حضارة المدن الإسلامية
لئن كان من استقلال بعض أمراء القاصية عن الخلافة العباسية ما دعا إلى فصم عرى
الجماعة، فإن هذا الانفصال مهما كان نوعه نشأت منه أيضًا فوائد عظيمة في عمران البلاد
ورسوخ الحضارة العربية فيها، فبنو الأغلب في إفريقية، وبنو طولون وبنو عبيد في مصر،
وبنو سامان في بخارى، وبنو بويه في شيراز، وبنو سُبكتكين في غزنة، كل هؤلاء نسجوا على
منوال بني العباس في بغداد، فصارت كل عاصمة من هذه العواصم بتراتيبها وعلمها مثل دار
السلام مصغرة.
وكأي من قاعدة كقرطبة والقيروان والفسطاط ودمشق وبخارى وسمرقند وبلخ وهراة وأصبهان
والري ومرو ونيسابور وشيراز ومراغة وهمذان وخُوارِزم بل سجستان وجُرجان وطبرستان وقزوين
وجُوين وبُست وسرخس وبيهق وأُشر وسنة وفرغانة والصُّغد والشاش وطوس وغيرها من بلاد
الشرق كانت آية في حركتها العلمية، وضع الأمويون أساسها، وترسم خطاهم فيها بنو العباس
فأُلبست ثوب القطر الذي انتشرت فيه، ودخلت معظم هذه المدن في طور مدنية أصبحت معها كل
واحدة منها دار علم وحكمة، تُدرس فيها العلوم على اختلاف صنوفها باللغة العربية، والناس
في أرض الترك والفرس والخزر يتقدمون كل يوم خطوة من التعرب، أما البربر في الغرب فإنهم
أنشأوا بسيوفهم ممالك في تاهرت وسلجماسة وتلمسان والريف وفاس ومكناس، واستولوا على
الأندلس لكن المدنية أضرت بهم لما
١ احتكوا بأهلها في البلاد الأندلسية فقضت عليهم كما قضوا عليها، فكان شأنهم
شأن المغول في فك عرى المدنية الإسلامية وقلة الاستعداد للأخذ بمذاهبها؛ فإن مذاهب
الترف استولت على صنهاجة ومنهم المرابطون فهلكوا فيها كما هلك قبل ثمانية قرون أسلافهم
الفانداليون في شمالي إفريقية. وصف المقدسي الريَّ في القرن الرابع، فقال: «إن فيه
مجالس ومدارس وقرائح وصنائع ومطارح ومكارم وخصائص، لا يخلو المذكر من فقه، ولا الرئيس
من علم، ولا المحتسب من صيت، ولا الخطيب من أدب، هو أحد مفاخر الإسلام وأمهات البلدان،
به مشايخ وأجلة، وقراء وأئمة، وزهاد وغزاة وهمة.» ووصف قصر عضد الدولة في شيراز، وكان
فيه ثلاثمائة وستون غرفة يجلس كل يوم في واحدة، فقال في خزانة كتبه: إن عليها وكيلًا
وخازنًا ومشرفًا من عدول البلد، ولم يبقَ كتاب صُنف إلى وقته من أنواع العلوم كلها إلا
وحصله فيها، وهي أزج
٢ طويل في صُفَّة كبيرة فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج
والخزائن بيوتًا طولها قامة في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوَّق، عليها أبواب تنحدر
من
فوق، والدفاتر منضدة على الرفوف. لكل نوع بيوت وفهرستات فيها أسامي الكتب. وكان عضد الدولة
٣ محبًّا للعلوم وأهلها فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب، ولا تظن أن
عضد الدولة كان كأكثر الملوك يخرب أقاليم ليعمر له قصرًا، بل كان عاقلًا فاضلًا حسن
السياسة شديد الهيبة، أما أبوه ركن الدولة، وكانت إمارته أربعًا وأربعين سنة، «فقد
أُصيب به الدين والدنيا جميعًا لاستكمال خلال الخير فيه.»
ولقد كانت بخارى وسمرقند عاصمتي العلم على عهد السامانيين حتى كادت حضرتهم تماثل
حضرة
بني العباس، «وكانت بخارى في الدولة السامانية مثابة المجد، وكعبة الملك، ومجمع أفراد
الزمان، ومطلع نجوم أدباء الأرض، وموسم فضلاء الدهر.» وكان في مراغة
٤ إلى القرن السابع آثار وعمائر ومدارس وخانكاهات حسنة، وكان فيها أدباء
وشعراء ومحدثون وفقهاء وكذلك كانت همذان، وما زالت إلى تخريبها بجند تيمورلنك «محلًّا
للملوك ومعدنًا لأهل الدين والفضل»، وأنشأ محمود بن سبكتكين في عاصمته غزنة من المصانع
الجميلة ما يعد دهشة الأمصار، وكان قصره مجمع الشعراء والعلماء، ومنهم البيروني
٥ سيد علماء العالم في القديم، وأعظم رياضي نبغ في الإسلام، ومنهم الفردوسي
٦ الشاعر، والعتبي الكاتب، إلى عشرات أمثالهم من المغنين والشعراء.
