غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم
تاريخ الاستعمار واستعمار البرتقاليين
بين الاستعمار والاستثمار تقلب البشر في أرجاء الأرض ولا يزال يتقلب: يستأثر العامل بالخامل، ويتحكم العالم بالجاهل، يغزو القوي الضعيف، ويستهوي الأعز الأذل، والجهاد في ذلك على أشكال تختلف طريقتها، وتتفق أبدًا نتيجتها، والغاية المنشودة تحصيل الرزق من كل وجه وبكل حيلة، والأخذ بحظ من النعمة، تعين على الاستمتاع بمباهج الحياة ومناعمها. والطبيعة ما حادت عما رسمته من قانون: يأكل المستبسل المستسلم، والأرض على الدوام بين غالب ومغلوب، وصائد ومصيد، والدنيا ما انفكت طعمة لمن غلب.
أما أمراء المسلمين وغيرهم في تلك البلاد فما استناموا للضيم الذي أصابهم ممن جاءوهم متجرين ثم مستعمرين، وكانوا كثيرًا ما يحاربون البرتقاليين وينال بعضهم من بعض «ولم تتوطد سلطة البرتقاليين في الساحل دون غارات ومصاعب، فإن العرب كانوا يطرقون كل باب لإثارة خواطر الأهلين على مزاحميهم البرتقاليين وطردهم عن المراكز التجارية التي كانوا هم أصحاب التصرف المطلق فيها.» وخاف الغوري صاحب مصر فأرسل في بحر القلزم أسطولًا لقتالهم، يصدَّهم عن بلاده وينقذ تجارة مصر منهم؛ لأن معظم تجارة الشرق كانت تصدر إليها، وقد عاونته البندقية على عمله، وأرسلت إليه الخشب لعمل السفن في البحر الأحمر؛ لأنها كانت تخشى أيضًا على تجارتها، ولما سقطت دولته أرسلت الدولة العثمانية بإمرة أحد قوادها أسطولًا مؤلفًا من مائة مركب، فقتل سلطان عدن وبعض كبرائها من العرب حتى جعلها في قبضته، ثم وصل إلى جزرات وشرع في حرب ديو (١٥٣٨م)، وكسر أكثر القلعة بالمدافع العظام التي كانت معه، ثم تهيب الإفرنج فرجع أدراجه من غير فتح إلى مصر فبلاد الروم، وعاد الأتراك يحاربون البرتقاليين في تلك الأصقاع النائية، وشغلوا قسمًا من قواتهم فيها، توقفوا معها عن تحقيق أمانيهم من فتوحهم في أوروبا؛ لأن الترك كانوا بلغوا أسوار فينا وألقوا الهلع في قلوب أهل الغرب.
ومُكِّن للبرتقاليين في كثير من البنادر كبنادر مليبار وجزرات وكنكن وغيرها واستولوا «بحكمتهم وإجماع رأيهم» على كثير من البلدان فبنوا القلاع في هرموز ومسكت وديومحل وسمطرة وملاقة وملوكو وميلابور وناك فتن، والأخيران من بنادر شولمندل. واستولوا على بنادر كثيرة من جزيرة سيلان، كما استولوا على زنجبار وممبسة وموسامبيق وملندة، ووصلوا إلى الصين وصارت لهم التجارة في هذه البنادر وغيرها، وذل تجار المسلمين وصاروا لهم كالخدمة لا يمكنونهم من التجارة إلا فيما قلت رغبتهم فيه. وأما ما أهمهم اقتناؤه من البضائع وكثرت فائدته فيستأثرون به لا يمكنون غيرهم من الإتجار به، وقطعوا على المسلمين طريق السفر إلى بر العرب وملاقة وأشى ودناصري وغيرها، وانقادت لهم رعاة البنادر حتى صار الحكم فيها حكمهم، وانقطعت أسفار البحر إلا بأمانهم وجوازاتهم، وكثرت تجاراتهم ومراكبهم ومنازلهم وقلاعهم، وقلت تجارات المسلمين إلا على السفن البرتقالية. وفي سنة تسعين أو إحدى وتسعين وتسعمائة اشتدوا في المرابطة على متعلق السامري، فتعطل سفر المراكب وانقطع جلب الأرز إلى بلاده فوقع فيها قحط عظيم.
