غارات المستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم

تاريخ الاستعمار واستعمار البرتقاليين

بين الاستعمار والاستثمار تقلب البشر في أرجاء الأرض ولا يزال يتقلب: يستأثر العامل بالخامل، ويتحكم العالم بالجاهل، يغزو القوي الضعيف، ويستهوي الأعز الأذل، والجهاد في ذلك على أشكال تختلف طريقتها، وتتفق أبدًا نتيجتها، والغاية المنشودة تحصيل الرزق من كل وجه وبكل حيلة، والأخذ بحظ من النعمة، تعين على الاستمتاع بمباهج الحياة ومناعمها. والطبيعة ما حادت عما رسمته من قانون: يأكل المستبسل المستسلم، والأرض على الدوام بين غالب ومغلوب، وصائد ومصيد، والدنيا ما انفكت طعمة لمن غلب.

الاستعمار ضرب من الهجرة ينزل المهاجر بلدًا يسكنه سكنى دائمة على غير أمل العودة إلى موطنه الأصلي فيعمر الأرض بكده، ويستخرج خيراتها ببذل أوفى نصيب من سعيه، يزيد في إمراعها، للاستكثار من ريعها، على أتم منوال، وأجمل مثال، وإذا سألت١ المدركين من المستعمرين قالوا لك: إن استعمارنا تقاضانا كثيرًا من الشجاعة والبطولة والمفاداة والعبقرية، وإننا استصفينا كل مدرة من أرض مستعمراتنا بنقطة هريقت من دم أولادنا، ونحن نقصد من جهودنا أن يؤسس لنا أبناؤنا في كل مكان ملكًا يضاهي بعظمته بلادنا، يفلحون بما ينتجون، وينتشرون ويتكاثرون، ويحتفظون بلغتهم وأخلاقهم ونبوغهم، فتنمو ثروتنا، ويخلد مجدنا، وتستفيض شهرتنا.
ينشأ الاستعمار في العادة من حركة٢ رجال تختلف درجات حضارتهم وأساليب انتفاعهم في أصقاع مختلفة الأوضاع، تتباين صور السير فيها، ويتم هذا الاستعمار بوسائل سلمية، ولا يستلزم منه أن يكون أبدًا استعمارًا مدنيًّا، فما كل حين يقوم الاستعمار على الزراعة والتجارة، بل كثيرًا ما كانت تهاجم البلاد المستعمرة فتؤخذ حربًا. والاستعمار عريق في القدم، ومن أقدم الأمم التي عانته الفينيقيون والرومان واليونان، واستعمار الفينيقيين تجاري، كانوا يجتزئون فيه بإنشاء مكاتب لمتاجرهم في البلاد التي ينزلونها، وما سكن قط أبناؤهم فيما استعمروه من البلاد سكنى دائمة، وطريقة الرومان واليونان في استعمارهم أن يسكنوا بنيهم فيما يحتلون من الأرض، ولذا أزاحوا الفينيقيين عن متاجرهم، وكان العرب أرباب خبرة واسعة في الاستعمار شهد لهم الإفرنج بذلك، وذكروا أنهم ظلوا معروفين بهذه الصفة في كل أدوار تاريخهم،٣ وما استطاع الجنويون والبيزيون والبنادقة وهم أجداد الطليان، أن يتعدوا حد الاستثمار في مستعمراتهم، فأشبه استعمارهم الاستعمار الفينيقي والقرطاجني.
كان البرتقاليون في بدء العصور الحديثة أول الأمم الغربية التي نهضت للاستعمار، فبدءوا باحتلال سواحل الغرب الأقصى حتى لم يبقَ بيد المسلمين من ثغوره غير سلا٤ ورباط الفتح واستولوا على بلاد الهبط وضايقوهم بها، حتى انحازوا إلى الأمصار المنزوية عن الأطراف، ثم أخذوا يتقدمون في بحر الظلمات حتى كشفوا شواطئ إفريقية الغربية والشرقية، متقدمين إلى الشرق للاتصال بجزائر الأبازير «البهارات» كشفوا هذه الطريق على عهد الأمير هنري٥ ابن الملك جوان الأول البرتقالي المتوفى سنة ١٤٦٠م، وكان عالمًا باحثًا انقطع إليه بعض اليهود وعلماء من الفاسيين والمراكشيين المغاربة كانوا يُعدون لذاك العهد علماء العالم، فأخذوا ينقبون في جغرافيات العرب وغيرها، حتى عرفوا إمكان الدوران حول إفريقية، فكان لهذا الأمير الفضل على أوروبا كلها، وما تم ذلك على يده إلا بأبحاث علماء العرب وكتبهم.
ووصل البرتقاليون بعد حين إلى جزائر الأبازير فأصبحت ميدانًا لتجارتهم أمدًا طويلًا، انتهوا إلى مليبار في الهند في سنة أربع وتسعمائة من الهجرة٦ (١٤٩٨م)، ودخلوا إلى كاليكوت واشتغلوا بالتجارة وقالوا لعمال السامري: ينبغي منع المسلمين من تجاراتهم، ومن السفر إلى بر العرب، والفوائد الحاصلة منهم يحصل منا أضعافها. وقال كبيرهم لراعي كش: أخرج المسلمين عن كش يحصل لك منا من الفوائد أضعاف ما يحصل منهم، فأجاب بأنهم رعيتنا من قديم الأزمان، وبهم عمارة بلدنا فلا يمكننا إخراجهم. وكان البرتقاليون يطلقون على المسلمين اسم «الكفار».
وكان من أول مقاصد فاسكودي جاما الملاح البرتقالي من طوافه بحر الهند محاربة السفن٧ العربية، بل كان الغرض من تطوافه في هذا البحر أن يحارب الصليب الهلال في أقصى بقاع المعمور، أو أن تحارب رومية مكة في مكان يبعد أكثر من ألف وخمسمائة فرسخ عن الميادين المألوفة لاقتتالهما، ترسل البرتقال جنودها وبحارتها إلى ما وراء القارة الإفريقية؛ لتحيط بالإسلام وتجعله بين نارين لتجفف ينابيع ثروته، وتقضي على صروح عظمته وشوكته، حتى إن البوكرك الملاح البرتقالي لما هاجم عدن عزم على إغراء الحبشة بتحويل النيل عن مجراه إلى البحر الأحمر، كما خطر بباله أن يهاجم مكة بجيش من الفرسان، وأهم ما كان الغرب يهتم له في الواقع أنه كان للهند طريقان في منتصف القرن الخامس عشر: أحدهما من البر والآخر طريق مصر والشام في البحر، وكان كلاهما في أيدي المسلمين. فالبرتقال تولت فتح هذا الطريق لأبناء الغرب؛ ذلك لأن البرتقاليين كانوا يعرفون العرب منذ استولوا على بلاد البرتقال أواخر القرن الأول من الهجرة، ويعرفون بأسهم وشدة مراسهم، ويقدرون غناءهم في أعمال الحياة قدره، ولا ينسون أنهم ذاقوا الأمرَّين مدة قرنين حتى أخرجوهم من ديارهم، ثم عادوا بعد سنين واستولوا على بلادهم دهرًا؛ ولذلك كانت عداوة البرتقاليين للمسلمين في جنوبي الهند بالغة حدًّا كبيرًا على ما قال زين الدين: يهزءون بهم، ويظلمونهم، ويعطلون حجهم، ويحرقون مساجدهم، ومنها ما اتخذوه بيعًا لهم، ويأخذون مراكبهم وأموالهم، ويطأون مصاحفهم وكتبهم بأرجلهم، ويحرقونها بالنار، ويهتكون حرمة المساجد، ويحرِّضون على قبول قول الردة والسجود لصليبهم، وإذا سقط أسرى المسلمين، رجالًا كانوا أم نساءً، في أيدي البرتقاليين ينصِّرونهم قسرًا، إلى غير ذلك مما كانوا ينزلونه فيهم خاصة من العذاب ليخلو لهم الجو في تلك الأصقاع، ويقبضوا على زمام تجارة الهند، ويطردوا عن أسواقها وموانيها المنافسين لهم. ورجع البرتقاليون لأول مرة من مليبار إلى البرتقال يحملون في سفنهم الأبازير، وتتابع في كل سنة وصول مراكبهم العديدة تقلُّ من البرتقال الرجال والأموال، وتوالت أسفار مراكبهم الكثيرة بهذه الحاصلات الثمينة كالفلفل والزنجبيل والقرفة والقرنفل والبسباس مما تكثر فائدته، ولم يبقَ للمسلمين غير تجارة القوقل والنارجيل ونحوهما.

