أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
حالة البلاد في القرن الماضي
طلع القرن الثالث عشر من الهجرة، وقد قلَّ في البلاد العربية من يفكر في شيء اسمه حضارة، وغاية ما فيها آثار بالية من مدنية قديمة، يظنها أهل البلاد كل شيء وما هي به: انقطع سند العلوم، وبطل إعمال الفكر، وهجعت القرائح، حتى لتظنها ميتة، وأصبح ما يُقال له علم صُبابةً من فروع علم الدين واللسان، والناس في غفلة عن الغرب، قلما يعرفون ما أتاه في نهضته خلال أربعة قرون، ضعف في الأرض العربية أو كاد كل مظهر من مظاهر القوة في الأمم، وأصبح العرب من الجهل بمقومات الحياة في حالة مبكية، وكأن نسبة الترقي عند أهل الغرب في تلك الأحقاب، كانت على مقدار التدلي في كل شأن في البلاد العربية. ومن أهم العوامل في هذا الاستخذاء، أن الدولة الباسطة ظل جناحها على العرب، حاولت في بعض العصور والأدوار أن تفلَّ من غربهم، فقد جدا في البلاد المفكرون والعارفون، وتراجعت المدنية فيها تراجعًا لم يُعهد له مثيل في تاريخها منذ مئات من السنين، وأمست هذه الأقطار الواسعة، بلا علم ولا مال ولا زراعة ولا صناعة، وفُقد فيها معظم ما يبقي على الأمم حياتها، ويدل على مجدها وعظمتها، ويُشعر بجميل حاضرها ومستقبلها، فكان دور التتر دور الفتور المطلق، والفقر المدقع، والعبث بالكرامة:
يكاد لم يبقَ في القرنين السابقين على قرن النهضة العربية، وهو القرن الماضي، رجل يُذكر في باب الهندسة والتصوير والنقش والشعر والإنشاء والخطابة والفلك والكيمياء والطب، ومعظم من يذكرهم المؤرخون ضعاف في فنهم أي ضعف: استحكمت حلقات الجمود في العقول، وشُغل الناس عن الجد بالهزل والفضول، وراح من يكتب ويؤلف، وينسخ ويمسخ ويسلخ، ويعد ذلك علمًا وفنًّا، وفسد الذوق وضعف الخيال.
علماء فرنسا في مصر
ولم يدخر أعضاء هذا المجمع وبعثة العلوم والفنون وسعًا في متابعة جهودهم العلمية في مختلف الفروع والفنون؛ فأنشأوا مكتبة تحوي أنفس الكتب التي أحضروها من فرنسا، أو جمعوها من خزائن الكتب في مصر، وأسسوا معملًا للطبيعة والكيمياء، جهزوه بالآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية، وأخذوا يجوبون البلاد فاكتشفوا الآثار، وأزاحوا الستار عن عظمة مصر القديمة، ورسموا خرائط مفصلة للبلاد ونيلها وترعها وسواحلها، وبحثوا في طبائع الحيوانات والنباتات والمعادن، ودرسوا مياه النيل وطميه وطبقات الأرض، وجابوا الواحات والبحيرات، وأقاموا في القاهرة مطبعة أخذت تطبع منشورات نابوليون العربية، وجريدة الكوريه ديجبت والديكاد، وبعض المطبوعات العربية والفرنسية.
مبدأ النهضة المصرية
كان احتكاك المصريين بالفرنسيس أول احتكاك علمي مع الفرنج، وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في تلك الحقبة عبد الرحمن الجبرتي، وعالم آخر اسمه حسن العطار، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر بعد حين، وألَّف في الفلك والطبيعيات والرياضيات، فإن هذين الشيخين وأمثالهما علموا بعض علماء حملة نابوليون اللغة العربية وغيرها، وتعلموا منهم ما لم يكن لهم به عهد من العلوم المادية، واختلط رجال الإدارة والسياسة من أهل مصر برجال الحملة، ونشأ بين الفريقين تعارف كان انقطع منذ عهد سان لوي أحد ملوك فرنسا في القرون الوسطى الذي جاء مصر فأُخذ أسيرًا في دمياط، وهكذا عُرفت المدنية الفرنسية في هذا الشرق القريب، وظلت وارفة الظلال في بلاد الفراعنة، حتى لقد مضى على الاحتلال الإنجليزي أكثر من خمسين سنة، والأولية للغة الفرنسية، هذا مع حرص البريطانيين على نشر لغتهم.