استندنا في أكثر هذا إلى ما رواه زين الدين، وقد وصف البرتقاليين بأنهم «أهل مكر وخديعة، عافون بمصالح أمورهم، يتذللون لأعدائهم وقت الحاجة غاية التذلل، وإذا انقطعت حاجتهم سطوا عليهم بكل ممكن. وكلهم كلمة واحدة لا يخالفون أمر كبرائهم، ولا يختلفون بينهم مع بعد المسافة عن رعاتهم، ولم يُسمع أن أحدًا منهم قتل كبيرهم لأجل الولاية، ولذا دانت لهم مع قلتهم رعاة مليبار وغيرها؛ بخلاف ما عليه عساكر المسلمين وأمراؤهم من الاختلاف وطلب الاعتزال عن الغير ولو بقتله.»
الاستعمار الهولاندي والإنجليزي والفرنسي وغيره
وكان من الاضطهاد الديني في إنجلترا أن هاجر كثير من أبنائها أوائل القرن الثامن عشر إلى أميركا الشمالية، ونزلوا شواطئ الأطلنطي ينشئون مستعمرات مهمة تألفت بأَخَرة من مجموع ولاياتها جمهورية الولايات المتحدة، مستقلة عن الحكم الإنجليزي، وأصبحت في القرون التالية من أعظم دول الأرض علمًا وغنًى؛ وذلك لأنها فتحت صدرها للمهاجرين من كل أمة، وقرضت الزنوج سكان البلاد؛ فلم يبقَ منهم إلا ما يشبه بقايا الوشم في ظاهر اليد، فزاد إحصاء سكانها في مائة سنة على مائة مليون من البشر، وهذا من أنجع ضروب الاستعمار المدني مملوء بكثير من الحساب للعواقب، والنظر البعيد في تمثل الأجناس المختلفة، لا يكاد يُسمع بمثله فيما سلف من الأعصار. دخلت عناصر كثيرة في البوتقة الأميركية «فتأمركوا»، ثم بدا لأميركا أن تحدد عدد المهاجرين إليها، وكان من جملة الأسباب التي حملتها على ذلك أن الصقالبة (السلافيين) والبلقانيين من أعصى الأمم على التمثل والتمثيل.
وبينا كان الهولانديون والإنجليز والفرنسيس يتنازعون الاستيلاء على البلاد الحارة، كان الروس في هدوء وسكون، يستعمرون البلاد الواقعة بين جبال الأورال ومضيق بهرنغ، ويقيمون في تلك السهول الفسيحة أعمالًا مهمة في العمران لا تنهض بها إلا دولة تنفق عن سعة، ثم توسعوا وراء حدودهم التي رسموها لأنفسهم حتى جاروا في القرن التاسع عشر أملاك الإنجليز في جنوبي آسيا. أما الدول الأوربية الأخرى فقد دفعتها أيضًا الحاجة إلى التوسع في الاستعمار؛ فاستولت إيطاليا على الأريترة ثم على ليبيا (طرابلس وبرقة)، وأعمرت ليبيا وأنزلت فيها عشرات الألوف من أبنائها، أسكنتهم فيها حتى زاد عددهم في سنين قليلة على نصف أهل البلاد الأصليين من المسلمين. واستولت ألمانيا على الكمرون والتوجو ثم نُزعتا منها بعد الحرب العامة، على ما قضت بذلك معاهدة فرساي، وراحت البلجيك تستعمر الكونجو في إفريقية، استعمرها ملكها أولًا لحسابه الخاص ثم تنازل عنها لأمته، وللدانيمرك والسويد مستعمرات من الجزر تشكو قلة نفوسها.
ونشبت بين الدول المستعمرة حروب حتى استقرت الحال في تقسيم العالم على هذا الوجه، وخرجت البرتقال وإسبانيا عن مستعمراتهما، وبقيت لهما بعض الجزر والبلاد، وتمتعت إسبانيا بامتلاك الريف في الغرب الأقصى، بعد نكبات عظيمة حلت بجيشها، ولو لم تساعدها فرنسا على حرب الريف ما استطاعت نزع تلك المستعمرة الصغيرة من الريفيين، ولكانت رُدت عنها كما كانت رُدت إيطاليا عن بلاد الحبشة بخسائر فادحة، ولعل ما أنقذ الحبشان من الاستعمار الأوربي كونهم نصارى، وربما لم يجد سكان الريف لهم نصيرًا في الغرب؛ لأنهم عرب مسلمون.