أما أمراء المسلمين وغيرهم في تلك البلاد فما استناموا للضيم الذي أصابهم ممن جاءوهم متجرين ثم مستعمرين، وكانوا كثيرًا ما يحاربون البرتقاليين وينال بعضهم من بعض «ولم تتوطد سلطة البرتقاليين في الساحل دون غارات ومصاعب، فإن العرب كانوا يطرقون كل باب لإثارة خواطر الأهلين على مزاحميهم البرتقاليين وطردهم عن المراكز التجارية التي كانوا هم أصحاب التصرف المطلق فيها.» وخاف الغوري صاحب مصر فأرسل في بحر القلزم أسطولًا لقتالهم، يصدَّهم عن بلاده وينقذ تجارة مصر منهم؛ لأن معظم تجارة الشرق كانت تصدر إليها، وقد عاونته البندقية على عمله، وأرسلت إليه الخشب لعمل السفن في البحر الأحمر؛ لأنها كانت تخشى أيضًا على تجارتها، ولما سقطت دولته أرسلت الدولة العثمانية بإمرة أحد قوادها أسطولًا مؤلفًا من مائة مركب، فقتل سلطان عدن وبعض كبرائها من العرب حتى جعلها في قبضته، ثم وصل إلى جزرات وشرع في حرب ديو (١٥٣٨م)، وكسر أكثر القلعة بالمدافع العظام التي كانت معه، ثم تهيب الإفرنج فرجع أدراجه من غير فتح إلى مصر فبلاد الروم، وعاد الأتراك يحاربون البرتقاليين في تلك الأصقاع النائية، وشغلوا قسمًا من قواتهم فيها، توقفوا معها عن تحقيق أمانيهم من فتوحهم في أوروبا؛ لأن الترك كانوا بلغوا أسوار فينا وألقوا الهلع في قلوب أهل الغرب.

ومُكِّن للبرتقاليين في كثير من البنادر كبنادر مليبار وجزرات وكنكن وغيرها واستولوا «بحكمتهم وإجماع رأيهم» على كثير من البلدان فبنوا القلاع في هرموز ومسكت وديومحل وسمطرة وملاقة وملوكو وميلابور وناك فتن، والأخيران من بنادر شولمندل. واستولوا على بنادر كثيرة من جزيرة سيلان، كما استولوا على زنجبار وممبسة وموسامبيق وملندة، ووصلوا إلى الصين وصارت لهم التجارة في هذه البنادر وغيرها، وذل تجار المسلمين وصاروا لهم كالخدمة لا يمكنونهم من التجارة إلا فيما قلت رغبتهم فيه. وأما ما أهمهم اقتناؤه من البضائع وكثرت فائدته فيستأثرون به لا يمكنون غيرهم من الإتجار به، وقطعوا على المسلمين طريق السفر إلى بر العرب وملاقة وأشى ودناصري وغيرها، وانقادت لهم رعاة البنادر حتى صار الحكم فيها حكمهم، وانقطعت أسفار البحر إلا بأمانهم وجوازاتهم، وكثرت تجاراتهم ومراكبهم ومنازلهم وقلاعهم، وقلت تجارات المسلمين إلا على السفن البرتقالية. وفي سنة تسعين أو إحدى وتسعين وتسعمائة اشتدوا في المرابطة على متعلق السامري، فتعطل سفر المراكب وانقطع جلب الأرز إلى بلاده فوقع فيها قحط عظيم.

استندنا في أكثر هذا إلى ما رواه زين الدين، وقد وصف البرتقاليين بأنهم «أهل مكر وخديعة، عافون بمصالح أمورهم، يتذللون لأعدائهم وقت الحاجة غاية التذلل، وإذا انقطعت حاجتهم سطوا عليهم بكل ممكن. وكلهم كلمة واحدة لا يخالفون أمر كبرائهم، ولا يختلفون بينهم مع بعد المسافة عن رعاتهم، ولم يُسمع أن أحدًا منهم قتل كبيرهم لأجل الولاية، ولذا دانت لهم مع قلتهم رعاة مليبار وغيرها؛ بخلاف ما عليه عساكر المسلمين وأمراؤهم من الاختلاف وطلب الاعتزال عن الغير ولو بقتله.»

ولقد استعمر البرتقاليون سواحل إفريقية على بحر الظلمات، وأسكنوا قومهم بلاد البرازيل وعمروها برجالهم كما احتلوا بعض سواحل أميركا، ثم نزعت أيديهم عن أكثرها، وداموا٨ نحو مائتي سنة أصحاب شأن في الاستعمار، واغتنوا من تجارة الأبازير والأحجار الكريمة والعبيد أي غنى. واغتنى ملوكهم بما جُبي إليهم من أموال الخراج والمكوس والاحتكارات والأرض من بلدان إفريقية الشرقية وغيرها، وكان عمالهم يرتكبون ضروب المظالم والإرهاق في جمعها، فكثرت أموال البرتقال بهذه الفتوحات العظيمة، وأُصيب البرتقاليون في أقل من نصف قرن بزهو وغرور وما يتبعهما من فساد الطباع والأخلاق، مما تولدت منه أحقاد في صدور من نزلوا عليهم وحكموهم بالجبرية والعنف، ولا سيما العرب الذين حاربوهم نحو قرن ونصف للقضاء على سلطانهم، حتى جمع العرب شملهم تحت راية صاحب عُمان من أمراء المسلمين، وانتزع الحكم في سنة ١٦٥٨م من يد البرتقاليين، وذلك من رأس دلجادو إلى جردفون، وذل البرتقاليون وقُتل ألوف منهم، ولطالما قتلوا المسلمين وأحرقوا مساكنهم، وكم من مدينة دمروا، ومن أصقاع تركوها بلاقع على ما روى ذلك «جيان» الملاح الفرنسي؟ واستعمر الإسبان بفضل خريستوف كولمبس البلاد التي احتلوها في القرن السادس عشر، وهي تتناول معظم سواحل القارة الأميركية من جنوبها، ثم خرجت كلها عن حكمهم أوائل القرن التاسع عشر لسوء إدارة رجالهم، وكان من قواعدهم في استعمارهم أن لا يذهب إلى أميركا إلا من كان من أسرة إسبانية كاثوليكية لم يحكم ديوان التحقيق الديني على أحد من أفرادها منذ جيلين، وذلك لمدة سنتين فقط، وتاريخ استعمار الإسبان في جنوبي أمريكا وما فيه من أنواع الفظائع التي ارتكبوها من غير نكير، لاستلاب الذهب والأحجار الكريمة من العبيد سكان البلاد الأصليين، وإفحاشهم في ظلم من امتنعوا من التنصر، يشبه ما أتاه البرتقاليون من الظلم، للاستئثار بتجارة الأبازير والجواهر في الهند وما إليها.

الاستعمار الهولاندي والإنجليزي والفرنسي وغيره

واغتنم الهولانديون فرصة استيلاء إسبانيا على البرتقال٩ فأنشأوا لهم في الشرق الأقصى مستعمرة عظيمة، بقي لهم منها إلى اليوم جزائر ماليزيا «الملايو» العظيمة «جاوة وسمطرة»، استثمروها على طرائق هدتهم تجار بهم إليها، فكانوا يبدلون الحسن بالأحسن إذا أيقنوا أنه أنجع لهم، فأبانوا في ذلك عن ذكاء عظيم ومرونة غريبة، وكانت بحريتهم التجارية في القرن السابع عشر أكبر بحرية لدولة أوربية، ومستعمراتهم تجارية يتجر فيها من يحب، وشركة الهند الهولاندية أو شركة البلاد البعيدة التي أُنشئت سنة ١٥٩٩ هي التي استولت على هذه المستعمرات وأخذتها من البرتقال،١٠ وساعد الهولانديين على رسوخ أقدامهم١١ في بحر الهند أثر الكراهة الذي بقي في نفوس أهل الهند والصين من البرتقاليين، ولم تلبث هذه الكراهة أن تناولت الهولانديين؛ لأنهم لما قويت سواعدهم مالت نفوسهم إلى الظلم والقسوة، وأصبح ما كانوا يظهرونه من اللطف واللين والدعة في خبر كان، بعد أن استعانوا بهذه الصفات والمحامد على الحلول محل خصومهم البرتقاليين.

