نقد مؤرِّخ أميركي وكلام في المذابح الدينية
اختلفت مناحي الطاعنين على الإسلام في الغرب منذ نحو مائتي سنة، فكان فيهم المخلص
في
نقده في الجملة، بيد أنه لم يُرزق من ثقوب الذهن، ونزع ربقة الهوى، ما يؤهله لإصدار
أحكام على العرب ومدنيتهم خالصة من العيوب والنزعات، ومنهم الذي لم يصل إلى درجة من
التحقيق يستعد بها لوزن الأشياء بميزان القسط، فأرسل كلامه إرسالًا، ظانًّا أنه أصاب
شاكلة
١ الصواب، وما هو منه بقريب، ومنهم من أعمى التعصب المذهبي بصره وبصيرته،
فكال الباطل كيلًا، وخلط وخبط تحت ستار العلم والبحث، وهو لو حلف لك بكل محرجة
٢ من الأيمان، ليثبت لك خلوه من الغرض ما زدته إلا تجهمًا
٣ وسخرية، وللقارئ أن يجعل بعض من وقعوا في هذه المضايق من الغربيين في
المرتبة التي يراهم أهلًا لها، وذلك بجنايتهم على التاريخ الصحيح، والعلم المجرَّد،
ولتسجيلهم على أنفسهم جهلًا وغباوة.
فمن سخافات المؤلفين الذين ألقوا الكلام على عواهنه
٤ في الإسلام قول كوفين
٥ من جامعة واشنطون: «إن الشريعة الإسلامية التي دان بها وقدَّسها، مائتان
وثلاثة وثلاثون مليونًا من الناس،
٦ قد حفظت في تضاعيفها شرورًا اجتماعية تئن منها الإنسانية، ومع هذا قدَّست
الشريعة هذه الشرور باسم الدين.» جملة ربما قالها الكاتب الأميركي وهو لم يرَ حياته
مسلمًا، ولا قرأ كتابًا معتمدًا من كتب العرب، قالها بدافع هو يعرفه أو فاه بها ليأتي
بالغريب، وأميركا مهد الغرائب، وكأنه اكتفى بهذا الاقتضاب علمًا منه بأن ما قاله من
البديهيات لا يعوزها شرح وتفصيل، ولو أنصف لفسر لنا هذه الشرور التي اتهم بها الإسلام
وأَنَّت منها الإنسانية، كأن الإنسانية لم تئن مثلًا من معاملة الجنس الأبيض للأسود في
أميركا، قال فوليه:
٧ «تحدث مشاهد في الولايات المتحدة لا تورث الأميركان فخرًا، وذلك أن الزنوج
يحبون النساء البيض محبة شديدة، حتى لقد يرضون شهواتهم بالعنف أحيانًا، ويقضي قانون
«لنش» أن يطلي من يأتي ذلك بالقطران، ويحرق كما تحرق الشموع، وتضطر الحكومة السود في
الناحية التي وقع فيها الفعل إلى حضور مشهد إحراق رفاقهم.»
نعم، كأن الإنسانية لم تئن من الحروب الدينية التي أهلكت فيها الإمبراطورة تيودورا
وحدها نحو مائة ألف من المانويين في أواسط القرن التاسع، كما أهلك الكاثوليك من
البرتستانت في مذبحة سانت بارتملي مائة ألف
٨ أيضًا، وكأن الإنسانية كانت راضية عن أعمال ديوان التحقيق الديني الذي قتل
في إسبانيا وحدها، كما قال ريناخ:
٩ نحو مائة ألف إنسان على أقل تعديل، وكأن الإنسانية أقرَّت المذابح العظيمة
التي قامت في الغرب تنفيذًا لرغبة الباباوات في قتل الملحدين، ومنها ما قضى على أقاليم
برمتها بالخراب، كالحرب التي أعلنها
١٠ البابا إينوسانت الثالث سنة ١٢٠٨م، فخرب جنوبي فرنسا وأقفرت مدن برمتها،
ومنها كركاسون وبزيه، وكالحرب التي أثارها الكاثوليك على البرتستانت المفرطين في طلب
الإصلاح، وكانوا يدعونهم الأنابابتيست، فقُتل فيها ١٦٠ ألفًا، وأهلك توركمادا الدومنيكي
الإسباني ١٤٢٠–١٤٩٨ ستة آلاف إنسان بالنار، وطلب جزاء عمله منصب كردينال من البابا،
وقد حكم على ٨٨٠٠ بالحرق، وعلى ٩٦٥٠٤ بعقوبات أخرى، وكانت الحكومة تحميه بخمسين فارسًا
ومائتي راجل، وكانت الأرواح لا قيمة لها في نظر المدافعين عن المعتقدات، ويرون القسوة
فضيلة يُثاب عليها فاعلها، وكان المؤمن حقًّا من لا تنفثئ
١١ سورة غضبه للدين الذي يتخيل أنه الحق وما عداه باطل، ولو لم تأتِ الثورة
الفرنسية الكبرى على هذه الفجائع التي امتدت لأواؤها
١٢ قرونًا باسم الدين، والدين منها بريء، لظل سلطان الدينيين في الغرب إلى
اليوم بحاله، ولتأخرت المدنية عن سيرها الطبيعي أكثر مما تأخرت بصنع رجال الكنيسة ومن
جاراهم من الأقيال والأمراء والملوك.
ردٌّ على رنان وجانو في الإسلام
ومن الناقدين من وقعوا في غلط الحس؛ فحكموا على العرب والإسلام أحكامًا لا مبرر لها،
ربما كانوا يعدلون عنها لو ساعدهم الزمن فرجعوا اليوم إلى تمحيص ما دوَّنوا، كما وقع
لرنان يوم زار في القرن الماضي جزيرة أرواد،
١٣ فشاكسه بعض أهلها، فهجا أهل الجزيرة بأسرهم، بل السوريين بأجمعهم، بل
المسلمين عامة، وقال: إن غلط الفكر هو مظهر خلق السوريين، وإن الأرواديين قاوموه للبغض
المتأصل في قلب كل مسلم لما يُقال له علم، وقال في مناسبة أخرى: إن الذي يميز العالم
الإسلامي إنما هو اعتقاد المسلمين أن البحث لا طائل تحته، وأنه قد يؤدي إلى الكفر، وحكم
هذا المؤلف على جماع السوريين، بما رأى من انحطاط صيادين معدِمين في جزيرة صغيرة، وعلى
كل مسلم بأنه عدو العلم والبحث في فطرته، لا يصح على إطلاقه؛ لأنه بعيد عن المنطق، ولا
يتلاءم بحال مع حكمة صاحبه وعلمه الواسع، ونظن رنان وهو يكتب قبل زهاء سبعين سنة، لو
زار بعض البلاد العربية اليوم لغير رأيه في الحكم على المسلمين، ولرأى كثيرًا من عامتهم
قد تحرروا مما سماه تعصبًا أعمى، وألفوا ممارسة الحقائق، وأقبلوا على العلم على اختلاف
ضروبه وكان بعضهم بالأمس ينكرونه ويعقونه.
