أصول الشريعة وتأسيس المذاهب
كان خاصة الصحابة علماء بالشريعة، أخذوا علمهم عن الشارع الأعظم، فتعلموا القرآن،
وتلقنوا السنة بطول الاختلاط بصاحبها، أو بالرواية الصحيحة عن ثقات الناقلين عنه،
والقرآن معدن الأحكام، وهو المرجع الوحيد الذي لا يختلف فيه اثنان من أهل القبلة،
والسنة مفسرة له، وهي مجموع ما صدر عن الرسول ﷺ من قول، أو عمل، أو تقرير،
والعبادات تُعلم بالعمل يعرفها الخاص والعام، وإذا أشكل فيها أو في المعاملات شيء رُجع
إلى العارفين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والقضاة الذين يوليهم الخليفة،
وكانوا يدعون القضاء حكومة.
كانوا إذا عرض لهم حادث يضطرون إلى القضاء فيه، يحكمون العقل واللغة لتفهم الشرع
واستنباط ما لا يجدون فيه نصًّا صريحًا، ولا معول لهم إذا اختلفوا في شيء على غير هذين
الأصلين الكتاب والسنة، وكان الممتازون من الصحابة وغيرهم في هذا الضرب من العلم يعرفون
أنفسهم ويعرفهم الناس، وهم المرجع في القضاء والفُتيا بين المؤمنين، في مصالحهم الدينية
والدنيوية، يبعث الرسول ثم الخلفاء من بعده بأقضى القرَّاء إلى الأمصار، يحكمون بين
الناس ويعلمونهم دينهم. ولم تخلُ بلدة من البلاد التي دخلها الإسلام من نزول بعض
الصحابة المدركين فيها، كانوا لأهلها منارًا، وعلى الشريعة أمناء، وفي الدعوة إلى الدين
مؤمنين صادقين، يقرءون القرآن، ويعلِّمون الشرائع والأحكام، وإذا لم يجدوا نصًّا صريحًا
في القرآن، ولا نصًّا معتمدًا من السنة، يعمدون إلى القياس أو الرأي.
يقول ابن تيمية:
١ ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها، فإنه لما فُتحت
البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما
تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه؛
إذ هم أصل الإجماع فلا إجماع قبلهم. ثم ذكر كيف كان التابعون يقضون بالكتاب والسنة وبما
قضى به الصالحون، قال: وهذا هو القضاء وهذا هو الصواب. ولما بعث الرسول معاذ بن جبل إلى
اليمن قال له: «بمَ تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن
في كتاب الله؟ قال: أقضي بما قضى به الرسول. قال: فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟ قال:
أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب صدري وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما
يرضي رسول الله.»
وكان الشيخان يسألان أصحابهما إذا أرادا أن يبتَّا برأيهما في أمر أشكل عليهما، وكتب
عمر إلى قاضيه شريح: «أما بعد إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقضِ به، ولا يلفتنك عنه
الرجال، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله فاقضِ بها، فإن جاءك أمر
ليس في كتاب الله ولم يكن في سنة من رسول الله، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن
جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر
أي الأمرين شئت، إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم، وإن شئت أن تأخر فتأخر، ولا أرى
التأخير إلا خيرًا.» ا.ﻫ. وأراد عمر قاضيه أن يترك أمدًا للخصوم علهم يتصالحون، ومما
أُثر عنه قوله: «ردُّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين
الناس.»
ولعمر كتب كثيرة صدرت عنه في القضاء وغيره، ومما أبقته الأيام كتابه إلى أبي موسى
الأشعري (عبد الله بن قيس) وإليكه بنصه المعجب الذي لم تبلِ الأيام جِدَّته: «بسم الله
الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام
عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، وأنفذ إذا
تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آسِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى
لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من
أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا، أو حرَّم حلالًا، ولا يمنعنك
قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهُديت لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم،
ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهمَ الفهمَ فيما تلجلج في صدرك، مما ليس في
كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقسِ الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى
أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل للمدعي أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت
له
بحقه، وإلا استحللت عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على
بعض، إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا في ولاء أو نسب، فإن الله
تولى منكم السرائر، ودرأ بالبينات والأيمان. وإياك والغَلق
٢ والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق
يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه، كفاه الله ما بينه
وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله، فما ظنك بثواب
الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام.»
وكتب إلى أبي عبيدة: «أما بعد فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسي فيه خيرًا، الزم
خمس
خلال يسلم لك دينك، وتحظَ بأفضل حظك: إذا حضرك الخصمان فعليك بالبينات العدول، والأيمان
القاطعة، ثم أدنِ الضعيف حتى ينبسط لسانه، ويجترئ قلبه، وتعاهد الغريب فإنه إذا طال
حبسه ترك حاجته، وانصرف إلى أهله، وإذا الذي أبطل حقه من لم يرفع به رأسًا، واحرص على
الصلح ما لم يتبين لك القضاء والسلام عليك.» وكتب إلى معاوية وغيره بهذا المعنى.
فعمر هو الذي وضع أساس النُّظُم الإسلامية في القضاء ونهج طريقه، وبقدر ما يحدث للناس
من حوادث كانت تتفرع المسائل، ولكنه «لم يوضع
٣ للتشريع أسلوب مقرر لا يجوز تعديه، فترك لكل ناظر الخيار في انتخاب أسلوبه،
فلذلك تخالفت أساليبهم إلى حد بعيد، وأشد ما تكون تخالفًا بين أصحاب الرأي والقياس،
وكانوا يرون أن القياس أولى بالاتباع من الأحاديث التي رواتها الآحاد، ولم يصح عندهم
من
الأحاديث التي رواتها جماعة، أي المتواترة التي لا عذر لأحد في الشك فيها، إلا بضعة عشر
حديثًا.» وذم علي بن أبي طالب اختلاف العلماء
٤ في الفُتيا بقوله: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها
برأيه، ثم تُرد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك
عند الإمام الذي استقضاهم فيصوِّب آراءهم جميعًا، وإلههم واحد، ونبيهم واحد وكتابهم
واحد.» وقال في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل: «وإن أظلم عليه أمر اكتتم
به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج المواريث»، «وانتشرت
٥ أحكام علي وفتاويه، ولكن الشيعة أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه؛ ولهذا
تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتاواه إلا ما كان من طريق أهل
بيته، وأصحاب عبد الله بن مسعود كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم.»
والواقع أن الصحابة كانوا يعملون «بمقتضى
٦ ما يغلب على ظنونهم من المصلحة، ولم يقفوا مع موارد النصوص حتى اقتدى بهم
الفقهاء من بعد، فرجح كثير منهم القياس على النصوص حتى استحالت الشريعة وصار أصحاب
القياس أصحاب شريعة جديدة.» (كذا) وقد كان رسول الله يخالَف فلا ينكِر، ولا يرى بأسًا
فيما كان به مصلحة لله والملة؛ فقد خالفه عمر في أخذ الفداء من أسارى بدر فرجع إلى
تصويب رأيه، وأراد الرسول أن يصالح الأحزاب على ثلث تمر المدينة فيرجعوا عنه فأتى سعد
بن معاذ وسعد بن عبادة فخالفاه فرجع إلى قولهما، وقال لأبي هريرة: اخرج فنادِ في الناس:
من قال لا إله إلا الله مخلصًا بها قلبه دخل الجنة، فخرج أبو هريرة فأخبر عمر بذلك،
فدفعه في صدره حتى وقع على الأرض، فقال: لا تقلها فإنك إن تقلها يتكلوا عليها ويَدَعُوا
العمل، فأخبر أبو هريرة الرسول بذلك، فقال: لا تقلها ودعهم يعملون، وأسقط الصحابة سهم
ذوي القربى وسهم المؤلفة قلوبهم، وعملوا حد الخمر اجتهادًا ولم يحد الرسول شاربي الممر،
وقد شربها الجم الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم.
يقول السرخسي: إن «مرجع
٧ الناس في أمر دينهم ودنياهم كتاب الله وسنة رسوله، فإذا اشتبه عليهم أمر من
الأمور رجعوا إلى الخلفاء وفقهاء الصحابة واستخاروا الله فيه، واستظهروا باجتهادهم
رأيًا عملوا به، وقد كانوا لا يكتبون أقوال النبي وفتاوي الصحابة خشية أن يجرهم ذلك إلى
الاعتماد على الكتب، وإهمال حفظ القرآن الكريم والسنة، ولأن الكتاب عرضة للضياع
وللتصحيف والتحريف.» ولما «تعددت المذاهب وكثرت الأقوال والفتاوى، والرجوع فيها إلى
الرجال والرؤساء، ومات أكثر الصحابة، فخافوا أن يعتمد الناس على رؤسائهم ويتركوا سنة
رسول الله فدونوا الحديث.»
وحُفظت الفتوى
٨ من أصحاب الرسول عن مائة ونيف وثلاثين نفسًا ما بين رجل وامرأة والمكثرون
منهم سبعة؛ عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وزيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر. وكان الناس
في
عصر التابعين يكرهون الخوض بالرأي ويهابون الفُتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون عنها
بدًّا، وكان أكبر همهم رواية الحديث، واختلفت مذاهب الأصحاب وأخذ عنهم التابعون كذلك
كل
واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من الحديث ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما
تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال، فعند ذلك صار لكل
عالم من علماء التابعين مذهب على حياله، والقول بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله
والحكاية له والتفقه على مذهبه، لم يكن معهودًا للناس في القرنين الأول وصدر الثاني،
ثم
حدث فيهم شيء من التخريج ولم يكن أهل المائة الرابعة مجتمعين على التقليد الخالص على
مذهب واحد والتفقه له والحكاية لقوله، وكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد ولا
يُسمى الفقيه إلا مجتهدًا.
وكان الخلفاء الراشدون أئمة مهديين فقهاء في الأحكام،
٩ مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرًا في
وقائع لا يُستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا إليها، وكانوا
يتدافعون الفتاوى، وما تعلق بأمور الخلق في الدنيا، فلما أفضت الخلافة إلى أقوام تولوها
بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى
استصحابهم في جميع أحوالهم، لاستفتائهم في أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من
هو مستمر على الطراز الأول، مواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طُلبوا هربوا
وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولي القضاء والحكومات، وكانوا يستقضون
أنفذ الناس وأعلمهم وأحلمهم، والذين كانوا يتدافعون الفتاوى، ويتحرجون من تولي الأحكام
الشرعية، كان مرماهم أن يربأوا بدينهم عن أن يتورطوا في حكم لا ترضى عنه أنفسهم،
ويخافون مغبته على الإسلام والمسلمين؛ لما ورد عن الشارع الأعظم من الوعيد لمن جُعل
قاضيًا، وحكم بغير العدل. وكان القضاة لا يستغنون أن يجلس إليهم بعض العلماء يقومونهم
إذا أخطأوا.
لما قدم مروان
١٠ مصر سأل عن القاضي فقيل: هو عابس بن سعيد فدعاه، فقال: «أجمعت القرآن؟ قال:
لا. قال: فتفرض الفرائض؟ قال: لا. قال: فتكتب بيدك؟ قال: لا. قال: فبم تقضي؟ قال: أقضي
بما علمت، وأسأل عما جهلت. قال: أنت القاضي.» و«كانت
١١ القراءة والفقه والتفسير والحديث في أول الإسلام علمًا واحدًا، فجعلت تتميز
على توالي الأيام، إلى أن أصبح كل علم مستقلًّا عن أخيه، فلما استقل الفقه سُمي أصحابه
الفقهاء، وكانوا قبلًا يُسمون بالقراء، تعظيمًا لشأن القراءة التي كان يجهلها العرب في
أول أمرهم.» ولما تم تأثير الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين في البلدان
التي نزلوها «أتى بعد
١٢ التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك وغيرهما، فاتبع أهل كل مصر مذهب
فقيهه في الأكثر، ثم قضت أسباب بانتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها، وبانقراض
بعضها، فلم يطل العمل بمذهب الثوري والبصري لقلة أتباعهما، وبطل العمل بمذهب الأوزاعي
بعد القرن الثاني، وبمذهب أبي ثور بعد الثالث وابن جرير بعد الرابع، كما انقرض غيرها
من
المذاهب، إلا الظاهري فقد طالت أيامه وزاحم الأربعة، بل جعله المقدسي في أحسن التقاسيم
رابع المذاهب في زمنه، أي في القرن الرابع بعد الحنبلي، وذكر الحنبلية في أصحاب الحديث،
وعده ابن فرحون في الديباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه، أي في القرن الثامن،
ثم درس بعد ذلك ولم يبقَ إلا الأربعة، ومذاهب أخرى خاصة بطوائف من المسلمين لا يعدها
جمهورهم من مذاهب أهل السنة.» وتأصل مذهب مالك والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة بسلطان
تلاميذهم وأنصارهم، وراح كل ملك يحرص على نشر مذهبه، إذا مُكِّن له في الأرض، بادر
الناس إلى الأخذ بمذهبه، وحرصوا على اتباع ملكهم أو أميرهم حرصهم على اتباع إمامهم.
يقول ابن حزم: إن مذهبين انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: الحنفي بالمشرق،
والمالكي بالمغرب.
والاختلاف بين أهل هذه المذاهب لا يتعدى الفروع، أما الأصول فكل أهل القبلة متفقون
عليها. ويقول ابن القيم: إن الصحابة تنازعوا في كثير من الأحكام ولكن لم يتنازعوا في
مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي تتعلق بالإيمان، وصرح
الذهبي
١٣ أن بعض الصحابة كفر بعضهم بتأويلٍ ما، والله يرضى عن الكل ويغفر لهم فما هم
بمعصومين، وإن الصحابة بساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات،
فما كاد يسلم أحد من الغلط، لكنه غلط نادر لا يضر أبدًا؛ إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه
العمل، وأما التابعون فيكاد يُعدم فيهم من يكذب ولكن لهم غلط وأوهام، وكان المسلمون
كلمة واحدة في أبواب العدل
١٤ والتوحيد والوعد والوعيد وفي سائر أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع
الفقه كميراث الجد مع الإخوة، والأخوات مع الأب، والأم مع الأب، وكمسائل العدل والكلالة
والرد وتعصيب الأخوات من الأب والأم، أو من الأب مع البنت أو بنت الابن، وكاختلافهم في
جر الولاء وفي مسألة الحرام ونحوها، وأهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث وفقهاء
هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم، ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة
في توحيد الصانع، وفي النبوة والإمامة، وفي أحكام العقبى، وفي سائر أصول الدين، وإنما
يختلفون في الحلال والحرام من فروع الأحكام.
ولقد خالف ابن عباس عمر وعليًّا وزيد بن ثابت وكان أخذ عنهم، وخالف كثير من التابعين
بعض الصحابة وإنما أخذوا العلم عنهم، وخالف مالك كثيرًا من أشياخه، وخالف الشافعي وابن
القاسم وأشهب مالكًا في كثير من المسائل. قال ابن الأزرق وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي
وقال: لا أحد أمن عليَّ من مالك كاد كل من أخذ العلم عنه يخالفه بعض تلامذته في عدة
مسائل، وما عد ذلك من سوء أدب التلميذ مع شيخه ولا من الخروج عن مراجعة الحق الذي
توزعته عقول الناس، ونال كل منهم قسطًا منه.
والغالب أن العارفين كانوا حتى في القرن الثاني غير راضين عن هذا الاختلاف، ويرون
وضع
كتاب جامع يرجع إليه رجال القضاء وغيرهم، تخفيفًا على القضاة، وتيسيرًا للمتقاضين، وقد
كتب ابن المقفع إلى الخليفة المنصور على الأرجح يقول له
١٥ من كتاب: «ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (البصرة
والكوفة) وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ
اختلافها أمرًا عظيمًا في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما
يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة، فيُستحل في ناحية منها، ويُحرم
في ناحية أخرى، غير أنه على كثرة ألوانه نافذ في المسلمين في دمائهم وحرمهم، يقضي به
قضاة جائز أمرهم وحكمهم، مع أنه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق
إلا قد لج بهم العجب بما في أيديهم، والاستخفاف ممن سواهم، فأقحمهم ذلك في الأمور التي
يشنع بها من سمع من ذوي الألباب.»
«أما من يدعي لزوم السنة منهم، فيجعل ما ليس له سُنَّة سُنَّة، حتى يبلغ ذلك منه إلى
أن يسفك الدم بغير بينة، ولا حجة على الأمر الذي يزعم أنه سنة، وإذا سُئل عن ذلك لم
يستطع أن يقول: هريق فيه دم على عهد رسول الله ﷺ أو أئمة الهدى من بعده، وإذا
قيل له: أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون، قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو
أمير من بعض أولئك الأمراء، وأما من يأخذ بالرأي فيبلغ به الاعتزام على رأيه أن يقول
في
الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولًا لا يوافقه عليه أحد من المسلمين، ثم لا يستوحش
لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأى منه لا يحتج بكتاب ولا سنة، فلو رأى
أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية والسير المختلفة، فتُرفع إليه في كتاب، ويُرفع معها
ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك وأمضى في كل قضية رأيه
الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه، وينهي عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك كتابًا جامعًا،
لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكمًا واحدًا صوابًا، ورجونا
أن يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك
من
إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله.»
«فأما اختلاف الأحكام فإما شيء مأثور عن السلف غير مجمع عليه، يدبره قوم على وجه،
ويدبره آخرون على وجه آخر، فينظر فيه إلى أحق الفريقين بالتصديق، وأشبه الأمرين بالعدل،
وإما رأي أجراه أهله على القياس فاختلف وانتشر ما يغلط في أصل المقايسة، وابتداء أمر
على غير مثاله، وإما لطول ملازمته القياس، فإن من أراد أن يلزم القياس ولا يفارقه أبدًا
في أمر الدين والحكم وقع في الورطات، ومضى على الشبهات، وغمض على القبيح الذي يعرفه
ويبصره، فأبى أن يتركه كراهة ترك القياس، وإنما القياس دليل يُستدل به على المحاسن،
فإذا كان ما يقود إليه حسنًا معروفًا أُخذ به، وإذا قاد إلى القبيح المستنكر تُرك؛ لأن
المبتغي ليس غير القياس يبغي، ولكن محاسن الأمور ومعروفها، وما ألحق الحق
بأهله.»
والأرجح أن هذه الرسالة أثرت في المنصور فكانت له يد طولى في سبيل التدوين، فحمل
الفقهاء والمحدثين على تدوين ما وصل إليهم، فأصبح للناس مراجع معتمدة يرجعون إليها،
وقلت الفوضى بعض الشيء، ودخلت الأحكام في نظام. روى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس
قال: لما حجَّ المنصور قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتُنسخ، ثم
أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه
إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا
أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدعِ الناس وما اختار أهل
كل بلد منهم لأنفسهم. ا.ﻫ.
وعلى هذا لم توحد مذاهب البلاد، ولو تم ذلك لاستراح الناس، وحصروا الجهد في جهة
معينة، وقل الأخذ والرد، وبطل انتصار كل واحد لمذهبه وإمامه، مما أدى إلى فتن سنلم بها
عما قريب، وآخر من وقعت إلينا سيرته من أصحاب السلطان الذين عرفوا مضار هذه الاختلافات،
والشرع واحد والأصل واحد، الوزير ابن هبيرة من علماء الحنابلة، رأى هذا الاختلاف بين
الفقهاء وقدَّر الضرر تقدير الإداري الحازم والحاكم العادل، فصنف في وزارته كتابًا في
مسائل الفقه المتفق عليها والمختلف فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وجمع عليه أئمة
المذاهب وأوفدهم من البلدان إليه لأجله، وحدث به، وجمع الخلق العظيم لسماعه، وكتب به
نسخة لخزانة المستنجد وبعث ملوك الأطراف ووزراؤها وعلماؤها فاستنسخوه ليقضوا به على
فوضى المسائل الفقهية في بلادهم. وقيل: إن الوزير ابن هبيرة أنفق على هذا مائة ألف
واثني عشر ألف دينار، وما أمكن التوحيد بين أهل التوحيد.
ولقد ثبتت مذاهب وانتشرت، وتداعت أخرى وانقرضت، وما كان ثبات الثابتة لشيء لم يكن
في
غيرها، ولا انقراض المنقرضة لأنها غير صالحة للبقاء، فالمصدر واحد، والاجتهاد مختلف في
بعض المسائل، وما كان يروع المسلمين «الخلاف بين المجتهدين مهما كان بعيد المدى وجعلوا
ذلك علمًا خاصًّا، سموه علم الخلاف، يتدارسونه كما يتدارسون أصول الفقه، وقالوا: إن
اختلاف الأئمة رحمة.» قال الغزالي في المستصفى: أشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع،
واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع
والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو
مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتشديد، ومن الأسباب في انقراض
مذاهب الأوزاعي والحسن البصري والثوري وابن جرير وغيرهم عدم التوسع في الفروع، وإطالة
المسائل، كما كان عليه الإمام محمد وأبو يوسف وأمثالهما من أصحاب أبي حنيفة، فإنهما
دوَّنا من الكتب ككتب ظاهر الرواية وغيرها ما بقي إلى اليوم متداولًا في الأيدي، ومسائل
الأصول تُسمى ظاهر الرواية، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذاهب، وسُميت بظاهر الرواية
لأنها رُويت عن الأئمة بروايات الثقات، فهي ثابتة عنهم، إما متواترة أو مشهورة عنهم،
وكذلك دوَّن مالك والشافعي وابن حنبل أو من أخذ عنهم، وجمع ما تفرق، وفسر ما
أُبهم.
وما زال الأمر يتسع حتى نضج الفقه في القرن الرابع، وظل على نضجه مدة ثم أخذ في الضعف
لانحطاط العلماء، بحيث أصبحوا غير قادرين على استخراج الأحكام بأنفسهم، فقال بعض
الفقهاء ومنهم ابن الهمام بإغلاق باب الاجتهاد — «والاجتهاد»
١٦ بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي مما اعتبره الشارع دليلًا، وهو كتاب
الله وسنة نبيه — وبالأخذ «بالتقليد» وهو تلقي الأحكام من إمام معين واعتبار أقواله
كأنها من الشارع نصوص يلزم المقلد اتباعها، ولما أوصدوا باب الاجتهاد حتى على من تمت
أدوات العلم فيه حجروا على العقل «وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة
إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق.» كما قال ابن قيم الجوزية
وتكلم على الاجتهاد والتقليد وما أدخله المتأخرون من الحيل التي يتعالى أئمة المذاهب
عن
القول بها، وهي مدسوسة لا محالة، وذكر فصلًا ممتعًا في تغير الفتوى واختلافها بحيث تغير
الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات مما وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على
الشريعة أوجب الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه.
ونسوا أن من المسائل ما هو «سياسة جزئية بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة»، «وأن
الكتب العظيمة التي أبقاها عظماء الفقهاء صارت أثرًا بعد عين، وقصر الفقهاء همهم على
الكتب التي كتبها أصحابها في عصر التقهقر، وقد ضعفت سليقتهم العربية فتحول كلامهم إلى
ما يشبه الألغاز، فكأن المؤلف لم يكتب ليفهم بل ليجمع.» ثم «إن كثرة
١٧ الاختلاف بين المخرجين والمرجحين، حتى على المسألة الواحدة، جعل علم الحقوق
أشبه برموز لا يتيسر لأحد من الناس أن يتناول منه حكمًا جازمًا إلا بواسطة الفقهاء
والمفتين، وقليل من الناس المعصوم عن الخطأ أو الغرض، فيحلل أحدهم من طريق أحد المرجحين
ما يحرمه الآخر من طريق غيره، هذا بين علماء المذهب الواحد، فما بالك بتعدد المذاهب
أيضًا» وربما قصدوا بهذه الرموز إبعاد الدخلاء في العلم حتى لا يكون العلم فوضى، ولأجل
هذا أنشأ الأمويون في قرطبة في القرن الثالث دار شورى القضاء تبت بين العلماء في تقرير
الأحكام، وقد خالفت الإمام مالكًا في عدة أحكام أخذت فيها بقول أبي قاسم.
وإن اقتصار الفقهاء المتأخرين على فقه من نقلوا عن إمامهم وحده، دون إتقان الآداب
العربية والتاريخ وتقويم البلدان والحديث والأصول والفلسفة، زاد في ضعف ملكاتهم وأورثهم
جمودًا، وما كان في العهد الماضي يحرز الرجل لقب فقيه «إلا بالرحلة والتلقي من علماء
الأمصار سوى علماء بلده يرحلون في تلقي الحديث والفقه، وكانت مكة تجمعهم في الموسم
فيستفيد كل من الآخر ما عنده من علم وحديث وفكر.» وأصبح العلم الديني في القرن التاسع
ظاهر الضعف في بعض مظاهره، ليس فيه إلا شرح كتاب للمتقدمين، أو ذيل على شرح لأحد
المشهورين، أو جمع متفرق، أو تلفيق مجتمع، أو اختصار مطول، قلما تجد فيه أثرًا للبحث
أو
للعقل، وأصبح المبرزون من العلماء يعدون في كل قرن على أصابع اليد في بلاد الإسلام،
وحال رجال كل قرن أضعف ممن تقدموهم، وفشت البدع والضلالات ولا من ينكر، بل جاء من
المتفقهين والمحدثين من شاركوا المتصوفين والمخرفين، وقصارى رجال الدين تولي المناصب
الدينية ينشدونها من أصحاب السلطان، وكانوا في القرون الخالية لا يتطلب الخلفاء غير
رضاهم.