وما لنا ووصف تلك العواصم، واستقصاء أخبار كل واحدة منها، وما أبدع فيها رجالها من
علم وعمل يحتاج إلى مجلدة، وكذلك تاريخ المدن
٧ التي أنشأتها العرب أو جددتها كالبصرة والكوفة وبغداد وسامرة وواسط ومراغة
وشيراز وقصر ابن هبيرة وعسكر مكرم وأردبيل وسرخس وسمرقند وبيكند وبوزجان وسامان
وشهرستان ودهسيان وأذنة والمصيصة وسلمية والفسطاط والقطائع والقاهرة والقيروان والمهدية
وبونة وبجاية ووهران ورباط الفتح وتامدلت ومراكش وفاس والمسيلة وبطليوس وتطيلة والمرية
والزهراء إلى غيرها من المدن العربية.
والغاية هنا أن نمثل تمثيلًا خفيفًا لتلك الحضارة الرائعة في قواعد البلاد، وحسبك
في
تصويرها أنه كان في مدينة مرو فقط — وكانت مرو ونيسابور وبخارى مستقر ولاة خراسان من
أول ما ملكها العرب — عشر خزائن للوقف. قال ياقوت: إنه لم يُرَ في الدنيا مثل كتبها
كثرة وجودة، وما خلت كل مدينة من مدارس وخزائن كتب وعلم وعلماء، وكثيرًا ما كانت بعض
القرى تشبه المدن في هذا المعنى على صورة صغيرة، دام ذلك إلى أوائل المائة السابعة، وقد
طغى المغول على بلاد الإسلام تحت راية جنكيز، أعظم فاتح عرفه التاريخ، وأعظم مخرِّب قام
في الأرض، خرَّب أقطارًا وأمصارًا، وما عُرف له من غرض في ذلك إلا حب التخريب؛ ولذلك
قالوا: ما دُهي الإسلام بمثله، امتدت مملكته من بحر الصين إلى البحر الأسود،
٨ واستولى على ما وراء النهر وخوارزم وخراسان وهرات وقندهار وملتان وأفنى
أهلها، وقتل كل من كان فيها من كبير وصغير،
٩ ثم خربها حتى ألحقها بالأرض، وتركها بلقعًا ينعق الغراب في ربوعها، وأتى
على ما تعب العرب بإيجاده ستة قرون في غزنة ونيسابور وشيراز وبخارا وسمرقند وغيرها من
البلدان، وكانت من أعظم عواصم العلم وحواضر الإسلام، وبمن قام فيها من العلماء والفضلاء
تمت آيات باهرة من الحضارة العربية ممزوجة بالحضارة الفارسية، فقضى المغول على كل ذلك
حتى إن بعض المدن الكبرى هلك سكانها كلهم وخربت برمتها، وكم من خزائن
١٠ كتب أُحرقت، ومن مدارس علم قوضت، ومن مراصد فلكية دُمرت، وكان أهم سبب في
فقدان أكثر ما ألفه علماء المسلمين وحكماؤهم من التصانيف ما أتاه جنكيز وأولاده
وأحفاده، ثم جاء هولاكو المغولي فدك أعظم ركن للإسلام، وخرب مدينة دار السلام، وناهيك
بها من فاجعة قضت على آخر معقل من معاقل الحضارة. وما أفاد تلك الأقطار استرجاع حكومات
الإسلام لها فيما بعد، فإن جنكيز في أول القرن السابع، وهولاكو في منتصفه وتميور أواخر
الثامن وأول التاسع، إلى غيرهم من أمراء المغول الأشرار كانوا إذا سلم بلد أو إقليم من
عبث الأول جاء الثاني فأتم ما أغفل الأول، وإذا فرض أن نجا صقع من الثاني فالثالث يأتي
عليه لا محالة، وعلى الجملة فإن المغول من الشرق والبربر من الغرب قضوا على المدنية الإسلامية.
١١
استعداد المغول للحضارة
التتر والترك والتركمان أجيال كثيرة، يرجعون بأصولهم إلى الجنس المغولي، ومنهم بادية
رحالة ومنهم حضر ينزلون القرى والمدن. وكان الترك من أول من دان بالإسلام من هذه
الشعوب، وبقي المغول والتتر إلى القرون الأخيرة على أديانهم القديمة، ونزل السلجوقيون
الأتراك بلاد فارس والعراق والروم وكرمان والشام، وكان ملكشاه وألب أرسلان من أول
ملوكهم الذين كانوا على شيء من العدل وحسن التدين، وكان أكثر هؤلاء السلجوقيين
١٢ يحبون العلم والآداب، ولا سيما ملكشاه ومحمد وسنجر، ويعطفون على العلماء،
وقد ارتقت البلاد الإسلامية في أيامهم ارتقاءً محسوسًا، وانتشرت العلوم والآداب ونبغ
العلماء والأدباء، وهذب الإسلام من نفوسهم، وألقى الرحمة والشفقة في قلوب جيوشهم، فما
ارتكبت ما ارتكبه جنكيز وهولاكو وقومهم وكان هؤلاء ما زالوا على وثنيتهم ووحشيتهم. يقول
هوتسما:
١٣ إن المغول والترك كانوا في كل زمان لا يحفلون كثيرًا بالأديان المختلفة
وليسوا من طبيعتهم متعصبين لها.
