة راجعة على الإسلام هي أوفى منها.
بعض ما استفاده الصليبيون من حربهم
أخذ الصليبيون عن المسلمين حياة الرفاهية، وفارقوا عيش البداوة، واشتد ولوعهم بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق الإسلامي صنائع أرقى من صناعاتهم، وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة معاملة، وتسامحًا غريبًا، وحبب إليهم الترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق، وأيقنوا أن المسلمين إذا سكتوا زمنًا عن طلب الثأر لا يقعدون عنه طويلًا، متى أعدوا أسباب الغلبة، وجاء فيهم أعاظم القواد والزعماء، وهؤلاء يُخلقون عند الحوادث في العادة، وهم لا يَخلقون الحوادث، ولا يرتجلون زعامتهم ارتجالًا.
وأبقى الصليبيون في الشام، أي في الساحل والأرض المقدسة منه، بعض الحصون والكنائس من الآثار، ولما ضربوا الضربة الأخيرة بيد الملك خليل (٦٩٠ﻫ) سكن بعض الإفرنج في جبل لبنان، وآب قسم آخر إلى بلاده على مراكبهم، وعادت الحروب الصليبية على الغرب بخيرات لا تُستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي لكفى؛ وذلك لما رأى الصليبيون من تسامح المسلمين، وتساهل مشاهير أمرائهم كنور الدين وصلاح الدين، فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية، أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس. قال سنيويوس بعد إيراد هذا: بدأت الصلات بين الغربيين والشرق بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل قامت بين المتجرين، وتحضر الغربيون باحتكاكهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية، فتحمسوا أولًا للنزال والطعان، ولما شاهدوا المسلمين عن أَمَم، ورأوا فيهم رجالًا أشداء منورين كرماء أمثال صلاح الدين — الذي أخلى سبيل أسرى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه — بدءوا باحترام المسلمين.
رأي لبون في مضار الحروب الصليبية ومنافعها
وأفاض لبون في نتائج العراك الذي حدث بين الغرب والشرق في الحروب الصليبية، فقال: إنها كانت عقيمة من حيث غايتها الأولى، وهي الاستيلاء على فلسطين، فإن الصليبيين على ما أهرقوا من الدماء، وبذلوا من الأموال، رجعوا بعد قرنين، بخفي حنين. أما من حيث النتائج غير المباشرة في هذه الحروب، فيمكن أن يُقال: إن منافعها عظيمة؛ وذلك أنه كان الاختلاط بالشرق مائتي سنة من العوامل القوية في انتشار المدنية في أوروبا، وحدث أن الغاية من الحروب الصليبية جاءت على غير ما أُريد منها، ولهذا التناقض بين الغاية المتوخاة، والغاية التي وصلوا إليها ما يماثله في التاريخ؛ وليتمثل لذهنه من شاء أن يقدر التأثير المشترك من احتكاك الشرق بالغرب حالة تمدن كل الشعوب التي اختلطت بالأمم الأخرى، ونحن نعرف أن الشرق بفضل العرب كان ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة، على حين كان الغرب غارقًا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان متوحشين حقيقةً ينهبون ويذبحون، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باحتكاكه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت له كراهة الغربيين كراهية دامت قرونًا، وهذا من النتائج المضرة.
أساء الشرقيون الظن بالشعوب النصرانية في أوروبا، وتظننوا الظنون بدينهم، لما رأوا من جهل الصليبيين وخشونتهم وقسوتهم الحمقاء، وقلة دينهم، فانفرجت مسافة الخلف بين الشرق والغرب، بحيث يتعذر تلافي ما فرط، وكان من ذلك زيادة نفوذ الباباوات وفساد رجال الكهنوت، فأنتج ذلك الدعوة إلى الإصلاح الديني، وما أعقب ذلك من المجالدات الدامية، ومن أشأم نتائج تلك الحروب، أن تأصل التعصب وعدم التسامح في العالم عدة قرون، وبدأ الدين في مظهر من القسوة والوحشية، لم يكن لنحلة عهدٌ بها ما خلا اليهودية، وبلغ التعصب بعد تلك الحروب درجة الجنون، وما زالت آثاره متجلية إلى اليوم؛ فقد اعتاد رجال الدين أن يهرقوا الدماء، فأنشأوا يطبقون على قومهم طرق الإبادة التي طبقوها على أعدائهم من قبل، بدعوى نشر الإيمان وإبادة الإلحاد، وكل من بدرت منه بادرة خفيفة من الخلاف، كان حريًّا أن يلقى أشد العذاب، وما مذابح اليهود والإلبيجاويين وطبقات كثيرة من الملحدين، وما ديوان التحقيق الديني والحروب الدينية، وجميع المعارك الوحشية التي سالت فيها الدماء في أوروبا زمنًا طويلًا، إلا نتائج مشئومة نشأت عن التعصب الذي أوقد الصليبيون ناره. ا.ﻫ.
سياسة صلاح الدين واستفادة الصليبيين
قبل الحروب الصليبية كان لا يعرف الشرق من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية في طلب علم لا يعرفونه، أما في هذه الحروب فقد عرفوا الشرق الإسلامي، وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية وعلمية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين بعض التحرر، وأنها أمة من طراز غير ما يعرفونه من أجيال الناس، نقول: تحررت من قيود الدينيين؛ لأنَّا رأينا صلاح الدين لم يرضَ أن يشرك رأيه مع رأي الفقهاء في هذه النازلة، فكان اعتماده على رأيه ورأي قواده وأهل الحنكة من رجاله، لعلمه بأن نظر رجال الدين يختلف في مثل هذه الأحوال عن نظر رجال السياسة، ولو عمل يوم فتح القدس برأي الفقهاء وعامل الصليبيين بالقسوة التي عاملوا بها المسلمين غداة فتحهم تلك المدينة؛ لأقام في كل دار في الغرب مأتمًا، ولما انحلت العقدة المهمة من الحروب الصليبية، فكان نظره أرقى من نظر من أشاروا عليه بقتلهم عن بكرة أبيهم، ومعاملتهم بمثل ما عَمِلوه.
وفي التاريخ العام أن من الفوائد التي عادت على الغربيين من الحروب الصليبية: تحرير أصحاب الأرضين من رقهم، وتقوية السلطة الملكية، وإدخال تعديل على نظام الإقطاعات، وانتشار الشعر الغنائي واغتناء إيطاليا، وضعف قوة التدين، ووهن سلطة الباباوات إلخ. وربما كان من أهم ما استفادت أوروبا انتقال الثروات من أيدي الأمراء والزعماء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا من أهلها، فباع من باع من الكبراء، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره فاغتنى واقتنى الرباع والضياع.
وذكر ميشو أن الفرنسيس والنورمانيين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد، كانوا في حالة البداوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولًا إلى الملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم، ولا الشعوب أن تفارق مساقط رءوسها، وعمت الصناعات، وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة، وكل أسرة، ومصطلح كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات، والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الفرنج، وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وكُتب التوفيق للملاحة في القرن التالي بالكشف عن أميركا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح، فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية، تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب إلخ.
اعتصم المسلمون في هذه الكارثة العظمى بحبل الله، ورضوا بما قدره وقضاه، وخلعوا عنهم ثوب الخمول، وابتعدوا عن كل هزل وفضول، التحفوا شعار الجد والاجتهاد، لخوض غارات المغول والأتراك على الحضارة العربية غمرة هذا الجهاد، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.