«ولضيق عقول أكثر هذه الطبقة من المتفقهة على الناس قرروا
١٨ أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول به المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة، حتى
يقف الفكر وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص
والأخبار والآراء ما يقنع العامة، بأنهم لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من
أمر الجماعة والدولة هو مما فُرض النظر فيه على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء
من
ذلك من غيرهم، فهو متعرض لما لا يعنيه، وإن ما يظهر من فساد الأعمال، واختلال الأحوال،
ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا
حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن
يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي
الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام.»
«هذا الجمود في أحكام الشريعة جر إلى عسر حمل الناس على إهمالها: كانت الشريعة
الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا، سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها
حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها، وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقى إليها،
وأصبح الأتقياء من حماتها يتخاصمون إلى سواها، صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا
بجهلها عجزًا عن الوصول إلى علمها، أفلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلًا لا يُعد
شيئًا إلى من لا يعرفها، وهل يتصور من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها، فوقع أغلب العامة
في مخالفة شريعتهم، بل أسقط احترامهم من أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم
بمقتضى نصوصها، وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة
الاختلاف.»
وكانت البدع إذا ظهرت يحاربها قادة الإسلام بسلاح القرآن «يدحضون
١٩ الحجة بالحجة، ويقرعون البدعة بالسنة، إلى أن تمكن حب التقليد من النفوس،
وقل الاشتغال بالتفسير والحديث، وأُهمل التاريخ فاختلط الحابل بالنابل، بل راجت سوق
الأحاديث الموضوعة، وانتفخت بها بطون التآليف، ولا سيما ما يتعلق منها بالزهد والرغائب،
والحث على القناعة باليسير، والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية، كحب المجد
والرياسة والإقدام على عظائم الأمور، ودب إلى الأمة داء التوكل، واسترسلت وراء الأوهام،
وعلق بالقلوب كثير من أدران الشرك»، «وأسدلوا بين الأمة وكتابها سترًا من الأوهام،
وحرموها لذة النظر والتدبر، فأصبح لا يُتلى إلا في المآتم وعلى المقابر (تبركًا) يتأكل
به أناس من الكسالى، يتغنون به على قارعة الطرق وأبواب المساجد.»
«واقتسم هذا الدين فريقان: فريق اطمأنت نفسه إلى القديم فهو يريد أن يرجع بالناس
القهقرى، يحمل أهل القرن الرابع عشر على أن يتخلقوا بأخلاق أهل القرون الوسطى، ويحذوا
حذوهم في أحكامهم وآرائهم ومدنيتهم، فلا يتخطوها قيد شبر، يكابرك في المحسوسات، ويجادلك
في الحق، وينكر سنة الله في خلقه أن لكل عصر طورًا من أطوار الحياة يأخذ قسطه من النمو
والارتقاء، بحسب استعداد أهل ذلك العصر. وفريق رأى من وعورة المسلك، وصعوبة الفهم في
كتب القوم ما يقطع نياط القلب، دون الوصول إلى الغاية، وإن كثيرًا منها على تشتته
وتشويشه، لا ينطبق على مقتضيات العصر الحاضر، ولا يأتلف ومدنيته، ففرطوا في أمر الدين،
وأهملوا مجد آبائهم، وذهبوا يتلمسون الإصلاح من غيرها.»
ومن أعظم الطامات على العلم الديني أن يقضي أحد مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية
بأن لا توجه الوظائف الدينية إلا على أبناء أربابها، بمعنى أن يُحصر خبز الأب في الابن،
ولو لم يكن لهذا نصيب من العلم، أو لو كان في القماط، كأن العلم يورثه صاحبه كالسكة
والفدان، والدار والزريبة والدكان. قال البيري من فقهائهم: «يبقى أبناء الميت ولو كانوا
صغارًا في وظائف آبائهم مطلقًا من إمامة وخطابة وغير ذلك؛ لأن فيه إحياء خلف العلماء
ومساعدتهم على بذل الجهد في الاشتغال بالعلم، وقد أفتى بجواز ذلك طائفة من أكابر
الفضلاء الذين يُعول على إفتائهم.» فقلَّت بذلك الرغبات في الدرس لأن الطالب لا أمل له
مهما استعد أن يعيش من علمه، وما هلك جيل أو جيلان حتى انحصرت الوظائف الدينية في أيدي
الجهلة إلا قليلًا، ودخلت في حظيرة العلم الديني عناصر جاهلة، عبثت بالدين، وكانت عارًا
على قومها في الدنيا، بل أصبحت المناصب الدينية خاصةً في كثير من المدن ببعض الأسر لا
تتعداها، احتكروها دون سائر الناس، ومن تعلم من صنف العامة أو التجار أو الزراع يكون
نصيبه الحرمان. وكم من أمثال هذه الفتوى المميتة للعلم من الطامات على الإسلام خلت من
العقل، وجمدت بهؤلاء الأغمار هذه الشريعة المرنة، وكلما تقدم الزمن عصت على الارتقاء
وكانت سمحة.
طلب قوم من الروس إلى الدولة العثمانية أن يدينوا بالإسلام على أن يُسمح لهم بتناول
قليل من الخمر واستعمال لحم الخنزير، فأفتى أحد مشايخ الإسلام ممن اشتهروا بعلمهم
وورعهم، بأن لا يُسمح لهم بالإسلام مطلقًا على هذا الشرط، فأضاع بهذا الجمود مئات
الألوف من البشر كان الإسلام يقوى بهم، ولو أدخلهم في الإسلام لما كانت روسيا بعد قرن
أو قرنين تجد في بلادها من يقاتل جيوش الدولة العثمانية لمكان الدين الإسلامي من قومها،
ولو ذهب المفتي إلى أمر الحكام بأن لا يتعرضوا لشارب الخمر بحد أو غيره كان أهون عليه
من بقائهم على غير الإسلام وعدم الانتفاع بهم.
ظهرت قهوة البن فأفتى الفقهاء بتحريمها، فانفسح المجال لأرباب الجهالة من الحكام
يقتلون من تعاطاها، وظهر الدخان فأفتى الفقهاء أيضًا بتحريمه، وقُطعت بسببه رءوس ألوف
من الناس في الأرض العثمانية، وأرادت الدولة العثمانية أن تستعيض عن لبس «القاووق» على
الرءوس بلباس للرأس اختارت له «الطربوش» فحرم الفقهاء لبسه وقالوا: إنه شعار الروم،
وأحب الناس أن يلبسوا المعاطف والسراويلات الغربية، فقال الفقهاء: إن هذا لباس الكفار،
وحرجوا على الناس في لباسه، وصحت عزيمة الدولة العثمانية على أن تقتبس الطباعة فمنع
الفقهاء بالطبع من طبع القرآن تكريمًا له، وجرت في هذا المعنى أمور مضحكة حتى استطاعت
الدولة أن تطبع القرآن والحديث وكتب الشريعة.
يحرمون كل ذلك بشدة لأنه مدرجة إلى التمدين، والمدنية عندهم مدرجة إلى الانحلال، إلى
ما شاكل ذلك من الجهل الناشئ من الجمود على فرع واحد. هكذا كان فقهاء الترك في العهد
الأخير، وفقهاء العرب تبع لهم؛ لأن الزعامة العلمية الدينية كانت للترك ودعوى الخلافة
فيهم، حتى لقد أفتوا بحل دم الملك الذي تصدى للإصلاح على الطريقة الغربية، وبالفعل
أهلكوا غير واحد ممن قالوا بهذا القول المنكر. ومثل هذه العقول لا يليق بها الاجتهاد
ولا التقليد، وهي في الواقع ما استطاعت أن تطبق من الشريعة إلا ما جرى قبلها بقرون
تنفيذه، وتم بحكم العادة في الناس، وما زالت الشريعةفي هبوط وضعف، تنفذ بنفاذ بصيرة
القائمين عليها في الجملة، وبجهل معظم رجال القضاء وفساد تربيتهم ولتلطخهم بحمأة
الرشاوي، ارتفعت ثقة أوروبا من المحاكم الشرعية، واقترحت على الدولة العثمانية والمصرية
أن تنشئا محاكم نظامية منقولة قوانينها عن قوانين الغرب (١٢٥٥ﻫ/١٨٣٩م)، وحصرت أعمال
المحاكم الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية ومسائل قليلة غيرها، ثم ألفت الدولة لجنة
عهدت إليها تأليف كتاب جامع لأحكام الفقه سمته مجلة الأحكام العدلية، فسهل على
المتقاضين وعلى القضاة الرجوع إلى ما دوِّن من مذهب أبي حنيفة، وليتهم توسعوا في هذا
العمل، ونادوا بإبطال كثير من كتب الفقه، وفتاوى المتأخرين وأقضيتهم، وتوسعوا في الأخذ
من مذاهب معتمدة وأغفلوا ما عداها مما لا يوافق روح العصر. وحاول خديو مصر إسماعيل أن
يحمل علماء الأزهر في عصره على تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات موافق للعصر سهل
العبارة، فرفضوا ذلك ظنًّا منهم أن هذه بدعة، فاضطر إسماعيل إلى إنشاء المحاكم الأهلية
واعتمد على قوانين فرنسا، جاريًا على مثال ما كان من ذلك في البلاد العثمانية.
وهكذا قُضي على الشرع بأيدي أهله؛ لإيغالهم في تعسفهم، ورضاهم بجهلهم، وجمودهم جمودًا
جمدت معه العقول، وخمدت جذوة الإيمان واليقين، وكان أهم باعث عليه إسناد المناصب
الدينية إلى غير أهلها من حكام السوء، ولو صحت عزائم الحكام على أن يختاروا الأطايب من
القضاة لما آضت الحال إلى ما آضت إليه، وما خلا قرن من رجال كانوا جدَّ كفاة في معرفة
الشرع، والبصر بما يصلح لكل زمان ومكان، وكان من أثر الجهلاء أن انتقل الناس إلى عالم
آخر في تقاضيهم، وضرب القانون الجديد الشريعة القديمة ضربة كادت تقضي عليها، لولا أنها
بقيت موقرة في النفوس، على رغم عبث العابثين وجهل الجاهلين.
علم الكلام وعلم الحديث
دخل في الإسلام من أهل الأديان المعروفة قبله أناس لم تنزع من صدورهم تعاليمهم
ومعتقداتهم، ولا صفت نفوسهم من لوثات جاهلية وثنية، ومنهم المانوية والديصانية والصابئة
واليهود واليعاقبة والنساطرة فكان من الطبيعي أن يوردوا شبهًا على الإسلام في الخالق
والمعاد وحشر الأرواح والقدر وغير ذلك من المعضلات المعقدة التي كثر في كل عصر التفكير
فيها، فانبرى لهم أناس من العلماء يردون ما أوردوه على الدين من الشبهات، ويتعرفون إلى
معتقداتهم فيقاتلون أهواءهم بسلاح اتخذوه من نوع سلاحهم، ويستعملون عقولهم في إدحاض كل
بدعة، جامعين في حجاجهم بين المعقول والمنقول؛ فكان من ذلك علم جديد أواخر المائة
الأولى سموه علم الكلام، وهو من العلوم التي تُعْلَم وتُعَلَّم بالكلام، فأُطلق عليه
هذا الاسم ثم خُص به ولم يُطلق على غيره، ومداره على إثبات العقائد الدينية بإيراد
الحجج عليها ودفع الشبه عنها؛ وموضوعه ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته عند المتقدمين،
وقيل: موضوعه الموجود من حيث هو موجود، وعند المتأخرين موضوعه المعلوم من حيث ما يتعلق
به من إثبات العقائد الدينية تعلقًا قريبًا أو بعيدًا.
يقول الغزالي:
٢٠ «إن علم الكلام ينظر في ذات الله وصفاته وأحوال الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام والأئمة بعدهم والموت والحياة والقيامة والبعث والحساب ورؤية الله، وأهل هذا
العلم متمسكون أولًا بالأخبار والآيات ثم بالدلائل العقلية.» وقالوا: إن الأصول
٢١ معرفة الباري تعالى بوحدانيته وصفاته ومعرفة الرسل بآياتهم وبيناتهم وكل
مسألة يتعين الحق فيها بين المتخاصمين فهي من الأصول، ولما كان الدين منقسمًا إلى معرفة
وطاعة، والمعرفة أصل، والطاعة فرع، كان أصوليًّا من تكلم في المعرفة والتوحيد، وكان
فروعيًّا من تكلم في الطاعة والشريعة، والأصول هي موضوع علم الكلام، والفروع هي موضوع
علم الفقه، وقالوا: إن كل ما هو معقول ويُتوصل إليه بالنظر والاستدلال فهو من الأصول،
وكل ما هو مظنون ويُتوصل إليه بالقياس والاجتهاد فهو من الفروع.
نشأ الكلام مع غيلان بن مروان الدمشقي ومعبد الجهني من قدماء أئمة المعتزلة، وإذا
أُطلق اسم علماء الكلام فالمراد بهم المعتزلة، فأخذوا يدرءون عن الدين شبه الملحدين،
ممن كانت لهم عقائد مقررة وأساليب خاصة في الجدل، ولما لم ترُق طريقة علماء الكلام رجال
الحديث والفقه، وناهضوا من أخذوا أنفسهم بدفع الشبهات على الإسلام من المتكلمين، أصبح
هؤلاء بين فريقين فريق أهل دينهم ممن لم يحمدوا الطريقة المتبعة في رد حجج الخصوم، ودفع
ما عساه يعلق بالأذهان من كتب اليونان وغيرهم التي شرع في نقلها إلى العربية، والفريق
المعادي الذي يتربص الدوائر بالإسلام ويحاول نقضه من أساسه ليمزق بذلك الشمل، ويجتث
٢٢ الفرع والأصل. وجمهور
٢٣ المؤمنين مقرون بحدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته وعدله وحكمته ونفي
التشبيه عنه، وبنبوة محمد ورسالته إلى البشر كافة وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به
حق، وبأن القرآن منبع أحكام الشريعة.
سار المتكلمون في خطتهم التي رأوا بها الإبقاء على الإسلام، وتابعهم على مذهبهم أناس
من شأنهم أن يولعوا بالعلم مطلقًا، وألفوا في هذا العلم تآليف كثيرة لم يصلنا منها غير
نتف نقلها عنهم خصومهم، أما ما كتبوه بأيديهم في عصر الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق
والمتوكل فلم يُكتب له البقاء والنشر؛ لأن الحرية التي أُطلقت لهم على عهد هؤلاء
الخلفاء الخمسة سلبوها بعد، ولا سيما على عهد ملوك الديالمة، وكان الفقهاء ورجال الحديث
استأسدوا فقلبوا لعلماء الكلام ظهر المجن
٢٤ وانتقل الحوار من اللسان إلى السيف والسنان، واتفقت
٢٥ كلمة أهل الحديث على الوقوف أمام هذه الحركة الكلامية والجمهور منهم فنالوا
منهم ما أرادوا. وتنازعت الأمة عوامل مختلفة من المتفقهة والمتكلمة والمتفلسفة
والمتصوفة، وراجت أسواق التبديع والتكفير والتفسيق، وكتبوا الكتب وشحنوها بالمطاعن
والتقول بعضهم على بعض، حتى أفتوا بمنع الصلاة
٢٦ خلف من يخوض في علم الكلام وإن تكلم بحق.
قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا
٢٧ بالجريد، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب
والسنة وأخذ في الكلام. ورُوي عنه أن رجلًا إذا أوصى بكتب العلم لشخص لا تدخل كتب
الكلام في الوصية؛ لأن الكلام ليس بعلم. وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء.
وقال أصحابه: إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا. وقال أحمد بن حنبل:
لا يفلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل،
٢٨ وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه؛ بسبب تصنيفه كتابًا
في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك! ألست تحكي بدعتهم أولًا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل
الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟
ورُوي عنه أنه قال: علماء الكلام زنادقة. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق.
وسواء صح أم لم يصح ما رُوي عن أئمة المذاهب في تقبيح رأي المتكلمين، فالثابت أن رجال
الحديث كانوا غير راضين عنهم، ووسع مدى الخلاف بين الفقهاء والمحدثين وبين المتكلمين
من
جاءوا بعد من التلاميذ والأنصار فزادوا في إضرام نار الخلاف «وكثرت النحل وتقطعت العصم
٢٩ وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضًا.»
هذا إجمال ما يُقال في نشأة الكلام والقضاء عليه وعلى أهله بأيدي أهل الإسلام. أما
الحديث فهو علم بأصول يُعرف بها أحوال حديث الرسول من صحة النقل عنه وضعفه، وطرق التحمل
والأداء، وفي اصطلاح المحدثين قول النبي وفعله وتقريره وصفته حتى الحركات والسكنات في
اليقظة والمنام ويرادفه السنة عند الأكثر، ولقد كثرت الأحاديث المروية والمتكررات منه،
ودخلها الشوب
٣٠ من وجوه ثلاثة،
٣١ منها الزنادقة واجتيالهم
٣٢ على الإسلام وتهجينه، بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة، ومنها القصاص على
قديم الزمان، فإنهم ما كانوا يميلون وجوه العوام إليهم، ويستدرون ما عندهم إلا
بالمناكير والغريب والأكاذيب من الأحاديث، ومنها أخبار متقادمة كان الناس في الجاهلية
يرونها تشبه أحاديث خرافة، وغلا الوضاعون في الحديث، فمنهم من وضع أحاديث لتقوية
المنازع السياسية تلمح فيها لأول نظرة أثر الوضع والكذب، ومنها أحاديث في فضائل بعض
الصحابة، «وإن أصل
٣٣ الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة؛ فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر
أحاديث مختلفة في صاحبهم» اضطرته في حياته إلى أن ضرب على أيدي من جاهر منهم بالغلو
فيه، ووضعوا أحاديث في فضائل بعض البلدان وفي تفضيل بعض القبائل على بعض، بل بلغت بهم
السخافة أن وضعوا أحاديث في الطعام، ووضع عبد الكريم بن أبي العوجاء
٣٤ الذي ضُربت عنقه على الوضع أربعة آلاف حديث يحرم فيها ويحلل، ومنها ما هو
في التشبيه والتعطيل، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة.
ووضع الوضاعون أحاديث في المرجئة
٣٥ والجهمية والقدرية والأشعرية ووصف ما يكون بعد الثلاثين ومائة، والستين
ومائة وظهور الآيات بعد المائتين، وفي مدح بعض قبائل العرب وفضائل أبي بكر وعلي ووضعت
الرافضة في فضله ثلاثمائة ألف حديث، إلى غير ذلك مما رده نقاد الحديث.
ومنهم من وضع أحاديث في الترغيب والترهيب لا يقبلها العقل، ولا خطرت ببال الرسول
وأصحابه وكبار التابعين؛ ذلك لأن ما كان من أصل
٣٦ هندي أو يوناني أو فارسي أو من شروح التوراة أو الإنجيل لا يؤبه له، فصبغها
أصحابها بصبغة دينية ليقبل عليها الناس، وما وجد أولئك الوضاعون إلا الحديث فدخلوا منه
على الناس، وكان من ذلك أن ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع والحكمة الهندية
والفلسفة الزرداشتية والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية. ا.ﻫ.
والذي زاد في تبلبل الأحاديث كونها لم تدوَّن إلا أواخر المائة الأولى؛ ذلك لأن
الرسول كان ينهى عن تدوينها لئلا تختلط بالقرآن، وكذلك كان من أصحابه بعده. وفي صحيح
مسلم أن النبي قال: «لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئًا غير القرآن
فليمحه.» وفي كتب السير أن الرسول دعا اليهود فحدثوه حتى كذبوا على عيسى فصعد النبي
المنبر فخطب الناس، وقال: «إن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني،
وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس مني.» ثم قال العلماء
٣٧ بإباحة كتابة الحديث لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه من وثق
بحفظه، مخافة الاتكال على الكتاب، أو نهى عن كتابة ذلك حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف
القرآن، وأذن في كتابته حين أمن ذلك، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة.
ويقول ابن تيمية:
٣٨ إن الدواوين المشهورة في السنن إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين،
ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار الحديث في دواوين معينة، ثم لو فُرض انحصار حديث رسول
الله، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل
الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل إن الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم
بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرًا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول
أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في
الدواوين. ا.ﻫ.
ونُقلت أحاديث بالمعنى لا باللفظ، وما كان الناقلون نمطًا واحدًا في إحكام ملكة
البيان؛ ذلك لأن منهم الموالي والأعاجم البعيدين عن السليقة العربية فجاء في بعضها ما
يستحيل أن يصدر من لسان أفصح الناطقين بالضاد. ولقد قال ابن قتيبة:
٣٩ «إن من المحدِّثين من يرون كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتُضحك منه
الملحدين، وتزهد من الدخول فيه المرتادين، وتزيد في شكوك المرتابين.» قال: ولا أعلم
أحدًا من أهل العلم والأدب إلا وقد أسقط
٤٠ في علمه كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء
وأبي عمرو الشيباني، وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين. وقد أخذ الناس على
الشعراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني وفي الإعراب، وهم أهل اللغة وبهم يقع
الاحتجاج، فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس، على أنَّا لا نخلي أكثرهم من
العذل في كتبنا في تركهم الاشتغال بعلم ما قد كتبوا والتفقه بما جمعوا، وتهافتهم على
طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجهًا، وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع.
ا.ﻫ. وذكروا أن صحيح البخاري وهو من أصح كتبهم المحررة اشتمل على تسعة آلاف حديث
ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة والأسانيد عليها مختلفة في كل باب، على أن مسألة تدوين
الحديث لم تقف عند عبث العابثين من الزنادقة وغيرهم بل قيَّض الله لها رجالًا كيحيى بن
معين وأمثاله، محَّصوا الرجال العدول من غيرهم، وأسسوا علم الحديث المبني على معرفة
الصحيح منه والحسن والمتواتر، وبينوا الضعيف والموضوع، وألفوا في طبقات الرجال ما عُرف
به الثقات، وعندها ميزوا الصحاح من الضعاف وغيرها.
وليس من الغلو أن يُدَّعى أن علماء الملة لم يعانوا علمًا من العلوم كما عانوا علم
الحديث، وما دوِّن من الكتب أكثر من كتب الحديث وما يلزم له، وخدم الحديث علم التاريخ
كثيرًا؛ لأنه يتوقف على معرفة الرجال وطبقاتهم ومواطنهم، وخدم علم الاجتماع؛ لأن
المحدثين كانوا يرحلون إلى أقصى المشرق والمغرب في طلب حديث واحد، يسمعونه من راويه إما
لعلو إسناده أو لثقتهم بالرواية، فنشأت من تدوين الحديث وتنقل رواته في الأمصار طريقة
في التهذيب، فكان المحدثون يجتمعون يأخذ بعضهم عن بعض في جملة ما يأخذون من الحديث آراء
ومنازع ونقدًا وأسلوبًا، كلها أورثت وحدة فكرية بين الأقطار الإسلامية، وكان اجتماع
العلماء في الموسم من أكبر المعونات على رواية الحديث، يجتمع ابن خراسان بابن الأندلس
وابن بخارى بابن إفريقية، ومن رجع إلى طبقات الأندلسيين ككتاب الصلة لابن بُشكوال،
وبغية الملتمس للضبي، والمعجم لابن الأبار وتكملة الصلة له، وتاريخ علماء الأندلس لابن
الفرضي، ونفح الطيب للمقري وغيره — من رجع إلى مثل هذه الكتب وقرأ تراجم المترجَم لهم
عرف عناية أهل الشرق والغرب من علماء الإسلام بالرحلة في طلب الحديث، وولع العلماء
بالأخذ بعضهم عن بعض وتبادل العلم.
ولقد احتاج الحديث أيضًا لما جعلوا لتصحيحه من شروط وقيود إلى أن لا تنسى الأمة
ماضيها، وكان على المحدث أن يكون له حظ وافر من أخبار الناس وأنسابهم وتقويم بلادهم،
كما كان الواجب أن يكون له قسط من علوم العربية، وإدمان تلاوة الأحاديث واستظهارها
أيضًا من أساليب تقوية ملكة العربية وتمرين الحافظة على الحفظ والذاكرة على التذكر. وقد
رأينا في القرون الأولى من رجال الحديث جماعة وضعوا التواريخ المعتبرة على أسلوب
المحدثين بالرواية وتصحيح السند، والسند
٤١ عند علماء الإسلام شرط في العمل بما في الكتب والاحتاج بها، والسند أن يعطي
المصنف كتابه إلى آخر ويقول له: أذنت لك أن تروي عني هذا الكتاب، ويعطيه الذي أخذه عن
المصنف إلى آخر بهذا الشرط. وهكذا نسبة كل علم، ولا يكون الكتاب معتبرًا إذا عدم هذا
السند، ولو ضم شتات العلوم الكثيرة، ولا يصح نسبة ما في الكتاب إلى من نُسب إليه الكتاب
إلا بشرط السند، وهذا شيء خُص به علماء الإسلام وشريعته.