خرب جنكيز عواصم العلم في فارس مثل طوس ونيسابور وقزوين وأصفهان وشيراز ومراغة وغيرها،
١٤ وأكمل من أتى بعده تدميرها وكان سلاطين السلاجقة ووزراؤهم يتبارون في إقامة
المصانع كالجوامع والمدارس والجسور والفنادق،
١٥ واهتم ملكشاه بالعلوم وإن لم يكن عالمًا، فكان ورجاله يقدرون قدر ما حرموه
من نعمة المعرفة، وتركوا إدارة البلاد لوزرائهم مثل نظام الملك الذي كان مطلق اليد في
الحكم، فكان السلجوقيون بما لقفوا من الثقافة العربية الفارسية يدافعون قومهم عن العبث
بالمدنية ويحمونها من غاراتهم، ويسوقونهم إلى الأخذ بحظ منها، وللسلجوقيين أيادٍ بيضاء
على الإسلام يوم جدت غارة الصليبيين عليه، وكفاهم أنه كان من أمرائهم أمثال آل زنكي
ومنهم نور الدين محمود مثال العادلين في السلاطين، ومن وزرائهم أمثال نظام الملك نصير
العلم والعلماء.
وبينا كانت في هذا الشرق القريب تتألف كتلة صغيرة تدفع الصليبيين عن سرة بلاد الإسلام
مصر والشام، فتخرب مدن وحصون، وتندك معالم وجوامع، كان جنكيز يخرب في أواسط آسيا بلاد
المسلمين، ولم تكد تدفع الشام عنها عادية الحروب الصليبية حتى جاء هولاكو بغداد يخربها
ويقتل الخليفة المستعصم ويقضي على جلة الفقهاء ورجال الدولة، يضع السيف في دار السلام
١٦ أربعين يومًا، ويستخرج الأموال والتحف بأنواع العذاب، ويحرق معظم تلك
المدينة الساحرة، وزادت عدة القتلى عن ثمانمائة ألف، عدا الأطفال ومن هلكوا في السراديب
والقنى والآبار، وأحرق قبور الخلفاء ونبش عظامهم، وبنى بكتب العلماء إصطبلات الخيول
وطوالات المعالف عوضًا عن اللبن. وقيل: إن ماء دجلة تغير لونه لكثرة ما ألقى فيه التتر
من الكتب والأوراق. وقيل: إنه أقام بكتب العلم ثلاثة جسور على دجلة، هذا عدا ما نهب من
البلاد التي احتلها، فملأ في مراغة خزانة عظيمة من الأسفار، نهبها من بغداد والشام
والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد.
١٧
ومن أعظم البلاء في القضاء على الخلافة العباسية بدار السلام أن الرافضة عاونوا
١٨ هولاكو على المسلمين، لما جاء إلى خراسان والعراق والشام، كما كانوا عاونوا
جده جنكيز قال ابن تيمية: وكان العلقمي وزير الخليفة منهم فلم يزل يمكر بالخليفة
والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم، ويكيد
أنواعًا من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يُقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان
أو
أكثر أو أقل، ولم يُر في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر.
ا.ﻫ.
وجاء في آخر القرن السابع (٦٩٩) غازان التتري يفتح الشام، وكان أسلم قُبيل توليه ملك
الإيلخانية في تبريز، فخرَّب وأحرق وقتل وصادر وعذَّب على استخراج المال وأحرق قسمًا
مهمًّا من دمشق، منها بعض أمهات مدارسها وجوامعها، وأخذ من دمشق ثلاثة آلاف ألف دينار
وستمائة ألف دينار سوى التراسيم والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء، وحجته
في حرب أمراء مصر والشام أنهم خارجون من طريق الدين ليس لهم وفاء ولا زمام، يجورون على
الرعية ويمدون أيديهم العادية إلى حريمهم وأموالهم.
وآغار تيمورلنك التتري أوائل القرن التاسع، يصفي حسابات التخريب في ممالك الإسلام؛
فأخرب مدنًا في طريقه إلى الشام، ومن أهم ما أخرب مدينة بغداد (٨٠٣)؛ فذبح أهلها ودك
معالمها، وخُربت بيوت الناس والدور العامة. وخرب أيضًا ثلث دمشق وبعض حلب، وقضى فيهما
على المدارس والجوامع وخزائن الكتب، وكانت دمشق أغنى مدينة في العالم فضرب عليها غرامة
عظيمة أفقرتها، وكان قبل أن يلقي النار يستصفي لنفسه وقواده وجنده ما راقهم من العروض
والأموال، ثم ارتحل عن دمشق يحمل منها أصحاب الحرف والصنائع
١٩ وأرباب الفضائل، وقد أخذ وجماعته من نفائس الأموال فوق طاقتهم، فجعلوا
يطرحون ذلك في الدروب والمنازل؛ وذلك لكثرة الحمل وقلة الحوامل، وأصبحت القفار والبراري
والجبال من الأمتعة والأقمشة كأنها سوق الدهشة،
٢٠ وكأن الأرض فتحت خزائنها، وأظهرت من المعادن والفلزات
٢١ كامنها، وأخذ تيمور من دمشق كل ماهر في فن من الفنون، وجملة من العلماء،
وربما أخذ أناسًا من الأعيان والسادة والنبلاء، وكذلك كل أمير من أمرائه أخذ الفقهاء
والعلماء وحفاظ القرآن وأهل الحرف والصناعات والعبيد والنساء والصبيان والبنات بما لا
يسعه الضبط، هذا ما عمله في عاصمة واحدة وكذلك شأنه في معظم عواصم الإسلام.
على أن تخريب تيمورلنك لا يُقاس إلى تدمير جنكيز وهولاكو؛ لأنه كان مسلمًا خرب قسمًا
وأبقى آخر، ونقل — شأن كثير من الفاتحين — كنوز البلاد التي وطئها إلى أرض أخرى، ومع
أنه استحل إهراق الدماء
٢٢ على غير طائل فقد كان محبًّا للمعارف والعلماء، وجعل ما جمعه من آثار المدن
المخرَّبة في عاصمته سمرقند، زينها بها وعمرها، وأنشأ عدة مدارس وخزائن كتب وغير ذلك
من
أساليب نشر العلم.