بدأ والي مصر منذ سنة ١٨١٣م يرسل الطلبة المصريين إلى أوروبا؛ فأوفد إلى إيطاليا طائفة لدرس الفنون العسكرية وبناء السفن وتعلم الهندسة وغيرها، ثم اتجه نظره إلى فرنسا فأرسل إليها زمرة صالحة، وبعث إلى إنجلترا بعض التلاميذ لتلقي فن الملاحة ومناسيب الماء وصرفه والميكانيكا، ثم جعل جل اعتماده على مدارس فرنسا في تخريج الطلبة، وصرف عليهم من سنة ١٨٢٦ إلى ١٨٤٧ «٣٠٣٣٦٠» جنيهًا، وغدا معظم الطلبة الذين تخرجوا بأساتذة الغرب من دعائم النهضة التي تم على يدها إنشاء مصر الحديثة، وأسس أول مدرسة للهندسة في سنة ١٢٣١ﻫ/١٨١٦م ثم أسس مدرسة الطب إجابةً لاقتراح الطبيب كلوت الفرنسي (١٢٤٢ﻫ/١٨٢٧م)، وكان القائم مقام سيف الفرنسي الذي دان بعد بالإسلام وسُمي سليمان (١٨١٩م) هو الذي نظم الجيش المصري، ونظم أمير البحر بيسون البحرية المصرية ثم خلفه هوسار في هذا العمل. وبعد مدة أنشأ ماريت متحف بولاق، واستدعى غير هؤلاء من رجال الغرب ومنهم البولونيون، ودام عِلم الفرنسيس يفيض على مصر مدة حكم محمد علي وأسرته الكريمة، ولو أُحصي ما كتبه علماؤهم في مصر من الأسفار، وما رسموا لها من الآثار والمصورات والتصميمات لبلغ خزانة كبرى، ولا تزال هذه التحفة العظيمة إلى اليوم مرجع الباحثين والدارسين.
لولا عمل محمد علي في تمدينه مصر، لأشرفت اللغة العربية على التلف، على الرغم من وجود جامع الأزهر فيها منذ قرون؛ لأن الأزهر ما كان يُعنى بغير المسائل الدينية، واللغة تنقرض إذا لم تكن لغة علم، وهذا ما حاول محمد علي أن يعمله فظهرت تباشير إصلاحه بعد عشر سنين من البداءة به، على أيدي من خرجهم من المصريين في مدارس الغرب، فألفوا وعلموا وهذبوا. ومن حسن توفيقه أنه وجد من المصريين مشايعين له على عمله خلافًا لما كان من تصلب رجال الدين الأتراك، وعصيانهم على الإصلاح الذي كان بعض سلاطين بني عثمان يحاولونه، مما جاء برهانًا آخر على أن حب الحرية مغروس في فطرة العرب، مهما انحطوا وانحط أمرهم، وأنهم من أكثر العناصر الإسلامية تسامحًا، وما اشتهروا منذ قاموا إلا بفتح صدورهم للمدنية، وكانوا دعاة الدين والأمناء عليه في كل عصر.
كانت الحركة الأدبية المصرية مبدأ كل نور في الشرق العربي، استفادت منه البلاد المجارة بحكم الطبيعة، ولا سيما أبناء الشام، فإن منهم من درسوا في مدارس مصر، وتمصروا فخدموا البلاد التي هذبتهم، ومنهم من نقلوا قليلًا من النور إلى بلادهم. ولما استولى محمد علي على بلاد الشام سنة (١٢٤٧ﻫ) ودام حكمه فيها تسع سنين، أثر بابنه إبراهيم ورجاله في إدارتها وتمدينها، ورأى الشاميون الفرق المحسوس بين حكم الترك وحكم أحد ولاتهم محمد علي، فمصر إذًا هي التي بدأت تقتبس من نور العلم الصحيح، ومصر أدخلها من تخرجوا بعلم الغرب في دور ارتقاء لم يسبق له مثيل في بلاد العربية، ومصر هي التي ظهرت فيها آثار المعارف قبل أمها الدولة العثمانية، ومصر أثبتت استعدادها للأخذ بأساليب الارتقاء، وأنها كل ساعة مستعدة لقبول الخبر، لا تسأل عن مَصدره ومُصدره.