وانقرض المحدثون في القرن السابع أو كادوا وصار أهله «شرذمة قليلة العدد ضعيفة العدد»
لا تغني على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غفلًا، ولا تعنى في تقييده بأكثر من كتابته
عطلًا
٤٢ وعلى كثرة عناية السلف من المحدثين واشتراطهم في المحدث أن يعرف المسانيد
والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وأن يحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون ويسمع
الكتب الستة ومسند أحمد وسنن البيهقي ومعجم الطبراني ويضم إلى هذا القدر ألف جزء من
الأجزاء الحديثية، ويحفظ كتب الطبقات ويزيد على الشيوخ — مع كل هذه العناية وما ألفوه
في المدلسين والضعفاء «لقبوهم
٤٣ بالحشوية والنابتة والمجبرة وربما قالوا الجبرية وسموهم الغثاء والغثر،
وهذه كلها أنباز
٤٤ لم يأتِ بها خبر عن رسول الله.» ومع أن المحدثين تحاموا كل ما هجم على
الأحاديث من وضع وتصنيع، وأطرح المحققون منهم الغث وأثبتوا السمين في الجملة، فقد وقع
لهم لكثرة ما تناولته الأيدي المختلفة ما وقع في تفسير القرآن، ونقل من كانوا من أصل
يهودي أو نصراني ككعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وابن جريج وأمثالهم
أخبارًا لا صحة لها، وملأ المفسرون كتب التفسير بهذه المنقولات.
٤٥
يقول الذهبي: إن غالب المحدثين في زمانه، أي في القرن الثامن لا يفهمون، ولا همة لهم
في معرفة الحديث ولا في التدين به، بل الصحيح والموضوع عندهم بنسبة، وإنما همتهم في
السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواية، لا يتأدبون بآداب الحديث
ولا يستفيقون من سكرة السماع، إلى أن قال فأي شيء ينفع السماع على جهلة المشايخ الذين
ينامون والصبيان يلعبون، والشبيبة يتحدثون ويمزحون، وكثير منهم ينعسون ويكابرون،
والقارئ يصحف. وقال بعد أن ذكر من طلب الحديث منذ عهد الصحابة والتابعين ومن بعهدهم:
ثم
تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة ولم يزل ينقص إلى اليوم،
فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على
كثرتهم، وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم، أفضل في الحديث من المتأخرين،
وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من مشيخة زماننا.
علم التصوُّف
رأى الجمهور من الصحابة الذين عاشروا الشارع الأعظم ورأوا قوله وعمله أن الواجب على
المسلم أن يكون إلى الاعتدال حتى في العبادة وأن يُعنى بأمر دنياه، ومن أجل هذا رأينا
عمر بن الخطاب يمر برجل يصوم الدهر فيضربه بمخفقته، أي بدرته التي يضرب بها، ويقول: كل
يا دهر كل يا دهر، ورأيناه يعس
٤٦ المسجد بعد العشاء فلا يرى فيه أحدًا إلا أخرجه وأمر الناس أن يتفرقوا،
وشاهدنا علي بن أبي طالب يكتب إلى أحد عماله: «وخادع نفسك العبادة وارفق بها ولا
تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلا ما كان مكتوبًا عليك من الفريضة فإنه لا بد من قضائها
وتعاهدها عند محلها.» وقال لمن لبس العباء
٤٧ وتخلى عن الدنيا: «يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك،
أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك.»
وبدا لأبي ذر الغفاري من كبار الصحابة، وأحد أوعية العلم في الإسلام، أن يأخذ بظاهر
القرآن في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ،
وذهب إلى أن المسلم لا ينبغي أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفقه
في
سبيل الله أو يعده لكريم، فتأذى الأغنياء بما دعا إليه، وكثرت سلاطة الفقراء عليهم،
فشكا معاوية بن أبي سفيان أبا ذر الغفاري إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان فنفاه إلى
الرَّبذة. ورأي أبي ذر أشبه بالآراء الاشتراكية، لكنه منبعث من زهد كثير وتقوى جميلة،
إذا سار المسلمون على طريقهما ضعف سلطانهم في الأرض، ومن ضعف سلطانه ضعفت مقدساته
ومشخصاته لا محالة.
وعدَّ بعض الباحثين من المعاصرين حذيفة بن اليمان فاتح الري وهمدان والدينور في صف
أبي ذر الغفاري في التصوف، وحذيفة بن اليمان هو الذي قال فيه عمر بن الخطاب — وقد قال
لأصحابه أن يتمنوا، فتمنوا ملء البيت
٤٨ الذي كانوا فيه مالًا وجواهر ينفقونها في سبيل الله — قال: لكني أتمنى
رجالًا مثل أبي عبيدة ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان.
ونشأ في القرن الأول رجال ربانيون
٤٩ أتقياء عزفت نفوسهم عن بهرج الدنيا وزخرفها، فانصرفوا إلى العبادة
والزهادة، لمزاج خاص بهم، أو جبلة دفعتهم فتماشوا معها، أو لسبب من الأسباب التي تعرض
للبشر من إخفاق في طلب مجد أو مال أو وصال، ومنهم من فُتن به الناس فاتبعوه لما رأوا
من
جميل تمسكه وحسن سمته، وبعده عن سفساف أمور هذا العالم، وكان هذا الرعيل من أوائل
المتصوفة في الإسلام. ويقول ابن تيمية: إن أول ظهور الصوفية كان في البصرة، وإنهم من
أصحاب عبد الواحد بن زيد من أصحاب الحسن البصري. والمظنون أن التصوف جاء الإسلام من
الآريين؛ فقد كان في المجوس والبراهمة أيضًا زهاد، وما خلت الأمم كلها من زهاد وعباد
في
كل العصور.
ويرى ماسنيون
٥٠ أن الميل إلى حياة النسك كانت في كل بلد وفي كل عنصر، فلم تنشب أن انتشرت
في الإسلام في قرنيه الأولين. وذكر الجاحظ وابن الجوزي أسماء أكثر من أربعين ناسكًا
حقيقيًّا، وأن الاستعداد للتصوف ينشأ في العادة من ثورة باطنية تخامر القلوب، فيثور
صاحبها على المظالم الاجتماعية ولا يقف عند مقاومة غيره، بل يبدأ بجهاد نفسه وإصلاح
خطيئاته، وذلك بنية سليمة في الباطن ليلقى الله تائبًا منيبًا، على نحو ما تجلى ذلك كل
التجلي في الأمثال والخطب التي أُثرت عن الحسن البصري، وذكر أن الطرق في الإسلام نشأت
في القرن الحادي عشر من الميلاد.
كان الخطب في التنمس
٥١ بالدين، والتنطع
٥٢ في العبادة، والتناغي بالآخرة واطراح الدنيا، من السهل على المجتمع
الإسلامي لو انحصر في أفراد بعينهم، ولكنه تعدى إلى العوام، والعوام في كل عصر ومصر لا
يقيمون للحقائق وزنًا، ولا يهشون إلا لما تزينه لهم ظواهر المحسوسات، وهم أقرب الطبقات
إلى غلط الحس، والمغالطة في النافع والضار. ولقد أُطلق على من أخذوا أنفسهم بهذه
الطريقة لقب الصوفية والمتصوفة، وعلى علمهم اسم التصوف، نسبة إلى الصوف الذي كانوا
يلبسونه، أو إلى سوفا اليونانية ومعناها الحكمة، أو إلى رجل يُقال له صوفة كان في
الجاهلية هو وأصحابه ممن انقطعوا إلى الله ولزموا الكعبة فقالوا لمن تشبه بهم الصوفي.
وقال السهروردي: إن سبب تسميتهم بالصوفية لبسهم الصوف، أو لأنهم كانوا من الانكسار
كالخرقة الملقاة والصوفة المرمية، أو لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل، وأن
الأصل في اسمهم صفوي نسبة إلى الصفة، وهو موضع مقتطع من مسجد النبي مظلل عليه، كان الأوفاض
٥٣ والأخلاط من الفقراء يأوون إليه على خلاف بين الباحثين في أصولهم. وقال ابن تيمية:
٥٤ كان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم
حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء. واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح
وقد قيل: إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل: إلى صوفة بن إد بن طابخة قبيلة من العرب
كانوا يُعرفون بالنسك، وقيل: إلى أهل الصفة، وقيل: إلى الصفا وقيل: إلى الصفوة وقيل:
إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي أو
صفائي أو صفوي أو صفي ولم يقل صوفي، وصار أيضًا اسم الفقراء يعني به أهل السلوك، وهذا
عرف حادث. ا.ﻫ. ولأبي الفتح البستي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه وظنوه مشتقًّا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتًى
صافي فصوفي حتى لُقب الصوفي
وقال المعري:
صوفية ما ارتضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من الطاعة صوفوا
أرى جيل التصوف شرَّ جيل
فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
ويقول الكلاباذي في التعرف لمذهب أهل التصوف: إن الصوفية سُموا بهذا الاسم لقرب
أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ، ولكثرة أسفارهم
سموا سياحين، ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل
الديار شكفتيه، والشكفت بلغتهم الغار والكهف، وأهل الشام سموهم جوعية؛ لأنهم إنما
ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب، قال: ولما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة ولبسهم
وزيهم زي أهلها سموا صفية صوفية، وقال: فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها ومعاني هذه الأسماء
كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصحت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ، وإن كانت هذه
الألفاظ متغيرة في الظاهر فإن المعاني متفقة؛ لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت
صفوية، وإن أُضيفت إلى الصف أو الصفة كانت صفية أو صفية، ويجوز أن يكون تقديم الواو على
الفاء في لفظ الصوفية وزيادتها من لفظ الصفية والصفية إنما كانت من تداول الألسن، وإن
جُعل مأخذه من الصوف استقام اللفظ وصحت العبارة من حيث اللغة، وجمع المعاني كلها من
التخلي عن الدنيا وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار، ومنع النفوس حظوظها
وصفاء المعاملات وصفوة الأسرار إلخ.
قال: وممن نطق بعلومهم وعبر عن مواجيدهم ونشر مقاماتهم ووصف أحوالهم قولًا وفعلًا
بعد
الصحابة رضوان الله عليهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر وابنه
جعفر بن محمد الصادق بعد علي والحسن والحسين رضي الله عنهم وأويس القرني والحسن بن أبي
الحسن البصري وأبو حازم سلمة بن دينار المديني ومالك بن دينار وعبد الواحد بن زيد وعتبة
الغلام وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض إلخ. وممن نشر علوم الإشارة كتبًا ورسائل
الجنيد والثوري والحراز ويُقال له: لسان التصوف إلخ. وممن صنف في المعاملات منهم أبو
محمد عبد الله بن محمد وأبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكيان وعبد الله بن خبيق
الأنطاكي والحارث بن أسد المحاسبي ويحيى بن معاذ الرازي وغيرهم، وهم «الأعلام المذكورون
المشهورون المشهود لهم بالفضل الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب، سمعوا
الحديث وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، وبذلك تشهد كتبهم ومصنفاتهم
إلخ.»
وأول من تسمى بالصوفي في أهل السنة أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة ١٥٠ﻫ، وكان من النساك
يجيد الكلام وينطق بالشعر كما وصفه الجاحظ، مثل كلاب وكليب وهاشم الأوقص وصالح بن عبد
الجليل. وأول من تكلم على التصوف وعلوم الأحوال بكورة خراسان شفيق بن إبراهيم الزاهد
أبو علي البلخي المتوفى سنة ١٥٣ﻫ، وكان من كبار مشايخ خراسان وله لسان في التوكل، وكان
أبو حمزة الصوفي أول من تكلم ببغداد في هذه المذاهب سنة ٢٦٩ من صفاء الذكر وجمع الهمة،
والمحبة والشوق، والقرب والأنس.
وكان جابر بن حيان صاحب الكيمياء
٥٦متقلدًا للعلم المعروف بعلم الباطن، وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام
كالحارث بن أسد المحاسبي وسهل بن عبد الله التستري ونظرائهم. وظهر المتصوفة في الإسكندرية
٥٧ في مستهل القرن الثالث يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان في أمره، وكانت
كلمتهم نافذة.
عرَّف الغزالي
٥٨ التصوف بأنه: «علم خاص بطريقة واضحة مجموعة من العلمين الشرعي والعقلي»،
«وعلمهم يشتمل على الحال والوقت والسماع والوجد والشوق والسكر والصحو والإثبات والمحو
والفقر والغنى، والولاية والإرادة، والشيخ والمريد، وما يتعلق بأحوالهم مع الزوائد
والأوصاف والمقامات.» ويُفهم منه أنه علم لدني يتم من لدن المولى ويكون بالذوق
والرياضة، وليس هو بعلم كسبي يتكون بالدرس والنظر. وذكر الأشعري
٥٩ من أهل المائة الرابعة أن من النساك الصوفية من يقول بالحلول، وأن البارئ
يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص، وأصحاب هذه
المقالة إذا رأوا شيئًا يستحسنونه قالوا: لا ندري لعل الله حالٌّ فيه، ومالوا إلى اطراح
الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده. ا.ﻫ. وكان
كل من تنسك في ذلك الزمان سُمي دورقيًّا نسبة إلى لبس الفلانس التي تُسمى الدورقية
٦٠ ويلبس أكثرهم المرقعات.
وفي الحق إن سيرة من شُغفوا حبًّا بهذا الضرب من الأخلاق والعادات الذي سُمي بالتصوف
بعد، كانت في الصدر الأول مما يُغبط عليه صاحبه، ويشرفه بين الأنام، وما أُثر من
كلماتهم أولًا ثم من بعض مدوناتهم آخرًا لو تم له نقل إلى لغات العلم الحديث اليوم، لما
حوت من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، لما خجل منها مسلم منور، وربما عدها بعضهم مفخرة
من
مفاخر الملة، بيد أن هذا العمل الصالح الذي كان يُقصد منه تخفيف شرة التكالب على حطام
الدنيا بإصلاح أهلها، أصبح في القرون التالية آلة من آلات التفريق بين أجزاء الأمة،
وملهاة يتلهى بها العامة ومن في حكمهم من الناس، صدتهم عن الجلاد في ميدان الحياة،
وخرجت من هذا المجموع الغض عناصر حيوية لو حسن استخدامها في المصالح، لما ترتب عليها
بعد ذلك أمور غريبة، كالمواجيد والأذواق والشطح والكشف والأحلام، ولما أدت إلى اعتقاد
الحلول ووحدة الوجود ثم إلى الإباحة، والتجرد من كل قيد، والدين لا يقر كثيرًا مما يقوم
٦١ به بعض أدعياء التصوف أو أرباب الطرق من الأذكار والأوراد المصطلح عليها
والتبتل والسماع والرقص ورفع الأعلام وضرب الطبول وإظهار الكرامات التي يزعمون، مثل مسك
الثعابين والحيات ودخول النار وأكلها وبلع قطع الحديد والزجاج والآنية، واستعمال السلاح
لضرب البطون، وإدخال المُدى والأدوات الجارحة في الأفواه واللوق، أضف إلى ذلك ما يأخذون
أنفسهم به من التوكل وترك السعي والعمل للمعاش، والتساهل بالفروض والواجبات، وإجهاد
النفس في التريض والتقشف إلى غير ذلك من الحالات التي أنكرها حجة الإسلام في كتابه
إحياء علوم الدين إنكار بعض العلماء وقوع الكرامات من الأولياء.
قال الشاطبي:
٦٢ وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية
فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهري على صوت واحد، ثم في الغناء والرقص
إلى آخر الليل، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء يرتسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك
ذلك الطريق، هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لا؟ فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع
المحدثات المخالفة طريقة رسول الله وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع الله بذلك
من شاء من خلقه، ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان فقامت القيامة على القائلين بتلك
البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم بها فأرادوا الانتصار لأنفسهم، بعد أن راموا
ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت في الانقطاع إلى الله
والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقر لهم الاستدلال بكونهم على ضد ما كان عليه القوم،
فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول: الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في
الأخلاق والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية في جميع الأعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في
هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم. ا.ﻫ.
وقال: إن هؤلاء، أي أصحاب الطرق المحدثة، لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة فأخذوا
بالتشبه بهم فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم
ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور وبعضهم يضرب على رأسه وما
أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى لكونه من أعمال الصبيان والمجانين، المبكي للعقلاء
رحمة لهم، إذ لم يُتخذ مثل هذا طريقًا إلى الله وتشبهًا بالصالحين. ويقول ابن الجوزي:
٦٣ تأملت أحوال الصوفية والزهاد فوجدت أكثرها منحرفًا عن الشريعة بين جهل
بالشرع وابتداع بالرأي، يستدلون بآيات لا يفهمون معناها وبأحاديث لها أسباب وجمهورها
لا
يثبت إلخ.
وما كان المتصوفون الأولون يعرفون مصطلحات المتأخرين من المتصوفين؛ لأنها من اختراعات
المحدثين منهم، مُزجت بشيء من الزندقة والفلسفة اليونانية فخرجت بها الشريعة عن سذاجتها
ويسرها، وكان الاعتقاد السليم مهمازًا للمؤمنين يحفزهم إلى العمل لما كانت الشريعة
خالية من تأويلات تأباها نصوصها ولا تنطبق على روحها، وغلا القوم في هذا المعنى حتى
خرجوا في بعض أوضاعهم ومعتقداتهم عن كنه الشريعة السمحة على ما حقق المحققون في كل عصر،
ومن أهمهم في القرن السادس أبو الفرج بن الجوزي، فقد ذكر في كتابه «تلبيس إبليس» ما
جناه علم التصوف ومن انتحلوه على الإسلام والمسلمين، ومن أهمهم في القرن الثامن ابن تيمية
وتلميذه ابن قيم الجوزية، فقد حملت كتبهما فصولًا كثيرة في نقد حال من افتاتوا
على الشرع وعبثوا ببهائه.
ومن الغريب أن المتلبسين باسم التصوف على مخالفتهم الظاهرة للشرع، كادوا يسلمون من
اضطهاد الدول، ولم يذكر سوى مرات قليلة أن أخذوا بما اجترحوا أو عوتبوا على زندقتهم،
وممن يدعون الانتساب إلى التصوف في البلاد التي لم يبقَ منها في العهد الأخير من
الإسلام إلا رسومه، أناس جاءت أعمالهم محض إباحة يقضون عامة شهوات النفوس بما لابسوه
من
العادات، وتلبسوا به من الأوضاع، ومن هذه الجمعيات الدينية أو الطرق ما هو أشبه بمجالس
عهر وفجور منه بمجالس ذكر وعبادة، فيه أطرب الأصوات وأمتع الموسيقى وأجمل الوجوه وألطف
الرقص وأغرى الأشعار الغرامية، ولطالما كان من بعض أهل هذه الطرق مطية لرجال السياسة
يستخدمونهم في فتنة العامة، ليوطدوا لهم أسباب الملك والغلبة. أما هؤلاء المتصوفة أو
المتعبدة أو المتفقرة أو المتزهدة فإنهم لا يتحرجون من مناصرة كل قائم رجاء الحظوة
لديه، وهو يبالغ في إغداق حسناته عليهم يتمتعون بها من دون الناس.
كان من التصوف إفراط في اطراح الدنيا أولًا، ثم تفريط أدى إلى اتخاذه ذريعة لكل
رغيبة، لم يقف المنتحلون له عند مناهي الشرع؛ اللهم إلا ما راعوا فيه الظواهر من عبادات
دخلت في حكم العادات، وكثر عدد هذه الطرق في العالم الإسلامي حتى ما تكاد تُعد، وأصبحت
الطرق إلى الله تعالى، كما قال لسان الدين ابن الخطيب، على عدد أنفاس الخلائق، يدخل في
غمارها كل من ترغب نفسه في الكسل، وتحدثه بالدجل، وسماع الغرائب وإسماعها، فينغمس فيها
بقدر استعداده، ويقرب مجموع المتألفين في إحدى الطرق من الدين أو يبعدون من تعاليمه
بحسب علم الشيخ الملقن وعقل مريديه؛ وأكثر المقنين المتأخرين أشبه بالعامة يمتازون بشيء
من الجربزة والدهاء،
٦٤ وقد يكون لهذه الطبقة من القبول في القلوب أكثر مما لو كانت على شيء من
العلم.
وما برح منذ القديم يلتف حول أدعياء التصوف أناس من عُمَّار بيوت البطالة والجهالة،
وفي أفرادهم من لو حللت تراكيب عقولهم لما رأيتها إلا مائلة عن الاعتدال. بيد أن هذه
الفئات التي كانت وطأتها أشد ما تكون في القرون الثلاثة الأخيرة حتى ما يكاد يخلو من
انتحالها من كان يظن أنهم استناروا بقبس من نور العلم، عادت مؤخرًا فتحولت في عالم
الكون والفساد، وثاب أشد المتحمسين لها إلى رشدهم في الجملة، وزهد الناس في تصوفهم هذا،
اللهم إلا أناسًا ممن لا تميل فطرتهم إلى النشاط في العمل، أو من كان تحصيل الرزق في
أرجائهم هينًا لينًا، ويرون من حكوماتهم معاضدة ضمنية بالسكوت عنهم، بحجة حرية
المعتقدات، وكأنَّا بتلك المعتقدات المدخولة وصبيان المكاتب يردونها، وكانت من قبل
ممتلك قلوب طوائف من الناس، هم بحسب العرف عِلْيَة كل بلد.
يقول مارتان هارتمان، من علماء المشرقيات الألمان: إن الطرق الدينية في الإسلام تختلف
عن الطرق الدينية في النصرانية؛ لأن لها تأثيرًا سيئًا، وإن ما يظهر من أمرها يفسد
الدين ويقلل من اعتباره، فأهل الطرق البكتاشية والملامتية والمولوية والنقشبندية
والقادرية على اختلاف أسمائهم هم خطر على الأمة مهما كانت مكانتهم. ويقول بعض كبار رجال
الطرق المنتشرة في إفريقية: إن الطرق أداة من أدوات التهذيب الديني يُعاد بواسطتها إلى
حظيرة الدين كل من انسلخوا منه أو كادوا، وإن مظاهر تلك الطرق تستميل قلوب العامة.
والواقع أن من الطرق في إفريقية ما نفع في هداية العامة خصوصًا ما كان منها يحث
المتلبسين بها على العمل، ومن الطرق ما وقف عثرة في حلوق المبشرين بالأديان
الأخرى.
وبعد فقد وقف بعض رجال الشريعة موقف المخاصم للمتصوفة؛ لخروج بعضهم على قواعد الملة،
ولأنهم حرفوا ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام
فائدة، كدأب الباطنية في التأويلات، مما توصلوا به إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها
وتنزيلها على رأيهم «فأصبح كل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس، وما أكب الناس عليه
فأكثره مبتدع محدث» كما قال الغزالي. وتخلُّق الأمة بما يخالف دينها وعاداتها مضرٌّ بها
وبمن يتولى أمرها، وقد تنحط بذلك إلى أدنى دركات الفساد، ويكثر فيها المكر والخديعة
والكذب والإباحة والظلم، على ما قال العارفون.
هذا هو التصوف في أصله وما انتهى إليه حاله عند المتأخرين ممن لا يفقهون معناه، وإذا
دخل فيه زيف
٦٥ كثير فقد دخل أيضًا على علماء الظاهر خلل غير قليل، وما دام هذا العلم
منبعثًا عن أمور روحية تحتاج إلى ذوق لا يؤاخذ أرباب الأصول منه بما فعل أرباب الفروع
ممن لم يتذوَّقوا هذا الفن، وجعلوه آلة يتصرفون بها على أهوائهم، ويتكسبون به وما يحتقبون
٦٦ إلا ضعف العقول والتأكل بالفضول.
الفلسفة في الإسلام
بينا كان رجال الدين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمتصوفين يتباحثون ويتناقشون
وينحي بعضهم على بعض، كانت تُترجم منذ عصر المنصور كتب الحكمة والفلسفة بهمة غريبة، وما
مضى القرن الثالث حتى كان العرب ترجموا كتب السريان واليونان والهند وفارس، فدرسها بعض
علماء المسلمين والعرب وأخذوا في شرحها والتعليق عليها وإظهار غوامضها، فبدأ الفلاسفة
يظهرون بظهور هذه العلوم الطارئة على الملة، والفلسفة هي علم حقائق الأشياء والعمل بما
هو أصلح
٦٧ هكذا عرفها القدماء، وعرفها المحدثون بأنها علم المبادئ والعلل والبحث عن
العموميات العالية للكائنات والبحث في النفس والعالم وخالق الموجودات من طريق النظر
الفكري، وكان يدخل في الفلسفة علم الطبيعة والأمور الإلهية والتعليمية والرياضية، ويدخل
في العلم الطبيعي الطب والآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان والكيمياء وفي العلم
التعليمي علم النجوم والموسيقى.