وبينا كانت بلاد الإسلام بعد الغوائل التي انتابتها بالصليبيين الآتين من الغرب،
والمغول الواغلين من الشرق، تكفكف العبرات التي سفحتها في القرن الخامس والسادس والسابع
والثامن والتاسع، قام من فروق في القرن العاشر سلطان تركي، يُعد من أعظم السلاطين
العثمانيين، ففتح قسمًا من بلاد فارس واستولى على الشام ومصر وسائر بلاد الجزيرة على
أيسر سبب، ولم يقصد مباشرةً إلى تخريب ما احتمل من المدن العامرة، بل أراد تعريتها من
ذخائر العلم والصناعات، فعمل على انتزاع بقايا المدنية العربية من القسم العامر من بلاد
العرب في آسيا وإفريقية، محاولًا أن يعيش بالتراث العظيم الذي صار إليه من هذه الحضارة،
ساكتًا عن أصلها وسندها وعن أبي عذرتها؛
٢٣ فبدأ ينقل معظم أدوات المدنية إلى القسطنطينية ليعمرها على الصورة
الإسلامية في الجملة، ويخرجها من الرومية المتأصلة فيها، لتكون محط الأنظار بين
الأقطار، ويجعل مدنية الترك الإسلامية نعمت الخالفة، لمدنية اليونان الوثنية النصرانية
السالفة، فحمل هذا الفاتح من مصر إلى فروق كتب العلم ورجاله، وآلات الصناعة وصناعها،
وأجمل الأعلاق وأثمن الجواهر، فسلب مصر مدنيتها، وكانت الأيام سالمتها قليلًا فأصبحت
عاصمة مهمة على عهد المماليك البرجية والبحرية، وقويت صلاتها التجارية بالغرب، وأنشأوا
لهم مدنية لا بأس بها، وراجت في أيامهم التجارة، وخرج السلطان سليم من مصر
٢٤ ومعه ألف حمل من الذهب والفضة، دع التحف والسلاح وأعمدة الرخام والصيني
والنحاس، وأخذ من كل شيء أحسنه، وبطل من مصر نحو خمسين صنعة، وعُمرت خزائن الآستانة
وقصورها من كتب بلاد العرب التي نجت في القرنين السالفين من هولاكو وتيمور، وحبس
الأتراك كتب العرب في قصورهم وجوامعهم ومدارسهم، على قلة الراغبين فيها من بني قومهم،
وبذلك مُحيت من الأذهان أول المظاهر العربية في أرض العرب، وغض الأتراك الطرف عن معاهد
العلم ومصانع البلاد فخربت خرابًا مبكيًا، ولم تعد لها قائمة، كأن هذا الجنس التتري
حلمة طفيلية لا يعيش إلا بامتصاص دم غيره، وكأن السلطان سليمًا بعثته الأقدار للقضاء
الأخير على الحضارة العربية في فارس والشام ومصر، وهي من الأقطار التي كانت على غابر
الدهر موطن الحضارة العربية وكهفها الأمين.
تخريب الأتراك ما بنته الدول قبلهم
ومن أهم ما قضى على مدنية العرب في عهد الترك إهمال المدارس وامتداد أطماع الطامعين
في استصفائها، ونزع وقوفها وأحباسها، وفي الخطط التوفيقية أن النظار في مدارس القاهرة
تصرفوا خلال ثلاثة قرون من العهد التركي على غير شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسة
والطلبة والخدمة، وانقطع التدريس بالكلية لكثرة الاضطرابات، وبيعت كتب المدارس
وانتُهبت، حتى آلت الحال ببعض المدارس الفخمة والمباني الجليلة أن أصبحت زوايا صغيرة،
وزال بعضها جملةً أو صار زريبة أو حوشًا أو غير ذلك.
ومثل هذا وقع في عاصمة الشام فقد دخل الأتراك دمشق وفيها أكثر من ١٥٠ مدرسة للقرآن
والحديث والفقه على المذاهب الأربعة ومدارس الطب ومدرسة الهندسة، عدا الرُّبط والخوانق
والمستشفيات، وخرجوا منها بعد زهاء أربعة قرون وليس فيها سوى بضع مدارس عامرة بعض الشيء
ولا تدريس فيها، هذا عدا ما كان من المدارس الجليلة في مدن الأقاليم كالقدس وحماة وحمص
وحلب وطرابلس وغيرها، وكلها أُصيبت بما أُصيبت به مدارس دمشق،
٢٥ وجميع هذه المدارس كان فيها خزائن كتب، وعامة المرافق وأسباب الراحة
والتشويق والاستفادة تامة، ومثل ذلك قل في مدارس العراق، ولا سيما الموصل والبصرة
وبغداد، وناهيك بالمدرسة النظامية (٤٥٩ﻫ) والمدرسة المستنصرية (٦٣١ﻫ) في بغداد، ولم
يقتصر نظام الملك على إنشاء المدرسة البغدادية أو الجامعة البغدادية، بل بنى دور العلم
للفقهاء وأنشأ المدارس للعلماء، وأسس الرباطات للعباد والزهاد، ثم رتب لهم الجرايات
والكساوي والنفقات، وأجرى الخير والرزق لمن كان من أهل الطلب للعلم مضافًا إلى أرزاقهم
وعم
٢٦ بذلك سائر أقطار مملكته، فلم يكن من أوائل الشام وهي بيت المقدس إلى سائر
الشام الأعلى وديار بكر والعراقين وخراسان بأقطارها إلى سمرقند من وراء نهر جيحون مسيرة
زهاء مائة يوم، حامل علم أو طالبة أو متعبد أو زاهد في زاويته إلا وكرامته شاملة له
وسابغة عليه. وكان الذي يخرج من بيوت أمواله في هذه الأبواب ستمائة ألف دينار في كل
سنة، وكانت غلة المدرسة المستنصرية نحو سبعين ألف دينار، وقيل: إن قيمة ما وقف عليها
يساوي ألف ألف دينار جُعلت على المذاهب الأربعة، وأُقيم فيها مستشفى وأطباء يدرسون الطب
كما يدرس فيها علم الحيوان والنبات والفلك والرياضيات على اختلاف ضروبها، والآداب
بأنواعها والتاريخ وعلوم القرآن والحديث،
٢٧ وهكذا الحال في عامة مدارس بلاد العرب.