وكان من الاضطهاد الديني في إنجلترا أن هاجر كثير من أبنائها أوائل القرن الثامن عشر إلى أميركا الشمالية، ونزلوا شواطئ الأطلنطي ينشئون مستعمرات مهمة تألفت بأَخَرة من مجموع ولاياتها جمهورية الولايات المتحدة، مستقلة عن الحكم الإنجليزي، وأصبحت في القرون التالية من أعظم دول الأرض علمًا وغنًى؛ وذلك لأنها فتحت صدرها للمهاجرين من كل أمة، وقرضت الزنوج سكان البلاد؛ فلم يبقَ منهم إلا ما يشبه بقايا الوشم في ظاهر اليد، فزاد إحصاء سكانها في مائة سنة على مائة مليون من البشر، وهذا من أنجع ضروب الاستعمار المدني مملوء بكثير من الحساب للعواقب، والنظر البعيد في تمثل الأجناس المختلفة، لا يكاد يُسمع بمثله فيما سلف من الأعصار. دخلت عناصر كثيرة في البوتقة الأميركية «فتأمركوا»، ثم بدا لأميركا أن تحدد عدد المهاجرين إليها، وكان من جملة الأسباب التي حملتها على ذلك أن الصقالبة (السلافيين) والبلقانيين من أعصى الأمم على التمثل والتمثيل.

واعتبر الإنجليز بما جرى لهم في أميركا من نفض أيدي أبناء جلدتهم من أيديهم، فما فرطوا بعد ذلك ولا أفرطوا، وكانوا أرسلوا إلى الهند شركة تجارية سموها شركة الهند الشرقية، فاستولت بعد مدة بلطيف حيلتها على الهند، أغنى مستعمرة في الأرض، وعرف الإنجليز من أين تؤكل الكتف، فجروا في استعمار الهند وأوستراليا وجنوبي إفريقية على أساليب فيها المرونة كلها والدهاء الجملي والتفصيلي، فكانوا لا يتلكئون في عامة مستعمراتهم عن تغيير طرائقهم السياسية والإدارية والتجارية، بما توحي إليهم تجاربهم. وبعد ثورة السباهي سنة ١٨٥٧ وهي التي كادت تخرج إنجلترا من الهند، وضعت صورة إدارة كانت أساسًا للإمبراطورية الهندية، وهو عمل إداري لم توفق إليه أمة، ولم يخطر١٢ في خاطر حاكم.
وأرادت فرنسا أن تجري على هذه الطريقة في الاستعمار فلم توفق في ذلك كثيرًا، وفقدت أجمل مستعمراتها، مثل كندا والهند، إلى أن قُدر لها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن تستولي على بعض الأقطار، ومنها الجزائر وتونس والغرب الأقصى وبعض بلاد السودان والجابون والكونجو وغينية وكليدونيا الجديدة ومدجسكر والسنيغال والهند الصينية، وبلغت مساحة مستعمراتها عشرين ضعفًا من مساحة فرنسا نفسها أو نحو عشرة ملايين كيلومتر مربع، وأربى سكان المستعمرات على الخمسين مليونًا.١٣

وبينا كان الهولانديون والإنجليز والفرنسيس يتنازعون الاستيلاء على البلاد الحارة، كان الروس في هدوء وسكون، يستعمرون البلاد الواقعة بين جبال الأورال ومضيق بهرنغ، ويقيمون في تلك السهول الفسيحة أعمالًا مهمة في العمران لا تنهض بها إلا دولة تنفق عن سعة، ثم توسعوا وراء حدودهم التي رسموها لأنفسهم حتى جاروا في القرن التاسع عشر أملاك الإنجليز في جنوبي آسيا. أما الدول الأوربية الأخرى فقد دفعتها أيضًا الحاجة إلى التوسع في الاستعمار؛ فاستولت إيطاليا على الأريترة ثم على ليبيا (طرابلس وبرقة)، وأعمرت ليبيا وأنزلت فيها عشرات الألوف من أبنائها، أسكنتهم فيها حتى زاد عددهم في سنين قليلة على نصف أهل البلاد الأصليين من المسلمين. واستولت ألمانيا على الكمرون والتوجو ثم نُزعتا منها بعد الحرب العامة، على ما قضت بذلك معاهدة فرساي، وراحت البلجيك تستعمر الكونجو في إفريقية، استعمرها ملكها أولًا لحسابه الخاص ثم تنازل عنها لأمته، وللدانيمرك والسويد مستعمرات من الجزر تشكو قلة نفوسها.

ونشبت بين الدول المستعمرة حروب حتى استقرت الحال في تقسيم العالم على هذا الوجه، وخرجت البرتقال وإسبانيا عن مستعمراتهما، وبقيت لهما بعض الجزر والبلاد، وتمتعت إسبانيا بامتلاك الريف في الغرب الأقصى، بعد نكبات عظيمة حلت بجيشها، ولو لم تساعدها فرنسا على حرب الريف ما استطاعت نزع تلك المستعمرة الصغيرة من الريفيين، ولكانت رُدت عنها كما كانت رُدت إيطاليا عن بلاد الحبشة بخسائر فادحة، ولعل ما أنقذ الحبشان من الاستعمار الأوربي كونهم نصارى، وربما لم يجد سكان الريف لهم نصيرًا في الغرب؛ لأنهم عرب مسلمون.

وأصبحت بريطانيا العظمى، بما خُص به الإنجليز من التؤدة والمعرفة الواسعة بحكم البشر، ومنها إبداع إدارات خاصة لكل إقليم وجنس انضوى إلى علمهم، أعظم مملكة في العالم لا تغيب الشمس عنها، ولا تقل مساحتها عن ثلاثين مليون كيلو متر مربع، وسكانها عن نحو أربعمائة مليون من البشر، مملكة بل ممالك، واسعة السلطان، مستفيضة العمران، ما طمع الرومان، بأعظم منها ولا أغنى، وهي مأمونة الطرق محفوظة المسالك، مستأثرة بأهم المضايق والخلجان والفُرَض، ومن ورائها أسطول عظيم كان منذ قرنين أول أسطول بين أساطيل الدول العظمى.

ولم يبقَ أوائل القرن العشرين أرض في العالم يصح أن تتقاسمها الدول الغربية: تقاسمت إفريقية وآسيا الجنوبية،١٤ ونجت الصين من القسمة لتنافس الدول الأوربية عليها، وما فتئت اليابان تطمح إلى امتلاك بعض أقطار الصين المتاخمة لبلادها، تستعمرها لإنقاذها من الغربيين وإبعادهم عن أرضها وأرض الصين معًا، وكان الغربيون حاولوا غير مرة أن يلجوا بلاد الشرق الأقصى، فاصطدموا في الصين واليابان بمدنية أقدم من مدنيتهم.١٥ وفي القرن الماضي والذي قبله كانت البرتقال وإسبانيا وهولاندة وإنجلترا وفرنسا تتنافس في الاستئثار بالذهب والأحجار الكريمة، والنادر من حاصلات الأرض الثمينة، فأصبحت الدول الأوربية في هذا القرن تتنازع على كل ميل من اليابسة والبحر والجو، ولولا الحرب العالمية التي أفقرت الدول كلها، حتى كاد يُقضى على المدنية بتأثيراتها المنهكة، لاتسع نطاق الاستعمار أكثر مما اتسع، ولزاد عدد الشعوب الداخلة في غماره.

ولكل دولة مستعمِرة اليوم سياسة استعمارية خاصة، كما أن لكل أمة خصائصها وميزاتها. وليس من شك في أن الاستعمار علامة نشاط أمة تريد أو تحاول أن يكون لها مقام لائق في العالم، وصفقة المستعمرين تعود بأعظم الأرباح المادية، مقابل خسائر في الأرواح تتحملها الدولة المستعمرة، ولا تعدها شيئًا يؤسف له إذا نجحت التجارة، واغتنى أفراد وشركات، وارتاش بعض الموظفين والمقربين من أعيان الدولة المستعمرة. ويقول من كتبوا في استحسان الاستعمار من الإفرنج: إنه نفع الإنسانية والمدنية، كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل.