وأصبحت بريطانيا العظمى، بما خُص به الإنجليز من التؤدة والمعرفة الواسعة بحكم البشر، ومنها إبداع إدارات خاصة لكل إقليم وجنس انضوى إلى علمهم، أعظم مملكة في العالم لا تغيب الشمس عنها، ولا تقل مساحتها عن ثلاثين مليون كيلو متر مربع، وسكانها عن نحو أربعمائة مليون من البشر، مملكة بل ممالك، واسعة السلطان، مستفيضة العمران، ما طمع الرومان، بأعظم منها ولا أغنى، وهي مأمونة الطرق محفوظة المسالك، مستأثرة بأهم المضايق والخلجان والفُرَض، ومن ورائها أسطول عظيم كان منذ قرنين أول أسطول بين أساطيل الدول العظمى.
ولكل دولة مستعمِرة اليوم سياسة استعمارية خاصة، كما أن لكل أمة خصائصها وميزاتها. وليس من شك في أن الاستعمار علامة نشاط أمة تريد أو تحاول أن يكون لها مقام لائق في العالم، وصفقة المستعمرين تعود بأعظم الأرباح المادية، مقابل خسائر في الأرواح تتحملها الدولة المستعمرة، ولا تعدها شيئًا يؤسف له إذا نجحت التجارة، واغتنى أفراد وشركات، وارتاش بعض الموظفين والمقربين من أعيان الدولة المستعمرة. ويقول من كتبوا في استحسان الاستعمار من الإفرنج: إنه نفع الإنسانية والمدنية، كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل.
البلاد المستعمرة وطرق الاستعمار الحديث
لا جدال في أن معظم البلاد المستعمرة اليوم آخذ بالنهوض من حيث تراتيبه وعمرانه، أما دوام حياة المستعمرات والاحتفاظ بكيانها فتبع لقوة أهل المستعمرة الأقدمين؛ فإن كانوا من جنس ضعيف التراكيب، كالجنس الأحمر والأسود، ضعفت مقاومتهم لهذا الجنس الآري الأبيض الذي جاءهم بكل ضروب القوة، ففني الضعيف في القوي، على نحو ما حدث في كثير من أصقاع إفريقية وأميركا. وإذا كان أهل البلاد المحتلة أو المستعمرة من عنصر راقٍ ذي مدنية معروفة كالهندي، فهناك المشادة بين الدخيل والأصيل؛ لأن سكان البلاد لا تفوتهم فائتة من نيات من نزلوا عليهم، ولا يُرجى بحال من صاحب السلطة القاهرة أن يربي من يستتبع إلا على ما يوافقه؛ ليتسنى له الانتفاع به أطول مدة ممكنة، أو تكون بلاده للمحتل ولأعقابه ملكًا مؤبدًا على وجه الدهر؛ ولذلك نرى هذا المحتل يحاول أن يلقن من يستعمره أو يحميه، جماع منازعه ومآتيه، ولا يفتأ يعمل على إدماجه في جملته، وتجنيسه بجنسيته، وإلحاقه بقوميته. يلقنه عظمته وعظمة قومه، ويحاول أن ينسيه ماضيه ويخرجه عن مميزاته، يتصرف بقلبه وروحه على ما يهوى، والغالب ألا يترك له من موارد الحياة إلا سِدادًا من عوز وما يمسك عليه الرمق. وفي النادر أن ترحم أمة ذات سلطان أمة لا حول لها ولا طول، وما عُهد ذلك لغير الأمة العربية، على ما أكد ذلك العارفون من الغربيين اليوم. ولا يستغربن أحد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين أن المدنية الحديثة هي ابنة «المادة»، والإنصاف يقل في أهل المادة، وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والأخلاق الفاضلة، وتقبل أذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال، كما قال أحد كتَّاب الأميركان. وساغ بعد هذا أن يُقال: إنه ليس من العدل في قليل ولا كثير ما أوردته الشعوب اللاتينية من المبررات للاستيلاء على شمالي إفريقية مثلًا.
استراحت الأقطار التي سقطت في أيدي الدول المستعمرة من فوضى الأحكام، ودخلت على الجملة في طور تنظيم ونظام، وتلقف أهلها ما طاب لهم تلقفه من الحضارة العصرية، ولكن أتبقى لهم خيرات بلادهم، وتبقى عليهم الدول الفاتحة مشخصاتهم وخصائصهم؟ هذه هي المسألة المهمة في المستعمرات؛ ذلك لأن الغربي مجهز بالصفات التي تؤهله للكفاح في سبيل الرزق، وهو معتز بعز الحكم في قومه. والوطني قد ضعفت فيه هذه الأجهزة إلى حد غير قليل، وفترت فيه بعض الفتور الحرارة الضرورية لمحاكاة غيره في جهاده، بما هجم عليه من مغريات الحضارة الحديثة، ومن الفتنة بمذاهب غيره في الحياة، فكان بين أمرين لا ثالث لهما؛ إما قبول مدنية الغرب بما فيها من منافع ومضار، أو المجاهرة بالعصيان عليها، وفي كليهما الانقراض والفناء.