ولقد تفنن ملوك المسلمين وأهل الخير من رعاياهم في أعمال البر والإحسان، وأقاموا
من
المصانع ما يشبه من أكثر وجوهه أعمال الغربيين اليوم، فقد كان كوكبوري صاحب إربل من أهل
القرن السابع من بعض أولئك المحسنين، ومما بنى أربع خانقات
٢٨ للزمنى والعميان وقرر لهم ما يحتاجون إليه، وبنى دارًا للنساء الأرامل
ودارًا للضعفاء ودارًا للأيتام ودارًا للملاقيط، ورتب بها جماعة من المراضع وأجرى على
أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم، ولا تزال إلى اليوم بقايا من هذه الخيرات
العجيبة في بلاد الإسلام، فقد ذكر الأخوان تارو أن في مدينة مراكش ملجأ لا مثيل له في
الدنيا بأسرها، وهو بناء يكاد يكون بلدة يضم ستة آلاف أعمى يأكلون فيه ويقرءون، ولهم
قوانين يجرون عليها وتراتيب تنظم من شئونهم.
كانت العربية ماثلة في الشام يوم دخلها العثمانيون في سنة ٩٢٢ﻫ في معظم مظاهر الحياة،
فأطفأوا شعلتها وأضعفوا قوتها، ولو نجا الشام وحده من حكمهم لنشر — لتوسطه بين الولايات
العربية — أنوار الحضارة، ولو كُتب له الانضمام إلى مصر منذ استقلت بها الأسرة العلوية،
لتساند القُطران الشقيقان في مهمة التمدين، ولما آضت هذه الولايات وكانت مستنبت
العربية، أشبه بالقرى منها بالمدن، يوم دعا الترك داعي الرحيل. لا جرم أن صنعاء ومكة
والمدينة والبصرة وبغداد والموصل وحلب ودمشق كانت إلى عهد قريب من الانحطاط في عمرانها،
والجهل المتأصل في سكانها، على ما تذرف له الدموع حزنًا، ومن أين يُرجى لها مدنية وقد
اصطلحت على جسمها جميع أمراض الانحلال، وهل المدنية غير ابنة الراحة والسكون، والعمل
المتصل، والتفكير الطويل، وهذا ما كان مفقودًا فيها.
فكروا في المدارس القديمة التي دثرت بدخول الدخلاء والأعاجم، وكيف كان لها عمل عظيم
في القضاء على الأمية بين الناس؟ كانت معاهد هي غاية ما وصل إليه العقل البشري ظرفًا
ومظروفًا في العصور الغابرة، وبها أثبت أجدادنا في القرون الوسطى أنهم كانوا شيئًا في
إتقان الهندسة والبناء، وأنهم على جانب من سلامة الذوق، وأنهم حراص على المجد، هذه
المدارس تنطق بلسان حالها أن الأعمال العظيمة لم تقم لو لم تفكر بها عقول كبيرة، وأن
تلك المدارس والمصانع ما كانت تُعمر لو لم يدرس فيها رجال الدين والعلم والأدب، وما
كانت تسير سيرًا ضمن لها الخلود قرونًا، لو لم تجهز بقوانين معقولة وتراتيب متسلسلة،
وما قام في الأرض شيء من العظمة إلا كان إلى جانبه عظماء يتعهدونه، ويفيضون عليه من
معين قرائحهم.
قامت معظم معاهدنا في القرون الوسطى بتأثيرات دينية، وكانت المسائل المدنية تابعة لها
وعالة عليها، ولعمري هل كانت أوروبا على غير تلك الحال أيضًا في تلك العصور؟ وهل البيع
والديرة في الغرب إلا وليدة الدين ومن صنع رجاله؟ أو من أحبوا التقرب من قلوب
المتدينين، أو قامت بأيدي المتظاهرين بالدين من الحكام والملوك، فلما جاء دور النهضة
والإصلاح، ونجا الغرب من تأثيرات تلك القرون بالثورة على النظم القديمة، انتهى عمل تلك
المصانع، فانقلبت على التدريج من معاهد دين إلى دور علم، وأصبحت الدينيات تُقرأ في
بعضها على أساليب جديدة من البحث والنظر، بل إن الأموال الطائلة التي كان يجمعها ملوك
الغرب بإرهاق رعاياهم، ليبنوا بها قصورًا لهم ولأتباعهم وحظاياهم، جعلت عندهم في عصور
الارتقاء متاحف ومحاكم ومدارس، ولو تُركت مدارس الإسلام وشأنها في هذه الأقطار العربية
لاستحالت مع الزمن معاهد علم وفن.