ومثل ذلك وقع أيضًا لعالم أثري مشهور اسمه كلرمون جانو، حيث قال: «إن المدنية العربية
ليست سوى كلمة خدَّاعة، لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي، وإنها آخر أنوار
المدنية اليونانية والرومانية، طُفئت بأيدٍ خرقاء ولكنها محترمة وهي الإسلام.» كلام غث
في الحقيقة ينم عن جهل بحقائق التاريخ، وإن كان صاحبه الصدر المقدم في علم الآثار،
والغالب أنه شق عليه أن لا يرى العرب يَرِمُّون ما عَوِر من مصانع اليونان والرومان،
فسلبهم حقهم كله من اشتراكهم في خدمة المدنية، وجعلهم في مرتبة الفانداليين في التخريب،
مدفوعًا إلى هذا القول على ما يظهر بعاطفته لا بعقله، وفاته أن معظم آثار من أحبهم من
اليونان والرومان خُربت بعوامل الزمن الأرضية والسماوية، وما كان الإسلام سبب تداعيها
على ما زعم بعض النافخين في بوق التعصب الديني، ورددوا ما طالما أجملوه ثم فصلوه، من
أن
الإسلام كان السبب في انقراض
١٤ الإرث الثمين الذي خلفته بابل وأشور وآسيا الصغرى وسورية وفينيقية فيما
يختص بفن البناء والنحت وما إليه، ولو كان جانو حيًّا اليوم لما أحلناه إلا على ما كتبه
ابن وطنه سيديليو
١٥ قال: وما زال الفرنج إلى الآن ينسبون إلى العرب جميع التخريب الذي يرون
اليوم آثاره في الأقطار التي آغاروا عليها، وقد هوَّلت الفرنج في شأنهم، مع أنهم كانوا
في جميع الوقائع ذوي لطف عند الانتصار، وسبب ذلك ما رسخ في عقول الفرنج من الخوف
والنفرة من العرب، وكانت وجوههم كالحة من حر الشمس وأعينهم مخيفة، هذا مع شدة عدوِ
خيلهم، وغرابة ملابسهم، وتجريدهم سيوفهم، وتكلمهم بلغة لا يعرفها أهل تلك البلاد، لنشر
دين بين هؤلاء النصارى المملوءة قلوبهم بتعاليم أساقفتهم، وكانوا لا يتفوَّهون إلا
بالألفاظ الدالة على العداوة والبغضاء لهؤلاء العرب المنكرين ألوهية عيسى ابن مريم.
ا.ﻫ.
ومن أين لأثري أن يتفهم تاريخ العرب، وتاريخ الإسلام، كما قال لبون: «لم يوفق كثير
من
عظماء المؤلفين إلى فهمه، وما زالوا ينكرون فيه إبداع المدنية التي ولدها الدين.» ولو
كُتب لهذا الأثري أن يحسن التاريخ، لاقترحنا عليه أن يدلنا على الفظائع التي ارتكبها
العرب في فتوحهم، ومعظم ما يبالغ في نسبته إليهم مما تبيحه القوانين الحربية، والرومان
وهم مثال الدولة المدنية بزعمه، أتوا في بضع سنين من أنواع الجور واستعباد الخلق، ما
لم
يأت مثله العرب في القرون الأربعة الأولى، على اتساع رقعة ممالكهم.
وقد أجمع مؤرِّخو الغرب على أن فتح العرب في الأندلس كان أرحم بكثير من فتح الغوط
«الويزغوت»، على أن تخريبات الحروب الدينية في الغرب في سبيل نشر النصرانية لتحل محل
الوثنية، ثم ما نشب هناك من الفتن والغوائل قرونًا طويلة دفاعًا عن حمى الدين، كل ذلك
كانت فظائعه أعظم من كل ما ارتكبته العرب من الفجائع المزعومة، وماذا نعمل وهذا الأثري
كأمثاله، مأخوذ بحب الأحجار ورصفها، لا يثبت على ما يظن لأمة مزية إلا إذا جمعت منها
جبالًا وتلالًا بأية طرق كانت، وما دامت الغاية تبرر الواسطة عنده، فلا يهمه إذا هلك
عشرات الألوف من الخلق إن كان من وراء ذلك إنشاء معبد أو قلعة أو مسلة أو قوس أو طريق
أو مسرح أو ساحة أو حمام.
السبب في قلة آثار العرب
ولقد رأينا الرومان حكموا الشام سبعة قرون وخرجوا منه، وهم لم ينهوا بناء هيكل الشمس
في بعلبك، على كثرة من ساقوهم من الخلق ليعمروه، ومن سوء حظ العرب في الإسلام مع هؤلاء
الناقمين عليه، أن السخرة محظورة في شريعتهم؛ ولذلك كانت مصانعهم مما عمر على الأغلب
بأموال الملوك والخلفاء والأمراء وأهل الخير، فجاءت أعمال أفراد لا أعمال جماعات، ولكل
أمة أسباب قاهرة ليس في مكنتها التفلت من قيودها، ولكل جماعة مصطلح لا تخرج عنه؛ لأنه
ربيب عاداتها وأليف خلقها وروحها.