نحن نعلم أن من أهم الأسباب التي تدعو الدول الصناعية إلى ركوب مراكب الأخطار في الاستعمار هو جلب الغذاء لبلادها، والاستئثار بالمواد الأولية لمصانعها، وإيجاد مصارف لصناعاتها، ومخارج لبضائعها، وأن أرض الأوروبيين ضاقت بهم، ولا سيما بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ وعلمتهم حضارتهم أن لا يقنعوا في طلب الربح، وأن يتوسعوا كل التوسع في مطامعهم. ونعلم أن الشرق مهمل متسع الرحاب، يعول أهله ويعول أضعاف أهله، إذا حسن استثماره، ونعلم أن هذه المدنية الحديثة حملت في مطاويها من الجشع والأثرة ما لا نسبة بينه وبين دعوى نعومتها ونعمها، وأنها مُزجت أحيانًا بكثير من العنف والخسف، وقست قلوب دعاتها فما رجعوا في عملهم إلى عاطفة، ولا حفلوا تعاليم المسيح في الحب والسلام. ولو ظل الغرب نصرانيًّا بالمعنى الذي نفهمه من هذا الدين لما تعدى سلطانه ما وراء حدوده، ثم لما كانت هذه الحضارة الغنية بجميع مظاهرها، وكيف نطلب الرحمة ممن لا يرحم نفسه، ولا يتراحم وأقرب الناس إليه؟ تكثر روابط الأمم الغربية بعضها مع الآخر، فهم أبناء عناصر متشاكلة متقاربة، وأصحاب مذاهب ترجع في جوهرها إلى أصل واحد، ومع هذا رأيناهم كيف عامل بعضهم بعضًا في الحرب العالمية الأخيرة؛ تعاملوا — شهد الله — بقسوة ما شهدها الإنسان في قرون الهمجية الأولى.
وبعد، فمن العبث أحيانًا مطالبة من يعتز بقوته بأداء الحق كله، لا سيما إذا كان بذل مالًا ورجالًا حتى تمت له الغلبة على ما طمح إليه، وتوطد سلطانه في أرض استنفضها واستقراها واستنبتها، والفتح الحديث لا يُراد منه أولًا وبالذات غير فائدة القوي قبل الضعيف. وهذه سنة الكون منذ دُحيت الأرض وسار البشر على سطحها. ثم إن الأمم الكبرى هي أيضًا تحت وصاية طبقتين متغلبتين فيها: طبقة رجال الجندية وطبقة الممولين، أو طبقة أرباب الصولة في الدولة، وأصحاب الأموال في الأمة، ولا يلذ لهاتين الطبقتين إلا أن ينعما الحين بعد الآخر بانتصارات جديدة، وأن يستنزف الأفراد ثروة الجماعات، يهنئون بما جمعوا من القريب والبعيد. قالوا: إن بعض المستعمرات لا يفي دخلها بخرجها، أو لا توازي كل هذا العناء للاحتفاظ بها، ومع هذا نشاهد الدول متماسكة فيها، ومتمسكة بحقوقها عليها؛ لئلا تستهدف لغضب أصحاب السيطرتين الماديتين الجندية والمالية، وإن أغضبت أهل المذاهب الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أصحاب النزعات السياسية الهدامة الدائبة على تمزيق نظم حكم الجمهور (الديمقراطية)، وهو يرجع في جوهره إلى الاستبداد يومًا بعد يوم؛ ولذلك قالوا: إن هذا الضرب من الحكم أفلس وخابت الآمال فيه، وإن كانت مظاهره مجالس نيابية وأنظمة دستورية ووزارات مسؤلة عن أعمالها.
ولقد ادعى بعض الدول لتبرير مقامها في بلدان الشرق أن غايتها هي حماية الأقلية من ظلم الأكثرية، وهي دعوى اخترعوها في العهد الذي قويت فيه نغمة الاستعمار، ولإثباتها قد يثيرون ثائرة التعصب المذهبي في الناس؛ ليتخذوا من فريق على فريق نصيرًا، يلقون العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن المشترك، بواسطة غلاة دعاتهم ومبشريهم؛ ليحصل التوازن بزعمهم بين أهل التعاليم المختلفة، وما رأينا بلادًا قط حكمت بغير رأي سوادها الأعظم، وما كان لنا أن نقول اليوم مثلًا لرومانيا ويوجوسلافيا، وفيهما مئات الألوف من عنصر واحد ودين واحد، أن تعاملا المسلمين في بلادهما، وهم عشرات الألوف، بما يريدون لا بما يريد السواد الأعظم من مواطنيهم.