المقابلة بين الفرس والترك
هذا ما كان من موجبات تراجع الحضارة العربية، أو ضعف العلم والعمل في أبناء العربية،
أما الحضارة في البلاد الإسلامية الأخرى كفارس والأفغان والهند وتركستان والقوقاز التي
تأثرت قرونًا طويلة بالمدنية العربية، فشأنها غير شأن البلاد العربية منذ نفضت أيديها
من دولة العرب، وكانت تعلو وتسفل بحسب روح المتغلبين عليها، وما برح أثر العرب ماثلًا
في أهلها لمكان الدين فيهم إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، مهما حاول المفرطون في حب
قومياتهم من بنيها أن يعيدوها سيرتها الأولى قبل الإسلام، على ما نرى الفرس البهلويين
والترك الكماليين لعهدنا، يحاولون أن يصطنعوا لهم مدنيتين جديدتين، طلاؤهما مدنية
الغرب، وروحهما المدنيتان الفارسية والطورانية، قبل أن يتعاورهما الإسلام بالمحو
والإثبات، والزمان كفيل بالحكم على تينك الأمتين بهذا النظام الجديد، ولقد طردت فارس
وتركيا الجهلة من رجال الدين، واكتفى منهم بالدارسين والعالمين، فكان هذا الصنيع أعظم
بشارة خير لمستقبل الأمتين. وبالقضاء على الجهال الذين كانوا يضعون العثرات في كل سبيل
إلى النهوض، ودَّعت فارس وتركيا ماضيًا منحطًّا، وباتتا على رجاء استقبال عهد
جديد.
أثبت الفرس بالإسلام في القرون الخالية أنهم على استعداد لقبول العلوم والآداب
وتمثلها، فأخرجوا نوابغ اختلطوا بأصحاب السلطان، وأفادوا المجتمع العربي، ولم يُثبت
الترك منذ تشرفوا بالإسلام أنهم مستعدون لمثل ما عُرف عن الفرس من كفاءة علمية وصناعية،
وإن شهد لهم العارفون منذ الأعصر المتطاولة أنهم جد كفاة في الجندية، ولا بأس بهم في
السياسة الدولية،
٢٩ فقد هيأ بعض الملوك العثمانيين عامة الوسائط لنشل أبناء جنسهم من عثرات
الجهالة، وحاول سيد ملوكهم محمد الفاتح أن يجعل من دار ملكه في فروق موطنًا علميًّا
يضاهي به على الأقل دولة المماليك في مصر والشام، وبذل لذلك أنواع البذل والمعاونة،
واستدعى العلماء من الأقطار يغدق عليهم الجرايات والمشاهرات وأنواع التكرمة والتجلة،
ومن جملتهم عالم عصره في بلاد ما وراء النهر علاء الدين بن محمد القوشجي،
٣٠ أراده السلطان على استيطان بلاده هو وتلاميذه وأعطاه مدرسة أيا صوفيا، فلما
هلك الفاتح اضمحل كل ما أسسه القوشجي؛ لأن من العادة هنا أن يزول كل عمل بزوال عامله
الأول، وكل ملك يغير طريقة حكمه بحسب معرفته، وقد يحسد سلفه على ما صنع من جميل ولو كان
أباه، فيقضي عليه أو يتراخى في إنجازه، وما كانت المدارس الدينية في الآستانة، بل في
الأناضول والروم إيلي في الأدوار السالفة إلا صورة من انحطاط التعليم، لا نور فيها إلا
بقدر ما تخرج تلاميذ وسطًا لتولي الوظائف الدينية، وقل أن جاء فيهم عالم كبير يُذكر،
وعالمهم من كان يحسن النقل والاختصار والجمع، مع ركاكة أعجمية بادية، وإبهام في كتبهم
لا تحل رموزه ومعمياته، خلافًا لما ألَّفه الفرس وعلموه باللغة العربية. على أن
العثمانيين يُشكرون على أن لم يغفلوا في معظم أدوارهم العناية بالدروس الدينية باللغة
العربية على رسوم دول الإسلام.
هذا في العلوم الدينية، أما في العلوم المادية فقد قال مؤرخو الترك والإفرنج: إن
الأتراك طاردوا
٣١ علماء بيزنطية فكانوا سبب نهضة إيطاليا ونشر المدنية الحديثة، ولا ينكر أحد
أن الأتراك أرسلوا من الآستانة مواد بناء المدنية، فإن أوروبا على ما قيل مدينة
بمعارفها الحاضرة إلى بضعة من فضلاء بيزنطية هاجروا منها إلى إيطاليا بدخول العثمانيين،
أمثال يناديس وساريون ويوركي الطربزوني وكسطى وسكارديس وفرانجس وميخال دوكا.