يقول ابن خلدون:
١٦ إن الهياكل العظيمة جدًّا، لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، والدول
العربية لم يطل عهد حكمها قرونًا، كما كانت آماد أمم القبط والنبط والروم والعرب الأولى
من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة؛ ولذلك لم تقم للمسلمين العرب مصانع عظيمة كأهرام
مصر، وسد مأرب، وإيوان كسرى، تخلد ذكرى ملوكهم، وتنم عن مدى تفننهم في صناعاتهم، ومن
أجل هذا استغنى المسلمون بما وجدوا من مباني غيرهم، وعمروا ما اشتدت حاجتهم إليه بالطرق
المشروعة، ومع هذا كُتب لهم في زمن قصير أن يشيدوا مصانع بلغت من الإبداع مبلغًا تعرفه
العين لأول نظرة؛ لأنها لم تألف رؤية أمثاله، كما قال أحد الفلاسفة المعاصرين، وهناك
شيء آخر: وهو أن بعض مصانع العرب لم تعمر بالحجر الصلد، بل اتُّخذ لها في الغالب الآجر
والقرمد والخشب والأتربة، فكان فعل الطبيعة فيها عظيمًا، ويقول سكريتان:
١٧ منذ استعاض الغرب عن البناء بالخشب، وألف البناء بالحجر، ظهرت مدنه ومصانعه
بمظهر غير مظهرها، وقد أبطأ الشرق في البناء بالحجر خيف الزلازل.
ومن ينكر على الرومان تفردهم بين الأمم بإقامة المصانع العجيبة التي أعجب بها كلرمون
جانو وكثير قبله وبعده من أمم الإفرنج، أحفاد الرومان وورثة مجدهم، ولكن هذا الإعجاب
بما صنعوا لا ينفي أنهم كانوا كاليونان يستبيحون ارتكاب
١٨ كل منكر مع أعدائهم الذين جاهروهم العداء؛ فكانوا لا يتحرجون من قتل العزل
من أسلحتهم ومن بيع الأسرى كالرقيق، ومن نهب المدن وحرق القرى، ومع أن هذا الظلم لم
يرتكب مثله التتر وبرابرة الشمال، فإن المتغني بعدل الرومان واليونان، المأخوذ بالإعجاب
بما تركوا من مصانع وتماثيل، يحاول تمجيدهم في كل شيء بالباطل والحق، حتى ليعتذر عن
ظلمهم وتعذيبهم، ويصورهم كأنهم المثل الأعلى في الإنسانية، والبعد عن الصغائر. ولكل أمة
لو أنصفنا مساوئ ومحاسن، تساوى في ذلك القديم والحديث والصغير والكبير منها.
التهمة بحريق خزانة الإسكندرية
طالت محاولة المتعصبة إلصاق تهمة حريق خزانة الإسكندرية بعمر بن الخطاب، وقد ثبت
لعلمائهم أنفسهم أنها حُرقت قبل الإسلام بقرون،
١٩ ومع ظهور الحق في هذه المسألة، بعد أن لاكتها الألسن كثيرًا، نرى أناسًا
يتخيلون أن في ترديد هذه الأكذوبة على الخليفة الثاني حطًّا من قدره، فيذكرونها عند كل
موقف، ليدلوا على جهل الخليفة، وتصلبه في أفكاره، وتجافيه عن الأخذ ممن سلف من
الأمم.
حُرقت خزانة الإسكندرية غير مرة بأمر الإمبراطورين ثيودوسيوس ويوستنيانوس، وآخر حريق
لها كان قبل الهجرة بمائتي سنة، ذكر جيبون في تاريخ سقوط دولة الرومان أن هذه الفِرية
على المسلمين لفقها أبو الفرج بن العبري في تاريخ مختصر الدول، وذلك بعد الإسلام بنحو
ستمائة سنة، ولم يتعرَّض قبل أبي الفرج مؤرخ واحد لذكرها، حتى إن أفتيكيوس بطريرك
الإسكندرية مع توسعه في الكلام على استيلاء المسلمين على ثغر مصر، لم يذكر كلمة عن حريق
عمرو بن العاص لهذه الخزانة، وقد ذكر أرفنج وكريستون وفلين وغيرهم أن ما أُشيع من مساوئ
الإسلام والمسلمين بهذا الشأن، لم يكن له ذكر قبل نقل كتاب مختصر الدول إلى اللاتينية،
ومن ذلك الحين ابتدأ الغربيون يبغضون المسلمين ويحتقرونهم.
ومن جملة من نقضوا هذه الرواية من علماء الفرنسيس أرنست رنان، وآلبرسيم، وقد قال
رنان
من خطاب له في المجمع العلمي الفرنسي: إن العلم والدين الإسلامي لا يجتمعان، بيد أنه
لا
يعتقد أن عمر هو الذي أحرق خزانة الإسكندرية؛ لأنها أُحرقت قبله بزمن طويل، وكتب إلينا
آلبرسيم ١٤ آب سنة ١٩٠٨: «لشدَّ ما استحكم الوهم التاريخي زمنًا بشأن عمر وخزانة
الإسكندرية، وها هو الآن آخذ بالاضمحلال، أما أنا فقد اغتبطت بما سنح لي من الفرصة،
فكنت من العاملين على مكافحة هذا الوهم، وأثبت بالبراهين التي وصلت يدي إليها ما اعتقدت
أنه هو الحقيقة.» ونص عبارته في كتابه الذي سماه الكتاب Le
Liver، وشكرناه عليها: «ولم تُحرق خزانة الإسكندرية التي قال
بعضهم: إنه كان فيها نحو سبعمائة ألف مجلد على يد الإمام عمر ولا بأمره، كما جاء في بعض
المصادر، فإن هذه الدعوى من الأغلاط التاريخية العظيمة؛ إذ لم يكن أثر لهذه الخزانة
عندما فتحت العرب مدينة الإسكندرية سنة ٦٤٠، وعلى عهد البطالسة أصبح أمر الخزانة إلى
ضعف، فقُسمت شطرين جُعل كل منهما في مكان مستقل، فحُرق القسم الأول قضاءً وقدرًا عندما
استولى يوليوس قيصر على الإسكندرية سنة ٤٧ قبل المسيح، وذهب القسم الثاني وكان جُعل في
معبد سيرابيس على يد الأسقف تيوفيل بعد ذلك التاريخ بأربعمائة سنة، عُقيب الأمر الصادر
عن ثيودسيوس بالقضاء على جميع المعابد الوثنية وجعل عاليها سافلها.»