البلاد المستعمرة وطرق الاستعمار الحديث

لا جدال في أن معظم البلاد المستعمرة اليوم آخذ بالنهوض من حيث تراتيبه وعمرانه، أما دوام حياة المستعمرات والاحتفاظ بكيانها فتبع لقوة أهل المستعمرة الأقدمين؛ فإن كانوا من جنس ضعيف التراكيب، كالجنس الأحمر والأسود، ضعفت مقاومتهم لهذا الجنس الآري الأبيض الذي جاءهم بكل ضروب القوة، ففني الضعيف في القوي، على نحو ما حدث في كثير من أصقاع إفريقية وأميركا. وإذا كان أهل البلاد المحتلة أو المستعمرة من عنصر راقٍ ذي مدنية معروفة كالهندي، فهناك المشادة بين الدخيل والأصيل؛ لأن سكان البلاد لا تفوتهم فائتة من نيات من نزلوا عليهم، ولا يُرجى بحال من صاحب السلطة القاهرة أن يربي من يستتبع إلا على ما يوافقه؛ ليتسنى له الانتفاع به أطول مدة ممكنة، أو تكون بلاده للمحتل ولأعقابه ملكًا مؤبدًا على وجه الدهر؛ ولذلك نرى هذا المحتل يحاول أن يلقن من يستعمره أو يحميه، جماع منازعه ومآتيه، ولا يفتأ يعمل على إدماجه في جملته، وتجنيسه بجنسيته، وإلحاقه بقوميته. يلقنه عظمته وعظمة قومه، ويحاول أن ينسيه ماضيه ويخرجه عن مميزاته، يتصرف بقلبه وروحه على ما يهوى، والغالب ألا يترك له من موارد الحياة إلا سِدادًا من عوز وما يمسك عليه الرمق. وفي النادر أن ترحم أمة ذات سلطان أمة لا حول لها ولا طول، وما عُهد ذلك لغير الأمة العربية، على ما أكد ذلك العارفون من الغربيين اليوم. ولا يستغربن أحد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين أن المدنية الحديثة هي ابنة «المادة»، والإنصاف يقل في أهل المادة، وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والأخلاق الفاضلة، وتقبل أذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال، كما قال أحد كتَّاب الأميركان. وساغ بعد هذا أن يُقال: إنه ليس من العدل في قليل ولا كثير ما أوردته الشعوب اللاتينية من المبررات للاستيلاء على شمالي إفريقية مثلًا.

يقول تولستوي:١٦ «إن عاطفة الوطنية في زماننا هذا هي عاطفة غير طبيعية، خارجة عن الصواب ومضرة، وهي علة أكثر أمراضنا الاجتماعية التي يئن منها النوع البشري، ومن المدهش أن تكون الوطنية هي سبب التسليح العام والحروب المهلكة للإنسان، وكان من قانون التجنيد العام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا أن خضعت هذه لرقٍّ أخبث من الرق القديم. ولم تقف قحة الحكومات وقسوتها وجنونها عند هذا الحد، بل تنازعت لاغتصاب ممالك آسيا وإفريقية وأميركا مسوقة بعوامل الهوى والصلف والجشع، وأعقب ذلك تفاقم سوء الظن والعداوة بينها، وصاروا يعتبرون ما ينال الأمم المقهورة من الخراب والدمار أمرًا عاديًّا، ويهتمون بالبحث عن شيء واحد فقط، وهو لأي الحكومات الحق في أن تستولي على أرض غيرها وتبيد سكانها. إن جميع الحكومات لا تسيء إلى الأمم المقهورة وتظلمها، بل يعتدي بعضها على بعض، وترتكب جرائم الغش والغدر والرشوة والخداع والتجسس والسرقة والقتل، ومع هذا ترى الأهالي يشجعونها على ذلك كله ويبتهجون إذا كانت حكومتهم لا غيرها هي المرتكبة لأمثال هاتيك الجرائم. وقد بلغت العداوة بين مختلفي الشعوب والحكومات في الأيام الأخيرة مبلغًا عظيمًا جدًّا، حتى علم كل إنسان أن الحكومات طرًّا تقف بلا سبب معقول ناشبة أظفارها مكشرة عن أنيابها، رجاء أن تخور قوى إحداهن فتفترسها الأخرى وتمزقها شر ممزق، بلا كبير عناء ومخاطرة. وقد انحطت الأمم النصرانية بالوطنية إلى أسفل دركات الوحشية فأصبح سكان أوروبا وأميركا حتى غير المجبرين على الحرب يودون المذابح ويسرون للقتل، ومع أنهم مقيمون في ديارهم آمنون في أوطانهم بعيدون عن كل خطر، وكان شأنهم عند نشوب كل حرب شأن الرومانيين النظارة في المصارعة، يبتهجون بالذبح ويصيحون صيحة الظمآن لسفك الدماء، مشيرين بالإجهاز على المهزوم …»

استراحت الأقطار التي سقطت في أيدي الدول المستعمرة من فوضى الأحكام، ودخلت على الجملة في طور تنظيم ونظام، وتلقف أهلها ما طاب لهم تلقفه من الحضارة العصرية، ولكن أتبقى لهم خيرات بلادهم، وتبقى عليهم الدول الفاتحة مشخصاتهم وخصائصهم؟ هذه هي المسألة المهمة في المستعمرات؛ ذلك لأن الغربي مجهز بالصفات التي تؤهله للكفاح في سبيل الرزق، وهو معتز بعز الحكم في قومه. والوطني قد ضعفت فيه هذه الأجهزة إلى حد غير قليل، وفترت فيه بعض الفتور الحرارة الضرورية لمحاكاة غيره في جهاده، بما هجم عليه من مغريات الحضارة الحديثة، ومن الفتنة بمذاهب غيره في الحياة، فكان بين أمرين لا ثالث لهما؛ إما قبول مدنية الغرب بما فيها من منافع ومضار، أو المجاهرة بالعصيان عليها، وفي كليهما الانقراض والفناء.

نحن نعلم أن من أهم الأسباب التي تدعو الدول الصناعية إلى ركوب مراكب الأخطار في الاستعمار هو جلب الغذاء لبلادها، والاستئثار بالمواد الأولية لمصانعها، وإيجاد مصارف لصناعاتها، ومخارج لبضائعها، وأن أرض الأوروبيين ضاقت بهم، ولا سيما بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ وعلمتهم حضارتهم أن لا يقنعوا في طلب الربح، وأن يتوسعوا كل التوسع في مطامعهم. ونعلم أن الشرق مهمل متسع الرحاب، يعول أهله ويعول أضعاف أهله، إذا حسن استثماره، ونعلم أن هذه المدنية الحديثة حملت في مطاويها من الجشع والأثرة ما لا نسبة بينه وبين دعوى نعومتها ونعمها، وأنها مُزجت أحيانًا بكثير من العنف والخسف، وقست قلوب دعاتها فما رجعوا في عملهم إلى عاطفة، ولا حفلوا تعاليم المسيح في الحب والسلام. ولو ظل الغرب نصرانيًّا بالمعنى الذي نفهمه من هذا الدين لما تعدى سلطانه ما وراء حدوده، ثم لما كانت هذه الحضارة الغنية بجميع مظاهرها، وكيف نطلب الرحمة ممن لا يرحم نفسه، ولا يتراحم وأقرب الناس إليه؟ تكثر روابط الأمم الغربية بعضها مع الآخر، فهم أبناء عناصر متشاكلة متقاربة، وأصحاب مذاهب ترجع في جوهرها إلى أصل واحد، ومع هذا رأيناهم كيف عامل بعضهم بعضًا في الحرب العالمية الأخيرة؛ تعاملوا — شهد الله — بقسوة ما شهدها الإنسان في قرون الهمجية الأولى.

وبعد، فمن العبث أحيانًا مطالبة من يعتز بقوته بأداء الحق كله، لا سيما إذا كان بذل مالًا ورجالًا حتى تمت له الغلبة على ما طمح إليه، وتوطد سلطانه في أرض استنفضها واستقراها واستنبتها، والفتح الحديث لا يُراد منه أولًا وبالذات غير فائدة القوي قبل الضعيف. وهذه سنة الكون منذ دُحيت الأرض وسار البشر على سطحها. ثم إن الأمم الكبرى هي أيضًا تحت وصاية طبقتين متغلبتين فيها: طبقة رجال الجندية وطبقة الممولين، أو طبقة أرباب الصولة في الدولة، وأصحاب الأموال في الأمة، ولا يلذ لهاتين الطبقتين إلا أن ينعما الحين بعد الآخر بانتصارات جديدة، وأن يستنزف الأفراد ثروة الجماعات، يهنئون بما جمعوا من القريب والبعيد. قالوا: إن بعض المستعمرات لا يفي دخلها بخرجها، أو لا توازي كل هذا العناء للاحتفاظ بها، ومع هذا نشاهد الدول متماسكة فيها، ومتمسكة بحقوقها عليها؛ لئلا تستهدف لغضب أصحاب السيطرتين الماديتين الجندية والمالية، وإن أغضبت أهل المذاهب الاشتراكية والشيوعية وغيرها من أصحاب النزعات السياسية الهدامة الدائبة على تمزيق نظم حكم الجمهور (الديمقراطية)، وهو يرجع في جوهره إلى الاستبداد يومًا بعد يوم؛ ولذلك قالوا: إن هذا الضرب من الحكم أفلس وخابت الآمال فيه، وإن كانت مظاهره مجالس نيابية وأنظمة دستورية ووزارات مسؤلة عن أعمالها.