بيد أن كل تدبير للنهوض يضعف تأثيره إذا لم تكن الأمة متأهبة لقبوله، ويعترف علماء
الترك أنه لم يظهر فيهم رجل
٣٢ من عيار ابن رشد الفيلسوف، فكَّر بحرية ثم كتب ما فكر فيه بجرأة، ولم ينبغ
فيهم ولا مؤلف واحد يشبه من خرج من العرب في أدوار ارتقائهم، والأتراك بعد ستمائة سنة
في الحكم لم يفارقوا الأخلاق التي عُرفوا بها يوم جاءوا من بلادهم الأصلية — كما قال
جناب شهاب الدين — ونزلوا بلاد صاحب قرمان شراذم
٣٣ يرعون أغنامهم ومواشيهم، ولما استصفوا تلك البلاد وأنشأوا لهم حكومة،
وتوسعوا في السلطان وتبسطوا في رحاب المدنية القديمة، وأسسوا على أنقاضها تلك
الإمبراطورية العظيمة، لم يتجردوا من صفاتهم، وظلوا بعد كل هذا على أخلاق الرعاة؛ يظنون
كل الناس غنمًا لهم وسائمة، يقودونها كما يشاءون، ويتصرفون بأوبارها وألبانها، بل
بلحمها وعظمها، ولكن رعية الغنم غير رعية الأناسي، وهيهات أن تقوم بهذه الذهنية مدنية
تذكر، يريد أن يقول، وهو تركي الجنس: إن قانون الرجعة قضى على الترك أن يظل دمهم كما
كان، وإن قضوا أجيالًا في بيزنطية الجديدة.
رأي لبون في الترك والتتر
رأينا البلاد التي خضعت للترك قرونًا متقهقرة متراجعة، خرجوا منها كما دخلوا إليها
على مركبات البقر، على ما وقع لهم في الروم إيلي، وكانوا إذا فتحوا بلدًا عمروا فيه
ثكنة أولًا وجامعًا ثانيًا، أما المدرسة فلا تُعمر إلا بعد سنين طويلة وبدواعٍ كثيرة،
يعمرها بعض نبهاء عمالهم على الأكثر بالسخرة وأموال المظالم والمغارم؛ وذلك فرارًا
بأموالهم من المصادرات، أو بأنقاض الجوامع والمدارس القديمة، وما أكثر ولوعهم بالبناء
على الأنقاض! وهذه المدارس إذا قيست بما كان من نوعها في مصر لا تُعد شيئًا، وقد نظر
لبون إلى عمل الترك في التمدين نظرة قدر معها الأشياء بقيمتها في الجملة، فقال: جاء
الأتراك بعد العرب فاستولوا على جزء عظيم من بلاد الشرق ومنها مصر، والأتراك إذا نُظر
إليهم من الوجهة السياسية كان لهم عصر عظمة، فإن سلاطينهم الذين خلفوا إمبراطرة
القسطنطينية، ورفعوا علم الهلال على كنيسة أيا صوفيا بدلًا من الصليب اليوناني، قد
أدخلوا الرعب زمنًا طويلًا على قلوب أشد ملوك أوروبا شكيمة، وتوسعوا في نشر كلمة
الإسلام، بيد أن سلطانهم كان أبدًا عسكريًّا محضًا، أثبتوا كفاءتهم لتأسيس مملكة ضخمة،
وكانوا إلى العجز في كل أيامهم عن إحداث مدنية لهم، وما كان أقصى همهم إلا أن ينتفعوا
بما كان تحت أيديهم، فأخذوا عن العرب العلم والفنون والصناعة والتجارة وما إلى ذلك، وفي
جميع المعارف التي برز فيها العرب لم يؤثر للترك أدنى ارتقاء. وكما أن الشعوب التي لا
ترتقي تتراجع بحكم الطبيعة، ما عتمت ساعة انحطاط الترك أن حانت. وترجع نهاية تاريخ
مدنية العرب في الشرق إلى اليوم الذي انتقلت فيه القوة الحربية في بلادهم إلى أيدي
غيرهم، وظل التاريخ يذكر العرب لما لهم من التأثير الديني، ولكن مستوى المدنية التي
بلغوها لم توفق العناصر التي خلفتها إلى الاحتفاظ به، وكانت مصر أعظم البلاد التي
ابتُليت بهذا الانحطاط العظيم، فبدأ تدنيها من العصر الذي انتصر فيه السلطان سليم، وجعل
مصر ولاية من ولايات السلطنة العثمانية، فضعفت فيها الفنون والعلوم والصناعة بالتدريج.
وكانت مصر كسائر الولايات التي رُبطت بالآستانة، يديرها ولاة يتوالى تبديلهم، ولا
يفكرون إلا بأن يغتنوا سريعًا، فمسخ رونق البلاد القديم، ولم يقم أقل مصنع جديد،
وأُهملت المصانع التالدة، وخلت من يد تتعهدها، ولم يبقَ منها إلا ما غفلت عنه الأيام.
قال: وإن من الرعايا من هم أرقى أخلاقًا من حكامهم، وإن الشعب التركي خُلق جنديًّا لا
مثيل له، وإن بلادهم بأسرها خراب، وهي مزيج من عناصر أذلها الأتراك وما تمثلوها. قال:
إن المغول خلفوا العرب في الهند فأخذوا عن المدنية العربية، وإذا عجزوا عن أن يرقوا بها
فقد أحسنوا الانتفاع منها فرقيت الهند على عهدهم.
وقال أيضًا:
٣٤ كانت الشام على عهد الأمويين وأوائل عهد العباسيين من البلاد التي رأت
حضارة بلغت أقصى حدود رقيها، وأصبح العرب أساتيذ بعد أن كانوا تلاميذ، واستفاضت العلوم
والشعر والفنون الجميلة أي استفاضة، ودام نجاح الشام إلى عهد التقسيم الذي مزق مملكة
الخلفاء، وعندها أخذت بالضعف، ولكنها لم تنطفئ شعلتها كل الانطفاء إلا عندما سقطت في
حكم الأتراك، ولم يكن الخراب مطلقًا، فإن معظم عجائب البذخ والفنون والصناعة التي
جمعتها العرب قد زال أثره، ولم تلبث بعض العواصم مثل صور وصيدا أن أصبحتا في حكم قريتين
كبيرتين، وعريت الجبال من أشجارها كل التعرية، وأقفرت القرى من سكانها، وكانت من أغنى
الأرضين، وفي هذه الأماكن التي طالما أمرعت في غابر الدهر، أصبح العشب لا ينبت، منذ
ضغطت عليها أيدي الترك. ا.ﻫ.
هذا رأي لبون في حكمه على الأتراك واستعدادهم للحضارة، وما أثروه في بلاد العرب، ومن
العدل أن لا يفوتنا أن انحطاط العرب بدأ بذهاب الدولة العباسية، وبأمثال هولاكو وجنكيز
وغازان وتيمور من المغول. وكان العلم يعيش في البلاد الإسلامية بقوة التسلسل المنبعثة
من أصله المتين، فلما جاء الأتراك العثمانيون لم يزيدوا أوضاعًا من شأنها تقوية العلم،
بل سكتوا على ما كان، فزاد بهم التأخر؛ لأنهم لم يسعهم أن يأخذوا بأيدي الناس إلى مضمار
التقدم في العلوم والآداب، ولو بصرف العناية في إخراجهم من الأمية.
جهل الترك وتجهيل العرب
ومن أدهش ما يُدون في عهدهم أن أحد وزراء المعارف المتأخرين كان يضع مناصب التدريس
في
المدارس الثانوية في المزاد، ويتولى المنصب أجرأ المدرسين على تنقيص المشاهرة، يوسد إلى
من اقتنع بالقليل في هذه التولية، مهما بلغ من جهله في الفن الذي أخذ على نفسه تدريسه
بهذا الراتب الضئيل. وحدث أنهم وسدوا دروس الدين إلى غير المسلمين في المدارس الثانوية،
وكان من العادة في المدارس الوسطى بالبلاد العربية أن يعهد إلى أبناء العرب الذين لا
يحسنون التكلم والكتابة بالتركية بتدريس الآداب التركية، وإلى الأتراك الذين لا يجيدون
تأليف جملة واحدة بالعربية أن يدرسوا الصرف والنحو والمنطق والبيان العربي. أما المدارس
الابتدائية فمعلموها خرجوا على الأكثر من غمار الجهلاء، وليس غير بعض المدارس العالية
في العاصمة كالمدارس الملكية والحربية والطب والهندسة، في أواخر أيام الدولة، يتولى
التدريس فيها علماء أجلاء من الترك والعرب والأرمن والروم والفرنسيس والألمان
وغيرهم.
ولو عُني العثمانيون بالتعليم عنايتهم بالجيش منذ القديم، لما وصلت بلادهم إلى ما
وصلت من الجهل، ولما صار المسلمون في أيامهم إلى الانحطاط المبكي، ودولتهم جعلت التعليم
صوريًّا لا حقيقيًّا. وبينا لا نجد في كل مائة قرية في بلاد العرب مدرسة ابتدائية
واحدة، نرى الدولة من جهة أخرى قد بلغت بها الغيرة على نشر لغتها أن تكتب العقود وأسناد
الضرائب والمواثيق والأحكام باللغة التركية، وأعظم من هذا أن حظرت استعمال اللغة
العربية في المحاكم النظامية في التقاضي والكتابة، فحاربت بذلك العرب والعربية جهارًا،
حربًا ليس فيها شيء من المنطق، وأتى زمن ولا من يحسن القراءة العادية في عدة قرى كبيرة،
بل حدث أن بعض النابهين في بليدة إسلامية أراد أن يعلم ابنه القرآن فلم يجد له فيها
شيخًا يستطيع إقراءه إياه، فعمد إلى راهب يقرئه لابنه ففعل. وكان المسلمون أيام كان لهم
بقايا من العلم يقرئ علماؤهم أهل الذمة كتبهم الدينية، فقد وقع لكمال الدين بن يونس
٣٥ في الموصل وعز الدين الإربلي في دمشق من أهل القرن السابع أن قرأ عليهما
أهل الذمة التوراة والإنجيل، وكانا يشرحانهما لهم ويعلمانهم الكتابين على طريقة حسنة
ليست في استطاعة الحاخامين والقسيسين أن يقرءوهما لهم في ذاك العهد، يدرسان ذلك على نحو
ما كانا يقرئان المسلمين والفلاسفة.
٣٦
هذه صورة من غزوات المغول والترك على الحضارة العربية، وإلمامة بالعوامل العظيمة التي
تحيفتها في القرون الأربعة الأخيرة بقيام دولة حربية أعجمية خربت في أيامها المدارس،
وضاعت الأوقاف، وتراجعت المصانع والصنائع، وفقدت الكتب وأدوات الصناعة، ووسائل إخراج
الثروة، فكان هذا المرض الذي استحكم في البلاد زمنًا طويلًا بفعل الدولة وعمالها
الخائنين أشد عليها من جميع أمراضها السالفة، يشبه ما حل بساحتها من مصائب المغول المرة
بعد المرة، وعابر سبيل إذا حاول التدمير قد يكون ما جنته يده الأثيمة أقرب إلى الإصلاح،
من مقيم يخرب كل يوم في المعنويات والماديات، على غير اطراد ولا نهج معقول، ويطول عهد
تخريبه وتخريفه.