فرَّق الاستعمار بين أجزاء القلوب في الشعب الواحد؛ فرق بين البربر والعرب وهم متحدون في دينهم ولسانهم، وفرق بين المسلم والنصراني في كل مكان، وفرق بين المسلم والوثني والبرهمي، وضرب الأخ بأخيه والابن بأبيه، وباعد بين الأحمر والأسود، والأسود والأبيض، على حين رأينا البلاد التي نجت من تأثيرات الاستعمار كجمهورية ليبريا المؤلفة من مليون ومائتي ألف مسلم وثلاثمائة ألف نصراني وخمسمائة أوربي عاش أهلها كأبناء بيت واحد، ما فرق الدين ولا الجنس بينهم في المسائل الوطنية.
رأينا من هذه الدول من إذا كان لها مأرب في أمر لا تعدم حيلة مؤلفة من ألف برهان لبلوغ غرضها، ونحن نضرب لذلك مثلًا بدولتين، وهما من أكثر الدول اتصالًا بالشرق والإسلام، ومن أعرقها في الحضارة، عنينا بهما فرنسا وإنجلترا؛ فقد رأينا فرنسا لما بدا لها أن تضرب جارتها إنجلترا في هندها عملت لمصر في القرن الماضي كل ما يستقيم به أمرها، ولم تعمل لأهل شمالي إفريقية شيئًا منه، وفكرت فقط في مصلحتها، وأبقت سكان البلاد في دائرة معينة لا تريدهم أن يتعدوها. ورأينا إنجلترا تأخذ أوائل هذا القرن بيد مصر أيضًا فتصلح إدارتها، وتنمي زراعتها، وتنظم ماليتها، حتى إذا تمت لأبناء النيل أدوات التفوق، قالت بريطانيا: إنها تخاف على الأجانب إذا هي ألقت حبل مصر على غاربها، وقالت غير ذلك من الحجج. والحقيقة أن مصر طريق الهند، وتخاف أن تجعل باب الوصول إليها يشرف عليه غيرها.
أما «الفرنسة» من طريق المدرسة وغيرها فلم تأتِ أيضًا بثمرة جنية؛ لأن من تعلموا على الأساليب الفرنسية البحتة من الوطنيين تلقوا تربية لا تتفق وعقليتهم؛ فلم ينفعوا أنفسهم ولا غيرهم، وغاية ما كان ممن أخذوا بهذه التربية أن خرجوا من عاداتهم وأهملوا مقدساتهم، وأصبحوا كالعقعق حاول تقليد الحجل في مشيته فنسي مشيته الطبيعية، وأكد الباحثون في شئون الجزائريين من علماء الغرب أن هذه الثقافة لم تورث من أخذوا بمذاهبها إلا نفاقًا وشعوذة واستهزاء بكل قديم، وأنها أقبستهم أبشع ما في المدنية الحديثة من النقائص كالسكر ونحوه. ومن الصعب أن يغير شعب تركيبه العقلي ليختار تركيبًا آخر، ومن الثابت أن حضارتين مختلفتين إذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى تعارضتا ولم تلتئما، والشعوب الفاتحة التي أثرت في غيرها من الأمم نجحت بمعالجة شعوب كان لها من العواطف والأفكار والأوضاع والمعتقدات مثل ما للداخلين عليهم؛ فالشرقيون يؤثرون في الشرقيين أمثالهم، وما أثر الغربيون قط فيهم مثل هذا التأثير، وهذا سر النفوذ العظيم الذي بسطه العرب في الشرق، ولا يزال لهم حظ منه في إفريقية والصين؛ فقد نجحوا في كل مكان ببث أهم عناصر مدنيتهم، وهي الدين واللسان والأوضاع، بدون كبير عناء. والإسلام ينتشر كل يوم في إفريقية من دون أن تبذل همة في سبيل نشره، ويخفق المبشرون من الأوروبيين في سبيل دعوتهم إلى دين إخفاقًا شقيًّا، هذا رأي لبون، ثم يعود فيقول: إن السياسة التي اتُّبعت لفرنسة المسلمين واستتباعهم استتباعًا أدبيًّا كانت في شدتها قريبة الشبه بالطرق التي اتبعتها أميركا مع الزنوج في بلادهم؛ فقد كانت تسلبهم أرضهم التي كانوا يصيدون فيها تاركة لهم حريتهم المطلقة أن يموتوا جوعًا.