وقال فوت
٢٠ وأهلويلر في كتابهما «جنايات الأوروبيين»: «إن تيوفيل هو الذي حرق خزانة
الإسكندرية لا المسلمون؛ لأن الدين الإسلامي لا يبيح إحراق الكتب.» وقال مسبرك في كتابه
«الادعاءات الكاذبة»: «إن الإفرنج هم الذين أحرقوا خزانة الإسكندرية، والمسلمون هم
الذين أدخلوا العلم إلى أوروبا.» وقال استيفونس في كتابه «التفكر والأديان»: «أحرقت
أيدي الجاهلين خزانة الإسكندرية، وهي مكتبة مهمة وبفقدانها اضمحل العلم، وبقيت أوروبا
تتخبط في ظلمات الجهالة إلى أن أنارها المسلمون بعلومهم.»
وقال غريفيني من علماء المشرقيات في إيطاليا: بعد أن فتح عمرو بن العاص الإسكندرية
مرت ستة قرون كاملة، لم يُسمع خلالها قول لمؤرخ مسلم أو غير مسلم، يتعرض لاتهام عمرو
بن
العاص بإحراق خزانة الإسكندرية، وينقض هذه التهمة ما اشتهر به عمرو بن العاص من سياسة
التساهل التي جرى عليها، وشهد له بها أشهر المؤرخين النصارى الذين كانوا في عهده،
كيوحنا النيقيوسي في كتابه «تاريخ مصر» الذي وضعه باللغة الحبشية القديمة.
٢١
وقال بونه موري:
٢٢ يجب أن نصحح خطأ شاع طول القرون الوسطى، وهو أن العرب أحرقوا خزانة
الإسكندرية بأمر الخليفة عمر، والحال أن العرب في ذلك العصر كانوا أشد إعجابًا بعلوم
اليونان وفنونهم من أن يقدموا على عمل كهذا، كما أنه معلوم أن قسمًا من تلك الخزانة كان
احترق في أثناء ثورة الإسكندريين التي باد فيها أسطول قيصر، وأن قسمًا آخر أحرقه
النصارى في القرن السادس، واختط العرب الفسطاط وتركوا للقبط ممفيس ولم يتعرضوا لهم في
دينهم وعاداتهم، وأطلقوا لهم الحرية في انتخاب البطريرك وبناءِ الكنائس، وغاية ما أبطل
عمرو من العادات القديمة هو ما كانوا جارين عليه من زمان الوثنيين من رمي فتاة في النيل
كل سنة التماسًا لفيضانه.
وعلى كثرة ما رد المنصفون تهمة حريق خزانة الإسكندرية عن عمر بن الخطاب، لا يزال
فريق
الإثبات مصرًّا على رأيه؛ لأن هذا العمل مما يحط ضمنًا من رجال الإسلام، وهذه فرصة قلما
تسنح للمتعصبين حتى يثبتوا أن الرجل الذي يفاخر المسلمون به هو همجي؛ ولذلك كان ينقلها
الخلف عن السلف بكل أمانة كأنها حقائق، وكأنهم يشيرون إلى أن هذه الخزانة لو سلمت لغيرت
وجه الكون، أما إذا وقع شيء من هذا من جماعتهم كحريق الكردينال كسيمنس كتب المسلمين في
ساحات غرناطة، وكانت ثمانين ألف مجلد على رواية مؤرخيهم، فإنهم يحاولون أن يبرئوه من
هذه الوصمة، ويقللوا من شأن خزائن الكتب التي أحرقتها إسبانيا وكانت عشرات، يوم قضت على
العرب في بلادها في القرن السادس عشر، وصرفت نصف قرن في القضاء على كل أثر لهم، ولولا
تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقُضي على الحضارة العربية التي امتد رواقها على
إسبانيا مدة ثمانية قرون
٢٣ وعفت آثارها، ولا نذكر أننا قرأنا لبعض نقاد الغربيين نبذة في تقبيح ما
فعله الصليبيون يوم غارتهم على طرابلس، أوائل المائة السادسة للهجرة، ويوم أمر صنجيل
بإحراق كتب دار العلم فيها، وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد، ويوم أخذ الصليبيون بعض
ما طالت أيديهم إليه من دفاترها ومن كتب الخاصة في بيوتهم.
وقع الحق من نفوس بعض المستشرقين
وقع لنا أن قلنا مرة في مجلة المجمع العلمي العربي
٢٤ أثناء كلامنا على ما نشره أحد المشتغلين بالمشرقيات من الإسبان من رسالة
سماها: «حديث ذي القرنين»، ونقلها إلى اللغة الإسبانية: «إن هذه الرسالة كبعض الكتب
التي تقل الفائدة من نشرها؛ لأنها لا تؤيد أصلًا من الأصول العلمية أو الدينية، وإذا
كان المقصد أن في الإسلام مثل هذه الحكايات، ويريد أرباب الغايات أن يحملوه إياها
ليحملوا عليه، فإن أهل الفريق الآخر يجيبونهم بأن في خزائنكم من أمثال هذه الأسفار
مئات.» ونصحنا للناشر يومئذ أن يعنى بإحياء كتب ورسائل أخرى للعرب، يأخذها من خزانتي
الإسكوريال ومجريط في بلاده، وبذلك يخدم اللغة والعلم، ويقلل من الخرافات التي تغلغلت
في أحشاء أمته أكثر من كل أمة أوربية، ولما صدر هذا الكلام قام غراتشقوفسكي المستشرق
من
ليننغراد يأسف في مجلة ليترى الدولية
٢٥ لهذا النقد، ويقول: إن من المدهش أن يصوِّب مثل هذا الكلام على ممثل بلاد
أنشأت أمثال ريبرا وآسين، وإن قليلًا من العلماء المحدثين قد عاونوا مثلهما على فهم
مدنية الإسلام، وما فيه من قيمة جوهرية، وإن هذا التقريظ كُتب بلسان مهين لأمة بأسرها
…
إلى آخر ما قال مما لا تأويل له إلا العصبية المذهبية التي تأثر عرقها الحساس، عندما
رأى شرقيًّا يرد غربيًّا إلى الصواب، وتعالى العلم عن أن يكون آلة مصانعة وعصبية، وعبد
شهوات وأهواء.