كانت الفلسفة في القرن الثاني معروفة للباحثين، ولا سيما لمن تعلموا في مدرسة حران
وفي مدرسة جُنْدَيْسابور من الصابئة والمانية واليعاقبة وغيرهم ولكن لم تنبعث شعلتها
إلا في القرن الثالث، فسقط فيها بعض رجال الدين من المحدثين والفقهاء على أمور أنكروها،
فقاوموها وما قاوموا في الحقيقة إلا ما جهلوا. ومن سوء بخت الفلاسفة أن كانوا فئة قليلة
في كل بقعة إسلامية، وكان خصومهم كثرة في كل أرض؛ ولذا استضعفوهم في الفترات وأنحوا
عليهم، وحاول هذا الكثير أن يقضي على ذاك اليسير وقد يكون الحق في جانب هذا القليل،
كانت مع القوي المادة والسلطة والعوام
٦٨ أتباع كل ناعق، أو من كان مذهبهم مذهب إمامهم يعتقدون صوابه وأن ما عداه
باطل، ويوهمهم أنهم وصاحبه الناجون وغيرهم في النار مخلد أو معذب، وليس من الفئة
القليلة من الخواص سوى أسلات أقلامهم ونبرات ألسنتهم، وثقوب أذهانهم، ونفوذ بصائرهم
وأبصارهم، وكانوا على كثير من الحق، وكان منازعوهم على شيء من الباطل، وكانت عاقبة هذه
الحرب التي شبت قرونًا نكبة العلم، وإفلاس العقل، وشلَّ حركة البحث والنظر.
ولكن الفلاسفة مع هذا ظهروا على ما عاداهم بقوة علمهم وقوة بصيرتهم، ونشروا تعاليمهم
بالقدر الذي ينفع في إنارة العقول وثقافة الجمهور وعمارة البلاد، وغلط بعض من اشتغلوا
بالفلسفة أن استخدموا بعض فروعها في تأييد العقائد فاتخذوها سلاحًا في علم الكلام يقوون
به برهانهم، ومزجوا الإلهيات بالفلسفيات، فكان في ذلك ضرر على الكلام وعلى الفلسفة
معًا. ولما زج بعض علماء الفلسفة
٦٩ أنفسهم «في المجادلات الدينية التي أثارها من ادعى الإسلام من شيع الفرس
والأعاجم، وحملهم الجدل ولدد
٧٠ العناد على الخلط بين العقائد الدينية وما لا ينطبق على أصول النظر، انبرى
لهم من بين الجماعة من أدحض لهم بعض قضاياهم، وخاف الخلفاء شر الفتن فأمسكوا عليهم
حريتهم، وسقطوا في هاوية كانت خاتمة أمرهم في الإسلام. ولولا ذلك ما وقف أمام العلم
والصناعة متعنت، ولا وقفت الحضارة الإسلامية عند حد محدود.» هذا، والإسلام
٧١ أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في أسرار هذا الخلق العظيم من حيوان
ونبات وجماد، ورفع القرآن من شأن العقل فأطلق العنان للفكر ما شاءت قوته عظةً
واستدلالًا، وما قولك في دين يقول أئمته بترجيح العقل على ظاهر الشرع عند التعارض،
والدين طريق القلب والعواطف، والفلسفة طريقها العلم والنظر.
اشتغل الفلاسفة في الإسلام بشيء من التقية في فلسفتهم، حتى عندما كانوا يرون من حماية
بعض الخلفاء لهم ما ينشطهم على ما هم فيه، كعهد المأمون الذي اضطهد أعداء الفلاسفة،
وقضى بعض أرباب الشهرة في سجنه الشهور أو السنين؛ لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنًّا
منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده، واعتقد المأمون بخلق القرآن
٧٢ فوضع هذا المبحث موضع المناقشة بين العلماء، فقال السواد الأعظم بقوله،
وأبى بعضهم تورُّعًا أن يوافق على أن القرآن مخلوق، فطلب أن يمتحن القضاة والمحدثون
لكشفهم عما يعتقدون في هذه المسألة، وأن يُكتب إلى الآفاق بذلك، فوافق أكثر الممتحنين،
وهرب أفراد وحاولوا التملص، فأحدث هذا الرأي ضجة في الأمة شأن كل فكر جديد، وأوذي
بعضهم، وما كان المأمون يريد أذاهم، أراد تحكيم العقل فاتخذ أعداؤه من ذلك حجة للطعن
عليه وسموا ذلك المحنة. على أن بعض المتأخرين من خلفاء بني أمية في أول القرن الثاني
كانوا يرون رأيه لكن شغلتهم عن الجهر بما اعتقدوا على ما يظهر مسائل أهم من هذه، وهي
مسائل الملك والخلافة.
وعلى ما تخلل تلك المحنة من الثورة على الفلسفة رأينا عقلاء منهم في أواسط القرن
الرابع كالبستي والزنجاني والمهرجاني والعوفي وزيد بن رفاعة يؤلفون في البصرة جماعة
إخوان الصفا ويضعون رسائلهم المشهورة، يودعونها آراءهم، ومذهبهم خلاصة أقوال الفلاسفة
الإسلاميين في عصرهم بعد أن أخذوا الفلسفة عن اليونان والفرس والهند وعدلوها، وقالوا:
٧٣ إن الشريعة قد دُنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات فلا سبيل إلى غسلها
وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية. وزعموا أنه
متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وستر إخوان الصفا أمرهم
وأخفوه عن الشمس والقمر، مخافة أن يحل بهم ما يعوقهم، ويقطع عليهم طريقهم، وكانوا في
الغاية أدبًا وعلمًا وذكاءً، وكان زيد بن رفاعة أحد رجالهم من أذكى علماء العالم، وهو
والخليل بن أحمد وأبو الأسود الدؤلي من أفراد الدنيا في تلك الأيام.
بل شهدنا صورة من الحرية في القرن الثاني من أدهش ما دوِّن، شهدنا عشرة في البصرة
يجتمعون في مجلس لا يُعرف مثلهم على ما قال خلف بن المثنى:
٧٤ الخليل بن أحمد صاحب العروض سني، والسيد محمد الحميري الشاعر رافضي، وصالح
بن عبد القدوس ثنوي، وسفيان بن مجاشع صفري، وبشار بن برد خليع ماجن، وحماد عجرد زنديق،
وابن رأس الجالوت شاعر يهودي، وابن نظير النصراني متكلم، وعمر بن أخت المؤيد مجوسي،
وابن سنان الحراني الشاعر صابئ، فيتناشدون أشعارًا وأخبارًا، ويتآلفون كما كان يتآلف
في
بغداد جماعة أبي سليمان المنطقي محمد بن طاهر السجستاني، الذين قيد كلامهم أبو حيان
التوحيدي في كتاب المقابسات
٧٥ أواخر القرن الرابع، ومنهم يحيى بن عدي والبوشجاني والمقدسي والعروضي
والقومسي وعيسى بن ثقيف الرومي وابن مقداد وأبو القاسم الأنطاكي وكان يُعرف بالمجتبى
وأبو محمد الأندلسي النحوي وأبو إسحاق الصابي والخوارزمي الكاتب ووهب بن يعيش الرقي
وابن سُوار وماني المجوسي وأبو الحسن محمد بن يوسف العامري وعبيد الكاتب، وغيرهم «من
كل
من هو واحد في شأنه وفرد في صناعته»، وكان فيهم المجوسي والصابي واليعقوبي والنسطوري
والملحد والمعتزلي والشافعي والشيعي، ولم تصل إليهم يد السلطنة الزمنية لاتصالهم على
ما
يظهر بالأمراء، وكانوا فئة راقية وجمعيتهم أشبه بمجمع علمي، وربما كان بعض المتعصبة
ينظرون إليهم شزرًا،
٧٦ وودوا لو يماشيهم رجال الدولة ليناقشوهم الحساب بالحق والباطل.
لا جرم أن بغداد كانت منذ أواسط القرن الثاني إلى أواخر القرن الخامس ميدان الأفكار
الجديدة، كما كانت البصرة كذلك منذ القرن الأول، يقصدها العلماء من القاصية ويتألفون
ويتذاكرون صنوف العلم ويتفاوضون الحكمة، وكانت دار السلام مدة ثلاثة قرون سرة العالم،
ومبعث الحركات الفكرية، ومباءة العلم الوحيدة، بل حاضرة الثروة والرفاهية والمدنية، هان
فيها على العلماء أن يوحدوا مقاصدهم، وينظموا صفوفهم، ويتناغوا بعلومهم وآدابهم، ويرى
معظمهم من الخلفاء تنشيطًا ومسامحة تقل وتكثر تبعًا لعلم صاحب الشأن، ومبلغه ومبلغ
رجاله من العقل.
وإذا قسنا حرية بني العباس في معنى السماح للفلسفة بحرية ملوك الطوائف والمرابطين
والموحدين في الأندلس، نجد العباسيين أرقى كعبًا من منافسيهم في الغرب، حاشا عهد الحكم
المستنصر بالله الأموي الذي خدم هذا العلم، لما جمع للعلماء من كتبه، وأخذ بأيديهم
وأطلق لهم العنان يعملون، وربما كان من ملوك الأندلس من يحبون الفلسفة سرًّا ويظهرون
خلاف ما يضمرون تقربًا من الجمهور، وكانت الفلسفة في القرن الخامس في الأندلس علمًا
ممقوتًا لا يستطيع صاحبه إظهاره كما قال ابن حزم، ومع هذا نبغ هناك عشرات من الفلاسفة
أمثال ابن زهر وابن طفيل وابن رشد وابن باجة وابن الصائغ وأشباههم، كما نشأ في المشرق
أمثال الرازي وابن سينا والفارابي والبيروني، وكان هوى ملوك الأندلس بعد دولة بني أمية
مع العامة، وهؤلاء يسيطر عليهم المتفقهة، والملوك يفادون بالفلاسفة لإرضاء العامة، هذا
إذا لم يدس بعض الملوك على الفلاسفة، ويشوقوا العامة إلى النيل منهم ليفترصوها
٧٧ حجة في تشريدهم، ويشتدوا في التضييق على الفلاسفة، إذا شعروا أنهم غير
راضين عن الدولة الحاضرة. ومن الفلاسفة من هام على وجهه لا يلوي على شيء، ومنهم من لزم
بيته أو مسجده، ومنهم من تظاهر بالجنون كما فعل ابن الهيثم الرياضي مع الحاكم بأمر
الله.
واشتدت الحكومات في القرن السادس في مطاردة علوم الحكمة، ولم يكن في الدولتين النورية
والصلاحية سلطان لغير حملة الشريعة، وحرم ابن الصلاح في المائة السابعة المنطق
والفلسفة، ولم يمكِّن أحدًا في دمشق من قراءة كتبهما. وقال المؤرخون: إن الملوك كانوا
يطيعونه في ذلك، وابن الصلاح هو الملقب بتقي الدين وهو غير نجم الدين أبي الفتوح أحمد
المتوفى سنة نيف وأربعين وخمسمائة وكان هذا فيلسوفًا طبيبًا، ولما ولي الأشرف موسى نادى
في مدارس دمشق من ذكر غير التفسير والحديث والفقه أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته، وهذا
كان في أوائل القرن السابع. وقال الذهبي في القرن الثامن: «إن الفلسفة الإلهية ما ينظر
فيها من يُرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه، فإن هذا العلم في شق وما
جاءت به الرسل في شق، وما دواء هذه العلوم وعلمائها والقائمين بها علمًا وعملًا إلا
التحريق والإعدام من الوجود؛ إذ الدين ما زال كاملًا حتى عُربت هذه الكتب ونظر فيها
المسلمون، فلو أُعدمت لكان فتحًا مبينًا.» وهذا كلام الفقيه المتعصب، واشتد المتفقهة
في
إرهاق مَن علم الفلسفة، لكنهم لم يرهقوا المرهقين
٧٨ في دينهم من المتصوفة؛ لأن عددهم كثير وجمهرة العامة منهم، وقد اتخذهم بعض
الملوك قوة الظهر لهم، والجميع على طلب رضاهم والبعد عن غضبهم. وعلى قدر ما كانت مخالب
أرباب القوة تستطيع أن تنشب في العزل
٧٩ إلا من سلاح عقولهم، كنت ترى إرهاق الحرية وإزهاق أرواح دعاتها يشتد بعد
المائة الثامنة، ولا نعرف فيما وقفنا عليه أنه جاء فيلسوف يذكر بعد هذا القرن، وأشبهت
الأسباب التي دعت إلى اضمحلال الفلسفة في الأقطار العربية أسباب اضمحلالها في مختلف
الأقطار والأمصار،
٨٠ فقد اضطهدت الفلسفة في أثينا بسبب الشهوات السياسية والعصبيات الحزبية التي
كثيرًا ما تُصبغ بصبغة دينية، وعفت آثار الفلسفة من بلاد اليونان كلها عندما رقت حالهم
وفقدوا استقلالهم باستيلاء الرومان على بلادهم، على نحو ما كان من ذلك في الأقطار
العربية، وقد التصق بالفلسفة أناس ليسوا من أهلها من الزنادقة الظاهرين بالإلحاد
والكفر، المستهترين
٨١ بما يأتون من المنكرات تحت ظل حرية التفكير السامي، والفلسفة بريئة من كل
منكر.
يقول رنان: لما تغلب علماء التوحيد في الملة الإسلامية وأصبحت لهم منذ سنة ١٢٠٠م
السيادة الكلية، هُجرت الفلسفة في البلاد الإسلامية، وأصبح المؤرخون والكتَّاب لا
يذكرونها إلا من قبيل الذكرى بشيء من النفرة، ورأينا بعد ذلك كتب الفلسفة تنعدم وتندر
والحظر يتناول تعليم علم الفلك إلا بقدر الضرورة لمعرفة اتجاه القبلة، وجاء الأتراك
واستولوا على بلاد الإسلام وغلبت عليهم طبائعهم فأطفأوا نور الفلسفة والعلوم جملةً، وفي
عهدهم انخفض لواء العلم والحكمة، ولم ينبغ في الإسلام عالم ذو فكرة وقادة إلا نادرًا
مثل ابن خلدون. ا.ﻫ.
تم للمتجرين بالدين ما أرادوا من سد منافذ العقل وأبواب النظر، وقل في هذه العصور
المظلمة من تاريخ الإسلام من يُعد في المميزين المفكرين، وبطلت علوم الحكمة جملةً، وصار
من يتعاطاها بغيضًا إلى المسيطرين على الأفكار كأنه أتى أمرًا إدًّا
٨٢ وخان دينه وملته، وذلك في العصر الذي بطل فيه النظر في الأصول، وتحتم على
كل عقل أن لا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين، اعتبر ذلك بما تتلوه في
تراجم أعيان العلماء في هذه القرون، فإنك لا ترى أعمالهم تتعدى الأقوال والآراء التي
لاكتها الألسن، يقدس أهل كل جيل قول من سلفهم ولو بأعوام قليلة، ولا تكاد تجد لهم
تأليفًا فيه نور العقل والبحث، والخلاص من التقليد والجمود، وراح الفقهي يكفر الفلسفي،
والصوفي ينقم على الحديثي، والأصولي يحمل على الفروعي، واشتغل أهل كل قطر بل أهل كل مصر
بتقديس من تواطأوا على تقديسهم، والطعن على من عداهم، وامتزجت علوم الدين بالمشاغبات
والمماحكات، وتفاحش الاختلاف بين الشريعة أمس واليوم، أو بين ما يُطبق منها وما بقي في
النظريات، حتى كادت بانتشار أطرافها يصعب الجمع بين أجزائها كما يصعب الجمع بين
النقيضين.
قال أحد علماء الملة: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأطباء يطبون للمرضى
حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة
على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلًا، فبين من يدبر المريض وبين من يدبر الصحيح فرق
ظاهر وأمر مكشوف.
أصبح الناس بعد المائة السادسة تفتر هممهم شيئًا فشيئًا في طلب العلم، ورغبوا عن
الافتنان بفنونه، وحصروا نطاقه وعفوا بعض معالمه فأصبحت مجاهل، وكثرت البدع وكثر الدعاة
إليها، والتعويل عليها،
٨٣ وأشبه طالب الحق في تلك العصور طلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي
وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما «وإن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه
وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة.» وكان عمل من انحصر فيهم الدفاع عن حوزة
الدين ضارًّا ونافعًا، قاتلوا الخارجين على الإسلام ومن انتحلوا نحلًا جديدة، فوحدوا
الكلمة في الجملة، وأنزلوا الضرر بكل من خالفهم ولو قليلًا في أفكارهم، هذا وهو لم يمس
الجوهر، وربما كان ظاهر سعيه لتأييد هذا الجوهر، وراحوا يطلقون ألفاظ التبديع والتكفير
على خاصة العلماء ممن لم يكونوا قرءوا كلامهم، أو إذا قرءوه لا يفهمون أسراره، فاضطر
كثير من العارفين الأذكياء إلى أن يقبعوا في كسر
٨٤ بيوتهم أو يعتصموا بالتقية المذلة، وكانوا بين خوف العامة، وعلى رءوسهم بعض
أولئك المتعصبة يهيجون أرواحهم، وخوف السلاطين ومعهم أسواط العذاب يسوطون بها ويصولون،
وكلما اشتدت نقمتهم على العلماء صفق السواد الأعظم سرورًا، ولما يعرفوا السبب في
تصفيقهم، والجمهور مجنون كما قيل.
وما يدرينا أنه جاء في الأمة رجال كتموا شيئًا من الحقائق مخافة أن يُعرفوا بها
فيهلكوا، وبذلك حقنوا دماءهم، واتقوا تقاة أنجتهم من تسلط العتاة الطغاة، والملحوظ أنه
ضاعت أخبار كثير من هذا القبيل؛ لأن من دونوا استصغروا على ما يظهر شأن ما وقع في هذا
الباب فأغفلوه، إهمالًا أو تقية ومتاقاة، وتجافى كثير من أرباب الأفكار المستنيرة عن
تدوين ما وقع في نفوسهم، أو وقع لهم من المشاكل والمشاغب، خشية أن تسقط مدوناتهم في
أيدي أعدائهم فتكون حجة في الخلاص منهم.
وربما لا يخطئ من يدعي أنه خرق النظام القريب المأخذ، وشعبوا منه ما لم يكن لأحد من
أهل القرنين الأولين عهد بمثله، تساهلوا في إدخال ما يضر أو ما لا يضر ولا ينفع،
وضيَّقوا الخناق على الفكر، ورموا إليه بالتافهات يشغلونه بها، ومنعوا عنه الطيبات،
وتحكموا في القرائح فأخرجوها عما وضعت له، فتقلقلت أو جمدت، والجمود هو الموت بعينه،
وقفت الأذهان بالجهل والتعصب، فجنى الجهلة على الدين والدنيا، ذلك لأنهم نظروا إلى كل
أمر بمنظار الدين، ولم يتركوا الدنيا تسير بما هو أصلح لها، ولطالما كانوا لا يرضيهم
إلا إهلاك من خالفوهم تقربًا إلى الله ووسيلةً.
وقف الجامد عند الحد الذي تصور فيه السلامة، وآلى أن لا يتقدم إلى الأمام؛ لأن قريحته
خانته، وأظلم طريقه، وما كان وقوفه تراجعًا بل فناءً، ووقف الجاحد عند حد إنكار كل ما
لا ينطبق على رأيه وعقله، من دون روية ولا درس، وكان الاثنان بين جاهل وأجهل: الأول قضى
على الدنيا، والثاني قضى على الدين. جاءت طائفة من الجاحدين تقول: إن النجوم ناطقة
مدبرة وكذلك الفلك، ورأت أن إنكار كل شيء في الدين أسهل عليها فأنكرت، وجاءت طائفة من
الجامدين تدعي أن الأرض على حوت، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة، والصخرة على
عاتق ملك، والملك على الظلمة، والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله، فأي جمود أكثر من هذا
وجحود أبشع من ذاك؟!
وما أجمل ما قال محمد عبده: «لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا
مثله سلطانًا تفرق عنه جنده، وخفر عهده، وكفر وعيده ووعده، وخفي على الغافلين قصده، وإن
وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خشارة
٨٥ من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية
٨٦ من الناس اتصلوا به، ووصلوا سببهم بسببه، وقالوا: نحن أهله وعشيرته، وحماته
وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفن
٨٧ الرأي من صحة الحكم.» ا.ﻫ.
ضاع العلم بين جامد في دينه، وجاحد في يقينه، وكان طالع الفلسفة النحس؛ لأن أصحابها
كانوا أبدًا بين نارين: نار الملوك ومعهم السلطات كلها، ونار رجال الدين وسلطانهم. ووَقَرَ
٨٨ في نفوس المسلمين، كما كان النصارى في بعض عصورهم، أن السلامة في ترك
الفكر، والأخذ بالتسليم والاستسلام للأمر الواقع، وسرت إلى الناس قاعدة «الجهالة أُمُّ
التقوى»، وكان بعضهم يتشدق ويقول: «اللهم إيمانًا كإيمان العجائز.» وتغير الزمان وارتقت
العقول، وهجمت المدنية الغربية على الإسلام، وذاك الجامد ما زال على جموده يمهد
٨٩ لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية، محتجين بأن التأخر
الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلي به
المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وأن
هذه مزية له على سائر الأديان، فلا حصر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه،
كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهد في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل،
ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوروبا الحاضرة.
«والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها
وصناعاتها، بحجة أنها من علوم الكفار فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه
الفقر الذي هم فيه وقص أجنحتهم، فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض،
والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها، فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو
عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توًّا إلى الآخرة فليس لكم نصيب مني، ثم إننا بحصر
كل مجهوداتنا في هذه العلوم والمحاضرات الأخروية، جعلنا أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر
الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعملون في الأرض، ونحن ننحط في الأرض إلى
أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا
٩٠ عن نفس ديننا، فضلًا عن أن يملكوا علينا دنيانا … والمسلم الجامد لا يدري
أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته، وحطها عن درجة الأمم الأخرى، ولا ينتبه لشيء من
المصائب التي جرها على قومه إهمالهم للعلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه،
وصاروا عيالًا على أعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلًّا
٩١ ولا ذمة؛ فهو إذا نظر إلى هذه الحالة عللها بالقضاء والقدر بادئ الرأي،
وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار.» ا.ﻫ.
وأقوى الأسباب في هذا الجمود الذي أدى إلى فناء العلم والصنائع كون العلوم التي تقوي
ملكة العقل، وتعين على نجاح الصنائع وجلب الثروة، قد بطلت جملةً واحدة بعد القرن
العاشر، وأصبحت العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية من علوم الكفر، لا يدرسها إلا من
يهون عليه بزعم المتعصبين أن ينحل من معتقداته ومقدساته، وغدا ينظر إلى من كان له إلمام
خفيف بفرع من فروعها كأنه بعض المتهوسين
٩٢ والقصاصين، بل القصاصون أرفع مقامًا من المؤرخين،
٩٣ وربما اعتبر المجاذيب والحشاشون والطبالون والمؤذنون أكثر من المهندسين
والمتطببين والمؤرخين والفلكيين والجغرافيين، وجاء عصر المتجرئين على الفتيا يقولون
بتحريم هذه العلوم وكانت تُقرأ في مدارس المسلمين منذ القرن الثالث إلى التاسع في جملة
العلوم التي لها مساس بالشرع.
هذا إلى ما هنالك من انتشار الفوضى العقلية بين المسلمين
٩٤ «وتحت حماية الجهلة من ساستهم فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به
العلم لهم فوضعوا ما لم يعد في الإسلام قِبَل باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف
أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في
التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق من الأمم في دعوى العداوة بين
العلم والدين، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام.»
الفلسفة علم الخاصة وإضعاف أمرها إضعاف للعقول المفكرة في الأمة
٩٥ «ولطالما قال القائلون: إن قليلًا من الفلسفة يبعد عن الدين وإن كثيرًا
منها يعيد إلى حظيرته. وهذه الكلمة لا تخلو من غموض، فيها إشارة إلى قدرة العقل
الإنساني وإلى ضعفه وعجزه، ولها نتائج أخرى غير التي يُراد إلصاقها بها؛ إذ من البديهي
أن جمهور الناس لا يكونون فلاسفة، فهم بين حالين إما أن يتذوقوها قليلًا وإما أن
يبتعدوا عن الأخذ بمذاهبها جملةً، ولئن سدت الذريعة دون كل فلسفة تتسرب إلى آراء
الجمهور، فإنه مما لا مناص منه أن تأثير المعتقدات الدينية يضعف إذا كان الناس على
استعداد لذلك، أو كانوا يدعون أن أفكارهم تحسن فهم الفلسفة أو يظهرون أن الأوهام لا
سلطان لها على عقولهم فيجادلون في المعتقدات والتكاليف، ويروون من الأفكار ما لا ينطبق
على عقولهم ولا يخرج عن حدود الطبيعة، وفي هذه الحال لا يحول دون سراية الأفكار
الفلسفية غير سيطرة المجتمع، فهو أكبر ضامن للقضاء على ما لا يصح من الحقائق، وهذا أفضل
من اللجوء إلى المحاكمات والتعذيب في السجون والمطابق بما لا يقبل الجدل.»
الآداب: الشعر والنثر والخطابة
كان الأدب العربي يرتقي ويتدنى بفعل الحكومات، وعلى مقدار أخذها بأيدي الشعراء
والكتَّاب، فالشاعر المشهور في الدولة الأموية هو الذي خاض في مسائل سياسية، ودعا إلى
عصبية، ومدح بعض القائمين بالأمر أو قدح فيهم، وفاخر بقومه وملته، والموفقون للخلفاء
يلقون منهم أبدًا معاضدة ورفدًا، والشعراء أدوات دعاية للعظماء والزعماء، وعلى هذا جرى
الشعر في دولة بني العباس ولا يكاد يشتهر فيها إلا من لابس الكبراء، وتقرب من قلوب
الخلفاء والأمراء، بهذه الضروب من الشعر، وأهمها في نظرهم المديح والهجاء، وكان الشعراء
منذ عهد الراشدين بل منذ عهد صاحب الشريعة يُدعون إلى قول الشعر بما يخدمون به الدعوة
الدينية أولًا ثم الدعوة السياسية، ومنذ عهد حسان وأغراض الشعر تدور على صاحب السلطان
إلى أن تأذن الله بانقراض الدول العربية، وتولى أمر العرب ملوك من الأعاجم لا يفهمون
الكلام العربي، فضلًا عن أن يقيموا للبلاغة وزنًا.
فالشعراء الذين اشتهروا مثلًا في عهد الرشيد والمأمون هم الذين مدحوا هذين الخليفتين
وخدموا الدعوة العباسية، والشعراء الذين اشتهروا في عهد معاوية وعبد الملك هم الذين
تطوعوا في إيراد محامد الأمويين والمروانيين، ونالوا من خصومهم، والشعراء الذين اشتهروا
في دولة الأندلس الأموية ثم في الدول الخالفة هم الذين تعلقوا من خدمة سلطانهم بسبب؛
وشعراء الفاطميين وشعراء سيف الدولة، بل شعراء ملوك الطوائف عامة، هم الذين كان سبيلهم
سبيل غيرهم في الدفاع عن الحوزة وتبجيل صاحب القوة. وما راج الشعر إلا إلى جانب سلطان
يفضل في الجملة على صاحبه، ويستنشده ويعضده ويهتز لمديحه، ويحاذر من سلاطة لسان
صاحبه.
وهكذا كان من النثر ولكن على مقياس مصغر؛ لأن النثر لا يتناقل كالشعر، ولا يسهل حفظه،
وإن كانت أغراضه أوسع رقعةً، والحاجة إليه في التأليف والتصنيف ظاهرة محسوسة، ومع هذا
اشتهر الكتَّاب الذين خدموا الدول أكثر من أقرانهم الذين عزفت نفوسهم عن الخدمة، حاشا
أفرادًا من المبرَّزين اشتهروا على بعدهم عن السياسيين، وما كانت شهرتهم تستفيض هذه
الاستفاضة أيضًا لولا أنه كان في رجال الدولة، بل من الخلفاء أنفسهم، من كانوا يعرفون
أقدارهم، ويغدقون عليهم الهبات لتآليف لهم يهدونها إليهم، كلما وضعوا شيئًا ويفضلون
خصوصًا على المبرزين منهم أمثال البلاذري والجاحظ والأصفهاني وابن قتيبة
والثعالبي.
وبدأ الشعر ينحط منذ قل في الولاة من يقدره قدره ويثيب عليه. وأخذ النثر في القرن
الرابع يتدلى بظهور أناس من الكتَّاب تعلقوا بالأسجاع، ومن أشهرهم الصابي وابن عباد
وابن العميد والخوارزمي وأضرابهم ممن أخرجوا الكتابة عن طريقتها المرسلة التي حُصرت في
التأليف، وتشبث كتَّاب الدولة بالسجع ومنه الطبيعي وأكثره متكلف، فاعتور الانحطاط علوم
الآداب وما إليها كما اعتور علوم الدين، منذ انقطع في القرن الخامس ظهور كبار الشعراء،
وبقي في الشعر ذماء
٩٦ من قوة إلى حوالي القرن السابع، وتدهور بعد ذلك تدهورًا عظيمًا، إلى أن
جاءت القرون الأخيرة فأصبح هيكلًا من العظم لا دم فيه ولا لحم، وكان ضعف الإنشاء على
تلك النسبة، فأمست كتابة المؤلفين ضعيفة معقدة لا رشاقة فيها ولا سلاسة، إذا خرجت عن
قوانين السجع والترصيع تفقد جمال الديباجة، وتندر المعاني وينعدم الإبداع. ويستغرب في
القرنين الثامن والتاسع ظهور مؤلفين مثل ابن خلدون وابن الخطيب في المغرب والمقريزي
والقلقشندي في المشرق يكتبون العربية بهذه الرشاقة وهذا الإبداع، وما كان لهم شيء من
لطف الأداء، لو لم يكونوا استقوا مادتهم من فحول الأقدمين، ولو لم ينطووا على علم كثير
ومعارف واسعة.
أصبح الأدب في عهده الأخير عبارة عن شعر مبتذل ركيك، واستحال إلى أماديح لا غرض منها
إلا الكذب على الممدوحين لتلقف هباتهم، أو غزل فج لا يعدو غزل كل عصر بمعناه، وهو ساقط
مبتذل، وللنثر أساليب منقولة، وألفاظ مدخولة، وجماعه جناسات واستعارات، أفسدت اللغة
بهذا البديع المريع، ولو أردت أن تنقل إلى لغة أخرى ما كتبه أكثر المسجعين لاقتضى لك
على الأقل أن تحذف نصف جمله ومترادفاته المكررة، هذا إذا لم يكن المعنى المراد أداؤه
تافهًا في ذاته، ولا يطالعك شاعر بصورة من صور عصره إلا إذا كان مما أُخذ فيه بحظ وافر
من التكلف والتعسف، خلافًا لما نرى مثلًا في بعض شعراء عصرنا ممن إذا قرأت شعرهم تتجلى
لك منه روح العصر أو أكثره.
ولم يأتِ أحد بعد القرن التاسع في هذا الشرق العربي بضرب من الأدب يخلد صاحبه، وينتفع
به على غابر الأيام، أو بتأليف طريف لا يستغني عنه جمهور الناس، ويعدُّ ضياعه ثلمة في
بنيان التآليف العربية، وإذا كُتب لأحدهم الولوع بالأدب فيكون ذلك عن باعث نفسي فقط
يتزين به صاحبه بين الملأ ويتجمل بطرائفه أمام الأقران والجيران. وضاق المحيط على
الشاعر والكاتب فأصبح ابن اليمن منعزلًا عن البشر يتوهم أن أفق العالم ينتهي ببلده،
وابن الشام لا يعرف شيئًا يُذكر عن ابن بغداد، وابن أصفهان ونيسابور لا يبلغه عن ابن
سمرقند إلا أخبار متقطعة في السنين الطويلة، بل ابن فسطاط مصر لا يعرف من أخبار ريفها
إلا ما لا بال له، وابن فاس لا صلة له بابن الجزائر، وابن القيروان لا يكاد يعرف أمرًا
عن ابن برقة، إلا كما نعرف عن بلاد واق الواق. وصعب الارتحال على الناس لفتور هممهم في
كل شيء، واكتفى كل قوم بما وقع تحت أنظارهم من الأفكار، وكانت الحكومات من أهم العوامل
في هذا التباعد والجهل.
هذا ما كان من أمر الشعر والنثر، وتاريخهما في الجاهلية والإسلام طويل، وتدنيهما
أيام
الانحطاط إلى حد السخف والهراء أطول. بقي أن نقول كلمة في الخطابة، وكانت العرب في
جاهليتها لا تعدم كل قبيلة خطيبها أو خطباءها كما لا تخلو من شاعرها أو شعرائها، ورقيت
الخطابة في الإسلام بفضل الرسول وأصحابه والخلفاء وقويت حين نجمت الخصومة السياسية
الحزبية بين المسلمين
٩٧ والذي دوِّن من كلام الخطباء ورُوي من خطبهم، آية البلاغة على وجه الدهر،
وجاء الإسلام وصاحبه أخطب أمته، وفي أصحابه من مصاقع الخطباء كالراشدين، ومن قاموا
باستصفاء هذا الملك ونشر الدين واللسان في الأمصار، ما هو مفخرة من مفاخر الأمم. وأتى
خلفاء الأمويين ومعظمهم خطباء
٩٨ ومنهم من يُعد في أرقى طبقات الكتَّاب، وفي قوادهم وعمالهم نبغ الخطباء
الأبيناء، والكتَّاب الذين لا يُشق لهم غبار، وكذلك خلفاء بني هاشم ورجالهم، وكذلك
خطباء بني علي وكذلك خطباء الخوارج وخطباء المعتزلة.
ولم يبدُ الضعف إلا لما أخذوا يوسدون الخلافة إلى الجهلة، فأنشأ هؤلاء ينيبون عنهم
في
خطب الجمع والمواسم والمجتمعات العامة، وبقدر ما كان يقل اشتراك النبغاء النابهين بأمور
الدولة، كان خطباء السياسة يقلون بل يندرون. وعلى نسبة تدني العلم والعمل كان خطباء
الجوامع إلى التقليد بعيدين عن المسائل التي تشتد رغبات العاقلين في حلها أو سماع ما
يُقال فيها، لا يأتون في الأكثر إلا بالساقط من الكلام، والضعيف من المعاني والأحكام،
حتى غدوا سبة على البيان، وعدم الانتفاع بخطبهم الملفقة، وأصبح معظم الناس يتجافون عن
سماع خطب توجع الرءوس بلا فائدة.
كان القصَّاص منذ الصدر الأول أشبه بخطباء في الجيوش والمساجد ويوم الحفل، فضعفوا
أيضًا وضعف بيانهم بضعف العلم وشلل الأدب وفساد السياسة، وقلما جاء قاص أو واعظ أو خطيب
يؤثر كلامه بعد أن انحل أمر العرب أو كاد، ودخل الأعاجم يكاثرونهم ويجاذبونهم حبل
السلطة، وبقدر ما كانت النفوس تزهد بالعلم، والعجمة تدخل على اللغة وأبنائها، واللسان
يفسد بملابسة العرب لمن عداهم من الأمم، كانت الخطابة تتراجع، والبلاغة تستحيل إلى
فهاهة، وأخذ خطباء السياسة وخطباء الدين يعمدون إلى إعداد خطبهم، وإذ كانوا ضعافًا في
صيغ الكلام، جاءت خطبهم مثالًا ظاهرًا من الضعف والتقعر، ثم انحطوا بعد عصور إلى أكثر
من ذلك، فأصبح الخطيب يأخذ كلام غيره، ولا يحسن تلاوته أو التصرف فيه، وتولى خطابة الجوامع
٩٩ العامة ومن في طبقتهم، فغدا نصف خطبهم في الزهد على غير طريقة السلف،
والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يخرمون منه كلمة، ثم هم يدعون بأدعية مردودة، ويتعلقون
ببيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والأماكن والجوامع إلى آخر ما يرددونه من البدع
التي ينكرها الشرع، فلا هم يعرفون كيف يعالجون حقائق الحياة، ولا هم ممن استعدوا
بالثقافة لبث الأفكار الصحيحة، وتهذيب النفوس على ما ينفعها في المعاش والمعاد.
وبعد أن كان الخطيب أعظم أداة فعالة في قيام أمر الجماعة وسياسة الملك والدولة، وأنفع
مدرس يلقي على أهل البلد في الجمعة والعيد والحج كل ما يصلحهم، أصبحت الخطابة من
العوامل في صد الناس عن التحلي بالفضائل، تلقنهم الاتكال المذموم، وتعبث بعقولهم فتلقي
في القلوب أمورًا لا تنفع بل تضر، وتسمعهم مواعظ تخدش الملكات الطبيعية، وتلقي بالأمة
في عالم من الخيال لا أثر للعمل فيه، وتسوقها إلى حياة لو جرى الناس فيها على ما يُراد
منهم لبطل حتى الكدح للمعاش، وفقدت كل دعوة إلى إصلاح وفضل، وآضت دواوين الخطب فجة
سخيفة تلوكها ألسن جاهلة، قد لا تصحح حتى الآيات والأحاديث المأثورة، وعلى هذا أمست
مطالب الناس في وادٍ، وخطب الخطباء في وادٍ آخر.
وكان من أكبر الدواعي إلى هذا الجمود المميت أن كان من تولوا أمر هذه الأمة في القرون
الأخيرة أعاجم جهلة، لا يعرفون غير شهواتهم، ولا يهتمون لتعليم الناس ولا لإصلاح
نفوسهم، بل يعدون الجهل ضربًا من ضروب الإدارة والسياسة، وغاية ما يتطلبونه من خطباء
الجوامع في الأعياد والمواسم أن يشيدوا بذكر الدولة القائمة، ويدعوا لخليفة الوقت
ودولته الظالمة بالنصر والتمكين إلى يوم الدين!
نعم كانت الجوامع في الإسلام مدارس دائمة الفيض في تعليم العامة والخاصة، فأصبحت
بالمستبدين من السلاطين بؤرة لتلقين الخمول، لا تؤوي إلا الكسول، وكانت قصور الملوك
والأمراء ميدانًا يتنافس فيه الشعراء والعظماء من العلماء، فيكون من مساجلاتهم
وإنشاداتهم عموم النفع في تثقيف الطبقات المختارة، تسري سريعًا إلى صفوف الجماعة
يتلقفونها ويتدارسونها، فأصبحت مصادر الشهوات والدسائس والمظالم، والكلام فيها لا يعدو
قانونًا معينًا، وفيه كثير من السخف والركاكة. وكانت دواوين الإنشاء في العواصم
الإسلامية الكبرى من أعظم دور الأدب في تخريج المنشئين والكاتبين، فأصبحت تتقيد بالمثال
الذي يريده صاحب السلطان، وكل من يأتي يستظهره أو ينقله برمته، وقد لا ينطبق على منطق
معقول، ولا يوفي بمقصود العصر.
ولولا أن هبت على مصر، معلمة الأقطار العربية، هبة مباركة نحو المعالي، فقام فيها
في
مفتتح القرن خطباء نبهاء في السياسة المدنية والشرعية، ونشأ في واديها البهيج من
الكتَّاب والشعراء والمؤلفين أناس أعادوا إلى اللغة بعض رونقها، وألبسوها حلة من حلل
العلم الحديث مطرزًا بآيات فصيح القديم، فنسجت بعض الأقطار العربية الأخرى على منواله،
لما شهدنا هذا الفرق المحسوس بين أدب هذا القرن وأدب القرون الستة التي سبقته، وأقل
مقارنة بين ما تنتجه مصر اليوم مثلًا في جامعتها ومدارسها وأزهرها وصحافتها وطباعتها،
وما كانت تنتجه في القرن الماضي، تتجلى بها للناقد البصير الدرجات العالية التي تصل
إليها أمة تعمل وتتعلم بفضل حكوماتها وأفرادها، وأمة قضت عليها جهالة سلاطينها ففنيت
فيهم، حتى تركوها كالسائمة ترسف في مؤخرة الشعوب، وباعدوا بين حاضرها وغابرها.
والواقع أن مصر كانت ولا تزال المجلية في هذا المضمار، ومشت على آثارها الشام ثم تونس
ثم بعض الأقطار العربية، فربط شعراؤها وكتَّابها ومؤلفوها وخطباؤها حديثهم بقديمهم،
وأصبحوا يعدون شيئًا بين أرقى أمم الحضارة في الآداب، والآداب أول ما يرقى من المظاهر
في الأمة الآخذة بالنهوض. وهذه دور العلم في معظم الأقطار العربية تذكر العرب بأيامهم
الغر المحجلة، وبلغاء أساتذتها يعيدون إلى لغتهم نضارتها أيام عزة الأمة، حتى لو عاد
رجل إلى الحياة من أهل القرن الماضي وشاهد هذه النهضة الأدبية، لما صدَّق أن الناس
يبرزون في الفضل هذا التبريز، والله أعلم ما سيكون منهم بعد نصف قرن آخر. وقد تشبع بحب
اللغة والقومية حتى أضعفُ طبقات المجتمع، وغدا كل إنسان يشعر بضعفه ويسعى إلى تقوته
وكماله.
الفِرَق الإسلامية
بدأت الاختلافات في الأصول في آخر أيام الصحابة بمقالة معبد الجهني وغيلان الدمشقي
ويونس الأُسواري، في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إليه، ومذهبهم القول بالقدر
خيره وشره من العبد واختياره في أفعاله، وأن الإمامة تصلح في غير قريش، وكل من كان
قائمًا بالكتاب والسنة كان مستحقًّا لها، ونسج على منوالهم واصل بن عطاء وكان تلميذ
الحسن البصري، وتتلمذ له عمرو بن عبيد، واعتزل واصل عنهم فسُمي هو وأصحابه المعتزلة،
وسُمي من جادلهم بالحشوية،
١٠٠ والحشوية بمنزلة السفسطائية عند الحكماء؛ لأنهم وضعوا من العقل ما رفع الله
من شأنه، وكان يجلس من خالفوا في حلقة الحسن البصري، فلما وجد في كلامهم حشوًا، أي
كلامًا لا فائدة فيه، قال: ردوا هؤلاء إلى حشي الحلقة، أي جانبها، فسماهم الناس حشوية
لذلك. وقيل: إنهم منسوبون إلى الحشو بمعنى العامة، والشيعة تطلق اسم العامة على أهل
السنة. وقيل: إن المعتزلة سُموا بهذا الاسم لاعتزالهم أقوال الأمة. وقيل: لقولهم بأن
صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين؛ ذلك لأنهم قالوا: إن الفاسق لا مؤمن ولا
كافر منزلةً بين منزلتين.
قوي أمر المعتزلة وهم أئمة العقل والبحث، وكان بعض الخلفاء يسمع لمقالاتهم ومنهم
من
كان يريد بهم الشر، ويسومهم سوء العذاب. ولو خلا مذهبهم من عبقة السياسة، ولم يتشددوا
في شروط الخلافة لانتشر في الآفاق، ومع هذا سرى إلى الأندلس غربًا وإلى خراسان وما وراء
خراسان شرقًا، وانتشر على عهد المأمون؛ لأنه كان عالمًا يقول بحرية النظر، معجبًا بعلم
رجالهم وفضائلهم، وقاومهم المتوكل مراعاةً للعامة، وكانوا أبدًا كما قال أستاذنا الجزائري
١٠١ بغيضين إلى العامة والأمراء، أما الأمراء فلما يشترطونه في الخلافة من
الشروط مما إذا انتشر في أفكار العامة لا يتيسر لأمير أو ملك أو خليفة أن ينطلق في أمر
الأمة بما يشاء، وأما العامة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرَّد إتيان المنكرات
التي أُطلق لهم العنان فيها من طرف خفي أمراء السوء، ممن يهمهم أن تكون العامة ممن
يعينونهم على مقاصدهم. وكانت المعتزلة أعظم الفرق المناضلة عن الدين وشبه الملحدين.
ا.ﻫ.
يقول نيبرج:
١٠٢ يظهر أن لمذاهب الاعتزال أصلًا يرجع إلى السياسة نشأ على مثال ما نشأ مذهب
التشيع والخوارج، فإن استخلاف علي كان الخطر الأعظم الذي جرت منه المجاري في تاريخ
الإسلام. ومعلوم أن كثيرًا من المشار إليهم بالبنان من أصحاب الرسول أبوا أن يعترفوا
لعلي بما طلبه منهم، أو بايعوه خلافًا لما كانوا يبطنون، وفي مقدمتهم طلحة والزبير
ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وصهيب ومسلمة بن
وقش وزيد بن ثابت، وكان من طلحة والزبير أن ثارا علنًا على علي، ومعظمهم ظلوا على
حيدتهم. وتابع أهل المدينة هؤلاء الرجال على خطتهم وكذلك الأحنف بن قيس في البصرة مع
ستة آلاف من بني تميم ورأس الأزد صبرة بن شيمان امتنعوا عن الدخول في الفتنة. وقد وردت
في النصوص التي تشير إلى ذكر هؤلاء الناس كلمة اعتزال، ومعناها الاستنكاف والامتناع
والابتعاد، وهي لفظ أصبح يعبر عن السياسة الحاضرة بمعنى أن صاحبه يربأ بنفسه عن الدخول
في الفتنة بين علي وخصومه. ويقول النوبختي في كتاب فرق الشيعة: إن فريقًا من الصحابة
عندما بُويع لعلي قد اعتزل الدخول مع الداخلين واتبعوا سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن
عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد، فاعتزل هؤلاء عليًّا وأبوا أن يقاتلوه أو يشايعوه
فدُعوا «المعتزلة»، وهم أجداد جميع المعتزلة اللاحقين. فمذهب الاعتزال الديني قد سبقه
اعتزال سياسي قام به هذا المذهب. ا.ﻫ.
وهناك طائفتان الجبرية
١٠٣ والقدرية: فأما الجبرية فإن الذي أداهم إلى ما يعتقدونه هو نظرهم واعتبارهم
عواقب الأمور وخواتيمها؛ وذلك أنهم لما تبين لهم أن الأمور كلها التي تخرج إلى الكون
والفساد والوجود والعدم فعلى ما في مقدور الله وسابق علمه لا يكون خلاف ذلك شيء، وزعموا
عند ذلك وظنوا أنهم لا يقدرون على شيء من الأفعال التي تظهر على أيديهم، ولا يستطيعون
الامتناع عن شيء من ذلك ولا الترك لها بالحقيقة، نسبوها كلها إلى القضاء والقدر. وأما
خصماؤهم ومخالفوهم فكان نظرهم واعتبارهم في هذه المسألة الأوامر والنواهي والمدح والذم
والوعد والوعيد المتوجهة على الإنسان العاقل المستطيع، ورأوا أنه محجوج بها مزاح العلة
فيها، وليس له أن يحتج على أحد لا عند الله ولا عند الناس بالقضاء والقدر، وعلم الله
السابق في الكائنات؛ لأنه لا يدري أحد في مبدأ أمره وأول أفعاله قضاء الله وقدره وعلمه
السابق، وإنما تبين له ذلك بعد فراغه مما قد فعل أو ترك ما أمر الله به، وهذا النظر نظر
أولئك واعتبارهم، قالوا: فلا جرم أن المسألة قائمة بحالها والخلاف باقٍ، والحكومة لم
تنفصل، بل كلما ازدادوا فيها نظرًا واعتبارًا وبحثًا وجدالًا، ازدادوا خلافًا على خلاف
إلى يوم القيامة
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
ونشأت الشيعة في الحجاز،
١٠٤ وكان بعض الصحابة من أنصار علي بن أبي طالب، ثم شاع مذهبهم في العراق
وخالفوا أهل السنة بالإمامة، وخالفوا المعتزلة القائلين بوجوبها على الخلق عقلًا،
والأشاعرة القائلين بوجوبها على الخلق شرعًا، وقال الإمامية منهم: إن خلافة علي منصوص
عليها من الرسول، ولا تكون في غير أهل البيت وإن الرسول أوصى لعلي بالخلافة يوم غدير
خُم،
١٠٥ وإنه معصوم وآله عن الكبائر والصغائر، وإنه وآله لا يخطئون ولا ينسون ولا
يسهون، وإن محمدًا المهدي أحد أئمتهم مستور عن الناس كالخضر وإلياس إلى أن يُؤذن له في
الظهور.
وخالف الشيعة الأشاعرة بإمكان الرؤية البصرية يوم القيامة على الله تعالى، وقالوا
كالمعتزلة باستحالتها مطلقًا، وخالفوا في مسائل طفيفة ليست جوهرية، ومنها ما يقول به
بعض الفرق الأخرى. وهم يقولون: إن عليا يرجع، ولما قُتل علي قال عبد الله بن سبأ: لو
أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت
جورًا، «وفكرة الرجعة
١٠٦ هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية وكان يهوديًّا قبل الإسلام، فعندهم أن النبي
إلياس صعد إلى السماء وسيعود فيعيد الدين والقانون. ووجدت الفكرة في النصرانية أيضًا
في
عصورها الأولى، وتطورت عند الشيعة إلى العقيدة باختفاء الأئمة، وأن الإمام المختفي
سيعود فيملأ الأرض عدلًا، ومنها نبعت فكرة المهدي المنتظر.»
والشيعة عدة فرق، ومنهم الغالي ومنهم المعتدل والرافضة فرقة من فرقهم. قال زيد بن
علي:
١٠٧ الرافضة حربي وحرب أبي في الدنيا والآخرة، مردت الرافضة علينا كما مردت
الخوارج على علي عليه السلام. قالوا: والرافضة أول ما ترفضت جاءت إلى زيد بن علي حين
خرج فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: بل أتولاهما وأبرأ ممن يبرأ
منهما، قالوا: فإذن نرفضك فسُميت الرافضة. وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن
يتبرأ منهما فخرجوا مع زيد فسُموا الزيدية.
ورأي المعتزلة في الخلافة لم يتعدَّ القول كثيرًا، ولكن رأي الشيعة فيها تجاوز إلى
العمل، ووضع الغالون منهم لتأييد مذهبهم أحاديث لا يصححها جمهور الأمة، ومن ذلك نهج
البلاغة الذي ألَّفه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله
وجهه وروى فيه خطبًا له وكلامًا يستحيل أن يقوله، ومنه ما لا يصدر عن عربي من أهل الصدر
الأول؛ لأن فيه ألفاظًا من مصطلحات القرن الثاني والثالث.
١٠٨
واضطر بعض علماء الملة أن يبحثوا في الدين على طريق فلسفي منطقي؛
١٠٩ لأن كثيرين ممن دخلوا في الإسلام في القرنين الأولين كانوا من النصارى
واليهود والثنوية، ولا سيما أصحاب ماني، وكان مركزهم القديم في العراق، وكثير منهم على
مذهب الديصانية والمرقيونية وغيرهم من فرق الثنوية، ثم فرق الدهرية وهم الفلاسفة
والسمَنية، والسمنية أصحاب سُمن عبدة أوثان، يقولون بقدم الدهر وبتناسخ الأرواح وأن
الأرض تهوي سفلًا أبدًا، وكان الناس على وجه الدهر سمنيين وكلدانيين، والكلدانيون هم
الذين يُسمون الصابئين والحرانيين، وبقاياهم بحران والعراق، ويزعمون أن نبيهم بوذاسف
الخارج في بلاد الهند، وبعضهم يقولون هرمس، فأما بوذاسف فقد كان في أيام طمهورث الملك
وأتى بالكتابة الفارسية وسُمي هؤلاء صابئين في أيام المأمون. فأما الصابئون على الحقيقة
ففرقة من النصارى، وبقايا السمنية بالهند والصين، والديصانية منسوبون إلى ابن ديصان وهم
ثنوية، والمرقيونية يُنسبون إلى المرقيون هم ثنوية أيضًا، والمنانية هم المانوية
منسوبون إلى ماني. وفي القرن الثاني كان في العراق يهود وصابئة ونصارى ومجوس وسامرة،
وبعض من دخلوا في الإسلام منهم لم يتخلوا عن شعورهم وعاطفتهم فانسل بهم في الإسلام ما
ليس منه، وظاهره الإسلام وما هو به.
وكان لكل مذهب من هذه المذاهب القديمة
١١٠ كلام مدقق، وعقائد محررة مقررة على أصول فلسفية، استعد أربابها منذ قرون
للرد على خصومهم ببراهين ودلائل، واعتادوا الجدل ومقارعة الخصوم، وكانت الشيعة محل
امتزاج الثنوية بالإسلام خاصة؛ إذ كان في أفكارها الرئيسة من الموافقة مع مذهب الثنوية
ما لا يخفى، مثال ذلك قولها في أئمتها وتجسيمها الذي هو أقرب شيء إلى تجسيم الثنوية،
وقد ثبت عن كثير من رجالها أنهم جمعوا بين الرفض والزندقة. والزندقة هي مذهب الثنوية،
والزنادقة والمعطلة والمهملة والملاحدة والدهرية والمزدكية شيء واحد، قال فيهم صاحب
البدء والتاريخ: وما قط انتشروا في أمة من الأمم، ولا أقروا في وقت من الأوقات انتشارهم
في هذه الأمة لإعطائهم الإقرار بالديانة ظاهرًا، وحقن الشريعة دم من أجاب إليها، وهم
هؤلاء الباطنية الباطلية الذين تخلعوا عن الأديان.
١١١ وقال المعري:
١١٢ إن المسلمين لما اتسع ملكهم مازج العرب منهم غيرهم من الطوائف وسمعوا كلام
الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق فمالت منهم طائفة كثيرة، ولم يزل الإلحاد في بني آدم
على ممر الدهور، ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يرون أصحاب شرعهم أنهم موالفون، وهم فيما
نظن مخالفون.
وقام مذهب الخوارج منذ القرن الأول يكفرون عليًّا وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل،
وكل
من رضي بتحكيم الحكمين في وقعة صفين، والإكفار بارتكاب الذنوب ووجوب الخروج على الإمام
الجائر، سماهم خصومهم بالخوارج؛ لأنهم خرجوا
١١٣ على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، ويُسمى خارجيًّا كل من خرج في
أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل
زمان، وسموا أنفسهم بالشُّراة لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة
حين فارقنا الأئمة الجائرة، وقاتلهم علي ثم من بعده من الأمويين وغيرهم. وهم يخالفون
من
حيث المذهب أهل السنة في مسائل طفيفة، وقد افترقوا كالشيعة والمعتزلة فرقًا كثيرة ذُكرت
في كتب الملل والنحل، وكانوا الغاية في الصلابة في الدين والشجاعة والصدق، ومذهبهم لم
يتأثر بمؤثرات خارجية، وكانت بقايا الخوارج الأباضية ببلاد حضرموت إلى القرن الرابع،
١١٤ والأباضية هم أصحاب عبد الله بن أباض الذي خرج في أيام مروان بن
محمد.
وأهم الفرق التي خرجت على الجماعة وأضرت بالإسلام فرق الباطنية، ادعوا أن لكل ظاهر
باطنًا ولكل تنزيل تأويلًا، وقد وضع أساس مذهبهم أناس من أبناء المجوس دخلوا في
الإسلام، وتأولوا آيات القرآن وسنن الرسول على ما يوافقهم، استتروا لنشر مذهبهم وراء
دعوى الخلافة لآل علي. ومن الباطنية الإسماعيلية القائلون بانتقال الإمامة بعد جعفر
الصادق إلى ابنه الأكبر إسماعيل، انتقلت إليه بعد أبيه دون أخيه موسى الكاظم، وهم يرون
أن الأرواح مسجونة في هذه الأجسام المكلفة بطاعة الإمام المطهر، والعقل عندهم هو حقيقة
معبودهم، والإسماعيلية طبقات كالماسونية، والذين يُرخص لهم بالاطلاع على أسرار الدين
تسع طبقات. ومن فرق الباطنية النصيرية أتباع نصير غلام علي بن أبي طالب، يدعون ألوهية
علي مغالاةً فيه، ويزعمون أن مسكنه السحاب، ويدعي بعض منتحلي هذا المذهب أن ليس لهم
ديانة خاصة أو مذهب خاص، بل إنهم مسلمون شيعيون جعفريون لا فرق بينهم وبين سائر
الجعفرية، وليس بينهم قيود دينية أو اجتهادات علمية مع الإمامية إلا ما أوجبته السياسة
والبيئة، ويعتقدون كسائر مذاهب الشيعة أن الأئمة الاثنى عشر معصومون من الخطأ.
قال ابن الجوزي في المنتظم:
١١٥ «لما جاء النبي وقهر الأملاك وقمع الإلحاد اجتمع جماعة من الثانوية والمجوس
والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين، فأعملوا رأيهم وقالوا: ثبت عندنا أن جميع
الأنبياء كذبوا ومخرقوا
١١٦ على أممهم، وأعظم الكل علينا بلية محمد، فإنه نبغ بين العرب العظام وخدعهم
بناموسه، فنصروه وبذلوا له أموالهم وأنفسهم، وأخذوا ممالكنا وقد طالت مدتهم، والآن فقد
تشاغل أتباعه، ومنهم مقبل على كسب الأموال، ومنهم على تشييد البنيان، ومنهم على
الملاهي، ومنهم يتلاعنون ويكفر بعضهم بعضًا، فقد ضعفت أبصارهم، ونحن نطمع في إبطال
دينهم، إلا أننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم، فليس الطريق إلا إنشاء دعوة والانتماء إلى
فرقة منهم، وليس فيهم أضعف عقولًا من الرافضة، فندخل عليهم بذكر ظلم سلفهم الأشراف من
آل نبيهم، ودفعهم عن حقهم وقتلهم، وما جرى عليهم من الذل، لنستعين بهؤلاء على إبطال
دينهم، فتناصروا وتكاتبوا وتوافقوا وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق،
وأخذوا بعض آرائهم من المجوس وبعضها من الفلاسفة ومخرقوا على أتباعهم، وقصدهم المجد
المطلق، ويسمون الإسماعيلية والباطنية والقرامطة والخُرَّمية والبابكية والمحمرة
والشيعة والتعليمية، وأكثر مذهبهم يوافق الثانوية، والفلاسفة في الباطن، والروافض في
الظاهر، وقد نبغ منهم قوم أظهروا إمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إن روح محمد انتقلت
إليه، ثم انتقلت منه إلى أبي مسلم صاحب الدعوة، ثم إلى المهدي ثم إلى رجل يُعرف بابن
القصري ثم خمدت نارهم، ثم نبغ في أيام المأمون لهم رجل بيتهم
١١٧ فاحتال فلم تنفع حيلته، ثم تناصروا في أيام المعتصم وكاتبوا الأفشين، وهو
رئيس الأعاجم، فمال إليهم واجتمعوا على بابك، ثم زاد جمعهم على ثلاثمائة ألف فقتل
المعتصم منهم ستين ألفًا، وقتل الأفشين أيضًا ثم ركدت دولتهم. ثم نبغ منهم جماعة قصدوا
إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية، وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين، وأظهروا
مذهب الإمامية وبعضهم مذهب الفلاسفة، وجعلوا لهم رئيسًا كان مشعبذًا ممخرقًا، ادعى أن
الأرض تُطوى له، وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف ومعهم طيور ويأمرهم أن يكتبوا إليه
الأخبار عن الأباعد ثم يحدث الناس بذلك.»
«ونبغ رجل
١١٨ متنمس بالزهد من سجستان يُقال له أبو عبد الله بن الكَرَّام، قليل العلم قد
قمش من كل مذهب ضغثًا
١١٩ وأثبته في كتاب، وروجه على أغتام
١٢٠ غزنة وغُور وسواد بلاد خراسان فانتظم ناموسه
١٢١ وصار بعد ذلك مذهبًا قد نصره محمود ابن سبكتكين السلطان، وجر البلاء على
أصحاب الحديث والشيعة من جهتهم، وهو أقرب مذهب إلى مذهب الخوارج وهم مجسمة.»
١٢٢
ومن الفرق الباطنية المذهب الدرزي يقول: إن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب، ومنه
إلى أسلاف الحاكم بأمر الله ملك الفاطميين، متقمصة من واحد إلى آخر، والدين الحق توحيد
الحاكم، ويفترض عندهم صدق اللسان بدل الصوم، وحفظ الإخوان بدل الصلاة، ويقرءون القرآن
ويؤولونه، ويذهبون إلى قدم العالم تبعًا لبعض الفلاسفة، ويقولون بالتناسخ معبرين عنه
بالتقمص، وأن الهوية الإلهية تنتقل من قالب وتحل في قالب آخر في كل عصر، فتتجلى في كل
زمن بصورة وتجلت أخيرًا في الحاكم.
ونشأت أيضًا فرق غريبة يصعب بعد التتبع الشديد معرفة العصر الذي وجدت فيه، وإن زعم
الزاعم انقراضها يعسر عليه إثبات زمن انقراضها، كما تصعب معرفة ترجمة رجل من حذاقها.
والذين كتبوا في هذا الشأن منهم الناقل غير الناقد، ومنهم المموه لغلبة الهوى عليه،
ومنهم من لم تُنشر كتبه، قاله شيخنا الجزائري، وفي كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن
الأشعري، والملل والنحل للشهرستاني، والملل والنحل لابن حزم، والفرق بين الفرق
للبغدادي، وصف لهذه الفرق وتنوعها، ودعوى كل فرقة أنها ذاهبة بالحق اليقين، وأنها
الناجية وحدها يوم الدين.
والأصل في جميع هذه الفرق وما تشعب عنها دعوى «الخلافة» أو مسائل دينية غير جوهرية
استخدمها الدعاة لأجل الخلافة والملك، فالخلافة هي أساس البلاء جرت على الأمة ما جرت،
وهلك في سبيل تحقيقها لفريق دون فريق الأخضر واليابس، وغدا «لكل
١٢٣ فرقة مقالة على حيالها، وكتب صنفوها، ودولة عاونتهم وصولة طاوعتهم.» وأهل
السنة والجماعة يطلقون على أكثر هذه الفرق اسم المبتدعة، والبدعة عندهم على ضربين:
١٢٤ بدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين
وأتباعهم مع الدين والورع والصدق. ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي
بكر وعمر والدعاء إلى ذلك، فالشيعي الغالي في زمن السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان
والزبير وطلحة وطائفة ممن حارب عليًّا وتعرضَّ لسبهم، والغالي هو الذي كفر هؤلاء السادة
وتبرأ من الشيخين أيضًا.
وهناك فرق الملاحدة من المتفلسفة ظهروا كما ذكر ابن تيمية
١٢٥ في كل زمان ومكان ضعف فيه نور الإسلام، وكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن
دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون، ورأوا ذلك فاسدًا في العقل، فكان غلاتهم
طاعنين في دين الإسلام باليد واللسان، كالخرمية أتباع بابك الخرمي وقرامطة البحرين
أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم. وأما مقتصدتهم وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد
ﷺ فيه من الخير والصلاح ما لا يمكن القدح فيه، بل اعترف حذاقهم بما قاله ابن سينا وغيره
من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد، وكان هذا موجب عقلهم
وفلسفتهم. ا.ﻫ.
يقول المقدسي:
١٢٦ إن التعصب قد ثوره الجهال المسرفون من القصاص وغيرهم، وأما الأمة فهي على
النقيض من ذلك، قال هذا في القرن الرابع وما زال الأمر على ذلك في أكثر العصور إلى
يومنا؛ ولذلك كان واجب العقلاء من أهل المذاهب الإسلامية كافة، وكلها في جوهرها مسلمة،
أن تسدل اليوم دون حوادث الماضي حجابًا كثيفًا، وتسعى قلبًا وقالبًا لأن يتناسى
المسلمون ما شعب وحدتهم في الدهر الغابر، فالخلاف مهما كان وكانت الدواعي إليه قد انقضى
عصره، وإن أهل بيت واحد يرون الخطر يتهددهم من كل مكان لأحرياء بأن يتناسوا ما بينهم
من
اختلافات طفيفة، ويهبوا يدًا واحدة للقضاء على من يريد السوء بهم، ويفترص ما شجر بينهم
ليستغلهم ويجعلهم مطية لمطامعه وأغراضه.
وبعد، فقد تبين من عدة إحصاءات قام بها بعض الغربيين في أدوار مختلفة أن المخالفين
من
المسلمين لعقائد أهل السنة والجماعة لا يتجاوزون العشرين مليونًا في البلاد الإسلامية
والباقون من أهل المذاهب الأربعة المتعارفة، والغالب
١٢٧ على المغرب الأقصى اليوم المذهب المالكي، وهو الغالب أيضًا على الجزائر
وتونس وطرابلس لا تكاد تجد فيها من مقلدي غيره إلا الحنفية بقلة، وهم من بقايا الأسر
التركية وأكثرهم في تونس، ومنهم أفراد بيت الإمارة بها، ولهذا تمتاز حاضرتها بالقضاء
الحنفي مشاركًا للقضاء المالكي وأما سائر أعمالها فقضاتها مالكية. ويغلب في مصر الشافعي
والمالكي، الأول في الريف والثاني في الصعيد والسودان، ويكثر الحنفي وهو مذهب الدولة
والمتبع في الفتوى والقضاء، والحنبلي قليل بل نادر، ويغلب الحنفي في بلاد الشام ويكاد
يشمل نصف أهل السنة بها، والربع شافعية والربع حنابلة، ويغلب الشافعي على فلسطين ويليه
الحنبلي، فالحنفي فالمالكي، ويغلب الحنفي على العراق ويليه الشافعي وبه مالكية وحنابلة،
والغالب على الأتراك والألبان وسكان بلاد البلقان الحنفي، وعلى بلاد الأكراد الشافعي
وهو الغالب على بلاد إرمينية؛ لأن مسلميها من أصل تركماني أو كردي، والسنيون من أهل
فارس أغلبهم شافعية وقليل منهم حنفية. والغالب على بلاد الأفغان الحنفي ويقل الشافعي
والحنبلي، وعلى تركستان الغربية التي فيها بخارى وخيوة الحنفي. وأما تركستان الشرقية
المسماة أيضًا بالصينية، فكان الغالب عليها الشافعي ثم تغلب الحنفي بمسعى العلماء
الواردين عليها من بخارى. والغالب على بلاد القوقاز، وما والاها الحنفي وفيهم الشافعية.
والغالب في الهند الحنفي، ويقدر أتباعه بنحو ٤٨ ألف ألف، وأتباع الشافعي بنحو ألف ألف
ويكثر بها أهل الحديث والآثار. ومسلمو جزيرة سرنديب (سيلان) وجزائر الفليبين والجاوة
وما جاورها من الجزائر شافعية، وكذلك مسلمو سيام، ولكن بها حنفية بقلة؛ نقله النازحون
إليها من الهنود، ومسلمو الهند الصينية شافعية وكذلك مسلمو أستراليا. وفي البرازيل من
أمريكا نحو ٢٥ ألف مسلم حنفية، وفي البلاد الأميركية الأخرى مسلمون مختلفو المذاهب،
وتبلغ عدة الجميع نحو ١٤٠ ألفًا، والغالب على أهل الحجاز الشافعي والحنبلي، وفيه حنفية
ومالكية في المدن. وأهل نجد حنابلة، وأهل عسير شافعية؛ والسنيون في اليمن وعدن وحضرموت
شافعية أيضًا، وقد يوجد في نواحي عدن حنفية، والغالب على عُمان مذهب الأباضية ولكنها
لا
تخلو من حنابلة وشافعية. ويغلب على قَطَر والبحرين المالكي وفيها حنابلة من الواردين
عليها من نجد، والغالب على أهل السنة في الأحساء الحنبلي والمالكي، والغالب على الكويت
المالكي. انتهى كلام تيمور.
وقال غلود صهير في معلمة الإسلام: إن المذهب الحنفي انتشر في معظم بلاد الإسلام
كتركيا وآسيا الوسطى والهند، والشافعي في مصر وجنوبي بلاد العرب وجاوة وإفريقية الشرقية
وسورية، والمالكي في المغرب وأحيانًا في صعيد مصر وإفريقية الغربية الألمانية
والإنجليزية. والحنبلي الذي كان إلى القرن الثامن (الرابع عشر) شائعًا جدًّا في العراق
ومصر والشام وفلسطين قد اقتصر اليوم من بلاد العرب على نجد.
الاضطهاد في سبيل المذاهب والأفكار١٢٨
منذ ظهر الإسلام كان من يخالف الجمهور في المعتقدات والآراء يُحمل إلى الولاة، فإما
أن يستتيبوه أو يعاقبوه، وما فتئ المهيمنون على الشريعة يثيرونها شعواء على كل من جاهر
بفكرة دعا إليها أو لم يدعُ، ويكفي في بلائه خروجه عن المألوف والعرف، وكانت أهم مسائل
القرن الأول مسألة القدرية اهتزت لها الخلافة واهتز لها الناس، وما هي بالأمر المهم إذا
قيست بالمظالم والمنكرات التي حدثت، وبعضها مما يشغل مئات من العاملين في إصلاحه، ورأوا
من أهمتهم مسائل القدر فقط انفراج ما بين الشرع ومنتحليه فما أنكروا ولا انتقدوا،
وذهبوا يناوئون سرًّا وجهرًا كل باحث خالف لهم فكرًا، خصوصًا إذا شعروا أن صاحب الأمر
مواطئ لهم على ما يذهبون إليه، أو أنه يريد أن يلبس المخالف له ثوب الدين لينتقم منه
من
أجل السياسة؛ ولذا كان بعضهم يغلون في المثالث والمناقب فأفسدوا وما قدروا مدى
إفسادهم.
وما خلا عصر من جامدين كان لهم السلطان الأكبر على العقل فعبثوا به وبأهله، وهؤلاء
هم
الذين خاطبهم الغزالي في القرن الخامس
١٢٩ بقوله: «وأنَّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم،
وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم،
١٣٠ وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم،
وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم.»
ولو جئنا نعدد من قضوا شهداء فكرهم لطال بنا الأمر؛ لأن لكل بلد منهم غير واحد أُوذوا
وعُذبوا وأُهلكوا، وما كانت السلطة التنفيذية على ما يظهر تنزل على إرادة السلطة
القضائية في معنى اضطهاد الأفكار، إلا إذا كان للسلطان مأرب من ذلك، يحاول أن يسد الذريعة
١٣١ في وجه من يُرجى أن يستخدم السياسة لمآرب، فيتخذ الملك من الدين
حجة.
أول زندقة عُرفت في زمن الخليفة الرابع زندقة أناس غلوا فيه فألهوه فأحرقهم بالنار،
وقتل هشام بن عبد الملك غيلان بن مروان من القائلين بالقدر، قيل: إنه نال كثيرًا من بني
أمية، وكان من مذهبه أن الخلافة تصلح في غير قريش إذا استوفى الخليفة الشروط المطلوبة،
وهو رأس المعتزلة ومن نوابغ العلماء الذين حاربوا الظلم والتظالم،
١٣٢ وضرب الحجاج عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الراوي من التابعين أربعمائة
سوط ثم قتله، والسبب في ذلك السياسة، وضُربَ خُبيب بن عبد الله بن الزبير مائة سوط وكان
لقي العلماء وقرأ الكتب وكان من النساك، ويذكرون أنه كان تعلم علمًا كثيرًا لا يعرفون
وجهه ولا مذهبه فيه، يشبه ما يدعي الناس من علم النجوم، فأمر الوليد بن عبد الملك فضُرب
بالسوط وبُرد له ماء في جرة ثم صُب عليه في غداة باردة فكز
١٣٣ فمات بها. وضرب أبو عمرو بن العلاء خمسمائة سوط، وضُرب مالك بن أنس سبعين
سوطًا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان، سُعي به إلى جعفر بن سليمان عم أبي جعفر المنصور
وقالوا: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، واتهم عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد
بن يزيد بن عبد الملك بالزندقة، وقتل بمرو في آخر ملك بني أمية
١٣٤ جهم بن صفوان لما ظهرت دعوته بترمذ، لا لأن له رأيًا في الدين؛ بل لأنه قام
مع الحارث بن سريح في خراسان يجاذب الأمويين حبل السلطة. وقتل الوليد أبا بيهس الهيصم
بن جابر صاحب البيهسية وأمر أن تُقطع يداه ورجلاه أولًا.
واتهم المهدي العباسي شريكًا القاضي بالزندقة؛ لأنه كان يكره العباسيين، وقتل المهدي
صالح بن عبد القدوس على الشبهة
١٣٥ متهمًا إياه بالزندقة مع أنه لما وافاه أُعجب بغزارة علمه وأدبه وحكمته،
وقتل المهدي بشار بن برد بدعوى الإلحاد. وروى قوم أن كتبه
١٣٦ فُتشت فلم يُصب فيها شيء مما كان يُرمى به وأُصيب له كتاب فيه إني أردت
هجاء آل سليمان بن علي (بن عبد الله بن عباس) فذكرت قرابتهم من رسول الله فأمسكت عنهم،
إلا أني قلت:
دينار آل سليمان ودرهمهم
كبابليين حُفا بالعفاريت
لا يُرجيان ولا يُرجى نوالهما
كما سمعت بهاروت وماروت
وجدَّ هذا الخليفة في سنة ١٦٧ في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق، وتوفر على
تقصيب
١٣٧ الفلاسفة وتقطيع كتبهم والإمعان في قتال الملحدين لما انتشر من كتب ماني
١٣٨ وابن ديصان ومرقيون مما نقله ابن المقفع وغيره، وتُرجمت من الفارسية
والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذاك الوقت ابن أبي العوجاء وحماد عجرد ويحيى ابن
زياد ومطيع بن إياس تأييدًا لمذهب المانية والديصانية والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة
وظهرت آراؤهم في الناس، وأُنشئ للزنادقة ديوان خاص دعوا القائم عليه صاحب ديوان
الزنادقة، وجعل لهم حبس يدعونه حبس الزنادقة، وكان المهدي
١٣٩ قد قال للهادي يومًا، وقد قدم إليه زنديق فقتله وأمر بصلبه: يا بني إذا صار
الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني فإنها تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب
الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم ومس الماء
الطهور وترك قتل الهوام تحرجًا، ثم تخرجها إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة،
ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم
من ضلال الظلمة إلى هداية النور. وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء بالبصرة يفسد الأحداث
فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني أنك تخلو بأحداث من أحداثنا وتدخلهم في دينك، فإن خرجت
من مصرنا وإلا قمت فيك مقامًا أخاف منه على نفسك، فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان
فقتله وصلبه بها.
قال المسعودي: وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف
الكتب على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم فأقاموا البراهين على المعاندين،
وأزالوا شبه الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، أما الرشيد فمُنع من الجدل في الدين وحبس
أهل علم الكلام ثم أخرجهم، وأما ابنه المأمون فأطلق للحرية العنان فتمتع علماء الكلام
والفلاسفة وغيرهم في أيامه بأجمل حسنات الحرية المطلقة.
ولقد كاد المعتزلة للمحدثين في عصر المأمون والمعتصم؛ لأن المعتزلة يتشددون في قبول
الحديث ولا يعملون به إلا بعد جهد، فلما تراجع أمر المعتزلة وقوي المحدّثون كال هؤلاء
لخصومهم الصاع صاعين، واتهم أحمد بن أبي داود من عظماء العباسيين، حميد بن سعيد من وجوه
المعتزلة بالزندقة «وأحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن فلم يجب إلى القول
بخلقه فجلده حتى غاب عقله وتقطع جلده وقُيد وحُبس.» وقتل الواثق (٢٣١) في المحنة على
القرآن أحمد بن نصر من علماء عصره وصلبه وكتب في أذنه رقعة: «هذا رأس الكافر المشرك
الضال وهو أحمد بن نصر بن مالك ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق
بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه
التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به
إلى ناره وأليم عقابه، وأن أمير المؤمنين سأله عن ذلك فأقر بالتشبيه، وتكلم بالكفر،
فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه.» وقيل: إن ابن نصر قال للواثق أثناء المناقشة في
خلق القرآن «مه يا صبي»، وأمر أن يتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر ممن ذكر أنه كان
مشايعًا له فوضعوا في الحبوس، ثم جُعل نيف وعشرون رجلًا في حبوس الظلمة، وضُيق عليهم.
١٤٠ وحمل أبو يعقوب البويطي
١٤١ خليفة الشافعي في حلقته بعده إلى بغداد مغلولًا مقيدًا وأُريد على القول
بخلق القرآن فامتنع فحُبس ببغداد إلى أن مات في القيد والسجن، ونشأت أولًا وآخرًا غوائل
وخصومات منع من اشتدادها ما كان عليه الناس من أخلاق حسنة كان الدين المؤثر الأول فيها،
وكان على شيء من نضارته الأولى.
وفي سنة ٢٧٧ منع المعتضد من بيع كتب الفلسفة والمنطق وتهدد على ذلك، وفي سنة ٢٨٩
حلف
الوراقون في دار السلام ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة وكان لهذا المنع ما
يبرره بعض التبرير؛ لأن الفلسفة أخذت في هذه الحقبة تهاجم الدين بمقياس واسع، وكانت
فتنة ابن قريش بمصر (٢٨٥)، وذلك أنه أنكر أن يكون أحد خيرًا من أهل رسول الله فوثب به
الرعية فضُرب بالسياط فمات بعد يومين، وقتل الخليفة ابن حبان البستي من أعلم أهل عصره
ومن طبقة البخاري في الحديث، بدعوى أنه يعرف بعض العلوم الرياضية
١٤٢ (٣٥٤)، ولعل السبب لأنه ألَّف كتابًا في القرامطة وقال حاسدو فضله: إن هواه
كان معهم.
وتتبع محمود الغزنوي لما فتح الري وغيرها في سنة ٤٢٠ طائفة من المعتزلة ونفاهم وأحرق
كتب الفلسفة والاعتزال والنجامة، فلقي منه علماء المعتزلة الألاقي مع أنه كان يحب
الفلسفة ويعطف على الفلاسفة، وربما كان هذا مما حمل ابن الطيب المتكلم البصري المعتزلي
(٤٣٦)، وكان عالمًا بعلم كلام الأوائل، أن يتقي أهل زمانه في التظاهر به، فأخرج ما عنده
في صورة متكلمي الملة الإسلامية وأحكم ما أتى من ذلك، وكان مذهب الاعتزال انتشر في مصر
في جملة ما انتشر فيه من الأقطار، ولكن المقاومة كانت شديدة له أكثر من مقاومة مصر
للتشيع في عهد الفاطميين؛ لأنه كان من وراء التشيع قوة تحميه ودولة تمليه، والاعتزال
رائده العلم والنظر، حتى قال أحدهم في القرن الرابع من قصيدة:
فإن سلكت طريق العلم تطلبه
بالبحث أبت بتكفير من الناس
وكان قائل هذا سيبويه المصري من علماء المعتزلة فاختلط، فقال المؤرخ ابن زولاق مدون
أخباره: وإنما كان الناس يتابعونه لما اشتهر عنه من اختلاطه، ولو تكلم بهذا أبو بكر بن
الحداد أو أبو جعفر الطحاوي (وكلاهما من أكبر قضاة مصر وعلمائها)، ومن يشبههما لقُتل
لوقته بغير مشاورة.
ومن الأمور الطبيعية أن يخاف الأمويون والعباسيون على ملكهم ممن يخالفونهم ويتربصون
الدوائر بدولتهم، ولكن ليس من العدل في شيء أن يُقتل مخالفوهم باسم الدين والذود عن
الشريعة، وفي الغالب أن يكون المعاقبون من أعيان الملة ومن أوعية العلم، ولقد أوذي
العلماء بحجج كثيرة وفي مقدمتهم علماء المعتزلة، وأوذي الشيعة والخوارج؛ لأن مذهبهم من
المذاهب السياسية الصرفة، والإسلام في الحقيقة ممزوج بالسياسة وهو لها ملازم غير مفارق،
ولو جردوا العلم عن السياسة لما استطاع خليفة أن يدعي أنه قتل فلانًا لأنه خالف الشرع،
وكان الأولى أن يُقال: إنه خالف السياسة.
مثال من ذلك الحسين بن الحلاج فهو رجل عظيم، ربما كان في كلامه بعض العهدة، ولكنه
ظل
متمتعًا بحريته إلى اليوم الذي ثبت فيه للخليفة أنه كان بينه وبين رئيس القرامطة اتفاق
سري على قلب الدولة،
١٤٣ وعند ذلك قتله متهمًا إياه بالإلحاد، وما كان بالملحد شأن عشرات غيره
اتهموهم بالإلحاد علنًا، والتهمة في جوهرها سياسية لا يريد الخليفة أن يقول: إن فلانًا
يريد القضاء على سلطاني، ويتهمه بأنه يحاول أن يعبث بالدين، ولطالما كان الدين تكأة يتكئ
١٤٤ عليها بعض السياسيين.
جدَّ الشيعة في نشر مذهبهم، والدعوة إليه من أركان المذهب، ولما قامت دولة الفاطميين
من بني عبيد في إفريقية (٢٩٦ﻫ) ثم استولت على مصر حاولت نشر مذهبها بالسيف، فمن قبله
نجا ومن أبى قتل، وأفنت في إفريقية من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة قتلًا ونفيًا
وتشريدًا، ويروي ابن الأثير أن أبا عبد الله الشيعي لما وصل إلى رقادة من عمل القيروان
جلس رجل يُعرف بالشريف ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدة، ودعوهم إلى مذهبهم
فمن أجاب أُحسن إليه، ومن أبى حُبس، فلم يدخل في مذهبهم إلا بعض الناس وهم قليل، وقُتل
كثير ممن لم يوافقهم على مذهبهم. وأخرج الظاهر الفاطمي (٤١٦) مَنْ بمصر من فقهاء
المالكية وغيرهم، وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام ومختصره، وجعل لمن
يحفظ ذلك مالًا. وألَّف يعقوب بن كلس وزير الفاطميين بمصر كتابًا في فقه الإسماعيلية
حرج على الناس أن لا يطالعوا غيره، ونشط الفاطميون كل من حضره ووعاه، وكان ابن كلس
١٤٥ أحضر في سنة ٣٨٠ جماعة الفقهاء وأهل الفتيا وأخرج لهم كتاب فقه عمله، وقال:
هذا عن مولانا الإمام العزيز بالله عليه السلام عن آبائه الكرام، وقرأ عليهم رسالته
وبعض كتاب الطهارة، وهذا الكتاب يُعرف بالرسالة الوزيرية، ويُقال: إنه جمع على عمل هذه
الرسالة أربعين فقيهًا. وقتل الفاطميون
١٤٦ أبا بكر بن هديل وأبا إسحاق بن البرذون من فقهاء السنة وسحبوهما في أذناب
الخيل لعدم إفتائهما بمذهب جعفر بن محمد الذي سموه مذهب أهل البيت. وابتنى الحاكم
١٤٧ المدارس بمصر وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها وأحرق نحو ثلث
مصر ونهب نحو نصفها، ومن جملة من قتلهم الحاكم من أهل العلم أبو شامة جنادة اللغوي
الهروي لما قدم مصر وكان من الفضلاء
١٤٨ النبلاء.
ولما قدم المعز في القرن الرابع عطل مذهب الفاطميين وأمر بقتل الشيعة في إفريقية،
حواضرها وبواديها
١٤٩ فلم يبقَ منهم أحد، وحمل الناس على مذهب الإمام مالك ومنع ما عداه. وكان
بإفريقية مذهب الصفرية والشيعة والأباضية والنكارية والمعتزلة، ومن مذاهب أهل السنة
الحنفية والمالكية، فلم يبقَ في أيامه غير مذهب مالك. ووصف النويري
١٥٠ هذه المذبحة، فقال: ركب المعز في القيروان، والناس يسلمون عليه ويدعون له،
فمر بجماعة فسأل عنهم فقيل: هؤلاء رفضة والذين قبلهم سنة، فقال: وأي شيء الرفضة والسنة،
قالوا: السنة يترضون عن أبي بكر وعمر، والرفضة يسبونهما، فقال: رضي الله عن أبي بكر
وعمر، فانصرفت العامة من فورها إلى ناحية تشتمل على جماعة منهم فقتلوا منهم جماعة، ووقع
القتل فيهم فصادفت شهوة العسكريين وأتباعهم طمعًا في النهب، وانبسطت أيدي العامة فيهم،
فأقبل عامل القيروان يظهر أنه يسكن الناس وهو يحرضهم ويشير إليهم بزيادة الفتنة، فقُتل
من الرفضة خلق كثير في ديارهم وحوانيتهم وأحرقوهم بالنار وانتُهبت ديارهم وأموالهم،
وزاد الأمر واتصل القتل فيهم في جميع بلاد إفريقية، وقيل: إن القتل وقع فيهم في جميع
المغرب في يوم واحد في المدائن والقرى، فلم يُترك رجل ولا امرأة ولا طفل إلا قُتل
وأُحرق بالنار، ونجا من بقي منهم بالمهدية إلى الجامع الذي بالحصن فقُتلوا فيه عن
آخرهم، وخرج من بقي من المشارقة وهم الرفضة إلى قصر المنصور بظاهر المنصورية وهم زهاء
ألف وخمسمائة وتحصنوا به فحاصرهم أهل السنة واشتد عليهم الحصار فقُتلوا عن آخرهم.
ا.ﻫ.
ولابن العذارى في هذه المأساة الإفريقية تعليل برواية أخرى قال: كان المعز ابن باديس
صغيرًا فرُبي في حجر وزيره أبي الحسن بن أبي الرجال وكان ورعًا زاهدًا، وكانت إفريقية
كلها والقيروان على مذهب الشيعة وعلى خلاف السنة والجماعة من وقت تملك عبيد الله المهدي
لها، فأدب ابن أبي الرجال المعز على مذهب مالك، والشيعة لا يعلمون ذلك ولا أهل
القيروان، فخرج المعز في بعض الأعياد إلى المصلى وهو غلام فكبا به فرسه، فقال عند ذلك
أبو بكر وعمر، فسمعته الشيعة التي كانت في عسكره فبادروا إليه ليقتلوه، فجاء عبيده
ورجاله ومن كان يكتم السنة من أهل القيروان ووضع السيف في الشيعة فقُتل منهم ما ينيف
على ثلاثة الآلاف، وصاح بهم في ذلك الوقت صائح الموت فقُتلوا في سائر بلاد إفريقية.
وكان التشيع في القرن الرابع غالبًا على أهل قم
١٥١ في فارس وأهل الكوفة في العراق وبلاد إدريس بن إدريس، وهي طنجة وما والاها
في المغرب، وجاء زمن وليس في الأندلس إلا مذهب
١٥٢ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوه.
وكان في الدولة الفاطمية ديوان عظيم يتولى الدعوة لمذهبهم واسم رئيسه «داعي الدعاة»
١٥٣ تُقرأ عليه مذاهب أهل البيت بدار تُعرف بدار العلم، ويأخذ العهد على من
ينتقل إلى مذهبهم على أن يستر جميع ما عرف إلا ما أطلق له أن يتكلم به، وأن ينصح ويخلص
للإمام، وكان الشيعة إذا قوي سلطانهم في ناحية قتلوا من خالفهم بعد دعوته إلى مذهبهم،
وإذا قويت المذاهب الأخرى قتلوا هم فرادى وجماعات. وهكذا الحال في بعض المذاهب الأخرى،
ولكن منها ما تصل به الحماسة إلى قتل مخالفه، ومنهم من يكتفي باضطهاده ونفيه وتشريده
وإهانته.
ومع هذا فقد لحق الاضطهاد بالفقهاء قليلًا؛ لأنهم كانوا متصلين بأصحاب السلطان، وسهل
عليهم تغيير مذهبهم خصوصًا إذا كانوا من أهل السنة، حتى لا يُستهدفوا لغضب السلطان أو
يُحرموا مناصب القضاء والفتيا وغيرها من المناصب الدينية كالحسبة والإمامة. ونال
الاضطهاد الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم من أرباب البحث والنظر، والمحرك الأعظم في كل ما
يعامل به العلماء سياسة الملوك، وما يخطر ببالهم وينطبق مع رغائبهم ورغائب الحافين بهم.
والعامة أداة تحركها يد الملوك من حيث يدرون ولا يدرون، قال ابن أبي جواد بخلق القرآن
في إفريقية فاشتد سحنون عليه وضُرب حتى مات تحت السياط، ولما ولي محمد بن عبدون القضاء
بعد موت سحنون بالقيروان ضرب طائفة من أهل العلم
١٥٤ من أصحاب سحنون، وطيف بهم على الجمال بغضًا منه في مذهب مالك وأصحابه ومنهم
أبو إسحاق بن المضا وأبو زيد ابن المديني فماتا على الجمال، ومنهم أحمد بن معتب وابن
مفرج، وكان ابن عبدون حنفيًّا ولو ساعده أمير البلاد على ما يريده لملأ من العلماء
مقبرة كبيرة.
وضرب
١٥٥ ابن البرذون «إبراهيم بن محمد الضبي» خمسمائة سوط ودارت عليه دائرة ثم دارت
عليه دائرة أخرى فضُم إلى السجن هو ورجل كان يُعرف بابن هذيل فخرج فيهما التوقيع في
إفريقية أن يُضرب ابن هذيل خمسمائة سوط وأن تُخبط رقبة إبراهيم بن البرذون ليلًا فضربه
العامل العدة المذكورة ثم أعاده إلى السجن، ثم أُخرج ابن هذيل فضرب رقبته، ثم انتبه
للغلط فأخرج إبراهيم فضرب رقبته، ثم رُبطت أرجلهما بالحبال وجرَّا مكشوفين غير مستورين
من دار الإمارة، ثم صُلبا ثلاثة أيام، وكان ذلك في زمن أبي عبد الله الشيعي، وضُرب
أيضًا أبو العباس بن السندي وعُذب وأُخذت نعمته.
ودارت دوائر على ناس كثير في إفريقية من قتل وضرب إلا أنهم ليسوا
١٥٦ من العلماء كدائرة ابن عروس في خلع لسانه وابن معتب في ضرب ظهره، وأشياء
كثيرة في هذا الباب من جهة ترك «حي على خير العمل» في الأذان وترك قراءة بسم الله
الرحمن الرحيم في صلاة الفريضة. وضرب أبو العباس بن التستري الشافعي زمن العبيديين في
إفريقية وعُذب وأُخذ ماله، وضُرب أبو القاسم مولى مهرويه وعلي السدري من أهل الخير
والعبادة سنة ٣٠٨ بالمهدية، ثم قُتلا وصُلبا بكلام حُفظ عليهما في السلطان، وضُرب أبو
القاسم الطوري صاحب المظالم في الجامع على رءوس الأشهاد، وفعلوا ذلك بجماعة من رجال
المدنيين ممن لم يكن لهم اسم في العلماء دخلوا في جملتهم بالمحبة والصحبة. ومثل ذلك وقع
للعلماء والقضاة في إفريقية كابن عتاب وابن القطان والعبيدي، ودارت من ابن عبدون دائرة
على رجال المدنيين فضربهم ونكل بهم وطوَّف بعضهم وضربوا البهلول بن راشد، وكان أخذ عن
مالك وسفيان وغيرهما، ولما مات البهلول بن عمر التجيبي وحُملت جنازته رُمي نعشه
بالحجارة وقال الناس: الوادي الوادي، أي ألقوه في الوادي؛ لأنه كان على ما يُقال يقول
بخلق القرآن، وهو ممن سمع مالكًا والليث وابن لهَيعة وغيرهم.
ويقول محمد عبده: إن الأمراء لما أمعنوا في الفتك بالصوفية بإغراء الفقهاء، كان
الصوفية يعقدون اجتماعات سرية للبحث في كف الأذى عنهم، ويقررون فيها ما يتفقون عليه،
ثم
يسعون لتنفيذه بالوسائل الكسبية، وقد يكون منه قتل بعض خصومهم، فهذا أصل ما يُسمى
التصرف في الأكوان، وليس تصرفًا بالكرامات، ولا بخوارق العادات، قلنا فالمتصوفة إذًا
أشبهوا في إطالة الأيدي بالقتل جماعة الإسماعيلية، فقد مضى عليهم زمن طويل يقتلون
الملوك والخلفاء ويوقعون بالعلماء حتى خافهم الناس، وكم من عظيم قتلوه وكم من عالم مسلم
أباحوا دمه، وقيل: إنه قتل في يوم واحد في القاهرة خمسمائة صوفي، وزعم بعض المعاصرين
أن
فقهاء السنة وحكامهم ما عاملوا المتصوفة بأشد مما عاملوا سائر الفرق فحكموا ببدعة بعضهم
وكفروا كثيرًا من أكابر شيوخهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ثم غلوا بعد ذلك في تعظيمهم
والتسليم الأعمى لهم غلوًّا كبيرًا، وإن اضطهادهم للمتصوفة كان أشد من اضطهادهم
للفلسفة، وما ذلك إلا لأن علم التصوف القريب من فهم الفقهاء أمس بالدين، بل هو ثمرة
التمسك بفضائل الدين وآدابه.
اتُّهم محمد بن مسرة القرطبي (٣١٩) بالزندقة
١٥٧ لما ظهر من كلامه بالوعد والوعيد ولخروجه عن العلوم المعلومة بأرض الأندلس
الجارية على مذهب التقليد والتسليم، ففر إلى المشرق، ولحقت ابن الإقليلي الأندلسي تهمة
في دينه في أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم والسنابسي
والخمار وغيرهم وطُلب ابن الإقليلي وسُجن بالمطبق.
وامتحن حكم بن محمد المقري القيرواني مع أبي عبد الله الشيعي فسجنه من أجل صلابة كانت
فيه في السنة، وإنكار شديد على أهل البدع، ولما غلب عبد الواحد ابن علي على المغرب ألزم
العلماء الاجتهاد وترك التقليد لما رآهم انغمسوا فيه فأحرق كتب الفروع كلها، وأمر بوضع
كتب أحاديث الأحكام، وكذلك فعل حفيده أبو يوسف يعقوب سنة ٥٩٥ فأمر بإحراق كتب الفروع،
وكان يقصد بذلك محو مذهب مالك من المغرب، وحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة. هذا،
والاجتهاد المطلق لم يوجد كما قال النووي من لدن القرن الرابع، وإنما هم أهل الاجتهاد
المقيد، وهم مجتهدو المذاهب الذين لهم قوة على استنباط المسائل من الكتاب والسنة وبقية
الأصول، ولكنهم مقيدون بقواعد مذهب إمامهم.
وتمالأ الفقهاء على ابن حزم الأندلسي
١٥٨ (٤٥٦)؛ لأنه ترك مذهب الشافعي إلى مذهب داود الظاهري وأجمعوا على تضليله
وسعوا به حتى أُحرقت كتبه ومُزقت علانيةً في إشبيلية، ووقع مثل ذلك لكتب الفيلسوف ابن
رشد فمزقوها وأحرقوها في ساحات بعض المدن من الأندلس. ونفى المنصور بن أبي عامر من ملوك
الأندلس الفلاسفة ومن جملتهم ابن رشد وأبو جعفر الذهبي وأبو عبد الله قاضي بجاية
وغيرهم، وأحرق كتب المنطق والحكمة في بلاده، وشدد النكير على المشتغلين بها، وفوض ذلك
إلى وزيره ابن زهر الفيلسوف لئلا يظهر ما عنده من كتب المنطق والحكمة، ولا ينقل أنه
يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها، وقتل المنصور بن حبيب في إشبيلية بسبب الفلسفة وترك
ابن زهر الفيلسوف، وقطع الطريق على الناس في النيل منه؛ لأنه كان عنه راضيًا يندر تصرف
مثله في تدبير مملكته.
وأوذي أبو بكر بن عربي؛ لأنه التزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأُخذت كتبه
وماله وصُرف عن القضاء، وجرت محنة على أبي بكر الجياني الأندلسي (٥٩٦) وشي به للمنصور
بن عبد المؤمن أنه لزم ترك التقليد والعمل بالحديث. وأوقعت الحيطة في أيام الناصر
العباسي على الركن عبد السلام بن عبد القادر الجيلي؛ لأنه قرأ علوم الأوائل وأجادها
واقتنى كتبًا كثيرة في هذا الفرع، فاتُّهم بأنه معطل وأنه يرجع إلى أقوال أهل الفلسفة،
فصدر الأمر بإحراق كتبه في إحدى ساحات دار السلام، وخطبوا خطبة لعنوا فيها الفلاسفة ومن
يقول بقولهم، واجتمع قواد عسكر أحمد خان صاحب سمرقند وقبضوا عليه بسبب زندقته ولما
قبضوه أحضروا الفقهاء والقضاة وأقاموا خصومًا ادعوا عليه الزندقة فجحد فشهد عليه جماعة
بذلك وأفتى الفقهاء بقتله فخنقوه (٤٨٨). ولزم محمد بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن
الوليد أبو علي المتكلم من رؤساء المعتزلة (٤٨٧) بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج
منه من عامة بغداد.
ونجا عمر الخيام الفيلسوف الشاعر النيسابوري من أهل المائة السادسة من اضطهاد العامة
والملوك بشيء من التقية «ولما
١٥٩ قدح أهل زمانه في دينه، وأظهروا ما أسره من مكنونه، خشي على دمه، وأمسك من
عنان لسانه وقلمه، وحجَّ متاقاة لا تقية.» ووقف المستنجد العباسي على حكايات أخذها ابن
حمدون صاحب التذكرة من التواريخ تُوهم في الدولة غضاضة، فأُخذ من دست منصبه وحُبس
(٦٠٨)، وقتل الظاهرُ غازي الحكيم الشهابَ السهروردي، وكان ناقش علماء حلب فبذهم فشكوه
إلى صلاح الدين فأمر ابنه بقتله
١٦٠ مع حرص الظاهر على إنقاذه، وغريب كيف نجا مثل أبي العلاء المعري على ما بدر
في شعره ونثره من فلتات ينكرها فريق المتعصبين، ولعل الأصل في نجاته كونه زاهدًا
حقيقةً، لا ينازع أرباب المذاهب الدينية في شيء من دنياهم، أو كما قال له أحدهم فغضب
من
قوله: إنه ترك لهم دينهم ودنياهم.
ووقع لسيف الدين الآمدي أحد أذكياء العالم من أهل المائة السادسة أن حسده جماعة من
فقهاء مصر، ونسبوه إلى فساد العقيدة والتعطيل ومذهب الفلاسفة، فهرب واستوطن حماة في
الشام فنجا من العطب بالهرب، وتتبع أعداء لسان الدين ابن الخطيب، رجل الأندلس علمًا
وفصاحةً، كلمات زعموا أنها صدرت منه في بعض تآليفه، فأحصوا عليه ورفعوها إلى قاضي
غرناطة فسجل عليه بالزندقة، ثم أُخذ وأحضروه في مجلس الخاصة وأهل الشورى من الفقهاء
وعظم عليه النكير فيما كتب، فوبخ ونُكل وامتحن بالعذاب، وأفتى بعض الفقهاء بقتله ثم
طرقوا عليه السجن فخنقوه وأخرجوا شلوه
١٦١ وأحرقوه.
كان الانتقام من العلماء يتم على أيدي الخلفاء والسلاطين، فلما جاء ملوك الطوائف
وضعف
العباسيون وأصبح لكل قطر ملك أو أمير غدا الانتقام من أرباب الأفكار محصورًا في العامة
أو من كان على مثالهم من العلماء، وكثرت مجالس المناظرات
١٦٢ بين الفقهاء حتى لا تكاد تخلو مدينة كبيرة من عقد المجالس بين كثيرين من
علمائها، ولا سيما في العراق وخراسان، تُعقد أمام الوزراء ممن كانوا بالأمس يميلون إلى
الفقه لاحتياجهم إليه في الحكومات، ثم صاروا يميلون إلى استماع مقالات الناس في قواعد
العقائد، ومالوا إلى سماع الحجج فيها، فأفضت إلى فتح باب العصبيات الفاحشة والخصومات
المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد وأصبح الكبراء يميلون إلى المناظرات لبيان
الأولى من مذاهب السنة، فنجمت من هذا الانكباب على المسائل الخلافية فتنٌ أفضت إلى قتل
النفوس بالألوف، وإلى خراب مدن برمتها، خُربت بأيدي أناس كان مشايخهم يتفاخرون
بالمناظرات والخلافيات، يوقدون نار الفتنة بين أتباعهم وخصومهم، وينال بعضهم من بعض
بالنميمة والحسد والرياء والختل مما نهى عنه الشرع.
ومن هذه الفتن فتنة نشبت بنيسابور عاصمة خراسان بين الحنفية والشيعة، وأمر السلطان
بأن تُلعن المبتدعة على المنابر، وحسن له بعضهم فيما قيل: الإزراء بمذهب الشافعي
وبالأشعرية، وأدى التصريح بلعن أهل السنة في الجمع، وتوظيف سبهم على المنابر ونفي بعض
الشافعية، وهاجر من تلك البلاد أربعمائة قاضٍ من قضاة الشافعية والحنفية، وشمل الضرر
من
ذلك خراسان والشام والحجاز والعراق. وكانت تقع في سجستان
١٦٣ وسرخس عصبيات بين الشيعة والكرامية في نيسابور، وبهراة بين العملية
والكرامية، وخربت الري بسبب هذه المنافسات بين الفقهاء، وكان فيها شافعية وحنفية وشيعة
وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يُعرف، فلما أفنوهم وقعت العصبية بين
الشافعية والحنفية فنشبت بينهم حروب، واشتد التطاحن بين الطوائف الإسلامية، بل بين
أرباب مذاهب السنة، وكل فريق منهم يتهم خصمه أنه حشوي ليس على شيء من العلم. قال
السبكي: وكثرت مذاهب الحشوية، وهم فريقان: فريق لا يتحاشى في إظهار الحشو، ويحسبون أنهم
على شيء، وفريق يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه أو هوى يجمع عليه الطغام
الجهلة والرعاع السفلة. وفي هذا الفريق من يكذب على السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار، ويزعم أنهم يقولون بمقالته، يتستر بالسلف حفظًا لرياسته، والحطام الذي
يجتلبه، ويتحلى بالرياء والتقشف زاهدًا في الذرة ليحصل الدرة، وأظهروا للناس نسكًا وعلى
المنقوش داروا. ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه، والمبتدعة
تزعم أنها على مذهب السلف. ا.ﻫ.
ولعل السبكي يقصد من قوله هذا مذهب الحنابلة وكان ابن تيمية منهم، وعليه اشتد المشايخ
بنو السبكي في القرن الثامن مستعينين بما لهم من النفوذ في دواوين الدولة في مصر والشام
فعاملوا هذا المصلح معاملة جائرة هو وتلميذه ابن قيم الجوزية ليقضوا عليه وعلى تعاليمه
التي ما خرجت عن الكتاب والسنة والرد على المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة والرافضة
١٦٤ والنصارى، وتوصلوا إلى حبس ابن تيمية سنين طويلة في الإسكندرية والقاهرة
ودمشق ولم يخرجوه من محبسه إلا إلى قبره، ونكبوا ابن القيم تلميذه وحبسوه آخر مرة مع
شيخه في حجرة منفردة. ومن الغريب أن يُعقد في القاهرة لابن تيمية مجلس حاكموه فيه على
اعتقاده واعتقلوه بعدها في جب يوسف هو وأخوته وأن يكتب السلطان إلى دمشق أنه رسم أن من
اعتقد عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه!
وما زالت العصبيات تقع بين أهل ساوة، وسكانها سنة، وأهل آوة، وسكانها شيعة؛ أوائل
القرن السابع، ومنشأ الخراب في أصفهان إلى هذا العهد أيضًا وقبله، وكثرت الفتن والتعصب
بين الشافعية والحنفية، وكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وأخربتها، ولقد
كانت الغلبة للحنفية في القرن الخامس ببلاد فارس ومنها ما كثرت حنابلته، ومنها ما كانت
شيعته غالية يحبون معاوية، ومنها ما تغلب فيه أصحاب الحديث وأكثر إقليم خوزستان معتزلة،
والفتن على الدين في الجبال متصلة، وكان للخوارج بسجستان ونواحي هراة وللمعتزلة
بنيسابور ظهور بلا غلبة وللشيعة والكرامية بها جلبة، وفي تلك الديار شافعية وحنفية
وبرساتيق هيطل أقوام يُقال لهم بيض الثياب مذاهبهم تقارب الزندقة، وأقوام على مذهب عبد
الله السرخسي لهم زهد وتقرب، وأكثر أهل ترمذ جهمية وأهل الرقة شيعة وأهل كندر
قدرية.
ثارت فتن كثيرة في بغداد بين الحنابلة وغيرهم، وبين السنة والشيعة خربت بها بعض أحياء
بغداد غير مرة؛ فقد هاجت في سنة ٣٩٨ فتنة هائلة بين أهل السنة والرافضة واقتتلوا
وقُتل جماعة. وفي سنة ٤٠٨ كانت الفتنة الكبرى فيها بين أهل السنة والشيعة وقُتل طائفة
منهما واستتاب القادر جماعة من الرفض والاعتزال وأخذ خطوطهم بالتوبة، وبعث إلى محمود
بن
سبكتكين صاحب خراسان يأمره بنشر مذهب أهل السنة وقتل جماعة، ونُفي خلق من الإسماعيلية
والرافضة والمعتزلة والمجسمة، وأمر بلعنهم على المنابر بعد أن عجزت الشرطة عنهم وأطلقت
النيران في الشوارع. وفي سنة ٤٢٢ هاجت الفتنة بين السنة والشيعة في بغداد فنُهبت
وأُحرقت، ومن جملة ما أُحرق أربعة أسواق وثاروا بالسلطان فأرضاهم الخليفة المقتدر
بالعطاء.
وفي سنة ٤٤٣ عاد السنة والرافضة إلى أشد مما كانوا في بغداد، وقُتل جماعة ونُبشت
قبور الرافضة وأحرقوا عظام رجالهم وقتلوا هم أناسًا من علماء السنة، وكتبوا على الأبراج
«محمد وعلي خير البشر فمن أبى فقد كفر»، ووقع التقبيح على الرافضة وأُحرقت كتبهم في
بغداد لسبهم الصحابة، ومنهم من قُتل كما وقع في سنة ٥٧٤ فإنه وقع فيها ما لم يتهيأ
منذ نحو مائتين وخمسين سنة، كما قال المؤرخون.
هذه أمثلة مما وقع بين السنة والشيعة في فارس والعراق وما وقع بينهم في مصر وإفريقية
على عهد الفاطميين، وكان الشيعة في الشام أكثرية في القرن السادس ثم قلوا لما قضى صلاح
الدين على دولة الفاطميين بمصر. ولما قُطعت خطبة العاضد الفاطمي
١٦٥ بمصر استطال أهل السنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم وصاروا لا يقدرون
على الظهور من دورهم، وإذا وجد أحد من الأتراك مصريًّا أخذ ثيابه وعظمت الأذية بذلك،
وجلا أكثر أهل مصر عنها إلى البلاد، وأخذ الناس بمذهب السلطان، إن كان شافعيًّا زاد
الشافعية، وإن كان حنفيًّا أقبل القوم على المذهب الحنفي. وهكذا كانت الحال في كثير من
الأقطار يتظاهر الناس بمذهب القائم بالأمر فيهم، فإذا تولى رقابهم من يخالفه في رأيه
انقلب الناس معه، كما وقع في مصر مع الدولة الفاطمية، فإنها طبعت الأذهان بطابعها، فلما
انقرضت دولتهم عاد التسنن إلى ما كان عليه.
وقعت في بغداد فتن كثيرة بين الحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب الأخرى، وكان الحنابلة
فيها يتشددون على خصومهم، ويقابلونهم بالعنف، ومنها فتنة عظيمة بين الحنابلة وخصومهم
قُتل فيها خلق كثير من الجند والعامة بسبب تفسير قوله تعالى: عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا اختلف الفريقان
بتفسيرها، فكان الهرج والمرج. وفي سنة ٣٢٣ عظم أمر الحنابلة على الناس فصاروا ينكرون
المنكرات بشيء من الغلظة يدخلون بيوت القواد والعامة ليطلعوا على ما فيها من الموبقات،
فهددهم الخليفة الراضي باستعمال السيوف في رقابهم والنار في منازلهم فكفوا، ووقعت فتن
في بغداد بين الحنابلة وغيرهم من أرباب المذاهب فقتل عمر بن الحسن الخرتي من
رجالهم.
ومن غرائب وقائع الحنابلة أن محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ (٣١٠) ألَّف
كتابًا ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن
فقيهًا وإنما كان محدِّثًا، فاشتد ذلك على الحنابلة فشغبوا عليه ولما هلك منعوا من دفنه
نهارًا، وادعوا عليه الرفض والإلحاد، وكان علي بن عيسى الوزير يقول: والله لو سُئل
هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه.
ومن غريب أمر الحنابلة أنهم بنوا مسجدًا في بغداد
١٦٦ وجعلوه طريقًا إلى المشاغبة والفتنة فتظلم إلى علي بن عيسى من أمره فوقع
على ظهر القصة «أحق بناء بهدم، وتعفية رسم، بناء أسس على غير تقوى من الله، فليلحق
بقواعده إن شاء الله.»
ولما أبدى الإمام القشيري شعار الأشعرية في بغداد ثارت فتنة العامة (٤٦٩) «وقصدت
١٦٧ الحنابلة سوق المدرسة وقتلوا جماعة وأظهروا شناعة.»
وهكذا ظلت بغداد ميدانًا للتقاتل بين الشيعة والسنة والحنابلة وغيرهم من أهل المذاهب
زمنًا طويلًا، فهلكت أنفس وخرب عمران، بل «تتابعت
١٦٨ الفتن ووقع الخراب، وما زالت الفتن والمحن متواترة إلى أن وقع بين الرافضة
وأهل السنة فتنة أحرقوا من الجانب الغربي ما لا يُحصى من الدور والمساكن والحوانيت وقلت
المعايش وكثر الجور، وفترت الهمم عن طلب العلوم وغيرها، وكان أهلها في سعة من الأرزاق
ورخص الأسعار فانتقل عنها معظمهم.» وكانت بغداد في القرن الثاني والثالث والرابع عاصمة
العلم والفلسفة والأفكار فأمست في القرن الخامس والسادس والسابع بؤرة الجمود والانحطاط
الفكري.
وفي سنة ٨٣٥ ثارت فتنة عظيمة في دمشق بين الحنابلة والأشاعرة حتى صدر مرسوم السلطان
أن لا يعترض أحد غيره في مذهبه، ومن أظهر شيئًا مجمعًا عليه سُمع منه، والحاصل أن
الحنابلة كالرافضة أظهروا شدة في اختلافاتهم مع الطوائف الأخرى حتى تراجع أمرهم من
العراق والشام إلا قليلًا. وأهل نجد اليوم حنابلة المذهب وهم مثال من المبالغة في إنكار
المنكرات، والتحامل على بعض المذاهب الإسلامية الأخرى.
وكم من فتنة حدثت لأن قومًا يتعصبون للعالم الفلاني وآخرين يحطون منه كما جرى للبخاري
والرازي، وكم فتنة قام بها العوام لأنه شاع أن فلانًا العالم قال كذا في فلان الذي
يقدسونه. فقد توفي الصولي (٣٣٦) نديم الخلفاء وأوحد العلماء بالبصرة مستترًا؛ لأنه روى
في حق علي بن أبي طالب حديثًا، فطلبته الخاصة والعامة لتقتله فلم تقدر عليه، ومات أبو
عبيدة معمر بن المثنى (٢١١) بالبصرة وكان يرى رأي الخوارج ولم يحضر جنازته أحد من الناس
حتى اكتري لها من حملها، ومثل هذا وقع لياقوت الحموي في دمشق ذكر كلامًا في حق علي كان
قرأه في كتب الخوارج فعدوه من النواصب المنحرفين عن أمير المؤمنين، وأراد بعض أهل دمشق
قتله فهرب. ومما يُذكر أنهم كثيرًا ما يتنازعون الرجل، كلٌّ يدعيه كما حدث لما تُوفي
عيسى ابن سعادة الفاسي (٣٥٥) فتنازع علماء فاس فيمن يصلي عليه الفقهاء أم المحدثون،
كلٌّ يدعيه ويقول: إنه أحق بالصلاة عليه.
أما في قرون الانحطاط، أي القرون الخمسة الأخيرة، فكان من خالف الجمهور ولو في مسألة
صغيرة عرضة للقتل إذا لم يكن له أحد يحميه في قصر الملك أو الأمير؛ لأن القوم أصبحوا
ونفوسهم لا تشتفي ممن يخالفهم في معتقد أو فكر إلا أن يُضرب عنقه، بل أصبح الحديثي ينظر
إلى الفقيهي، والشافعي إلى الحنبلي، والفروعي إلى الأصولي نظرًا شزرًا، وبدأ ذلك منذ
انسحب القرَّاء عن صفوف الفقهاء والمحدثين، ثم ابتعد الصوفية عن الفقهاء، ثم عرف أهل
كل
مذهب مذهبهم وثبتوا عليه في القرن الثامن؛ لأنهم قاتلوا دونه في بعض البلاد، وأصبحوا
كلما نبت نابت من الرجال يقول بمقالة تخالف من بعض الوجوه مذاهب السياسة يُقتل على مذهب
مالك؛ فقد ذهب مالك ومن وافقه من أصحاب الشافعي إلى قتل الداعية إلى البدع، وذهبت طائفة
من أصحاب أحمد إلى جواز قتل الجاسوس، وكان الخليفة قد يحتاج إلى قتل أمثالهم؛ لأن حكمه
شريعة يجب تنفيذها في نظره، فلما ضعف الملوك لم يجدوا أحسن من العمل برأي مالك في قتل
كل من خالف في مسائل؛ إذ لا توبة له، والدين يقول: إن المولى يقبل توبة
التائبين.
أخذ الأمناء على الدين يتيهون في بيداء الفوضى العقلية، لا يرون في تأديب المبتدعة
أو
من سموهم كذلك، إلا تطبيق أشد مفاصل القانون عليهم، وإنزال آخر العقوبات المسطورة،
ويتجافون عن سماع أقوالهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وادَّعوا لضعف فيهم أن المبتدع يحضر
لكل سؤال من بدعته جوابًا قلما يستطيع مجادل نقضه، ولذلك كان من الحزم أن يعامل لأول
أمره بالعنف، ويعمد إلى صاحب السلطة في تأديبه، ولا يُسمع له كلام ولا حوار، بل لم يرَ
المسيطرون على الدين أن يكتب المبتدعة أو المتفلسفون كلامهم ليرد عليهم بالكتابة؛ لأن
كتابتها، زعموا، تكون سببًا في نشرها. فهم يرون أن يصموا آذانهم عن كل جديد، ويكتفوا
بما لقفوا من العلم وقرَّروا من المذاهب.
وماذا يعنيهم من المقالات الجديدة، والاجتهاد في الدين موصد الأبواب، وهو محظور حتى
على من بلغ رتبة عالية في العلم، واستعد للخوض في ميدان الأحكام، والرجوع إلى مصادر
الشريعة ليأخذ من لبابها الأوفق للزمن والمصلحة لا ما رآه غيره، مع عدم الخروج عن قواعد
الشرع، وتحت حماية مذهب مالك الذي يرى القتل ضربًا من التعزير. قُتل بين القرنين الثامن
والثاني عشر عشراتٌ من الأذكياء والباحثين في أوقات مختلفة في فارس والعراق والشام ومصر
وإفريقية وغيرها، يُتهم أكثرهم في دينهم ويُسألون بضع مسيئلات إذا كان في أجوبتها بعض
العهدة بحسب فهْم المسيطرين، تُقطع أعناقهم ويُصلبون وتُطهر الأرض منهم.
وبهذا الهول الأكبر انقطعت الرغبات في البحث واستعمال الفكر إلا في الدائرة المعينة
الحدود والأوصاف التي قرروها، وأنشأوا يحرمون علنًا بسائط علم الفلسفة كالطبيعيات
والرياضيات بل والتاريخ وتقويم البلدان، فضعفت ملكة هذه العلوم على تلك النسبة، ضعف
الملكات الدينية، وضعفت العقول معها، «وزاد الحق غموضًا
١٦٩ وخفاءً أمران: أحدهما خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور
وشياطين الخلق، مع جواز التقية بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعًا
من
إظهار الحق، ولا برح المحق عدوًّا لأكثر الخلق … وكان العلم في أول الأمر يُبذل من أهله
لأهله مشافهةً ولو سرًّا، وذلك أول النقص، وهو محفوظ في الصدور، فلما قل الحفظ وكُتب
ليحفظ، وتعذرت الصيانة وخيف العدوان من أعداء أهل الإيمان كتم بعضهم فلم يظهر علمه
فازداد النقص، واتقى بعضهم فتكلم بالمعاريض الموهمة للباطل خوفًا على نفسه، ورمز بعضهم
فغلط عليه بما قصده في رمزه فتفاحش الجهل.»
نعم كان مما لقيه العلماء من الألاقي
١٧٠ ما وقف القرائح، وثبط الهمم، وقعد بالعزائم، وتجاهل الناقمون والمنتقمون،
أن في قتل عالِم قتل عالَم، وأن في إرهاق العقول مدرجة إلى ظهور كل جهول، وما نفع قط
الجهلاء في قيام دين أو دنيا، استسهل الضاغطون على الأفكار تشريد العلماء وتعذيبهم
وسجنهم أو قتلهم بدعوى أن في عملهم ضم شمل الجماعة وإغلاق أبواب التفرقة، والقضاء على
البدع والضلالات؛ وهيهات أن يجدوا عاقلًا يضطلع بالدفاع عن أعمالهم اللهم إلا المأخوذ
بالتقاليد الموروثة، الذي خُلق ليدهن لكل من سودته مناصبه، والعلم يتطلب غير هذه
السياسة الخرقاء، والعلماء يشقون ليُسعدوا بعملهم الخلق، يبيتون حياتهم على مثل حَسَك
السعدان
١٧١ ليحلوا المشكلات والمعضلات، وينصروا الحق الذي يعرفونه، فيتجلى للأفكار
نقيًّا ينتفع به من يعقلون، ولا سبيل إلى تأويل إهانة العلماء باسم الدين إلا بأن معظم
أولياء الأمر ما كانوا يبالون بإطفاء أنوار الأفكار، فحالوا بعملهم دون ظهور النابغين،
وقصروا هممهم على اصطناع المتوسطين، حجروا على العقول، فكانوا أعدى أعداء العلم الصحيح،
وبدون حرية يموت العلم، وتفسد ثمرات المدارك، وكل من أبطلوا حركة البحث وشلوا الأعصاب
عن الانبعاث باءوا بسبة الدهر، وكل من اتخذوا العلماء مطايا لأغراضهم، وفرحوا بتمزيق
أجزاء القلوب ليسلم سلطانهم، كانوا أسقط الناس ورذالتهم في المجتمع الإسلامي.
•••
رأينا بما قدَّمنا صورة من نشأة الشرع وعلوم الكلام والحديث والتصوف والفلسفة والآداب
وقيام الفرق الإسلامية، وما لحق الناس والبلاد من اضطهاد وقتل وتخريب بسبب الدين،
ورأينا كيف ضعف الدين منذ دهمته الزيادات الممرضات، وأن الدنيا كان شأنها كذلك منذ أصبح
كل أمر يتوقف على فتوى العلماء مراعاةً من السياسيين للظواهر، فكانت السخافات والترهات
التي قضت على سلطان العقل، وماتت النفوس والهمم، وقعدت عن العمل الصالح، وطُفئت شعلة
الذكاء؛ وأُبدلت بظلام دامس، وشُغل الناس بأمور تافهة كان منها خراب بلادهم، وخراب
عقولهم، وزهدوا في الجوهر الذي لا يُقصد من العمل به إلا إنهاض النفوس، وتشبعوا بما لم
ينزل به سلطان، قضوا بهذا الجمود على اللحاق بمن سبقوهم إلى فك القيود الثقيلة، وظلوا
على تحجيرهم يفاخرون بالآباء والجدود.
وربما كان في المقاومين لمثل هذه المسائل من كان رائده الإخلاص في قوله وعمله، ولكن
كثيرًا منهم كانوا تبعًا للسلطان أو تبعًا لما يرضي العامة، والعلم كما يقول الراغب الأصفهاني
١٧٢ ذو منازل لكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور، وقلما ينفك كل منزل
منها من شرير في ذاته، وشره في مكسبه، وطالب لرياسته، وجاهل معجب بنفسه، بصير لأجل
تنفيق سلعته، صارف عن المنزل الذي هو فوق منزلته من العلم وعائب له، فلهذا نرى كثيرًا
ممن حصل في منزلة من منازل العلم دون الغاية، عائبًا لما فوقه صارفًا عمن رامه، فإن قدر
أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل، أو ينفر الناس عنه فعل. ا.ﻫ. وفي تاريخ الدين صورة
عجيبة من هذا التهالك على الدنيا في الطبقة التي تدعي أنها أبعد الناس عن زخارفها، وليس
من المبالغة أن يُقال: إن من الدينيين من ليس له هم إلا أن يستأكل
١٧٣ بالدين ويضرب لصاحب القوة أبدًا على الوتر الحساس فيه؛ فقد ذكر الغزالي
١٧٤ أنه بعد عهد المناظرات في الفقه وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة
ترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة
على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق
الشرع، وتقرير علل المذاهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباط،
ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، قال: فهذا هو الباعث على الإكباب على
الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من
الأئمة، أو إلى علم آخر من العلوم، لمالوا أيضًا معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما
اشتغلوا به هو علم الدين، وأن لا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين.
وبعد، فمن المؤلم للنفس اليوم تذكر من قضوا ضحايا أفكارهم في بعض عصور الإسلام، فكان
القضاء عليهم قضاءً على الحرية، على أن ما وقع في بلاد المسلمين في غضون ألف سنة من هذه
النكبات لا يعد جزءًا صغيرًا مما حدث في الغرب بسبب المذابح الدينية وديوان التحقيق
الديني وبضغط الكنيسة على العقول وحريتها. أدى تفاعل العوامل الفكرية في الإسلام إلى
ما
لم تُحمد مغبته فتأخر سير العلم بعض التأخر، وأُخمدت جمرة التفكير الحر في بعض العصور،
وكان ما جرى أشبه بحوادث أفراد دخلت العامة غمارها فهلكت أنفس وخرب عمران وتراجعت عقول،
والمهم في تاريخنا أن تقلبه كل مقلب لا ندلس فيه ولا نوالس، لنتعرف الحقائق في صورتها
الجلية النافعة، والتبعة فيما حدث في الإسلام تقع على صنفين: العلماء والرؤساء، ولما
كان أغلب الرؤساء جهلاء كانت معظم التبعة على العلماء، وليس
١٧٥ تكليف العقلاء كتكليف الجهلاء ولا آلة الفريقين في الأفعال واحدة، ولا
مؤاخذتهما بالأعمال متساوية، وكذلك قال تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ولو أوخذ الجاهلون كما يؤاخذ العالمون،
لكان ذلك جورًا في القضاء، وحيفًا في الجزاء؛ لأن الله تعالى كلَّف كل نفس بحسب قوتها،
وأخذها بما جعله في قدرتها، ولو أن أحدًا غلط غلطًا جاهلًا لحكمه، وأخطأ خطأ خارجًا عن
علمه، لما تعين عليه حكم، ولا تعلق به حد، وعلى ذاك فمتى كان علم الإنسان أكثر من عقله
كان حتفه في علمه، أو عقله أكثر من علمه أمكن به جبر عجزه وإتمام نقصه، وما دبر العقل
شيئًا إلا أقام أوده وعدل ميده،
١٧٦ ولا دخل الجهل أمرًا إلا حل نظامه وأحال التئامه؛ فقد ثبت أن الفضل فرع
أصله العقل، ثم تدعو الحاجة مع وجود هذا الأصل إلى بانٍ يعلي أساسه ويسقي غراسه من أدب
يُقتبس، وعلم يُكتسب، ورياضة تصلح، وتوفيق يلحق؛ فإذا التقى من ذينك فرع وأصل، واقترن
أدب وعقل، اجتمع بهما قوى العقل، ولمع بينهما نور الحزم، وأمكن رافع البناء أن يرتقي
ذروته، وغارس الغرس أن يجني ثمرته. ا.ﻫ.