وقال أحد المفكرين من ساسة الإنجليز: سيبقى الشعب الهندي على الدوام شاهدًا ناطقًا بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مسًّا خفيفًا. وقال أحد الباحثين من الفرنسيس: إن قوة الحكومة البريطانية في الهند نشأت من كونها تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين والماهراتيين والهندوسيين والبرمانيين، وكلهم يتحاسدون ويتخالفون في الجنس والعادات والديانات.
وفي الثورات العديدة التي قام بها الهنود في أزمان مختلفة، وفي العصيان المدني الذي قاموا به في هذه السنين الأخيرة، وما لاقته إنجلترا من الخسائر المادية، بحيث كان نشوزهم من العوامل الكبرى في إفقار إنجلترا الغنية، دليل محسوس على فساد تلك الطريقة في تنشئة الهنود واستثمارهم. وأدركت إنجلترا، وقد حسبت الهند مزرعتها ودكانها وبيتها، أنها لم تستطع أن تنفذ إلى قلوب أهلها، وتلقنهم حبها وجميل صداقتها؛ وذلك لأن الهنود موقنون أن كل عناية إنجلترا مصروفة لإغناء الأفراد وإفقار الجماعات، وأن الهندي مهما بلغ من ثقافته ومقامه، محتقر في نظر الإنجليزي: لا يؤاكله، ولا يجالسه، ولا يزامله، ولا يعاشره، ولا يكاد يضمه وإياه نادٍ، ولا قطار، ولا فندق، ولا مطعم.
فالاستعمار الهولاندي لطيف الملمس من هذه الجهة، ولكن «مهما قال القائلون في ارتقاء زراعة جاوة وسمطرة وكثرة سكانهما والعناية بصحتهم وراحتهم، فإن هذه البلاد تديرها في كل مظاهرها الأيدي الهولاندية، والوطنيون عملة بأجور قليلة، وموارد الثروة فيها تنتهي إلى خزائن الهولانديين وجيوبهم، والهولانديون ينظرون إلى جاوة كما ينظر الإنجليزي إلى الهند يغتني من خيراتها أغنياؤهم، وقد جعلوا منها ذلك المصدر الذي لا ينتهي خيره، ولن تخبو شعلة حياته.» وعاملت هولاندة المسلمين، وهم كثرتها الغامرة، معاملة لا تحرجهم لئلا تخرجهم، تقربهم من مناحيها في أناة ورفق، ولا تقطع عنهم التعليم ولا تفيضه فيهم.
أما سياسة سائر الدول المستعمرة، كألمانيا وروسيا أمس والبلجيك وإيطاليا اليوم فمتشابهة، كانت روسيا في معاملة المسلمين قاسية على نحو ما كان المغول في معاملة الروس أيام استيلائهم عليهم في القرون الوسطى. كتب كاستلنو في تاريخه الذي قدمه للقيصر إسكندر الأول بشأن وقائع الروس في القريم لما أخذوها من العثمانيين: «إن الحملة لم تولِ روسيا شرفًا، فإن بلاد القريم أُحرقت ودُمرت، وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل، ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر، وتخريب أهم المصانع والآثار، وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة، وإدخال الظلام على العقول بإحراق كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها، وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعامًا للنار، لا يُقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.» هذا وحكومة البلاشفة اليوم تريد المسلمين على أن يبدلوا أوضاعهم وعاداتهم ليحاكوا سائر مواطنيهم.