ونحن إذا لم نوافق بعض المشتغلين بالعلوم الشرقية على منازعهم الخاصة، فليس معنى ذلك
أننا نهينهم؛ فلأصحابنا جولدصهير المجري، ومرجليوث الإنكليزي، ولامنس البلجيكي أقوال
بعيدة عن محجة الصواب في الإسلام، وما حال ذلك دون تقديرهم قدرهم يوم يحسنون، وإذا كان
في الإسبان أمثال ريبرا وآسين اللذين يأتي الناقد الروسي بهما حجة على ارتقاء إسبانيا،
فإن انحطاطها قال به قبلنا عشرات من الباحثين المنصفين، ومنهم بعض مؤرخي الإسبان وعلماء
الاجتماع منهم، وظهور شخصين أو أكثر في أمة لا يقوم دليلًا على أنها وصلت ذروة
الارتقاء، وسلمت نفوس خاصتها وعامتها من الخرافات والسخافات، حاشا طبقة راقية تأخذ
بمذاهب العلم والأدب وتفاخر إلى اليوم بمجد العرب وتاريخهم، وتحرص على إحياء مدنيتهم
ودراستها حرصها على كل علم نافع.
وليت ذاك الرصيف الروسي الذي أخذته العزة بالإثم، واستهجن رأينا، يتلو على الأقل
ما
كتبه في انحطاط الإسبان ألفريد فوليه في كتابه «روح شعوب أوروبا»،
٢٦ إذًا لرآه شعبًا متأخرًا في مضمار العلم والتربية، لا يهتم إلا بالظواهر،
والعجب المفرط من صفاته، والبطالة هجيراه، والاكتفاء بالقليل شأنه، ولساهمنا رأينا بأن
مجموع الشعب المصري أرقى من مجموع الشعب الإسباني، وإن كان هذا أوربيًّا نصرانيًّا،
وذاك إفريقيًّا مسلمًا، ولشاهد أن الإسبان يُضرب المثل بتعصبهم الذي كان منه فساد أمرهم،
٢٧ وقد ابتلوا كما قال ماريفو:
٢٨ بكثلكة ممزوجة بالتخريف والتصوف، تأصلت في أرضهم فأضعفت في منتحليها مادة
العقل والتفكير. وقال كارلي الإيطالي بعد أن ذكر كيف انحط الإسبانيون بسرعة بعد فتوح
أميركا: إنهم أخذوا يحتقرون الأعمال اليدوية، فزاد الشقاء، وكثر التشرد والجرائم، وهذه
علامة انحطاط قيم الأمم، وهذا هو الخراب بجملته وتفصيله.
نعم، لو قرأ الناقد شيئًا مما كُتب في الإسبان لأيقن أن ليس التنافر على أتمه بين
ابن الشمال وابن الجنوب فقط، بل بين أهل المدن المتجاورة، وعلى كثرة تحمس الفرد للوطنية،
لا
تتعدى حماسته أسوار بلده، خلافًا للفرنسيس والإنجليز والألمان والطليان وغيرهم من الأمم
الكبرى، وتاريخ هذه الأمة سلسلة من التعصب الديني الذميم، استعملوا النار والحديد في
الدعاية للدين، واستكثروا من الرهبنات، حتى كان الرهبان إلى أمس الحاكمين المتحكمين في
البلاد، يملكون ثلث أرضها، ويأخذون شطرًا عظيمًا من موازنتها، وجاء زمن كانوا يحظرون
فيه الاستحمام على الناس؛ لأنه يشبه الوضوء عند المسلمين بزعمهم، فكثرت الأمراض
الجلدية، وتعذر على الأطباء أن يصفوا لمرضاهم النظافة والاغتسال؛ مخافة أن يفشوا أمرهم
فيما يقترحون، ويقعوا، بدعوى مروقهم من الدين، تحت طائلة العذاب. وإلى اليوم ينقص القوم
كثير من المبادئ الأولية الشائعة بين الأمم الراقية؛ فتراهم يدخنون في كل مكان خاص
وعام، ويبصقون في القطار والمقهى والنزل والفندق والبيع، على صورة تشمئز منها النفس،
فالقذارة عندهم فاشية، والجهل والتشرد من الأمور المتعارفة، والتواكل والتوكل لا تشبههم
فيهما أمة راقية.
وإذا كانت كل هذه الإشارات لا تكفي لبيان حال الإسبان؛ فاسمعوا ما يقوله لبون: «ساعد
الإسبانيين الاختلاف الطارئ بين العرب؛ فوفِّقوا بعد غارات طويلة إلى تأسيس عدة من
الممالك الصغرى، كانت تتسع رقعتها كل يوم، ولما كُتب للمملكة الإسبانية بعد حروب ثمانية
قرون، أن تستولي على عاصمة آخر مملكة عربية، أي غرناطة، ووحدت ممالك الجزيرة تحت لواء
واحد، ظهرت إسبانيا في الحال في مظهر أول دولة حربية في أوروبا، وكان شارلكان وفيليب
الثاني بعد فرديناند على جانب من المهارة السياسية، وكان القرن الذي انقضى من الاستيلاء
على غرناطة إلى وفاة فيليب الثاني، عهد عظمة لإسبانيا لن ترى مثله، والعرب خلال هذه
المدة بين صعود ونزول، تُركوا وشأنهم في تلك الأصقاع، وكان من تفوقهم العلمي أن أصبحت
لهم مكانة سامية، فكان العلماء وأرباب الصنائع والتجار في البلاد من العرب، وكانت كل
حرفة ما عدا حرفة الراهب والمحارب مما يحتقره الإسبان، وبعد أن فقدت إسبانيا عظماء رجال
الحرب الذين توالى قيامهم على رأسها مدة قرن، ساغ أن يقال: إنها حُرمت القوة الحربية
بهؤلاء، والقوة المدنية بطرد العرب؛ فباد فيها كل شيء، وسرعان ما سرى إليها الانحطاط
بعد طرد العرب وتقتيلهم، وليس في التاريخ مثل إسبانيا شعب انحط إلى مثل هذه الهوة
السحيقة، في مثل هذه المدة القصيرة … هوت في سنين قليلة إلى أحط درجات السقوط، وفقد من
بنيها الحزم والنشاط، حتى آلت بها الشقوة إلى أنها لم تنتفض من عوارضها إلا باستيلاء
الأجنبي عليها، وتخلت عن سلطانها السياسي والإداري والصناعي والتجاري، فكان الفرنسيس
والطليان والألمان وغيرهم، هم الذين يتولون كبر هذا الأمر فيها، جلبت إسبانيا العلماء
وأرباب الصنائع من الخارج، ولكن كيف السبيل إلى إحياء الموتى، فقد ذهبت العرب، وقضى
ديوان التحقيق على كل من كان من الذكاء في درجة فوق المتوسطة، فكان فيها سكان، ولكنها
فقدت الرجال. وكانت جميع كتب الإسبان كتب عبادة وتبتل وزهد، ولم يبقَ فيها كيماوي يعرف
البسائط من هذا العلم، وما كشف أوائل القرن الثامن عشر في الغرب، كان الإسبانيون بمعزل
عنه لا علم لهم به، بل لا علم لأطبائهم بمسألة دوران الدم حتى بعد قرن ونصف من كشفه،
وقد اقترح بعضهم مرة رفع القمامات من أزقة مجريط سنة ١٧٦٠؛ لما كان ينبعث منها من
الأمراض، فقام ديوان الصحة يمانع في رفعها، قائلًا: إن أجدادهم كانوا على جانب من العقل
يعلمون ما يبرمون، وما حاولوا جمع القاذورات قط، وعاشوا وسطها، فعلى أبنائهم أن يسيروا
على مثالهم؛ لأن إزالة الأوساخ قد تحدث منها أمور لا يُعرف ما يكون منها.»