عمل الرهبان والقسيسين في الشرق العربي
وكان للغرب في هذا الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرون، ولا سيما في الأرض المقدسة من فلسطين وفي جبل لبنان من الساحل الشامي، يعلِّمون أبناء طوائفهم مبادئ العلوم باللغة القومية، مع إحدى اللغات الغربية، وفيهم الإيطالي والفرنسي والأميركي والرومي والبروسي والإسباني والنمساوي والاسكتلندي وغيرهم. وزادت صلات الطوائف الباباوية في الشام مع رومية، وكانت منذ القرن السادس عشر مستحكمة، وفيه أُسست للموارنة في عاصمة النصرانية مدرسة يتخرج فيها خدمة الدين في اللاهوت وغيره من العلوم، وكثر توافد الإنجيليين منذ سنة ١٨٣٨م للدعوة إلى البرتستانتية، وأسسوا مطبعة عربية كانت لهم في مالطة أولًا، يطبعون عليها الأناجيل بلغات مختلفة لنشرها في المشرق، ثم تبعهم اليسوعيون من الطوائف الكاثوليكية ينشئون مطبعة لهم، وجعل دعاة البرتستانتية والكثلكة من ثغر بيروت وما في ضواحيه من القرى مثل عبيه وعين طورا، أس حركاتهم الدينية والعلمية في الشرق القريب، يتنافسون بينهم، ويبثون في عقول الناشئة من غير أبناء المسلمين على الأكثر المبادئ التي رأوا فيها مصالح أممهم الدينية وغيرها، بما أقاموه من المدارس العالية والثانوية والابتدائية للذكور والإناث، وبعد أن كانت بيروت أشبه بقرية، سكانها بضعة آلاف فقط، أصبحت مدينة علم كبيرة يقصدها المتعلمون من القاصية، على نحو ما كانت اشتهرت أواخر عهد الرومان بمدرسة الفقه، تخرج قضاة للمملكة الرومانية.
هذا، والمسلمون قانعون بأن من أبنائهم من يتعلم في مدارس الدولة التي أنشأتها قرابة ذلك الزمن، لتخرج من أبناء البلاد ضباطًا وموظفين لمعسكراتها وإداراتها، وبقدر ما كانت نفوس غير المسلمين تنصرف إلى التجارة والصنائع، كانت وجهة المسلمين تتجه نحو الآستانة تعلم أبناءهم شيئًا من التركية، وبعض العلوم النظرية، فيكون منهم قادة وضباط وعمال ونواب، وكانت غاية التعليم العثماني تلقين الأفراد الاعتماد على الحكومة في كل شيء، والفناء في خدمة الوطن التركي، وكان تتريك العناصر على اختلاف أجناسهم ومدنياتهم من أهم ما تعمل له الدولة التركية ولا سيما في أواخر أيامها. وغاية التعليم المصري أو التبشيري تثقيف الناس بالعربية، والإلمام بإحدى اللغات الأوربية، أو العناية باللغة الأجنبية والأخذ بحظ قليل من العربية، مشفوعة بمبادئ علمية تنفع من يتلقنها في حياته ومعاشه، وكان الاحتلال الفرنسي في شمالي إفريقية، الجزائر وتونس ومراكش، والاحتلال الإنجليزي في مصر والسودان، ثم الاحتلال الإيطالي في طرابلس وبرقة، فزاد امتزاج العرب بالغربيين، وأخذ الناس يدركون نقصهم، ويسعون جهدهم ليقلدوا في منازعهم من تقدموهم في سلم الحضارة.