رأي لبون في استعمار الغرب للشرق والاستعمار العربي
هذا ما علل به لبون نفرة الشرقيين من الغربيين، وما أدى المشارقة إلى سوء ظنهم بالحضارة الحديثة، وقد أورد على ذلك أمثلة، فقال: إن حوادث صلات الغرب بالشرق في القرن التاسع عشر كانت من أشوه صفحات التمدن. قال: وماذا يقول الناس في مستقبل الأيام في هذه الحرب الطاحنة التي شهرها الإنجليز على الصين ليحملوها بالقوة على استعمال الأفيون، فيهلك من الصينيين كل سنة ستمائة ألف إنسان؛ لتربح إنجلترا من هذه التجارة الممقوتة مائة وخمسين مليونًا، ومن جهة ثانية يرسل البريطانيون إلى الصينيين دعاة التبشير ليهدوا بنيها إلى الفضائل، فيقول الصينيون للمبشرين: إنكم تسموننا وتهلكوننا وتأتون بعد ذلك لتعلمونا الفضيلة؟! قال: فالشرقيون يتجافون عن قبول حضارة لا تلتئم مع أفكارهم وشعورهم وحاجاتهم، وأي داعٍ يكرههم على قبول مدنية تقل سعادتها، وفيها من الشقاء ألوان، ومن العوامل المضعفة ضروب، إلى أن قال: لما فتحت العرب الشرق لم تحمل هذه الشرور، فإن العرب كانوا مشارقة مثلهم تتشابه عواطفهم وحاجاتهم، غلبت العرب على الهند وفارس ومصر ثم غلبت المغول والأتراك على هذه البلاد، فما كان على أهلها أن يعدلوا حالاتهم كلها بقبول حضارة جديدة، وعلى العكس اضطرت هذه الشعوب باحتكاكها بالأوروبيين أن تغير جميع أوضاعها. وإذا كانت تلك الأمم ضعيفة جدًّا كالهندي مثلًا فيكون نصيبها الشقاء الأسود والثورات التي يولدها اليأس، تلك حال القوي مع الضعيف، وللأمم الحديثة هموم أعظم من اهتمامها بتمدين الشعوب الأخرى، ثم إذا كان ثمت ما يُقال له العلائق بين الأمم تفقد كلمات العدل والإنصاف معناها وما فيها من قيمة، فتكون ألفاظًا جوفاء خدَّاعة لا تجوز على إنسان، والشعراء يحدثوننا بعهد سعادة يسمونه العصر الذهبي تجمع بين العالم أواصر الإخاء العام، ومثل هذا العصر ما كان ولن يكون، دخلت الإنسانية في العصر الحديدي الذي يهلك فيه كل ضعيف بحكم الطبيعة.
وقال: إن الشرق خضع لأمم كثيرة كالفرس واليونان وغيرهم، ولئن كان نفوذهم السياسي فيه عظيمًا أبدًا فإن عملهم في التمدن كان ضعيفًا جدًّا، فهم لم يفلحوا في نشر أديانهم ولغاتهم وصنائعهم في غير المدن التي احتلوها مباشرةً، وامتنعت مصر عن قبول هذه المدنيات فلم تبدل أوضاعها على عهد البطالسة ولا في أيام حكم اليونان، واحتفظت بماضيها، وكان من الغالبين أن أخذوا عن المغلوبين دينهم ولسانهم وفنهم، وبقيت المصانع التي شادها البطالسة ورمَّتها القياصرة على الطراز الفرعوني، وما تعذر على اليونان والفرس والرومان تحقيقه في الشرق سهل على العرب الوصول إليه من دون ما قسوة ولا إعنات، وكان يتراءى أن مصر هي القطر الذي يأبى الخضوع للتأثير الأجنبي، ومع هذا لم يمضِ أقل من قرن على فتح عمرو بن العاص لها حتى نسيت سالف مدنيتها التي أنشأتها في ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة، وأخذت تدين بالدين الجديد وتتكلم لغة جديدة، وكان لها فن طريف بلغ من رسوخه أن خلفه الشعب الذي قبله إلى الشعب الذي قام بعده، ولم يغير المصريون قبل العرب دينهم إلا مرة واحدة، وذلك على عهد إمبراطرة القسطنطينية عندما نهبوا البلاد، وانهالوا على مصانعها القديمة يدمرونها، ويشتدون في الضغط على أهلها ويحظرون انتحال الأديان القديمة مهددين كل من يجرأ على ذلك بالقتل، فانتحل المصريون الدين الجديد بالإكراه لا بالرضا. وكان من تسارعهم إلى ترك النصرانية وانتحال الإسلام برهان على ضعف الإيمان في نفوسهم، أما التأثير الذي أثرته العرب في مصر فقد ظهر في جميع البلاد؛ ظهر في إفريقية والشام ومصر وغيرها من الأصقاع التي رفعوا علمهم عليها، وأثرهم ظاهر في الهند وإن كانوا قد مروا بها مرورًا، بل وصل تأثيرهم إلى الصين وما عرَّج عليها غير تجار منهم، وما عهد التاريخ مثالًا محسوسًا لشعب عمل عمل العرب، فقد تقبلت مدنيتهم عامة الشعوب التي مازجتهم ولو مدة وجيزة، ولما تراجع أمرهم في التاريخ كان ممن غلبوهم عليه كالترك والمغول وغيرهم أن اقتبسوا منازعهم وقاموا يدعون بدعوتهم في العالم. قضت المدنية العربية منذ قرون، وليس اليوم في العالم من المحيط الأطلانطي إلى نهر السند، ومن بحر الروم إلى البادية، غير دين واحد، ولسان واحد: هو دين أشياع محمد ولسانهم، ولم يتجلَّ نفوذ العرب في الشرق في دينهم ولسانهم وصناعاتهم فقط، بل امتد إلى الثقافة العلمية؛ فإن المسلمين كانوا على اتصال مستديم مع الهند والصين، فنقلوا إلى تلك الأصقاع جزءًا عظيمًا من المعارف العلمية، فظنها الأوروبيون بعد ذلك من أصل صيني أو هندي، واقتبست الهند من العرب أكثر مما اقتبس هؤلاء من الهنود، وكذلك أدخل العرب إلى الصين في العهد المغولي الفلك والطب. وتأثير العرب في الفرس ما زال بحاله إلى يومنا هذا، يقرءون العلوم في كتب العرب، ومقام اللغة العربية في فارس يشبه ما كان للغة اللاتينية في الغرب خلال القرون الوسطى، وبظهور العرب خاصة في إسبانيا في القرن العاشر احتفظت ناحية من الغرب بحب الآداب والعلوم، وكان مزهودًا فيها في كل مكان حتى في القسطنطينية.
وفي القرن الثالث عشر أيام تراجع العرب وسقط سلطانهم كما قال رنان في أيدي عناصر ثقيلة الوطأة، متوحشة المظاهر، ضعيفة المدارك، كالترك والبربر وغيرهم، بدأت تباشير الضعف عند المسلمين، وقد لا تكون التعاليم متعصبة بل يكون الناس متعصبين، وكان العرب عنصرًا رقيق الحاشية، كثير التسامح، لا يخرجون قيد شبر عن هذه المياسرة، وبرهنوا بأعمالهم على أنهم كانوا متشبعين بها منذ ابتداء فتوحهم، لا ريب أن التساهل الديني كان مطلقًا خلال العهد الذي أزهرت فيه المدنية العربية. ولقد عظم تأثير العرب في أجزاء من أرض أوروبا ما استطاعوا التسلط عليها إلا بعلمهم وعملهم، وكان هذا التأثير أشد قوة في البلاد التي خضعت مباشرةً لسلطانهم أي في أسبانيا، وأحسن ذريعة إلى تقدير هذا التأثير حق قدره أن تُلقى نظرة على ما كانت عليه إسبانيا قبل العرب، وما صارت إليه أيام حكمهم، وما انتهت إليه حالها بعد ذهابهم؛ فقد دب فيها الهرم بعد جلائهم عن أرضها ولما تنتفض من عوارضه حتى اليوم، مثال من تأثير شعب في شعب، والتاريخ لا يذكر مثله ناصعًا جليًّا. ا.ﻫ.
وبعد، فلا علينا أن ندعي بعد ما تقدم أن الحضارة العربية كان منها خير كثير للبشر، وأن الحضارة الحديثة بالنسبة للشرق قد خلطت عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وفيها من فاحش التعقيد ما يصعب على كل الناس تمثلها، عبث الاستعمار الغربي عمدًا أو عن غير عمد بمشخصات المستعمَرين؛ فلقنهم تهذيبًا فجًّا بالقياس إلى عقولهم، فنقلوا إلى غمرة الأمة المستعمَرة نقلًا غير مفيد ولا سديد. وكان من البلاد التي حُددت سلطة الغرب فيها كمصر والشام والعراق أن أظهرت استعدادًا ونبوغًا أكثر من غيرها من الأمصار التي اشتد ضغط الغريب عليها، وما منع احتفاظ هذه الأقطار الثلاثة بالمدنية العربية القديمة من قبول المدنية الغربية الحديثة، ولا يبعد إذا تمتعت البلاد العربية بوحدتها يومًا أن تظهر في مظهر دولة راقية تتساند مع غيرها من الدول في خدمة التمدين في العالم، ولا تقل مكانتها عن أرقى دول الأرض بعد سنين قليلة. ونقول بعد هذا لأرباب المنازع الغريبة في حكمهم على العرب ومدنيتهم: إن أحكامهم هي الجور حق الجور، ولكن «إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم.»