قال: لقد بُذل كثير من المساعي المحمودة، ولما تهب هذه البلاد من سباتها، وإلى اليوم
لا تزال الصنائع والزراعة مفقودة فيها، وأهلها في كل ما يتجاوز القدرة المتوسطة، عيال
على الغريب، فالغرباء يديرون معاملها، وينشئون خطوطها الحديدية، ويأتونها بالميكانيكيين
يسيِّرون قطاراتها، وكل ما فيها من العلم والصنائع هي فيه حكرة للأجنبي، ومهما بلغت
حكومة من قوة فيها، فهي عاجزة أمام هذه الحال، وما من بلد يحكم بغير رأي أهله، ومهما
بلغ من انحطاط الحكومة في إسبانيا فالشعب فيها أحط. إسبانيا أحرزت ظواهر خارجية من
المدنية، وليس فيها غير الظواهر، والجهل ضارب سرادقه فيها، على نحو ما كان في القرون
الوسطى، وإذا عاد ديوان التحقيق الديني إلى عمله، يجد اليوم الاستعداد له في كل طبقات
الأمة. ا.ﻫ.
وقال لبون
٢٩ أيضًا: «تُقدَّر أخلاق كل شعب بما رُزق من أخلاق خاصة؛ فإذا كان ستون ألف
إنجليزي يُخضعون لسلطانهم ثلاثمائة مليون هندي يساوونهم في الذكاء، فذلك بفضل صفات خاصة
في الفاتحين، وإذا كان الإسبان لم يستطيعوا أن يأتوا غير الفوضى في الولايات اللاتينية
في أميركا، فذلك لنقص في أخلاقهم.»
قال: «وإذا كانت جزيرة كوبا تحت حكم الإسبان لم ترَ مدة ثلاثة قرون غير الظلم والفوضى
وإهراق الدماء حتى أقفرت، وانقلبت في بضع سنين تحت حكم الأميركان جنة أرضية، فذلك
لتفوُّق العنصر الأميركي، وصلاحه للبقاء وإعمار الأرض، أكثر من الإسبان.» ثم إن تاريخ
كل أرض حلها الإسبان وطردوا منها — وما أوسعها في أوروبا وأميركا وغيرهما — حلقة من
المظالم والمغارم لا يتصورها العقل.
هكذا يقول من يكتبون للحقيقة والتاريخ، أمثال الفيلسوفين المحدثين فوليه ولبون، أما
ذاك الروسي المتحمس للإسبان فلا يرضيه إلا أن نصانعهم ونعترف برقيهم؛ لأنهم خرج منهم
فلان الباحث، ولكن فوليه يقول: إن إسبانيا لم تُخرج إلى اليوم فيلسوفًا يُذكر، بل أخرجت
رجالًا نصفهم فلاسفة ونصفهم لاهوتيون. وقال غيره: إنها لم تنشئ مؤرخًا واحدًا، وذلك أنك
بينا ترى مؤرخهم يسرد تاريخه، إذا هو شاعر يخطب، وأديب يبالغ، ومع عادة صراع الثيران
المألوف عندهم، على ما كانت عادة إحراق المتهم بدينه بالنار، لا ترق حاسة ولا يرتقي
شعور، ولا يتأتى من عادة صراع الثيران إلا التوحش الممقوت، وما كان التلذذ بإهراق الدم
ضروريًّا في تخريج الأبطال، حكم بوكل المؤرخ الإنجليزي على الإسبانيين حكمًا شديدًا،
قال: «لم تبرح إسبانيا في سباتها، تنام هادئة لا همَّ لها، ولا ألم يساورها، غير متأثرة
بالعوامل الخارجية، ولا بما يحدث في العالم من مظاهر الرقي، فهي تنزل هناك في طرف
القارة الأوربية كتلة عظيمة لا حركة فيها، حتى صح أن تصور بأنها آخر ممثل لشعور القرون
الوسطى وأفكارها، ومن مؤسف المظاهر فيها، أنها راضية عن حالتها، فهي أحط أمة في أوروبا،
وتعتقد نفسها أرقى أمة، تفاخر بكل ما كان عليها أن تخجل منه، كثيرة الاعتداد بعتيق
آرائها، واستقامة دينها، وصحة يقينها، معجبة بأمور شتى بسذاجتها التي تشبه سذاجة
الأطفال، وبكراهتها وتحسينها معتقداتها وعاداتها، تعتز ببغضها للملاحدة، وبانتباهها
الدائم الذي به قضت على كل المساعي التي بذلها من أرادوا النزول فيها.»
ومع كل هذا وذاك، يريدنا الأديب الروسي أن نسكت عمن يسيء؛ لأن هناك من يحسن، فسبحان
من قسَّم العقول!