ما أخذناه عن الغرب
من الغرب تعلمنا معنى الوطن والوطنية، وحب الجنس والقومية، وهذا شيء جديد لم يُعهد للعرب مثله، بعد أن ذاق الناس الأمرَّين من ظلم الولاة، ومن داناهم ووالاهم قرونًا طويلة، ولم يقدروا أن يغيروا أوضاعهم، بل ما وسعهم التفكير، في مثل هذا التغيير، أو في شيء يماثله لقيام أمر الجماعة، واسترجاع الحقوق المضاعة، ونقلنا عن الغرب بعض أوضاعه الاجتماعية والمدنية والسياسية كالمجالس النيابية والحكومات الدستورية، وأصبح الناس يوقنون أن بقاءهم مناط تضامنهم وتكاتفهم، وأن الشعب يقوى على إملاء إرادته، إذا كانت مادياته سليمة موفورة، وبقدر حظ الأمم من الماديات، تصح لها معنوياتها. وكان القوم من قبل يُعجبون بكل ما هم فيه من علم وعمل، ولا يتوقفون اليوم مع هذا، عن نقد كل شيء بمنطق جيد أحيانًا، فكثر النقادون، والنقد حياة المجتمعات.
تعلمنا من الغرب أصول الصحافة، وأنشأنا ننشئ صحفًا تُعنى بالأمور المالية والسياسية، وأخبار الدول والممالك، واقتبسنا إنشاء المجلات الدورية، ننقل أكثرها عن مجلات الغرب الفرنسية والإنجليزية، وننسج على منوالها، ونجود فيها النقل، ونلخص آراء الغرب ومذاهبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، ونترجم من الكتب العلمية والأدبية ما لم نكد نعرف اسم فنه من قبل، وكانت مصر المجلية في هذا المضمار، نشرت منها مئات بمعاونة حكومتها، وعناية أبنائها الذين اغترفوا من الينابيع الصافية في العلم الحديث، وكل بلد سبق في هذه السبيل وعلم أبناءه كمصر، كُتب له التقدم على غيره من الأقطار، ولا عجب أن أصبحت مصر بعد جهاد جيلين من الناس، تشبه بعمرانها بعض الممالك الغربية الحديثة.
أثرت الصحافة في عقول من أدمنوا تلاوتها، ودخلت الأفكار الجديدة أوساطًا ما كان يُظن أنها تهتم بها وتستفيد منها، وبدلت من طرق التفكير، وأصول المعايش ونظام المجتمعات، وعلمت الناس ما لم يكونوا يعلمون، علمتهم بسائط في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والزراعة، وحال الأمم وسياسة السياسيين، ومجادلات المشرعين، واستعمار المستعمرين، وتدليس المدلسين، حتى غدا بعض من أطالوا تلاوتها وتفهمها، أرقى عقلًا من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة منذ مائة أو مئتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن الدين وحده لا ينجيهم مما هم فيه، وأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معًا، فأقبلوا على المدارس والكتاتيب شاعرين بما هم عليه من النقص، والشعور بالعيوب أول مراتب الكمال.
التمازج بالغربيين والانتفاع بما اخترعوه وكشفوه
لما اخترعت أوروبا البخار حوالي سنة ١٨٣٠ وسهل السفر على الناس في قطارات البر وسفن البحر، زاد اختلاط الفرنج بالعرب، فزاد هؤلاء ثقافةً، يحملها إليهم طلاب العلم وأرباب الرحلات والتجار، وسياح الغربيين وحجاجهم القاصدون إلى بلادنا، يزورون آثارها المدنية والدينية، ومنها ما تقدسه أمم الغرب النصرانية؛ لأنها موطن المسيح ومظهر عجائبه، ومنها ما يُدهش له الغربيون كآثار الفراعنة أم المدنيات القديمة المعروفة في مصر، وكمصانع تَدمُر وبعلبك وجرش والبتراء في الشام، وآثار قرطاجنة وغيرها في إفريقية، وزاد هذا الاختلاط شدة لما صحت عزائم سكان جبال الشام على نزول أميركا طلبًا للرزق (١٨٧٦م)، وكان أهل أوروبا سبقوهم إلى نزولها منذ أكثر من ثلاثة قرون، أي استعمروا الأميركتين منذ فتحهما كريستوف كولمبس وفاسكودي جاما. ومن نصف قرن كان من لا يعود إلى بلاده بمال، يرجع إلى أهله بما اقتبس من بسائط المدنية؛ لأنه رأى في ذهابه وإيابه بلادًا أرقى بعمرانها من بلاده، واختلط بجماعات أعلى كعبًا في المدنية من جماعته.
إذا عرفنا هذا، فلا نكون إلى الغلو إذا ادعينا أن الفرق عظيم اليوم بين مصر والشام وتونس مثلًا، وفيها تمازجت الحضارة الحديثة بالقديمة، وتوفر أهلها على الأخذ عن الغرب علمه وصناعته، وبين الحجاز ونجد واليمن، وسر ذلك كون أهل الجزيرة انقطعوا عن العالم المدني طوعًا أو كرهًا، وقل اختلاطهم بالغربي، إلا في بعض سواحل البحر الأحمر والبحر المحيط الهندي وخليج فارس، وتجافت نفوسهم عن اقتباس ما جد عند الأمم من أساليب العلم والصنائع.
كان الوباء إذا انتشر في بلدة لا يُبقي من سكانها ولا يذر، وفي الغالب أن يعقب الأوبئة قحط؛ لقلة العاملين في الحقول، فيهلك الناس بمئات الألوف، وكانت هذه الأمراض الوافدة، تحصد الأرواح في كل عقدين أو ثلاثة من السنين؛ فقد انتشر وباء في الشام أوائل النصف الثاني من القرن الخامس، وأعقبه قحط وإضاقة في العيش، مع ما هنالك من مظالم ومغارم لا يكاد يتصورها ابن هذا العصر؛ فأكل الناس الكلاب والسنانير والفيران، ثم أكل بعضهم بعضًا، ونزل سكان دمشق إلى ثلاثة آلاف إنسان، وكانوا من قبل خمسمائة ألف. ومثل ذلك كان في مصر سنة ٤٦٢ﻫ أفنى القحط العظيم الناس، وأكل الإنسان الإنسان، وبلغ أردب القمح مائة دينار، وخرجت امرأة في القاهرة وبيدها مد جوهر، فقالت: من يأخذ هذا بمد قمح، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق وقالت: ما نفعتني وقت الحاجة فلا أحملك. قالوا والعجب أنه ما كان له من ملتقط. هكذا كانت حال الناس قبل أن يكشف الغرب الجراثيم، ويفيد بني الإنسان والعرب منهم، بهذا المكتشف العظيم.
كانت الأوبئة والطواعين والحميات والوبالة «الملاريا»، بل وجميع الأمراض الوافدة والأمراض العضالة كالكَلَب ونحوه، تهلك عشرات الألوف من الخلائق، ولا من يعرف دواءها، ولا من يفكر في تخفيف ويلاتها، ومنهم من يعزو ذلك إلى أسباب سماوية، يغضب الديَّان على الإنسان، فيرسل عليه هذه المهلكات، أو يقوى سلطان الجن على الإنس، فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، أو يحل بهم نكد الطالع، فتساورهم النقم، وتتخطاهم النعم، ولكم أفضل الغرب علينا بمطعوم الجدري، وكان يهلك به كل سنة جزء عظيم من الأطفال، وكم من عيون دعجاء به قُلعت، ومن خدود جميلة ببثوره تشوهت.
تعلمنا طب الحيوان والدواجن، ومكافحة الحشرات، وكانت تعبث بالأشجار والنبات والزروع، واستفدنا أصنافًا من البقول والأزهار والثمار لم يكن لنا بها عهد، وعرفنا طيورًا ودجاجًا وأسماكًا جديدة، واستطعنا بالأخذ بالوسائط الجديدة القضاء على الجراد، ولطالما أقفر أقطارًا وأفقر أمصارًا، وتعلمنا استعمال الأسمدة الكيماوية والتفنن في تطعيم الغرسات، والاستكثار من المعرشات المبهجات، ومعالجة الآلات الحرَّاثة والبذَّارة والحصادة والرجادة والدراسة والذَّراية بل والخيَّاطة، وكل ما يقلل من عمل الأيدي، ويوفر على الخلائق راحتهم، ويقتصر لهم طرق الانتفاع بما تنبت الأرض وتجود السماء.
وتعلمنا تمديد الخطوط الحديدية، وفتح الأنفاق وبناء الجسور والطرق والمرافئ، والخزانات والمنائر وحفر الآبار الارتوازية، وإقامة الدور ذات الطبقات الكثيرة، وتوليد الكهرباء ومد أسلاكها وإنارة المدن والقرى بها، وتسيير عجلاتها في الحواضر والضواحي، ووضع البريد الجديد والبرق والهاتف واللاسلكي والسلك البحري ثم الراديو، وتنظيم المدن والبلديات، وفتح الشوارع والساحات، ورصف الطرق وتذليل العقبات، وجر المياه النقية في قساطل ومناهل، وتجفيف الأصقاع المستنقعة، وتخفيف ويلات أمراض العين، وكان يُعمى بها طوائف من الناس.
واقتبسنا أصول الجندية، وتنظيم المراكب البخارية، وتدوين الدواوين، وأسلوب الجباية، وإدارة المصارف والجمارك، وأبدلنا أساليب التجارة بأساليب الغرب القريبة المأخذ، المضمونة النتيجة، وما عرفنا من قبل المصارف ولا المصافق، ولا السفاتج والحوالات المالية، ولا الشركات المساهمة والمضاربة والمغفلة، ولا كل ما يسهل على التاجر عمله، وعلى الصانع صناعته، ويوفر للناس أموالهم وكأن الأدوات والآلات هي خاصية من خاصيات المدنية الحديثة، لتفرد الغرب بالفحم الحجري وضروب المعادن، ومن أهمها الحديد؛ ولأن الأخصاء في العلوم جرى تطبيقه على الصناعات عندهم.
ومن الغربيين أخذنا أساليب الدعوة والإعلان، وطرق المفكرات والجزازات والإحصاءات، بلَه تأليف المؤتمرات والمؤامرات، واستخدام المعاصر والمحالج والمغازل والمناسج والمطافئ والمدافئ والمضخات، ونسجنا على أساليبهم في إنشاء الجمعيات الخيرية، والأحزاب السياسية، والشركات الصناعية، وإقامة حدائق لتربية الحيوانات، ومغارس لتربية النباتات والأزهار والأشجار، واستفدنا مسائل أخرى كثيرة نجهد لوضع أسماء تقابلها بالعربية، ولم تُعرف من قبل إقامة المستشفيات والمصاحِّ والملاجئ لليتامى والزمنى والصم والبكم والمسلولين والمعتوهين، على هذا الطراز من العناية والطهارة.
أثر الغربيون في أرواح الشرقيين وعقولهم من حيث يدرون ولا يدرون؛ وذلك بفضل ما يبثونه كل يوم من معارف جامعاتهم ومدارسهم وأنديتهم ومعاملهم ومخابرهم، وبفضل ما كشفوه واخترعوه وحققوه وصححوه من العلوم، وبثوه من الأفكار الجديدة وخاضوا عبابه من الموضوعات، فقلبوا بأوضاعهم أوضاعنا، وبدلوا بتصوراتهم أشكال تصوراتنا، وبدلوا من أساليب الفكر في رجالنا الدارسين وغير الدارسين؛ فتغيرت مادة أحاديثنا ودوافع أهوائنا، ولطفت أذواقنا، ولم يكن لذلك كبير أثر قبل اختلاطنا بهم، وتسهيل المواصلات بيننا وبينهم، وسنظل على الأخذ عنهم في معظم مطالب الحياة، حتى نستوي أمة ناهضة من كل وجه، على ما استوت اليابان الشرقية في القرن الماضي.
كانت الأمية غالبة على الكبير والصغير؛ يربَّى الأطفال في أماكن مظلمة نتنة لا شمس فيها ولا هواء يسمونها الكتاتيب أو المدارس، ثم هم يُضربون بالعصي على رءوسهم ووجوههم وظهورهم وأرجلهم بدون شفقة، وبذلك يتعلمون للخلاص من هذا العذاب الاحتيال والحلف الكاذب، فأصبح الولد بتنظيم التعليم اليوم، يعرف من المواد ما لا يكاد يعرفه العالم أمس، واختصرت مراحل التهذيب، حتى لنرى في شبابنا اليوم من هم مفخرة بمعارفهم، ما رأى أجدادنا أمثالهم في عصورهم، وما كنا نسمع بمثل هذه المعارف تجتمع لفتى في الخامسة عشرة من عمره، ولا بالأطفال من البنين والبنات يُربون في رياض الأطفال هذه التربية العملية الصحية، ولا بربات الحجال، ينافسن في التعليم العالي الرجال.
بفضل المدارس والصحف السيارة ودور التمثيل وبيوت الغناء وأسطوانات الحاكي، وإذاعات «الراديو» أصبحت الفصح من الألفاظ العربية في ألسن الناس، وعلى أقلامهم ومكتوباتهم، كأنها من المتعارف، وظهر فينا رجال نقرأ أعمالهم في كتبهم ورسائلهم وخطبهم وأعمالهم فنعجب بها، وكثر في أبنائنا رجال القانون والإدارة والجندية والطب والهندسة والزراعة والكيمياء والطبيعة والفلك والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والشعر والكتابة والأدب والتصوير والموسيقى والنحت والنقش والطيران، ومنهم من لا يقل عن أرقى الطبقات أمثالهم في الغربيين، ولا يفرقون عن النابهين من الرجال عند الأمم الممدنة، إلا بفروق مرجعها إلى المحيط، الذي يعلو كل حين مستواه.
جمع الإفرنج في كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة، خزائن عامة أو خاصة فيها نفائس الكتب العربية المخطوطة، عنوا بها أشد عناية ورتبوها ونشروا فهارسها، ولا تقل كتبنا التي احتفظوا بها في خزائنهم عن مائتين وخمسين ألف مجلد، نشروا منها بالطبع جزءًا من الأسفار الدينية والفلسفية والتاريخية والجغرافية والعلمية والأدبية واللغوية وغيرها مما لا يقل عن خمسمائة مجلد، ونحن لم نعرف بعد الطبع بالحروف، مجتزئين بطبع الحجر السقيم. وفي خزائن الكتب العمومية والخصوصية في الآستانة ومصر من المخطوطات العربية ما لا يقل بعدده عما عند أهل أوروبا منها، ولم يُطبع منها غير مصنفات قليلة، ومنها التافه الذي قصدوا به التجارة لا خدمة العلم، كما كان منزع علماء المشرقيات من الغربيين، وجاء القرن التاسع عشر ولم يُطبع منها غير بضعة كتب نافعة. فبفضل الغرب عرفنا الطبع، وعرفنا فضل أجدادنا، وتعرفنا إلى الطرق الموصلة إلى إحياء كتبنا، ولكن طالت مدة تعليمنا أكثر من مائتي سنة.
وعن علماء الغرب اقتبسنا أساليب الاستفادة مما أملته قرائح الأسلاف، وأبقته الأيام من تراثهم الثمين، على نحو ما كان لهم الفضل في البحث عن دفائن بلادنا، ونبش عادياتها ومصانعها القديمة، فاهتدينا إلى معرفة آثار أرضنا وتاريخها وعظمتها السالفة، وعرفنا لغات الأقدمين ممن سكنوا ديارنا قبلنا، وتعلمنا كيف نحتفظ بآثارنا الثابتة والمنقولة، ونُعْنى بتركة أجدادنا ونحترمها ونقدسها ونولع بها.
وكان من تعليم رجالنا أن سمت بهم الهمم إلى إدخال الأنظمة الجديدة على مدارسنا الدينية الكبرى، والتي تقدمت غيرها في قبوله كانت لها الشهرة الطائرة، وعموم النفع للإسلام والعرب، تخرج علماء حقيقيين منورين، وكانت من قبل تخرج علماء نظريين جامدين، وكلما ارتقى أسلوب التعليم وثقف الخاصة لغات الغرب زادت اللغة العربية رشاقة، حتى كاد كتاب مصر وما إليها من الأقطار العربية يُرجعون إلى العربية نضرتها القديمة.
أخذ الغربيون عن العرب كل ما نفعهم يوم نهضتهم من ضروب المعارف البشرية، وها هم اليوم يعيدون إلينا شيئًا مما تعلموه من أجدادنا، وزادوه بعلمهم وبارتقاء الزمن وتداول الأيام، وهذه سنة المدنيات التي درجت عليها أجناس البشر، والعالم فريسة العامل، ومن كدح ربح: تقلبت على الحضارة أيد كثيرة منذ دوِّن تاريخها، واليوم وصلت إلى هذا المظهر الباهر، ولا غضاضة على المتأخر إذا أخذ عن المتقدم.
سيئات الغرب في البلاد العربية
ولا يفوتنا النظر، وقد بلغ بنا نَفَس الكلام إلى هذا الحد، أن نعرض لما حوته المدنية الغربية من المساوئ، بعد أن ألممنا بما حملت من عظيم المحاسن، ولكل مدنية سيئات تندمج في مطاوي الحسنات، وقد لا يكون الخير تامًّا والشر تامًّا، وكان علينا أن نقتصر على اقتباس النافع ونتحامى الضار، والظاهر أن المدنية وحدة لا تتجزأ من أخذ بخيراتها، لا بد أن يستهدف لشرورها طوعًا أو كرهًا، وما هذه السيئات بالذي أقره عقلاء الغرب، دعاة الحضارة الحديثة.
ولقد هجمت علينا المدنية الغربية بأصناف من المسكرات والمخدرات، كان أجدادنا لا يعرفونها، وعاشوا بدونها قرونًا في هناء وراحة، وكان يقتصر من يعاقرون الراح سرًّا، وهم قلائل جدًّا، على ما تنتج البلاد من خمور، وضررها على الجملة أخف من مضار الغول الجديد. وهكذا الحال في عامة المخدرات كالمورفين والكوكايين والهرويين التي جاءت مع القرن الماضي، فأضعفت العقول وقتلت الأنفس، وفتح التوسع في الحرية أبواب العهر والفجور والإسراف على النفس، فأنشأ الفحش يُمارس تحت سمع القانون وبصره، وزادت الأمراض السرية، وتعطل التناسل في بعض الرجال والنساء. ثم انتشر القمار على اختلاف صوره، ومنه المضاربات وألعاب النصيب، وكان الناس في غابر الأيام يقنعون بالرزق المحلل، يأتيهم من أعمالهم الصناعية والزراعية والتجارية، لا يغامرون هذه المغامرات التي يردها العقل.
وأدت الحرية الشخصية بالسلطة الأبوية في بعض البيوت إلى الارتخاء، فكان في الماضي الإفراط في هذا المعنى وصار اليوم التفريط، وضعفت سلطة الأب على ابنه وابنته بالنسبة، وضعفت معها الشفقة والرحمة والكرامة، وأصبح كل أمر يقاس بمقياس الماديات، ولا يُسأل الرجل من أين اكتسب ماله، إذا اجتمع له مال؛ لأن المعنويات قلما تكون ذات شأن في نظرهم، وإنما الشأن كل الشأن للماديات، وقضت الحضارة على من قبلوها أن يجدوا ويسرعوا، إن أمكن بقوة البخار والكهرباء والأثير، وكان الناس منذ قرن على تؤدة وتأنٍ وصبر لا تشاهده في أهل هذا الجيل؛ ولذا رأينا التشاؤم أكثر من التفاؤل في كل بلد، والقناعة والرضى أقل من الشراهة والطمع، وأمسى كل صعلوك يحاول أن يغتني بين عشية وضحاها، بأي الطرق التي تُفتح أمامه، وكثر حب الظهور بل الجنون فيه، وتبع ذلك البذخ والتفخل والإسراف، بحيث يتعذر التوازن بين الدخل والخرج، فكان في ذلك خراب بيوت كانت عامرة لولا التقليد المصطنع، والعادات المستحدثة، وكثرت بذلك السويداء والماليخوليا والخبل وضعف الأعصاب وفقر الدم والسل. كانت الرفاهية في الأيام الماضية مقصورة على قصور الملوك والأمراء، فشارك فيها اليوم أهل الطبقات الثانية والثالثة، وكان للمجتمع في الشرق عادات مستحسنة من جمال الألفة، وحسن العشرة، وصحة العهد والوفاء، وقوة الإيمان ومعرفة الجميل، فعرا هذه الصفات بعض الفتور خصوصًا في البيئات التي اقتبست مدنية الغرب بعجرها وبجرها، وبعبارة ثانية إن الناس انغمسوا في الأثرة، وكانوا من قبل أميل إلى الإيثار.
هذه جريدة بما لقفناه عن الغرب، ذكرنا فيها الحسنات وأتبعناها بالسيئات، وربما كان فيها بعض النقص غفلنا عنه بخيانة الذاكرة، أوردنا منها ما أوردناه على سبيل الذكرى لننصف غيرنا وننتصف منهم.