ولقد ادعى بعض الدول لتبرير مقامها في بلدان الشرق أن غايتها هي حماية الأقلية من ظلم الأكثرية، وهي دعوى اخترعوها في العهد الذي قويت فيه نغمة الاستعمار، ولإثباتها قد يثيرون ثائرة التعصب المذهبي في الناس؛ ليتخذوا من فريق على فريق نصيرًا، يلقون العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن المشترك، بواسطة غلاة دعاتهم ومبشريهم؛ ليحصل التوازن بزعمهم بين أهل التعاليم المختلفة، وما رأينا بلادًا قط حكمت بغير رأي سوادها الأعظم، وما كان لنا أن نقول اليوم مثلًا لرومانيا ويوجوسلافيا، وفيهما مئات الألوف من عنصر واحد ودين واحد، أن تعاملا المسلمين في بلادهما، وهم عشرات الألوف، بما يريدون لا بما يريد السواد الأعظم من مواطنيهم.

فرَّق الاستعمار بين أجزاء القلوب في الشعب الواحد؛ فرق بين البربر والعرب وهم متحدون في دينهم ولسانهم، وفرق بين المسلم والنصراني في كل مكان، وفرق بين المسلم والوثني والبرهمي، وضرب الأخ بأخيه والابن بأبيه، وباعد بين الأحمر والأسود، والأسود والأبيض، على حين رأينا البلاد التي نجت من تأثيرات الاستعمار كجمهورية ليبريا المؤلفة من مليون ومائتي ألف مسلم وثلاثمائة ألف نصراني وخمسمائة أوربي عاش أهلها كأبناء بيت واحد، ما فرق الدين ولا الجنس بينهم في المسائل الوطنية.

رأينا من هذه الدول من إذا كان لها مأرب في أمر لا تعدم حيلة مؤلفة من ألف برهان لبلوغ غرضها، ونحن نضرب لذلك مثلًا بدولتين، وهما من أكثر الدول اتصالًا بالشرق والإسلام، ومن أعرقها في الحضارة، عنينا بهما فرنسا وإنجلترا؛ فقد رأينا فرنسا لما بدا لها أن تضرب جارتها إنجلترا في هندها عملت لمصر في القرن الماضي كل ما يستقيم به أمرها، ولم تعمل لأهل شمالي إفريقية شيئًا منه، وفكرت فقط في مصلحتها، وأبقت سكان البلاد في دائرة معينة لا تريدهم أن يتعدوها. ورأينا إنجلترا تأخذ أوائل هذا القرن بيد مصر أيضًا فتصلح إدارتها، وتنمي زراعتها، وتنظم ماليتها، حتى إذا تمت لأبناء النيل أدوات التفوق، قالت بريطانيا: إنها تخاف على الأجانب إذا هي ألقت حبل مصر على غاربها، وقالت غير ذلك من الحجج. والحقيقة أن مصر طريق الهند، وتخاف أن تجعل باب الوصول إليها يشرف عليه غيرها.

كان لفرنسا وإنجلترا في باب سياسة الاستعمار والتعليم في البلاد التي احتلتاها طريقتان متشابهتان، لم تعودا عليهما بعد تجارب طويلة بفوائد تستحق ما بُذل فيها من العناء، ورأينا عدولًا من الفرنسيس والإنجليز ممن لا يتأثرون بمؤثرات الأحزاب ولا المذاهب، ينقدون في الأسفار والصحف هاتين الطريقتين في الاستعمار؛ فقد دارت سياسة فرنسا في الجزائر مثلًا على محورين: نزع الأرضين من مالكيها الأصليين وإعطاؤها للمستعمرين؛١٧ حتى يضطر أبناء البلاد إلى التشرد في الصحراء، وتلقين العرب تعليمًا إفرنسيًّا ليمسوا فرنسيسًا قلبًا وقالبًا، فلم تنجع الطريقة الأولى ولا الثانية؛ ذلك لأن ما أُعطي من الأرض للمستعمرين امتلكه أناس من الأفاقين والمتشردين ممن لا يعرفون من الزراعة إلا بقدر ما نعرف من اللغة السنسكريتية، وضعفت آمال أهل البلاد في إبقاء أملاكهم لهم، فتراخوا في تعهدها فخسرت الدولة والبلاد من وجهتين؛ من غباوة الآخذ ومن إهمال المعطي، وانبعثت العداوة تأجج بين المستعمِر والمستعمَر، وحدثت حوادث تندى لها الجباه لخلوها من روح العدل.
وبنزع الأملاك من أصحابها نتج بؤس عظيم كان باعثًا على القلق؛١٨ ذلك لأن سكان البلاد، وهم ستة أضعاف الأوروبيين النازلين عليهم من الفرنسيس والطليان والإسبان وغيرهم، لم يبقَ لهم غير نصف مجموع الأرض في البلاد والنصف الآخر وهو الأعمر والأمرع أصبح ملك المستعمرين (الأوروبيون في الجزائر ٩٢٥ ألفًا، والمسلمون زهاء ستة ملايين، والأوروبيون في تونس نحو ١٨٠ ألفًا، والمسلمون زهاء مليونين). ويقول ثلاثة من المؤرخين المشهورين (جسل ومارسيه وإيفر) في كتابهم «تاريخ الجزائر»: إن مجموع الأرض المستعمرة التي انتقلت إلى أيدي المستعمرين في الجزائر يبلغ ١٦٠٠٠٠٠ هكتار، أي اثنين من خمسة من الأرض القابلة للفلاحة، ومن فساد الرأي بل من قلة الإنسانية تقليل مساحة الأرض التي يملكها الوطنيون لتجعل ملكًا للمستعمرين. ا.ﻫ.

أما «الفرنسة» من طريق المدرسة وغيرها فلم تأتِ أيضًا بثمرة جنية؛ لأن من تعلموا على الأساليب الفرنسية البحتة من الوطنيين تلقوا تربية لا تتفق وعقليتهم؛ فلم ينفعوا أنفسهم ولا غيرهم، وغاية ما كان ممن أخذوا بهذه التربية أن خرجوا من عاداتهم وأهملوا مقدساتهم، وأصبحوا كالعقعق حاول تقليد الحجل في مشيته فنسي مشيته الطبيعية، وأكد الباحثون في شئون الجزائريين من علماء الغرب أن هذه الثقافة لم تورث من أخذوا بمذاهبها إلا نفاقًا وشعوذة واستهزاء بكل قديم، وأنها أقبستهم أبشع ما في المدنية الحديثة من النقائص كالسكر ونحوه. ومن الصعب أن يغير شعب تركيبه العقلي ليختار تركيبًا آخر، ومن الثابت أن حضارتين مختلفتين إذا وضعت إحداهما بجانب الأخرى تعارضتا ولم تلتئما، والشعوب الفاتحة التي أثرت في غيرها من الأمم نجحت بمعالجة شعوب كان لها من العواطف والأفكار والأوضاع والمعتقدات مثل ما للداخلين عليهم؛ فالشرقيون يؤثرون في الشرقيين أمثالهم، وما أثر الغربيون قط فيهم مثل هذا التأثير، وهذا سر النفوذ العظيم الذي بسطه العرب في الشرق، ولا يزال لهم حظ منه في إفريقية والصين؛ فقد نجحوا في كل مكان ببث أهم عناصر مدنيتهم، وهي الدين واللسان والأوضاع، بدون كبير عناء. والإسلام ينتشر كل يوم في إفريقية من دون أن تبذل همة في سبيل نشره، ويخفق المبشرون من الأوروبيين في سبيل دعوتهم إلى دين إخفاقًا شقيًّا، هذا رأي لبون، ثم يعود فيقول: إن السياسة التي اتُّبعت لفرنسة المسلمين واستتباعهم استتباعًا أدبيًّا كانت في شدتها قريبة الشبه بالطرق التي اتبعتها أميركا مع الزنوج في بلادهم؛ فقد كانت تسلبهم أرضهم التي كانوا يصيدون فيها تاركة لهم حريتهم المطلقة أن يموتوا جوعًا.

وأفرطت فرنسا في تلقين لغتها وفي حرصها على حمل من نزلت عليهم أن يهجروا لغتهم وعاداتهم؛ فخرج من تخرجوا بأساتذة مدارسها بتربية مخلطة خلاسية ليسوا عربًا ولا إفرنجًا، ولا يُعقل أن ترقى أمة بغير لغتها، ومن أراد الخير لشعب كان جديرًا بأن ينهضه داخل حدود عقليته، لا أن يفرض عليه تربية تخالف عاداته ومزاجه، ومتى حمله على تناسي ما يلائمه، وأعطاه ما لا يوائمة، كان في عمله الغبن الذي لا يُنكر محله. يقول المؤرخ إيفر:١٩ إن الرأي القائل منذ سنة ١٨٣٠ بتمثيل الجزائريين قد أخفق، وإذا كان من اللائق العدول عن فكرة تبديل العقلية الأهلية في الجزائر تبديلًا من أساسها، فليس من الوهم في شيء البحث عن تنشئة المسلمين في حجر مدنيتهم الخاصة، ولكن هذا عمل يحتاج إلى صبر، ولا تظهر نتائجه إلا بعد مدد طويلة. ا.ﻫ. وجمهور العقلاء من الفرنسيس والعرب على أن الواجب تلقين لغتين العربية والفرنسية بدرجة واحدة في شمال إفريقية.
وجرت إنجلترا في الهند على مثل الطريقة الفرنسية في سياسة التعليم وكان حكامها من قبل يتحامون تعليم الهنود الألسن الأوربية والأفكار الغربية؛ لما وَقَرَ في نفوسهم من احترام المدنية القديمة،٢٠ ومنذ سنة ١٨٣٦م فتحت إنجلترا المدارس والجامعات وأسست الأندية والجمعيات، تبذل فيها أموال الهند لتعليم أبنائها لغة الإنجليز وتاريخهم وطرائق تفكيرهم، وتلقينهم أساليب من التربية الغربية يصعب تطبيقها، وأنست إنجلترا من اغترفوا من مناهل تلك المدارس كثيرًا من مقدساتهم وعاداتهم، وغاية ما ربحت ممن علمت أن أخذت منهم إلى دواوين الحكومة وأعمال السكك الحديدية ودور البريد والبرق وغيرها ألوفًا من المستخدمين، يكلفها الواحد منهم أقل من عشرين ضعفًا مما يكلفها الإنجليزي الذي كان عليها أن تأتي به من الجزائر البريطانية. وتلقفت تلك الطبقة من الهنود تربية خرجت بها عما غُرس في دمائها من معتقدات، وما عتم مواطنوها أن أضمروا لها الكراهة لانطواء الفئة المتعلمة على الرياء والمكر والخديعة؛ ولأنها تدأب على رفع القضايا المزورة والاعتداء على أبناء جلدتها، وما عرفت بغير القحة والبخل والانحلال من الأخلاق، ثم هي لا تحسب لغير أرباب الصولة من رؤسائها حسابًا، لكن إذا آنست منهم ضعفًا انقلبت عليهم كل الانقلاب.
ومع كل هذه العناية التي بذلتها إنجلترا في مائة سنة لنشر ثقافتها في الهند لا يتجاوز من يتكلمون الإنجليزية من الهنود مليوني إنسان من أصل ثلاثمائة وخمسة وخمسين مليونًا، وكلما حاولت إنجلترا أن تطبعهم بطابعها زادوا لها جفاءً، وحاولوا نزع أيديهم من يدها. يقول٢١ كبلنغ شاعر الاستعمار الإنجليزي: الشرق شرق، والغرب غرب، ولا شيء يجمع بينهما، فهما ضدان لا يأتلفان، ومن المتعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وبين ابن الغرب ألفة حقيقية ومودة ثابتة أو ثقة تامة؛ فإنهما يتكلمان لغتين متباينتين كل التباين، ولا يستطيعان أبدًا أن يتفاهما، وعدم الألفة وقلة الوئام هما الأصل في ارتخاء علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. ا.ﻫ.

وقال أحد المفكرين من ساسة الإنجليز: سيبقى الشعب الهندي على الدوام شاهدًا ناطقًا بالماضي غير ممسوس بيد الغرب إلا مسًّا خفيفًا. وقال أحد الباحثين من الفرنسيس: إن قوة الحكومة البريطانية في الهند نشأت من كونها تحكم عناصر مختلفة من السيخيين والمسلمين والماهراتيين والهندوسيين والبرمانيين، وكلهم يتحاسدون ويتخالفون في الجنس والعادات والديانات.

وفي الثورات العديدة التي قام بها الهنود في أزمان مختلفة، وفي العصيان المدني الذي قاموا به في هذه السنين الأخيرة، وما لاقته إنجلترا من الخسائر المادية، بحيث كان نشوزهم من العوامل الكبرى في إفقار إنجلترا الغنية، دليل محسوس على فساد تلك الطريقة في تنشئة الهنود واستثمارهم. وأدركت إنجلترا، وقد حسبت الهند مزرعتها ودكانها وبيتها، أنها لم تستطع أن تنفذ إلى قلوب أهلها، وتلقنهم حبها وجميل صداقتها؛ وذلك لأن الهنود موقنون أن كل عناية إنجلترا مصروفة لإغناء الأفراد وإفقار الجماعات، وأن الهندي مهما بلغ من ثقافته ومقامه، محتقر في نظر الإنجليزي: لا يؤاكله، ولا يجالسه، ولا يزامله، ولا يعاشره، ولا يكاد يضمه وإياه نادٍ، ولا قطار، ولا فندق، ولا مطعم.

هذه سياسة إنجلترا في الهند بلاد المتناقضات في غناها وفقرها، وعلمها وجهلها، وتنوع طبقاتها ودياناتها ولغاتها. أما سياسة هولاندة فقد زعم بعضهم أن فيها بعض الرفق بالمستعمرين من الجاويين، ومنه الابتعاد عن هذه الفوارق المنفِّرة٢٢ على ما هو حال الإنجليز مع الهنود؛ فالهولانديون يختلطون بالوطنيين ويمتزجون بهم «وارتضوا أن يزوجوهم ويتزوجوا منهم، وهذا في الحق صنع جميل، وعمل يدل على الرأفة التي تشبعت بها عقول المستعمرين الهولانديين دون سواهم. وليست مسألة الاختلاط الجنسي كل ما أخذ الهولانديون أنفسهم به من التقرب إلى سكان الجزيرة، بل إن هناك مسألة قل أن أخذ بها الإنجليز والأميركيون، وقلَّ أن آمنوا بأنها دليل واضح على حسن الطوية وسلامة الضمير، تلك هي أنك ترى الجاويين يخالطون الهولانديين في النوادي والمجتمعات، وترى أنهم في هذا الاختلاط لا يبدون أقل شأنًا ولا أيسر احترامًا فيها من أفرادهم من الأجانب، فجميعهم في هذه الحلبة إخوان وعلى قدم المساواة.»

فالاستعمار الهولاندي لطيف الملمس من هذه الجهة، ولكن «مهما قال القائلون في ارتقاء زراعة جاوة وسمطرة وكثرة سكانهما والعناية بصحتهم وراحتهم، فإن هذه البلاد تديرها في كل مظاهرها الأيدي الهولاندية، والوطنيون عملة بأجور قليلة، وموارد الثروة فيها تنتهي إلى خزائن الهولانديين وجيوبهم، والهولانديون ينظرون إلى جاوة كما ينظر الإنجليزي إلى الهند يغتني من خيراتها أغنياؤهم، وقد جعلوا منها ذلك المصدر الذي لا ينتهي خيره، ولن تخبو شعلة حياته.» وعاملت هولاندة المسلمين، وهم كثرتها الغامرة، معاملة لا تحرجهم لئلا تخرجهم، تقربهم من مناحيها في أناة ورفق، ولا تقطع عنهم التعليم ولا تفيضه فيهم.

أما سياسة سائر الدول المستعمرة، كألمانيا وروسيا أمس والبلجيك وإيطاليا اليوم فمتشابهة، كانت روسيا في معاملة المسلمين قاسية على نحو ما كان المغول في معاملة الروس أيام استيلائهم عليهم في القرون الوسطى. كتب كاستلنو في تاريخه الذي قدمه للقيصر إسكندر الأول بشأن وقائع الروس في القريم لما أخذوها من العثمانيين: «إن الحملة لم تولِ روسيا شرفًا، فإن بلاد القريم أُحرقت ودُمرت، وربما كان مثل هذا العمل يغتفر على عهد البربر لما فطروا عليه من الجهل، ولكن إحراق المدن في القرن الثامن عشر، وتخريب أهم المصانع والآثار، وتدمير المعابد وإبادة المدارس العامة، وإدخال الظلام على العقول بإحراق كتب الأمة التي تريد الانتفاع بها في إنارة أفكارها، وإلقاء الشيوخ والنساء والأولاد طعامًا للنار، لا يُقصد منه الحرب بل إهلاك شعب عن بكرة أبيه.» هذا وحكومة البلاشفة اليوم تريد المسلمين على أن يبدلوا أوضاعهم وعاداتهم ليحاكوا سائر مواطنيهم.

وأساءت ألمانيا بسياستها العسكرية؛ فأبادت قبائل الهروروس برمتها ليحل محلهم البيض؛ لأن من قواعد المدنية الغربية قرض الزنوج، وبلغ عدد من يموت من العملة السود في الترنسفال ٢٨ في المائة، يموت نصفهم بأمراض الكبد والنوام. أما البلجيك فاستعمارهم ثقيل الوطأة موفور الظلم للإنسان. واستعمار الأميركان كاستعمارهم جزائر الفيليبين فإنهم يراعون فيه مصلحة السكان، وقد عاونوا مسلمي تلك الجزائر على النهوض، وهم فيما قيل: نحو مليونين من الأنفس، فأخرجوهم من الوحشية إلى ساحة المدنية. ولطالما كانت إسبانيا مدة حكمها٢٣ الطويل على تلك الجزائر ترهقهم وتذلهم وتحملهم على انتحال الكثلكة، فلما عصوها دمرت مساجدهم ومصانعهم، وتعلم نحو ثلثهم في عهد الأميركان فأنشأوا المدارس والمساجد وتمتعوا بحرياتهم كلها، والأميركان سكان الولايات المتحدة الشمالية هم الشعب الوحيد الذي لا ينفق على المبشرين في بلاد المتوحشين، وينفقون عليهم في بلاد المتمدنين، أما الأمم المستعمرة الأخرى فتجعل التبشير بالدين مقدمة لاستعمار ما تريد من البلاد، وقد تقول بدين العقل وحده، وتتخذ من المبشرين أداة لبلوغ أغراضها، حتى قالوا: إن بضاعة التبشير لا تروج في أرضها وإنما صنعت لتصدر إلى بلاد أخرى.

رأي لبون في استعمار الغرب للشرق والاستعمار العربي

أفاض علماء الاجتماع والسياسة والتربية من الغربيين في نتائج هذا التعليم الذي حاول الغرب أن يلقنه ابن الشرق، وممن عُني به عناية خاصة، ورحل إلى الشرق غير مرة لدرس أسبابه ونتائجه؛ وقابل بين عمل الغربيين وعمل العرب جستاف لبون، فمما قال:٢٤ إن الأسباب التي حملت غير الأوروبيين على النفرة من الحضارة الأوربية ترجع إلى كون هذه المدنية هي نتيجة نشوء ماضٍ طويل لم يصل إليه الأوروبيون إلا بالتدريج، وذلك باجتيازهم مراحل لا بد من قطعها، وكل من يحاول أن يكره شعبًا على أن يخترق هذه الدرجات فجأة كان عبد أوهامه وأحلامه، وما حاله إلا حال من يؤمل أن يبلغ بولده سن الكمال، قبل أن يقضي دور الشباب، ولئن كان في مدنية العرب أمور سهل على الشرقيين التماسها واقتباسها، فقد كان السبب في ذلك أن الشرقيين ليس لهم شيء من حاجيات الغربيين الكثيرة، يتبلغون بالقليل ويلبسون الساذج. وفي المدنية الغربية حاجات مصنعة قادت أوروبا الحديثة إلى اضطراب شديد وعمل لا ينتهي، وهذا مما يكرهه الشرقيون. ولطالما فاق العامل الصيني العامل الغربي لقلة مطالبه في الحياة، وقد غرست الصناعات في فطرته حتى اضطرت أميركا وأوستراليا إلى منع الصينيين من دخول بلادهما. وكما كان الاختلاف بين حاجيات الشرقيين والأوروبيين عظيمًا انفرج الاختلاف في طرق حسهم، وبعدت المساوف بين تفكيرهم وتفكيرنا، فالآسيويون لا يحسدون الغربيين على مدنيتهم، ولا سيما من زار منهم أوروبا، ويرون في تسرب مدنية الغرب إلى الشرق مصيبة عظيمة، وهم مجمعون على أن الشرقيين أسعد حالًا وأكثر حشمة وأدبًا من الغربيين ما داموا لم يختلطوا بأهل الغرب.
قال: وما نفرة الشرقيين من حسنات المدنية الغربية اليوم إلا لروغان الشعوب الممدنة، ولفظائع أتتها مع من كانوا من عيار أحط في موازين المدنية، وكان من حال الممدنين مع المتوحشين، أن الأولين أبادوا الآخرين، وقرضوا نسلهم وجنسهم، أباد المتمدنين غيرُ المتمدنين في أميركا وأوقيانوسيا، وهلك التاسمانيون برمتهم كما هلك هنود أميركا في أوقيانوسيا، وإذا عزت الرحمة في الطرق التي سار عليها الأوروبيون مع المتوحشين، فإن عمل الأوروبيين مع الشرقيين الممدنين، كالصينيين والهنود مثلًا، ليس أحسن من ذلك على ما يظهر. وإذا صرفنا النظر عن حروبنا التي تجردت من العدل، فإن معاملتنا كل يوم للشرقيين تكفي لأن نربي منهم أعداءً أشداء على الدهر، ويرى كل من دخل الشرق أن أضعف أوربي يعتقد نفسه في حل من كل ما يجريه، وإذا لم يستثمر الشرقي مباشرةً، كما هو الحال في الهند، بضرائب تسلبه آخر قطعة من خبزه، تنصب له خدائع في التجارة يفقد فيها كل حياء، وتنم على أن طلاء الرجال الممدنين عَرَض ينصل لونه، وأن الأوربي في الشرق يفقد صفاته الحسنة، وينزل عن أخلاقه إلى ما تحت مستوى الشعوب التي يستثمرها، ولو عومل التجار الأوروبيون من حيث صلاتهم بالشرق بمقتضى قوانين بلادهم، لا ينجو من العقوبات الفاضحة منهم غير أفراد.٢٥

هذا ما علل به لبون نفرة الشرقيين من الغربيين، وما أدى المشارقة إلى سوء ظنهم بالحضارة الحديثة، وقد أورد على ذلك أمثلة، فقال: إن حوادث صلات الغرب بالشرق في القرن التاسع عشر كانت من أشوه صفحات التمدن. قال: وماذا يقول الناس في مستقبل الأيام في هذه الحرب الطاحنة التي شهرها الإنجليز على الصين ليحملوها بالقوة على استعمال الأفيون، فيهلك من الصينيين كل سنة ستمائة ألف إنسان؛ لتربح إنجلترا من هذه التجارة الممقوتة مائة وخمسين مليونًا، ومن جهة ثانية يرسل البريطانيون إلى الصينيين دعاة التبشير ليهدوا بنيها إلى الفضائل، فيقول الصينيون للمبشرين: إنكم تسموننا وتهلكوننا وتأتون بعد ذلك لتعلمونا الفضيلة؟! قال: فالشرقيون يتجافون عن قبول حضارة لا تلتئم مع أفكارهم وشعورهم وحاجاتهم، وأي داعٍ يكرههم على قبول مدنية تقل سعادتها، وفيها من الشقاء ألوان، ومن العوامل المضعفة ضروب، إلى أن قال: لما فتحت العرب الشرق لم تحمل هذه الشرور، فإن العرب كانوا مشارقة مثلهم تتشابه عواطفهم وحاجاتهم، غلبت العرب على الهند وفارس ومصر ثم غلبت المغول والأتراك على هذه البلاد، فما كان على أهلها أن يعدلوا حالاتهم كلها بقبول حضارة جديدة، وعلى العكس اضطرت هذه الشعوب باحتكاكها بالأوروبيين أن تغير جميع أوضاعها. وإذا كانت تلك الأمم ضعيفة جدًّا كالهندي مثلًا فيكون نصيبها الشقاء الأسود والثورات التي يولدها اليأس، تلك حال القوي مع الضعيف، وللأمم الحديثة هموم أعظم من اهتمامها بتمدين الشعوب الأخرى، ثم إذا كان ثمت ما يُقال له العلائق بين الأمم تفقد كلمات العدل والإنصاف معناها وما فيها من قيمة، فتكون ألفاظًا جوفاء خدَّاعة لا تجوز على إنسان، والشعراء يحدثوننا بعهد سعادة يسمونه العصر الذهبي تجمع بين العالم أواصر الإخاء العام، ومثل هذا العصر ما كان ولن يكون، دخلت الإنسانية في العصر الحديدي الذي يهلك فيه كل ضعيف بحكم الطبيعة.

وقال: إن الشرق خضع لأمم كثيرة كالفرس واليونان وغيرهم، ولئن كان نفوذهم السياسي فيه عظيمًا أبدًا فإن عملهم في التمدن كان ضعيفًا جدًّا، فهم لم يفلحوا في نشر أديانهم ولغاتهم وصنائعهم في غير المدن التي احتلوها مباشرةً، وامتنعت مصر عن قبول هذه المدنيات فلم تبدل أوضاعها على عهد البطالسة ولا في أيام حكم اليونان، واحتفظت بماضيها، وكان من الغالبين أن أخذوا عن المغلوبين دينهم ولسانهم وفنهم، وبقيت المصانع التي شادها البطالسة ورمَّتها القياصرة على الطراز الفرعوني، وما تعذر على اليونان والفرس والرومان تحقيقه في الشرق سهل على العرب الوصول إليه من دون ما قسوة ولا إعنات، وكان يتراءى أن مصر هي القطر الذي يأبى الخضوع للتأثير الأجنبي، ومع هذا لم يمضِ أقل من قرن على فتح عمرو بن العاص لها حتى نسيت سالف مدنيتها التي أنشأتها في ستة آلاف أو سبعة آلاف سنة، وأخذت تدين بالدين الجديد وتتكلم لغة جديدة، وكان لها فن طريف بلغ من رسوخه أن خلفه الشعب الذي قبله إلى الشعب الذي قام بعده، ولم يغير المصريون قبل العرب دينهم إلا مرة واحدة، وذلك على عهد إمبراطرة القسطنطينية عندما نهبوا البلاد، وانهالوا على مصانعها القديمة يدمرونها، ويشتدون في الضغط على أهلها ويحظرون انتحال الأديان القديمة مهددين كل من يجرأ على ذلك بالقتل، فانتحل المصريون الدين الجديد بالإكراه لا بالرضا. وكان من تسارعهم إلى ترك النصرانية وانتحال الإسلام برهان على ضعف الإيمان في نفوسهم، أما التأثير الذي أثرته العرب في مصر فقد ظهر في جميع البلاد؛ ظهر في إفريقية والشام ومصر وغيرها من الأصقاع التي رفعوا علمهم عليها، وأثرهم ظاهر في الهند وإن كانوا قد مروا بها مرورًا، بل وصل تأثيرهم إلى الصين وما عرَّج عليها غير تجار منهم، وما عهد التاريخ مثالًا محسوسًا لشعب عمل عمل العرب، فقد تقبلت مدنيتهم عامة الشعوب التي مازجتهم ولو مدة وجيزة، ولما تراجع أمرهم في التاريخ كان ممن غلبوهم عليه كالترك والمغول وغيرهم أن اقتبسوا منازعهم وقاموا يدعون بدعوتهم في العالم. قضت المدنية العربية منذ قرون، وليس اليوم في العالم من المحيط الأطلانطي إلى نهر السند، ومن بحر الروم إلى البادية، غير دين واحد، ولسان واحد: هو دين أشياع محمد ولسانهم، ولم يتجلَّ نفوذ العرب في الشرق في دينهم ولسانهم وصناعاتهم فقط، بل امتد إلى الثقافة العلمية؛ فإن المسلمين كانوا على اتصال مستديم مع الهند والصين، فنقلوا إلى تلك الأصقاع جزءًا عظيمًا من المعارف العلمية، فظنها الأوروبيون بعد ذلك من أصل صيني أو هندي، واقتبست الهند من العرب أكثر مما اقتبس هؤلاء من الهنود، وكذلك أدخل العرب إلى الصين في العهد المغولي الفلك والطب. وتأثير العرب في الفرس ما زال بحاله إلى يومنا هذا، يقرءون العلوم في كتب العرب، ومقام اللغة العربية في فارس يشبه ما كان للغة اللاتينية في الغرب خلال القرون الوسطى، وبظهور العرب خاصة في إسبانيا في القرن العاشر احتفظت ناحية من الغرب بحب الآداب والعلوم، وكان مزهودًا فيها في كل مكان حتى في القسطنطينية.

وفي القرن الثالث عشر أيام تراجع العرب وسقط سلطانهم كما قال رنان في أيدي عناصر ثقيلة الوطأة، متوحشة المظاهر، ضعيفة المدارك، كالترك والبربر وغيرهم، بدأت تباشير الضعف عند المسلمين، وقد لا تكون التعاليم متعصبة بل يكون الناس متعصبين، وكان العرب عنصرًا رقيق الحاشية، كثير التسامح، لا يخرجون قيد شبر عن هذه المياسرة، وبرهنوا بأعمالهم على أنهم كانوا متشبعين بها منذ ابتداء فتوحهم، لا ريب أن التساهل الديني كان مطلقًا خلال العهد الذي أزهرت فيه المدنية العربية. ولقد عظم تأثير العرب في أجزاء من أرض أوروبا ما استطاعوا التسلط عليها إلا بعلمهم وعملهم، وكان هذا التأثير أشد قوة في البلاد التي خضعت مباشرةً لسلطانهم أي في أسبانيا، وأحسن ذريعة إلى تقدير هذا التأثير حق قدره أن تُلقى نظرة على ما كانت عليه إسبانيا قبل العرب، وما صارت إليه أيام حكمهم، وما انتهت إليه حالها بعد ذهابهم؛ فقد دب فيها الهرم بعد جلائهم عن أرضها ولما تنتفض من عوارضه حتى اليوم، مثال من تأثير شعب في شعب، والتاريخ لا يذكر مثله ناصعًا جليًّا. ا.ﻫ.

وبعد، فلا علينا أن ندعي بعد ما تقدم أن الحضارة العربية كان منها خير كثير للبشر، وأن الحضارة الحديثة بالنسبة للشرق قد خلطت عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وفيها من فاحش التعقيد ما يصعب على كل الناس تمثلها، عبث الاستعمار الغربي عمدًا أو عن غير عمد بمشخصات المستعمَرين؛ فلقنهم تهذيبًا فجًّا بالقياس إلى عقولهم، فنقلوا إلى غمرة الأمة المستعمَرة نقلًا غير مفيد ولا سديد. وكان من البلاد التي حُددت سلطة الغرب فيها كمصر والشام والعراق أن أظهرت استعدادًا ونبوغًا أكثر من غيرها من الأمصار التي اشتد ضغط الغريب عليها، وما منع احتفاظ هذه الأقطار الثلاثة بالمدنية العربية القديمة من قبول المدنية الغربية الحديثة، ولا يبعد إذا تمتعت البلاد العربية بوحدتها يومًا أن تظهر في مظهر دولة راقية تتساند مع غيرها من الدول في خدمة التمدين في العالم، ولا تقل مكانتها عن أرقى دول الأرض بعد سنين قليلة. ونقول بعد هذا لأرباب المنازع الغريبة في حكمهم على العرب ومدنيتهم: إن أحكامهم هي الجور حق الجور، ولكن «إذا أقبلت الدنيا على قوم أعارتهم محاسن غيرهم، وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن أنفسهم.»

١  زهرة التواريخ الفرنسية لهانوتو G. Hanotaux: La fleur des histoires françaises.
٢  لاروس الجديد المصور Nouveau Larousse illustré.
٣  لاروس الجديد المصور.
٤  الاستقصا للسلاوي.
٥  حاضر العالم الاسلامي.
٦  تحفة المجاهدين في أحوال البرتكاليين لزين الدين.
٧  وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية عن إفريقية الشرقية لجيان، تلخيص يوسف كمال.
٨  مجد البرتقال وجمالها لشاغاس فرانكو Chagas Franco: Les gloires et les beautés du Portugal.
٩  معجم لاروس المصور.
١٠  تاريخ المدنية الحديث لسنيوبوس Ch. Seignobos: Histoire de la Civilisation contemporaine.
١١  وثائق تاريخية وجغرافية وتجارية لجيان، تلخيص يوسف كمال.
١٢  استعمار الهند عن المجلة الزرقاء الفرنسية تعريب المؤلف (مجلة المقتبس م٤).
١٣  الإيجاد لهريو Herriot: Créer.
١٤  بيان سياسة العالم لبول لوي Paul Louis: Tableau politique du monde.
١٥  تاريخ الحضارة لسنيوبوس.
١٦  الآفات الاجتماعية وعلاجها لتولستوي، تعريب محمد رضا.
١٧  النفسية السياسية لجستاف لبون.
١٨  يقظة الإسلام والعرب لأوجين يونغ Eugène Jung: Le réveil de l’Islam et des Arabes.
١٩  معلمة الإسلام، الجزائر.
٢٠  تاريخ المدنية الحديث لسنيوبوس.
٢١  الهند الإنجليزية، تعريب: عبد الوهاب الإنكليزي، نُشرت في المجلد الخامس من مجلة المقتبس.
٢٢  رحلة محمد علي إلى جاوة.
٢٣  من مقالة لزكي علي في جريدة البلاغ المصرية، عدد ٣١٩٨ (١٣٥٢ﻫ/١٩٣٣م).
٢٤  حضارة العرب لجستاف لبون.
٢٥  ذكر أحد العارفين من الإسبان في الجزء الخامس (م٥) من مجلة العالم الإسلامي الفرنسية: أن الأوروبيين في المملكة العثمانية أنحس شعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