اليسوعيون والدعوة إلى تآلف الإسلام والنصرانية
وبعد، فإن من أعظم العابثين بتاريخ المسلمين، المنكرين أثر العرب في الحضارة، جماعة
يدعون إلى النصرانية، وقد جعلوا همهم الأكبر في دعوتهم تشويه بعض الحقائق الثابتة،
فنازعونا حتى في البديهيات، وأملوا ولا يزالون يملون علينا ضروبًا من إفكهم، تفننوا في
تنويع أساليب دعوتهم، وأصحاب هذه المفاخر من أهل البلاد، قلما حدَّثتهم أنفسهم في كف
عاديتهم، نسي دعاة التفريق أنهم دخلاء في بلاد لم يبرح سلطان الإسلام فيها متفوقًا،
وجهلوا أنها أحسنت وِفادتهم، أو لم تضق بهم ذرعًا كما ضاقت بهم مواطنهم الأصلية،
فطُردوا منها مرات، فكان جزاؤها منهم أن قابلوها بمصادرة عواطفها، وأغلظوا القول في
دينها ونبيها ومدنيتها، على حين تجهم لهم حتى أبناء نحلتهم، وكانوا أحق من غيرهم
بالتسامح معهم، ومنهم، بل من المقدمين فيهم، مؤلف اسمه لامنس، عاهد تاريخ الإسلام على
مناقضته، وتمحض للحط من قدر العرب منذ عُرفوا بين الأمم، وإليكم أمثلة مما يجنيه على
الحقائق، تعرفون منها افتئاته على العلم، بحيث تخجل من عبثه حتى أرباب الوجوه الصفيقة.
٣٠
من الكتب المهمة التي تُنشر تباعًا في مدينة ليدن الهولاندية بلغات العلم الثلاث:
الفرنسية والألمانية والإنجليزية، كتاب «معلمة الإسلام Encyclopédie de l’Islam»، وتُعد هذه المعلمة، بما ضمنت لها من مؤازرة أعاظم
الباحثين من علماء المشرقيات، من أجمع ما كُتب على الإسلام وأصول أهله وبلدانه
وتقويمها، عمل جليل، لم يخلُ، ويا للأسف، وجهه الجميل من تشويه قليل أتاه ذاك الذي ينظر
إلى الإسلام أبدًا بعيون البغيض، وأعني به لامنس، فأساء إلى الحقيقة في مقالاته، ظانًّا
أن هذه المعلمة أيضًا بوق دعاية مذهبية، وأن على الداعية أن يحتال لبث دعوته، ولو خان
الواجب عليه في عمل آخر وسِّد إليه.
ولقد نسي لامنس هذا وبعض جماعته أمورًا، كان من الحري بكل من يشتغل بالعلم أن يجعلها
قيد نظره؛ نسوا أو تناسوا المتحتم عليهم من أمانة العلم، فأخذوا منذ ألقوا رحالهم في
الشرق، يحرِّفون آيات القرآن، ويحذفون من كتب المسلمين ما لا يروقهم، يخلطون
٣١ الآيات بأبيات من الشعر، ويجعلون الأحاديث النبوية من كلام بعضهم، حتى إنهم
لا يذكرون الرسول عليه السلام بما ينوه من شأنه بزعمهم، وما تحرجوا قط من اقتطاع جملة
واحدة من نص طويل، ليبنوا عليها ما يتخيلونه نافعًا لغرضهم، يوردون الخرافات المنقولة
بصيغ التضعيف، حتى في كتب الوضاعين والقصاصين، ويدعون مع هذا أنها منقولة من كتب الثقات
الأثبات، وقد انتبه بعض النابهين من علماء المشرقيات، وأشاروا على أولئك الناشرين أن
لا
يحرفوا نصوص المؤلفين من العرب؛ لرغبة الناس في أن يقفوا على ما قاله المؤلف بنصه في
الدهر الغابر، لا أن يقرءوا مختصرات وافقت رأي ناشر كتابه، فجاء بها مهزعة منقوصة في
العهد الحاضر.
ألَّف لامنس
٣٢ تاريخًا مختصرًا لسورية لم يذكر فيه للإسلام ولا للعرب محمدة مدة ثلاثة عشر
قرنًا ونصف قرن، ومما أورد فيه من الأفكار المضحكة، أن العربي أثبت في فتوحه أنه جبان
ضعيف في الجندية، لا يفكر في غير المغانم، وأن العرب ظهروا كما كانوا على عهد الرسول
وسطًا في القتال، وعلى استعداد للنهب، يحجمون أمام الخطر، وأنهم تركوا لسكان البلاد
الأصليين محاكمهم ولسانهم وأنظمتهم البلدية عجزًا منهم لا تسامحًا، وأن العرب لا قابلية
لهم لشيء من أسباب الحضارة، بل الفضل كل الفضل لأولئك المتفسخين في فارس والعراق والشام
ومصر وغيرها من الأقطار التي افتُتحت، وأن الحروب الصليبية وقائع البسالة، وأن
الصليبيين كانوا عجبًا بأنظمتهم وترتيباتهم، وتعامى عما ذكره مؤرخو الصليبيين أنفسهم
من
فجورهم وخبثهم ولصوصيتهم، وادعى أن محاسنة صلاح الدين للصليبيين كانت عجزًا وخوفًا، أي
إن إبقاءه على الصليبيين يوم فتح القدس، كان لضعف فيه، فلم يعاملهم كما عامل الصليبيون
المسلمين، يوم كانوا هم الفاتحين للقدس، بأبشع ضروب القسوة والعذاب، وقبح عهد صلاح
الدين، وقال: إنه كان قليل البهاء، ووصفه بأنه طماع، على حين قد ثبت أن هذا الطماع، بعد
أن فتح ما فتح من الممالك الغنية لم يخلف دارًا ولا ملكًا ولا مالًا، وكثير من المدارس
والرُّبُط والجوامع وأساليب العمران في بلاد الشام ومصر، وبعضها باقٍ إلى الآن، هو مما
عمره من سهمه من الغنيمة، ولم يرضَ أن يُنسب إليه، فعُزي إلى قواده ومماليكه، وكان
رجاله يخفون عنه ما في خزائنه من النقد؛ لئلا ينفقه في وجوه المبرات والإحسان، والبلاد
محتاجة إلى المال تنفقه في مصالح الدولة.
وادعى أن اليهود عوملوا في عهد الحروب الصليبية في الغرب معاملة حسنة، وأنهم كانوا
ممتعين بحقوق الوطنيين عند الصليبيين، مع أن سيوف هؤلاء حصدت أولئك المساكين، وحلت بهم
عجائب من ضروب العذاب لأخذ أموالهم، مما فصله مؤرخو الغرب أمثال كونده، وريناخ،
وسيديليو، ودي كاستري، ولافيس، ورامبو، فقالوا: إن النصارى أيام الحروب الصليبية ما
دخلوا بلدًا إلا وأعملوا السيف في يهوده ومسلميه، وذلك يدل على أن اليهود إنما وجدوا
مجيرًا وملجأً في الإسلام، فإن كان لهم باقية حتى الآن في الغرب فالفضل فيه يرجع
لمحاسنة المسلمين ولين جانبهم.
وهكذا يوغل هذا المؤلف المضلل في الحط من قدر العرب والإسلام، يحاول بكل ما لديه
من
قوة أن يسلبهم مجدهم الأقعس،
٣٣ يقول: إن العربي وسط في الجندية، ولكن هذا الوسط فتح من الممالك ما عجز عنه
أشجع الأمم وأكبرها استعدادًا، وقال: إن العرب لا قابلية فيهم لشيء من مشخصات المدنية،
والتاريخ شاهد على أنهم علَّموا العالم القديم، ونقلوا إليه ما لم يعرفه، وأتوا من
الأعمال النافعة ما لا يزال العدو قبل الصديق يعترف به، ولكن هذا المؤلف لا يعترف لهم
بمنقبة، وبحق ما وصفه العالم «دينه» بأنه في علم المشرقيات كبطرس الناسك في الحروب
الصليبية، جهز بهمة لا تعرف الملل، صليبية دعية في العلم، طمعًا بصرع الإسلام صرعة لا
قيام منها. وقال درمنغم في كتابه «حياة محمد»: «إن كتب الأب لامنس الجيدة قد شُوهت
محاسنها بما بدا في تضاعيفها من كراهة الإسلام ورسوله، فاستعمل في التاريخ طرقًا بالغ
فيها بالنقد، وبعض المؤلفين يعمد إلى مثلها للغض من النصرانية إلخ.» ونحن قد طالعنا
أكثر ما كتب هذا المتعصب بالعربية والفرنسية، فما رأيناه غلط مرة واحدة فأنصف العرب
ومدنيتهم، أو دوَّن لهم أقل حسنة، ولو كان يكتب في وحوش السودان، لاستحى منهم يومًا،
وذكر لهم ولو بعض ما يُستحسن من عاداتهم ومصطلحاتهم.
ومثل لامنس كان صنوه وزميله لويس شيخو، ضرب على نغمة واحدة طول حياته، ولم يألُ جهدًا
في جميع تآليفه في إثبات دعواه أن العرب قبل الإسلام وبعده لا شأن لهم في المدنية، وإذا
كان هناك من حضارة فبنوا بجدتها نصارى العرب، وقد لفق كتابًا طويلًا
٣٤ ادعى فيه أن معظم شعراء العرب قبل الإسلام كانوا نصارى، وبراهينه على دعواه
أوهى من بيت العنكبوت، وهناك طائفة من المتظاهرين بعداء الإسلام وحضارته، يضربون في
النصرانية والإسلام ومقصدهم الحقيقي الحط من الإسلام فقط، مثل: مارتن هارتمان الألماني؛
فقد كتب إلينا منذ سنين يقول: إن الإسلام والنصرانية
٣٥ حاولا أن ينشئا مجتمعًا يقوم بالدين وحده، ليكون أهل الشهادة بذلك الدين
ظاهرين على الدين كله إلا أنهما لم ينجحا، وتوسع في هذا السخف، فقال: إن دعوى تفوُّق
٣٦ الإسلام على الشعوب الصينية خيال لا يتأتى منه إلا خراب المسلمين وشقاؤهم،
وإذا ساعدت الأحوال على صورة غير منتظرة وتحققت أماني المسلمين هناك ولو مؤقتًا، فسيلحق
من ذلك بلاد الصين ضرر عظيم؛ لأن الإسلام ليس دين مدنية، والإسلام قبل كل شيء عدو
المدنية الإفرنجية، وصلاح الصينيين بالمدنية الغربية. وهارتمان كلامنس «وقف عمره
٣٧ على مجادلة الإسلام وأسلس في هذا السبيل العنان لهواه وإحنة صدره.»
هذه أمثلة طفيفة من منازع الناقمين على العرب والإسلام، أثرناها؛ لأنها أثارت على
النفوس الساذجة براكين التعصب الديني، فضربت الحقائق في محياها فأدمته، وعملت على تفريق
أجزاء النفوس بين شعوب عاشوا وتعاشروا وتعاملوا قرونًا، والحب جامعتهم، والإخاء مؤلف
بين قلوبهم، وسماحة دين الغالب تمتع المغلوب بحريته، ومن المؤلم للنفس أن تحمل الحضارة
الجديدة روح العصبية المذهبية، وأن يجزل حظنا من تجهمنا لغيرنا، وتجهم غيرنا لنا، كلما
بعدنا عن الأمية، واستزدنا من نعمة العلم، والتحلي بحلي المدنية، وأن يأتي على العرب
حين من الدهر، وهم وحدهم الأمة الرشيدة المتفردة بين أمم العالم، ولا تعبث بمقدسات
مخالفيها، بل تبقي عليها وتحترمها، وتعامل أهلها بالحسنى وزيادة. وفي وصايا الخلفاء
الراشدين، فمن بعدهم من بني أمية وبني العباس بأهل الذمة ما يقطع ألسن المفتاتين، ويفقأ
حصرمًا في عيون المغتابين والعيابين، ولو كان المسلمون كما تحاول متعصبة الغرب أن
تصورهم، لما بقي في الشرق القريب دين يخالف دين الإسلام، ولا معبد يُنادى فيه بغير كلمة
الشهادة، وغاية رجاء العقلاء اليوم كما قال محمد عبده: أن تصبح الملتان العظيمتان
النصرانية والإسلام، وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا
معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين.