إدارة عمر بن الخطاب
كانت أول خطبة خطبها عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة: أيها الناس، إنه والله ما فيكم
أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه،
وما كان عمر ممن أُولع بإلقاء الخطب كثيرًا، على بلاغة فيه مستحكمة وعلم غزير، ولا
يرتقي المنبر إلا إذا قضت الضرورة، وأراد بيان أمر ذهبت فيه نزوات النفوس مذهبًا لا
يرضاه، وكثيرًا ما قال: إن هذا الأمر لا يصلح فيه إلا اللَّيِّن في غير ضعف، والقوي في
غير عنف، وكذلك كان عمر يجمع بين اللين والشدة، وهو إلى هذه ولا سيما على عماله
أقرب.
طريقة عمر في الإدارة طريقة أبي بكر وصاحبه من قبل: إطلاق الحرية للعامل في الشئون
الموضعية، وتقييده في المسائل العامة، ومراقبته في خلوته وجلوته، «وكان
٨ علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته، كعلمه بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى
وساد واحد، فلم يكن له في قطر من الأقطار، ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيش إلا
وعليه له عين لا يفارقه ما وجده، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل مُمْسَى
ومُصْبَح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم ليتَّهم أقرب
الخلق إليه وأخصهم به.» كان كما قال المغيرة بن شعبة أفضل من أن يَخدع وأعقل من أن
يُخدع.
كان إذا استعمل العمال خرج معهم يشيعهم
٩ فيقول: إني لم أستعملكم على أمة محمد على أشعارهم
١٠ ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم
بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، لا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها
١١ فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها، جوِّدوا القرآن وأقلوا الرواية عن
محمد
ﷺ وأنا شريككم. وكان يقص من عماله، وإذا شُكِيَ إليه عامل جمع بينه وبين من
شكاه، فإن صح عليه أمر يجب أخذه به أخذه.
وكان إذا بعث أمراء الجيوش يوصيهم بتقوى الله وأن لا يعتدوا ولا يجبنوا عند اللقاء،
ولا يمثِّلوا عند القدرة، ولا يسرفوا عند الظهور، ولا يقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا
وليدًا، وأن يتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وشُنت الغارات، وأن لا يغلوا عند الغنائم،
وينزهوا الجهاد عن عرض الدنيا، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك
بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب،
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف
عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛
لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا
في القوة، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة
من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله،
ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا وإن أسأنا حرب قوم قد سلط عليهم شر منهم،
كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرة المجوس فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا، واسألوا
الله المعونة على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم، أسأل الله ذلك لنا ولكم، وترفق
بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيرًا يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى
يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع،
وأقم بمن معك في كل جمعة يومًا وليلة حتى تكون لهم راحة يُجِمُّون فيها أنفسهم ويرمُّون
أسلحتهم وأمتعتهم، ونحِّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا
من
تثق بدينه، ولا يرزأ أحدًا من أهلها شيئًا، فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما
ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لها فعفوا لهم، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل
الصلح، وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأذكِ العيون بينك وبينهم، ولا يخفَ عليك أمرهم، وليكن
عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن
صدق في بعضه، والغاشُّ عين عليك وليس عينًا لك، وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن
تكثر من الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع سرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع
الطلائع عوراتهم، وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل،
فإن لقوا عدوًّا كان أول ما تلقاهم القوَّة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد
والصبر والجلاد، ولا تخص بها أحدًا يهوى، فيضع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل
خاصتك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجه تتخوف عليها فيه ضيعة ونكاية، فإذا عاينت العدو
فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة،
ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع
بعدوك كصنيعه بك، ثم أذكِ حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك، ولا تؤتَ بأسير ليس
له عهد إلا ضربت عنقه، ترهب بذلك عدوَّك وعدو الله، والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر
لكم على عدوكم وهو المستعان.
كان عمال عمر عرضة لكشف أحوالهم مهما بلغ من منزلتهم، وكان إذا شُكِيَ
١٢ إليه عامل أرسل محمد بن مسلمة يكشف الحال، وله عدة طرق في كشف سيرة عماله،
منها أن يأمر عماله أن يوافوه بالموسم فإذا اجتمعوا قال: أيها الناس إني لم أبعث عمالي
عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم، إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم
بينكم، فمن فُعِلَ به غير ذلك فليقم، فما قام إلا رجل واحد، فقال: إن عاملك فلانًا
ضربني مائة سوط، قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه.
فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سُنَّة
يأخذ بها من بعدك، فقال: كيف
١٣ لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه؟ قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم
فارضوه، فافتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين، وقال: من ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن
له عليَّ إلا أن يرفعها إليَّ حتى أقصه منه، فقيل له: أرأيت إن أدب أمير رجلًا من رعيته
أتقصه منه؟ فقال: وما لي لا أقصه منه، وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه؟
قالوا: وكان أبا العيال
١٤ يسلم على أبوابهن ويقول: ألكن حاجة وأيتكن تريد أن تشتري شيئًا فيرسلون معه
بحوائجهن، ومن ليس عندها شيء اشترى لها من عنده، وإذا قدم الرسول من بعض الثغور يتبعه
بنفسه في منازلهن بكتب أزواجهن ويقول: أزواجكن في سبيل الله، وأنتن في بلاد رسول الله،
إذا كان عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكنَّ ثم يقول: الرسول يخرج يوم
كذا وكذا فاكتبن حتى نبعث بكتبكن، ثم يدور عليهن بالقراطيس والدواة يقول: هذه دواة
وقرطاس فادنين من الأبواب حتى أكتب لكنَّ، ويمر إلى المغيبات فيأخذ كتبهن فيبعث بها إلى
أزواجهن.
وكان إذا استعمل عاملًا أوصاه بتقوى الله وإصلاح الرعية وكتب عليه كتابًا وأشهد عليه
رهطًا من الأنصار ألا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه
دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللهم اشهد. وكتب إلى عماله: أما بعد، فإياكم والهدايا
فإنها من الرُّشا. اهتدى إلى عظيم ضرر الهدايا مما بدر من رجل
١٥ كان يهدي إليه فخذَ جزور فخاصم إليه رجلًا فقال: يا أمير المؤمنين، اقضِ
بيننا قضاءً فصلًا، كما تفصل الرِّجل من سائر الجزور، فقضى عليه عمر، ثم كتب إلى عماله
إن الهدايا هي الرشا. وكان عمر إذا قدم العمال يأمرهم أن يدخلوا نهارًا ولا يدخلوا
ليلًا كي لا يحتجنوا
١٦ شيئًا من الأموال، وكان يعس
١٧ بنفسه ويرتاد منازل المسلمين ويتفقد أحوالهم، ويتعهد أهل البؤس والفاقة
بنفسه.
كتب إلى أبي موسى الأشعري عامله على العراق يأمره بالقدوم عليه هو وعماله وأن
يستخلفوا جميعًا، يريد أن يعرف حالتهم بعد أن تبنكوا
١٨ في النعيم، وعُهدت إليهم مصالح الناس، فأدرك عامل البحرين من بين كثير من
العمال أن عمر يرغب في الخشونة، وعرف أنه سيدعوهم إلى طعامه فتجوع له، واتخذ خفين مطارقين
١٩ ولبس جبة صوف ولاث
٢٠ عمامته على رأسه، فدعاهم عمر إلى خبز وأكسار
٢١ بعير، فجعلوا يعافونه؛ لأنهم حديث عهدهم بلين العيش، وعمر يلحظهم، ولفت
عامل البحرين نظر عمر، وتهافته على تناول الطعام، فسأله عمر عن عمله ثم عن جُعله فأجاب
إنه يُرزق ألفًا، فقال له عمر: إنه كثير ما تصنع به؟ قال: أتقوت منه شيئًا وأعود به على
أقارب لي، فما فضل عنهم فعلى فقراء المسلمين، فأمر عمر أبا موسى أن يستبدل بأصحابه،
وأبقى عامل البحرين في عمله؛ لأنه رآه مقلًّا متقشفًا لا يخشى أن يسرف في المال، وولى
عمر رجلًا بلدًا فوفد عليه
٢٢ فجأة مدهَّنًا حسن الحال في جسمه، عليه بردان، فقال له عمر: أهكذا وليناك؟
ثم عزله ودفع إليه غنيمات يرعاها، ثم دعا به بعد مدة فرآه باليًا أشعث في ثوبين أطلسين،
٢٣ وذُكر عند عمر بخير فرده إلى عمله، وقال: كلوا واشربوا وادهنوا فإنكم
تعلمون الذي تُنهون عنه.
كان إذا قدم وفد على عمر سألهم عن حالهم وأسعارهم، وعمن يعرف من أهل البلاد وعن
أميرهم هل يدخل إليه الضعيف وهل يعود المريض، فإن قالوا: نعم، حمد الله تعالى، وإن
قالوا: لا، كتب إليه: أقبِل. وكان من سنة
٢٤ عمر وسيرته أن يأخذ عماله بموافاة الحج في كل سنة للسياسة وليحجزهم بذلك عن
الرعية، وليكون لشكاتهم وقت وغاية ينهونها إليه، كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد،
فإن للناس نفرة فأعوذ بالله أن تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، أقم الحدود
ولو ساعة من نهار، وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله والآخر للدنيا، فآثر نصيبك من الله،
فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وأخيفوا الفساق واجعلوهم يدًا يدًا ورجلًا رجلًا، وعد
مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وافتح لهم بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم
غير أن الله جعلك أثقلهم حملًا، وقد بلغني أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك
ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بوادٍ خصيب
فلم يكن لها هم إلا السمن، وإنما حتفها في السمن، واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته،
وأشقى الناس من شقي الناس به والسلام.
وبلغ عمر أن أبا عبيدة عامله على الشام يسبغ على عياله، وقد ظهرت شارته، فنقصه من
عطائه الذي كان يجري عليه، ثم سأل عنه فقيل له: قد شحب لونه، وتغيرت ثيابه، وساءت حاله،
فقال: يرحم الله أبا عبيدة ما أعف وأصبر! فرد عليه ما كان حبس عنه وأجراه عليه. ودخل
عمر منزل أبي عبيدة فلم يرَ إلا لِبْدًا وصَحْفة وشَنًّا،
٢٥ وسأله طعامًا فأخرج له من جونة
٢٦ كسيرات فبكى عمر وقال: غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة، وأرسل إليه
أربعمائة دينار، وسأل من أرسله أن يقف على ما يفعل بها فوزعها أبو عبيدة كلها، وأرسل
مثلها إلى معاذ بن جبل فوزعها إلا أشياء قليلة سألته امرأته إياها لحاجتها، فقال عمر
لما أُخبر بذلك: الحمد الله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا.
كان معظم عمال عمر على غِرار أبي عبيدة ومعاذ من التقشف والتبلغ باليسير، وكان إذا
لم
تقنع نفسه بحسن سيرهم على الصورة التي لا يرى غيرها، لا يتلكأ عن عزلهم، فقد شكا أهل
حمص عاملهم سعيد بن عامر وسألوه عزله؛ لأنه لا يخرج للناس حتى يرتفع النهار، ولا يجيب
أحدًا بليل، وله في الشهر يوم لا يخرج فيه، فلما أيقن عمر أن عامله يعجن كل يوم خبزه
ويجلس حتى يختمر فيخبزه ثم يخرج للناس، وأنه يجعل الليل كله للعبادة، وأنه يشتغل مرة
في
الشهر بغسل ثيابه، بعث إليه عمر ألف دينار يستعين بها فوزعها على جيش من جيوش
المسلمين.
وقدم سعيد بن عامر على عمر بالمدينة فلم يرَ عمر معه إلا عكازًا وقدحًا فقال له:
ليس
معك إلا ما أرى؟ فقال له سعيد: ما أكثر من هذا؟ عكاز أحمل عليه زادي وقدح آكل فيه، وكان
من عماله عمير بن سعد وفيه يقول عمر: وددت لو أن لي رجلًا مثل عمير بن سعد
٢٧ أستعين به على أعمال المسلمين، وعمير هذا هو الذي قال على منبر حمص: «لا
يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلًا بالسيف ولا ضربًا بالسوط،
ولكن قضاءً بالحق وأخذًا بالعدل.» وهذا من أبعد مرامي الإدارة العادلة إذا أحس أهل عمل
من عاملهم العدل لا يحتاج في سياستهم إلى شيء من الشدة.
كتب عمر إلى عمير أيام كان عامله على حمص: أقبل بما جبيت من فيء المسلمين. فسأله
عمر
عما عمله، فقال: بعثتني حتى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم، حتى إذا
جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به، قال: فما جئتنا بشيء؟ قال: لا، قال:
جددوا لعمير عهدًا، فقال عمير: لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم،
لقد قلت لنصراني: أي أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلقت
معك يا عمر. وكان إذا استعمل عاملًا كتب عهده:
٢٨ «وقد بعثت فلانًا وأمرته بكذا.» فلما استعمل حذيفة بن اليمان على المدائن
كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم، فلما قدم المدائن استقبله الدهاقين،
فلما قرأ عهده قالوا: سلنا ما شئت، قال: أسألكم طعامًا آكله وعلف حماري ما دمت فيكم.
فأقام فيهم، ثم كتب إليه ليقدم عليه، فلما بلغ عمر قدومه كمن له في الطريق، فلما رآه
على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.
٢٩
فعمر إذًا لم يختر للأعمال إلا أفاضل الرجال ممن كانوا على سمته وزهده، وكان كثيرًا
ما يستعمل قومًا ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل ويقول: أكره أن أدنس هؤلاء بالعمل، وكان
يشاور في كثير من الوقائع حتى قال يومًا لأصحابه: أشيروا عليَّ ودلوني على رجل أستعمله
في أمر قد دهمني فقولوا ما عندكم، فإني أريد رجلًا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان
كأنه أميرهم، إذا كان فيهم وهو أميرهم كان كأنه واحد منهم، فقالوا: نرى لهذا الصفة
الربيع بن زياد الحارثي فنشير على أمير المؤمنين به، فأحضره وولاه، فوفق في عمله، وقام
فيه بما أربى على رجاء عمر وزاد على عمله، فشكر عمر لمن أشاروا عليه بولاية
الربيع.
كتب عمر إلى عامله على البحرين العلاء بن الحضرمي أن سِر إلى عتبة بن غَزْوان فقد
وليتك عمله، واعلم أنك تَقْدَم على رجل من المهاجرين الأولين الذين سبقت لهم من الله
الحسنى، وإني لم أعزله ألا يكون عفيفًا صليبًا شديد البأس، ولكن ظننت أنك أغنى عن
المسلمين في تلك الناحية فاعرف له حقه. ولما سير عمر عتبة بن غزوان إلى البصرة ليقاتل
من بالأُبُلَّة من فارس قال له: انطلق أنت ومن معك حتى تأتوا أقصى مملكة العرب وأدنى
مملكة العجم، وأمره أن يشاور عرفجة بن هرثمة؛ لأنه ذو مجاهدة للعدو وذو مكايدة، وعزل
عن
بعض ولاية الشام شرحبيل بن حسنة واستعمل بدلًا منه معاوية بن أبي سفيان، واعتذر على
رءوس الأشهاد أنه لم يعزله عن شيء هجنه به، بل أراد رجلًا أقوى من رجل، وبعث المغيرة
بن
شعبة عاملًا على الكوفة لأنه قوي مشدد، وكان عمر سأله عن الضعيف والقوي فقال: أما
الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأما القوي المشدد فقوته لك
وللمسلمين وشداده عليه. وعزل النعمان بن عدي عامله على ميسان؛ لأنه بلغه أنه قال
أبياتًا في التشبيب، تشير إلى أنه يتعاطى الراح، مع أنه عارف بأن ذلك لم يكن وإنما هو
قول شاعر. وعزل زياد بن أبي سفيان فقال زياد: أعن عجز عزلتني يا أمير المؤمنين أم عن
خيانة؟ فقال: لا عن ذاك ولا عن هذا، ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك. وكتب إلى
سعد بن أبي وقاص أن شاور طلحة الأسدي وعمر بن معدي كرب في أمر حربك، ولا تولهما من
الأمر شيئًا، فإن كل صانع هو أعلم بصنعته. وكتب إلى النعمان
٣٠ بن مقرن أن قِبلَك رجلين هما فارسا العرب عمرو بن معدي كرب وطلحة بن خويلد
فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئًا من الأمر. وبعث مع أبي عبيد بن مسعود سليط بن قيس
لفتح العراق وقال له: لولا عجلة فيك لوليتك، ولكن الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث.
٣١
وسأل عمر عمرو بن معدي كرب عن خبر سعد بن أبي وقاص نفسه فقال: متواضع في حبائه،
٣٢ عربي في نمرته، نبطي في جبوته، أسد في تاموره،
٣٣ يعدل في القضية ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف علينا عطف الأم
البرة، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة، ولما شكا أهل الكوفة سعدًا عزله عمر ولم تأخذه به
هوادة؛ لأن الغاية إنفاذ العمل النافع للناس على يد أي كان من عماله، وألا يفتح
للمسلمين بابًا للشكوى، وخير ضروب السياسة أن يكون عمل العاملين فيها أكثر من قول
القائلين، وسعد هذا هو الذي كان أجمع الصحابة على توسيد حرب العراق إليه، فأوصاه عمر
بقوله يا سعد سعد بني وهب، لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله وصاحب رسول الله،
فإن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد
نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون
بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بعث إلى أن فارقنا
يلزمه فالزمه فإنه الأمر، هذه عظتي إليك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك، وكنت من
الخاسرين، وذهب سعد بهذه النصيحة فكان على يده فتح العراق.
كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك
أن
تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا جاءك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك
إلى العسكر من كُراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار
لعمالها، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر، لم يكن لمن بقي
بعدهم شيء، وقد كنت أمرتك أن تدعو الناس ثلاثة أيام فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال،
فهو رجل من المسلمين له ما لهم وله سهم في الإسلام، ومن استجاب لك بعد القتال وبعد
الهزيمة فهو رجل من المسلمين، وماله لأهل الإسلام لأنهم قد أحرزوه قبل إسلامه، فهذا
أمري وعهدي إليك، ولا عشور على مسلم ولا على صاحب ذمة إذا أدى المسلم زكاة ماله وأدى
صاحب الذمة جزيته التي صالح عليها، إنما العشور على أهل الحرب إذا استأذنوا أن يتجروا
في أرضنا فأولئك عليهم العشور.»
كان عمر على شدة فيه مع عماله إذا أحس اعتداء أو شبه اعتداء وقع على أحدهم يشتد على
المعتدين في تلك الناحية ليبقى للعامل هيبة توقره في الصدور؛ ومهابة يلجم بها العامة
والخاصة. وقع له مرة أن حصب
٣٤ أهل العراق إمامهم، وقد كان عوضهم إمامًا مكان إمام كان قبله فحصبوه، فغضب
وقال لأهل الشام: تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، ودعا عليهم، ذلك
لأن شكوى العراقيين عاملهم كانت باطلة، وهو الذي يتحرى في انتقاء عماله ولا يستسلم لأحد
منهم، بل يجعل بعضهم رقيبًا على بعض، وله عليهم سلطان دونه كل سلطان. شكا عتبة بن غزوان
٣٥ تسلط سعد بن أبي وقاص عليه فسكت عنه عمر، فأعاد عتبة ذلك مرارًا، فلما أكثر
على عمر قال: وما عليك يا عتبة أن تقر بالإمرة لرجل من قريش له صحبة مع رسول الله وشرف؟
فقال له عتبة: ألستُ من قريش والرسول يقول: حليف القوم منهم، ولي صحبة مع رسول الله
قديمة لا تُنكر ولا تُدفع؟ فقال عمر: لا يُنكر ذلك من فضلك، قال عتبة: أما إذا صار
الأمر إلى هذا فوالله لا أرجع إليها أبدًا؟ فأبى عمر إلا أن يرده فرده فمات في الطريق،
وهذا من تأثير عمر في عماله ومعاملته لهم بما تريد المصلحة لا بما يريدون. مثال آخر
يخالف هذا — والإدارة تختلف باختلاف الأزمان والبلدان — خالف معاوية وهو أمير الشام
عبادة بن الصامت في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول، فقال عبادة: لا أساكنك
بأرض واحدة أبدًا ورحل إلى المدينة، فقال عمر: ما أقدمك؟ فأخبره، فقال: ارجع إلى مكانك
يفتح الله أرضًا لست فيها أنت ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه، ذلك أن عمر
لم يكن يستغني عن خدمة معاوية ولا عن فضل عبادة.
كان عمر وهو خليفة لا يميز نفسه من جمهور الناس بشيء في لباسه ومركبه وحركته، يختلط
بالشعب كأنه واحد منهم، ومع هذا كان الناس يخافونه، ولو وقع مثل هذا التواضع أو التبذل
من أحد أفراد الناس لجسروا عليه وضعف سلطانه عليهم، إن كان من أرباب السلطان. ولقد كلم
الناس عبد الرحمن بن عوف أن يكلم عمر في أن يلين لهم فإنه قد أخافهم، حتى إنه أخاف
الأبكار في خدورهنَّ، فقال عمر: إني لا أجد لهم إلا ذلك إنهم لو يعلمون ما لهم عندي
لأخذوا ثوبي عن عاتقي، وقال عمر: قد أُلنا وإيل علينا، أي ولينا وولي علينا، معناه قد
ولينا فعلمنا ما يصلح الوالي، وولي علينا فعلمنا ما يصلح الرعية.
وما أرانا نبعد عن الصواب إذا حكمنا أن شطرًا عظيمًا من وقت عمر في ولايته كان يصرفه
في سياسة العمال وكشف حالهم وانتقاء أصلحهم وتسليكهم في الإدارة والسياسة والقضاء، على
أسلوب محكم لا تكاد تلحق به في هذا القرن أعرق الدول الحديثة في المدنية، وأفضلها
بنظمها الإدارية والدستورية، ولعل في الناس من يقول: إذا عرضنا هنا لمصادرات عمر، وهذا
أيضًا من باب الشدة المتناهية والحجر على حرية العمال، وإدخال الخوف عليهم بالضرب على
أيديهم على صورة تحرمهم مُتَع الحياة، ولا توليهم منه غير الجفاء والخشونة في المعاملة،
نعم هكذا كان عمر، وهكذا وضع أساس الملك الإسلامي؛ هو لا يجوِّز إغناء أفراد بإفقار
أمة، ولا إسعاد فئة بإشقاء مجموع، كان ممن يشترون رضا العامة بمصلحة الأمراء،
٣٦ فكان الوالي في نظره فردًا من الأفراد، يجري حكم العدل عليه كما يجري على
غيره من سائر الناس، فكان حب المساواة لا يعدله شيء في أخلافه، إذا اشتكى العامل أصغر
الرعية جره إلى المحاكمة حيث يقف الشاكي والمشكو منه يسوِّي بينهما في الموقف حتى يظهر
الحق، فإن توجه قِبَل العامل اقتص منه، إن كان هناك داعٍ إلى القصاص، أو عامله بما تقضي
به الشريعة أو عزله، ومن عادة عمر أن يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على
ذلك وربما أخذه منهم، مرَّ ببناء يُبنى
٣٧ بحجارة وجص فقال: لمن هذا؟ فذكروا عاملًا له على البحرين فقال: أبت الدراهم
إلا أن تخرج أعناقها! وشاطره ماله، وكان يقول: لي على كل خائن أمينان الماء
والطين.
ولقد صادر عمر عامله على مصر عمرو بن العاص؛ لأنه فشت له فاشية من متاع ورقيق وآنية
وحيوان لم تكن له حين ولي مصر، فادعى عمرو أن أرض مصر أرض مزدرع ومتجر، وأنها أثمان خيل
تناتجت وسهام اجتمعت، وأنه يصيب فضلًا عما يحتاج إليه لنفقته، ومع ذلك قاسمه عمر ماله،
وصادر أبا هريرة عامله على البحرين لأنه اجتمعت له عشرة آلاف وقيل: عشرون ألفًا، وادعى
أن خيله تناسلت وسهامه تلاحقت وأنه اتجر، فقال له عمر: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل
الآخر في بيت المال، يريد بذلك أن يحصر العامل وكده في خدمة أهل عمله، أما الاتجار
وتثمير الأموال فهذا ليس من شأن عمال الدولة، فإن لهؤلاء ما يتبلغون به من رزق، وكان
يرى في مصادرة العمال وقهرهم ترويضًا لهم على الطاعة وترك التبجح والإدلال على الرعية،
وممن شاطرهم أيضًا النعمان بن عدي عامله على ميسان، ونافع بن عمرو الخزاعي عامله على
مكة، ويعلى بن منية عامله على اليمن، وسعد بن أبي وقاص عامله على الكوفة، وخالد بن
الوليد عامله في الشام، وآخذ خالد بن الوليد؛ لأنه أمره أن يحبس المال على ضعفة
المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأجاز الأشعث لشعره، فغضب عمر، وكان
أحد الشعراء كتب إليه يقول:
نحج إذا حجوا ونغزو إذا غزوا
فأنَّى لهم وفر ولسنا بذي وفر؟
إذا التاجر الهندي جاء بفأرة
من المسك راحت في مفارقهم تجري
فدونك مال الله حيث وجدته
سيرضون إن شاطرتهم منك بالشطر
فشاطرهم عمر أموالهم، وتولى ذلك منهم محمد بن مسلمة لثقته
٣٨ به ولم ينتطح في عمله عنزان، شاطر عمر سعدًا وعمرًا وخالدًا وهم ممن يفتخر
بهم الإسلام، استكثر عليهم أن ينعموا، وإن كان الأول فاتح العراق، والثاني فاتح مصر،
والثالث فاتح الشام.
وقيل لعمر: إن عياض بن غنم، وهو من كبار الفاتحين ورجال الإدارة في حكومته، يتوسع
كثيرًا في إعطاء المال حتى لا يقل في هذا المعنى عن خالد بن الوليد، فقال: إن ذلك من
شأن أبي عبيدة، وعياض من أقرباء أبي عبيدة، وعياض بن غنم هذا جلد صاحب دارا حين فُتحت،
فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام فاعتذر إليه، ثم
قال هشام لعياض: ألم تسمع رسول الله يقول: إن من أشد الناس عذابًا أشدهم للناس عذابًا
في الدنيا؟ فقال عياض: قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول الله يقول:
من
أراد أن ينصح لذي سلطان عامة فلا يبدِ له علانية ولكن ليخل به، فإن قبل منه فذاك، وإلا
كان قد أدى الذي عليه، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فهلا خشيت
أن
يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله.
كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالمال
٣٩ بعد حبس ما كان يحتاج إليه، والمال يُجبى من أموال الجزية وما يؤخذ من
الخراج، وكان النصارى واليهود أقروا على ما في أيديهم من الأرض يعمرونها ويؤدون خراجها،
ووضع عمر في مصر على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرًا، وألزم كل ذي أرض مع
الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقًا للمسلمين، تُجمع في
دار الرزق وتُقسم فيهم، وأحصى عمرو بن العاص المسلمين فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم
جبة صوف وبرنسًا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو بدل الجبة الصوف ثوبًا قبطيًّا،
واستبطأ عمر في بعض السنين خراج مصر فكتب إلى عمرو: أما بعد فإني فكرت في أمرك والذي
أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيقة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة في
بر وبحر، وأنها قد عالجها الفراعنة وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عتوهم وكفرهم،
فعجبت من ذلك، وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك، على
غير قحوط ولا جدوب، إلى آخر ما قال له وهز أعصابه بكلمات قاسية، فأجابه عمرو: لقد عملت
لرسول الله ولمن بعده فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق
أئمتنا، نرى غير ذلك قبيحًا، والعمل به سيئًا، وقال: فامضِ في عملك فإن الله قد نزهني
عن تلك الطعم الدنية والرغبة فيها، فكتب إليه إني لم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا
لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل
الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعلم قوم محصورون، فأجابه عمرو: إن أهل الأرض
استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين، فكان الرفق خيرًا من أن نخرق
٤٠ بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه.
ومع هذه الهيمنة من عمر على عماله نراه يشهد لعمرو بن العاص بحسن السياسة دليلًا على
تقديره عامله قدره، وكان من رأي عمر بن العاص في سياسة مصر أن الذي يصلح هذه البلاد
وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يستأدي خراج ثمرة إلا
في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وتربتها، وكان عمر يقول إذا رأى رجلًا
يتلجلج في كلامه: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد. وعمرو بن العاص المثل السائر في
حسن السياسة بين رجال العرب، دهش قبط مصر بجميل عمله، فدخل منهم في الإسلام كثير، وأدى
به التسامح أن رفع رجل نصراني إليه أن غرفة بن الحارث الكندي من أصحاب الرسول الذين
سكنوا مصر ضربه فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد، كأنه يريد أن
يؤاخذ الصحابي بما فعل، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي،
وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم، يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا
نحمِّلهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين
أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم، وإن غيبوا عنا لم نتعرَّض لهم، فقال
عمرو: صدقت.
خطب عمر يومًا في الجابية من حوران، فمما قاله: ألا وإني ما وجدت صلاحَ ما ولاني
الله
إلا بثلاث: أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله، ألا وإني ما وجدت صلاح
هذا المال إلا بثلاث: أن يؤخذ من حق، ويُعطى في حق، ويُمنع من باطل. وكتب معاوية إلى
عمر يصف له سوء حال الشام فكتب إليه في مرمة حصونها وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس
على مناظيرها واتخاذ المواقيد
٤١ لها. وجاء عمر الشام مرات أربعًا يكشف حال عمالها ويعنى بقسمة الأرزاق،
ويسمي الشواتي والصوائف، أي غزوات الشتاء والصيف، ويسدُّ الفروج والمسالح
٤٢ في كل كورة، ويستعمل أناسًا على السواحل من كل كورة، أو يقسم المواريث بعد
طاعون عَمَواس، وكان هلك فيه من المسلمين خمسة وعشرون ألفًا، وقيل: إن عماله استقبلوه
مرة بأبهة فنزل وأخذ بالحجارة ورماهم بها وقال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إياي
تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين، وبالله لو فعلتم هذا على رأس المائتين،
لاستبدلت بكم غيركم، واعتذر له معاوية عامله في الشام عن الموكب الثقيل الذي كان له
قائلًا: إنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، فلا بد لهم مما يرهبهم من هيبة
السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت، فلم يأمره به ولم ينهه
عنه، فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: لحسنٌ ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه، فقال: لحسن
مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقيل: إن معاوية قدم على عمر من الشام
٤٣ وهو أبض
٤٤ الناس فضرب عمر بيده على عضده، فأقلع عن مثل الشراب أو مثل الشراك، فقال:
هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تُقطع أنفسهم حسرات على بابك، وقال عمر: لئن
عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولًا، فإني أعلم أن للناس حوائج تُقطع عني، أما هم
فلا يصلون إليَّ، وأما عمالهم فلا يرفعونها إليَّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين،
ثم
أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى
الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين.
وخَصلة أخرى أيضًا لعمر، تُعد من بدائع إدارته الحسنة، وهو أنه ما كانت تفوته مسألة
فيها تقوية قلوب الأمة والاعتماد على نفسها. خطب مرة فقال: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا
يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إليَّ، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة، وأنا
حبيب إليَّ صلاحكم، عزيز عتبكم، وأنتم أناس عامتكم حضر في بلاد، وأهل بلد لا زرع فيه
ولا ضرع إلا ما جاء الله به إليه.» يريد أن يعلِّم الناس ألا يكثروا من الرجوع إلى
الحاكم للفصل بينهم في خصوماتهم، ليصرف وقته في التفكير في أمورهم الخطيرة، وأن يعتمدوا
على أنفسهم لا على صاحب السلطان، وأن يعرِّفهم حالة الحاضر والبادي منهم، ويعلمهم أن
يعملوا ولا يسرفوا لأنهم فقراء، ولطالما قال لقومه: أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله،
ولقليل في رفق خير من كثير في عنف. يريد أن يسوق الناس إلى المدينة بتؤدة وتدريج، وكان
يقول: من كان له مال فليصلحه، ومن كانت له أرض فليعمرها، وإنه يوشك أن يجيء من لا يعطي
إلا من أحب. ونظر إلى رجل مظهر للنسك متماوت فخفقه بالدرة وقال له: لا تمت علينا ديننا،
أماتك الله.
وكان غرام عمر أبدًا أن يلقن قومه العمل ويبعد بهم عن حياة الكسل، ولطالما قال لكتابه
وعماله: إن القوة على العمل ألا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت
٤٥ عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدءون ولا بأيها تأخذون، وقال: اتقوا الله
في الفلاحين لا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب. ونهى عمر أن تُشترى أرض أهل الذمة
ورقيقهم وقال: لا تشتروا من عقار أهل الذمة ولا من بلادهم شيئًا. وما كان يرى إبعاد
العامة عن المجالس العالية لئلا تفوتهم الفوائد، وليتربوا على أيديهم بما يسمعون
وينقلون عنهم، ويوزع الأعمال بين الكفاة وأرباب التخصص ويقول: أيها الناس من أراد أن
يسأل عن القرآن فليأتِ أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأتِ زيد بن ثابت،
ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأتِ معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن
الله جعلني له خازنًا وقاسمًا.
وكتب عمر الناس على قبائلهم، أي أحصاهم، ففرض الفروض وأعطى العطايا على السابقة، بدأ
بالأقرب فالأقرب من الرسول، وفرض لأهل بدر ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة رضوان، ثم لمن
بعدهم ولأهل القادسية واليرموك، وأعطى نساء النبي وغيرهن، ورزق الصبيان والأئمة
والمؤذنين والمعلمين والقضاة والشعراء، وحلف على أيمان ثلاث فقال: والله ما أحد أحق
بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، والله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا
المال نصيب إلا عبدًا مملوكًا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى، وقسمنا من رسول
الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام؛ والرجل وغناؤه في الإسلام،
والرجل وحاجته، والله لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى
مكانه.
جمع عمر المسلمين لأول عهده وقال: ما يحل للوالي من هذا المال؟ فقالوا جميعًا: أما
لخاصته فقوته وقوت عياله، ولا وكس ولا شطط، وكسوتهم وكسوته للشتاء والصيف، ودابتان إلى
جهاده وحوائجه وصلاته وحجه وعمرته، والقسم بالسوية، وأن يعطي أهل البلاء على قدر بلائهم
ويرم أمور الناس بعد، ويتعاهدهم عند الشدائد والنوازل، حتى تنكشف ويبدأ بأهل الفيء.
وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه فربما عسر فيأتيه صاحب بيت المال
فيتقاضاه فليزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه، وطلب من أحد أصحابه أن يقرضه
مالًا فقال له: ما يمنعك أن تقترض من بيت المال، فأجابه أنه إذا مات وهو له مدين ربما
غفلوا عن تقاضي ما اقترض، أما صاحبه فإنه لحرصه على ماله يطالب الورثة بماله فيستوفيه
وتبرأ ذمة عمر.
ومما تعلقت به همة عمر إحداث أوضاع جديدة اقتضتها حالة التوسع في الفتوح، فهو أول
من
حمل الدرة،
٤٦ وهو أول من دوَّن الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دوَّنها له عقيل
بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش لهم علم بالأنساب
وأيام الناس، والديوان الدفتر أو مجتمع الصحف والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية،
وعرفوا الديوان بأنه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها
من الجيوش والعمال، وأطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة وعلى المكان الذي يجلس فيه
القائمون على هذه السجلات والأضابير
٤٧ والطوامير، وثبت أنه كان له سجن
٤٨ وأنه سجن الحطيئة على الهجو وسجن ضبيعًا على سؤاله عن الذاريات والمرسلات
والنازعات وشبههن، وضربه مرة بعد مرة ونفاه إلى العراق، وكتب ألا يجالسه أحد فلو كانوا
مائة تفرقوا عنه، حتى كتب إليه عامله أنه حسنت توبته، فأمره عمر فخلى بينه وبين الناس،
وكانت أعمال عمر جدًّا كلها لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى
في المسجد رحبة تُسمى البطيحا، وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا أو يرفع صوته
فليخرج إلى الرحبة، وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء
الراشدون يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات، ولما كثرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل
البوادي وكثر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
٤٩
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي
كان عليه قبل، وقيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، ودواوين الشام
تُكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها النصارى
والمجوس دون المسلمين،
٥٠ والسبب في تدوين الدواوين أن عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف
درهم فاستعظمها وجعل عليها حراسًا في المسجد، فأشار عليه بعض من عرفوا فارس والشام أن
يدوِّن الدواوين يكتبون فيها «الأسماء وما لواحد واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة»، وجعل عمر
تابوتًا أي صندوقًا لجمع صكوكه ومعاهداته، وجند الأجناد أي ألَّف الفيالق، فصير فلسطين
جندًا، والجزيرة جندًا، والموصل جندًا، وقنسرين
٥١ جندًا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين، يقبضون
أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة من المسلمين، ويسير الناس بقضهم
٥٢ وقضيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد، وما كان الجند يجعلون
كلهم في المسالح، بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أول إشارة،
والغالب أنه كان يُترك فضل في بيوت الأموال في الولايات يُستخدم في طارئ إذا طرأ، وما
كانت الصوافي تُحمل كلها إلى الحجاز، بل يُدخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق
ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول من لقِّب بأمير المؤمنين، وأول من استقضى القضاة، وأول من أحدث التاريخ
الهجري فأرَّخ سنة ست عشرة لهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أول من أرخ الكتب
وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن
يكتب لهم صكاكًا من قراطيسه ثم يختم أسافلها، فكان أول من صك وختم أسفل الصكاك،
٥٣ وغيَّر أسماء المسلمين بأسماء الأنبياء،
٥٤ وكان أول من مصَّر الأمصار، مصر المصرين، البصرة والكوفة، وكان إذا جاءته
الأقضية المعضلة
٥٥ قال لعبد الله بن عباس: إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل فأنت لها ولأمثالها،
ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه، وكان في المسائل العامة يسأل الناس في
المسجد عن آرائهم ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه وهم من كبار الصحابة، فما استقر
عليه رأيهم أمضاه، فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة؛ ولذلك ندرت هفواته في
الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروى ويعمل بآراء أهل الرأي، ولما أرسل عبد الله بن
مسعود إلى العراق وزيرًا ومعلمًا مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل
العراق: «وقد جعلت على بيت مالكم عبد الله بن مسعود وآثرتكم به على نفسي.» وقد يبعث إلى
بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب ويسميه أميرًا،
٥٦ وعاملًا على القضاء وبيت المال ويسميه معلمًا ووزيرًا كما فعل في العراق،
أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر، وتقسيم العمالات في الشام يختلف عنه في
اليمن، وعامل البحرين لا يكون كعامل اليمامة، وقد يبعث أناسًا لمساحة الأرض، وأناسًا
لتقدير الخراج، وآخرين لإحصاء الناس، وقال لعاملين له توليا مساحة العراق ووضع الخراج
على سوادها: أخاف أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيقه، لئن سلمني الله لأدعن أرامل
العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا، وقال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، فإني
إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم ويعدلوا عليهم ويقسموا فيئهم بينهم،
ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمورهم.
وكان يرزق العامل بحسب حاجته وبلده، ولما استعمل زيد بن ثابت على القضاء فرض له
رزقًا، وكان يرزق عامله على حمص عياض بن غنم كل يوم دينارًا وشاة ومدًّا، وبعث إلى
الكوفة عمار بن ياسر على الثغر، وعثمان بن حُنيف على الخراج، وعبد الله بن مسعود على
بيت المال، وأمر هذا أن يعلِّم الناس القرآن ويفقههم في الدين، وفرض لهم شاة كل يوم،
وجعل شطرها وسواقطها لعمار بن ياسر، والشطر الآخر بين عبد الله بن مسعود وعثمان بن
حُنيف. كان أبو بكر يساوي
٥٧ بين الناس في العطاء ولا يفضل أهل السابقة ويقول: إنما عملوا لله فأجورهم
على الله، وإنما هذا المال عرض حاضر يأكله البر والفاجر وليس ثمنًا لأعمالهم. وكان عمر
يقول: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه، ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار
فأجرى عليه ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يلي معه في كل شهر،
وكان عطاء عثمان بن حنيف خمسة آلاف درهم وأجرى على عبد الله بن مسعود مائة درهم في كل
شهر وربع شاة في كل يوم، وأجرى على شريح القاضي مائة درهم في كل شهر وعشرة أجربة، وإنما
فضل عمارًا لأنه كان على الصلاة، قال الحسن: وكان عطاء سلمان خمسة آلاف وكان على زهاء
ثمانين ألفًا من الناس، وأتاه
٥٨ عبد الله بن عمر السعدي، فقال له عمر: ألم أحدِّث أنك تلي من أعمال
المسلمين أعمالًا فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟
قال: إن لي أفراسًا وأعبدًا وأنا بخير وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، فقال
عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر
إليه مني، فقال النبي: خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا
إسراف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك.
كان عمر يأمر الناس بالتفقه في الدين، ويجد في إرسال الفقهاء إلى الأمصار، يفقِّهون
المؤمنين ويعلمونهم دينهم، وقد لا يرسلهم إلا بعد أخذ رأيهم، ولما أراد أن يرسل سعد بن
عبيد، وكان لا يسمي القارئ من الصحابة غيره قال له: هل لك في الشام فإن المسلمين نزفوا
وإن العدو قد ذأروا
٥٩ عليهم؟ وذلك بعد طاعون عمواس.
وكان يقول حين خرج معاذ
٦٠ بن جبل إلى الشام: لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها بالفقه، ولقد كنت كلمت
أبا بكر رحمه الله أن يجلسه لحاجة الناس إليه فأبى عليَّ وقال: رجل أراد جهادًا يريد
الشهادة فلا أجلسه.
وفي كتب عمر إلى قضاته وعماله كأبي موسى الأشعري والقاضي شريح وأبي عبيدة ومعاوية
وغيرهم قوانين في الاشتراع والإدارة سنها للمسلمين لا تزال إلى يوم الناس هذا هي المعول
عليها، ورسالته في القضاء إلى أبي موسى الأشعري جمع فيها «جمل
٦١ الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إمامًا، ولا يجد
محق عنها معدلًا، ولا ظالم عن حدودها محيصًا.» ولقد قالوا: إذا
٦٢ اختلف الناس في أمر فانظر كيف قضى عمر، فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يقضِ
فيه قبله حتى يشاور، وكان أبدًا يأخذ آراء أصحابه لا يقطع أمرًا عظيمًا من دون
استشارتهم ويقول: الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المبرمين، والثلاثة
مرار لا يكاد ينتقض، هذا ولو وضع علم عمر في كفة، كما قال ابن مسعود، ووضع علم أحياء
العرب في كفة لرجح بهم علم عمر، وأُنشد عمر ذات يوم شعر زهير بن أبي سُلمى فلما بلغ
قوله:
جعل يتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها ويقول: لا يخرج الحق من إحدى ثلاث، إما يمين
أو محاكمة أو حجة.
وكانت المدينة في أيامه أشبه بمدرسة يتخرج به فيها القضاة والعمال والقوَّاد والأمراء
فلا يبعث إلى الأمصار إلا من اختبره في الجملة، وقلما أخطأت فراسته في الناس، وهو المثل
الأمثل في جدِّه. كان كعب بن سور جالسًا عند عمر فجاءته امرأة تشتكي زوجها، فقال لكعب:
اقضِ بينهما، فلما قضى بما أعجبه وما لم يخطر له ببال قال لكعب: اذهب قاضيًا على
البصرة. ساوم عمر بفرس فركبه ليشوره
٦٤ فعطب، فقال للرجل: خذ فرسك، فقال الرجل: لا، قال: اجعل بيني وبينك حكمًا،
قال الرجل: شريح، فتحاكما إليه فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت، أو رد كما
أخذت، فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا، سر إلى الكوفة، فبعثه قاضيًا عليها. قالوا: وإنه
لأول يوم عرفه فيه، وبقي شريح قاضيًا هناك ستين سنة.
ومن الفقهاء في أيامه أبو موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة الباهلي، وأبو قرة الكندي،
وأبو الدرداء، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، ومن عماله نافع بن عبد الحارث
الخزاعي، وسفيان بن عبد الله الثقفي، وعبد الله بن أبي ربيعة، وعبادة بن الصامت، وشداد
بن أوس، وقتادة بن النعمان، وعمير بن عوف، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، وعتبة بن مسعود،
وعدي بن أبي الزغباء الجُهني، وعويم بن ساعدة، وسهيل بن رافع، ومسعود بن أوس بن زيد
الأنصاري، وواقد بن عبد الله التميمي، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم، من كل من هو فرد
في
علمه، متميز بحسن سياسته وإدارته. كتب إلى أبي موسى الأشعري: إنه لم يزل للناس وجوه
يرفعون حوائج الناس فأكرم وجوه الناس، فبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في الحكم
والقِسمة، يعني أن عمر أوصى بالأعيان، وإن كان يكره الشفاعة والوساطة، فقد توسط مولى
عمر بأن يكتب كتابًا إلى عامله في العراق ليكرم أحد من قصدوا إليه فانتهره عمر وسبه
وقال: أتريد أن يظلم الناس، وهل هو إلا رجل من المسلمين يسعه ما يسعهم؟
٦٥
وكان ابن الخطاب يفحص أمورًا لا تخطر ببال أحد: كتب إلى أبي موسى الأشعري: «إني قد
بعثت إليك مع غاضرة بن سمرة العنبري بصحف فإذا أتاك لكذا وكذا فأعطه مائتي درهم، وإن
جاءك بعد ذلك فلا تعطه شيئًا، واكتب إليَّ في أي يوم قدم عليك.» يريد بذلك أن يعلم من
يستعملهم الجد والاهتمام والحرص على الأوقات وضبط المواعيد، هو يعطي من أرسله بالصحف
مائتي درهم إذا جد فوصل إلى البلد الذي عين له في الأجل المضروب وإلا فيُحرم أجرته.
وكتب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إني بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل
المدائن من أهل الكتاب فطلقها، فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت
بذلك؟ فكتب إليه: لا، بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهنَّ غلبنكم
على نسائكم، فقال: الآن نطلقها. هذا مع أن عمر كان يقول: ليس قوم أكيس من أولاد السراري
لأنهم يجمعون عز العرب ودهاء العجم. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أيضًا:
٦٦ إذا أتاك هذا فاضرب كاتبك سوطًا واعزله عن عمله، وذلك أن كاتب أبي موسى كتب
إلى عمر (من أبو موسى) وكان عليه أن يقول (من أبي موسى)، ودبر عام الرمادة (١٧-١٨)
تدبيرًا إداريًّا ناجعًا عندما رأى الناس يهلكون من المجاعة، فكتب إلى أمراء مصر والشام
والعراق أن يوافوه بالميرة فأتته القوافل تحمل طعامًا كثيرًا وغيره، فوسع على الناس،
وكان قطع الطعام عن نفسه وأطعم الجياع، ولولا تدابيره هذه لهلك أهل الحجاز
جميعهم.
ومن جملة تدابيره الإدارية أنه
٦٧ «حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج من البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه
فبلغه، فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعًا ثم ثنيًّا ثم
رباعيًا ثم سديسًا ثم بازلًا، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإن الإسلام قد
بَزَل،
٦٨ ألا وإن قريشًا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن
الخطاب حي فلا، إني قائم دون شعب الحرَّة آخذ بحلاقيم قريش وحُجزَها أن يتهافتوا في
النار.»
هذا مجمل من إدارة عمر، وقد كان شديدًا في إقامة الحدود يقيمها على أقرب الناس إليه:
حد في الخمر ابنه، وعاقب ابن عمرو بن العاص عامل مصر؛ لأن أحد قبطها استعداه عليه، قال
السائب بن يزيد: كنا نُؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمارة أبي بكر وصدر من خلافة
عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرجلنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين،
حتى إذا عتوا وفسقوا جلدوا ثمانين، ولما ضعف نصاب الشهادة على المغيرة بالزنا سُرِّي
عنه لأنه ما أراد أن يرجم أحدًا من الصحابة،
٦٩ وأراد أن يحد جبلة بن الأيهم من ملوك غسان لأن رجلًا فزاريًّا
٧٠ في الحج وطئ على إزاره فلطمه جبلة فهشم أنفه، وشكاه الفزاري فأراد عمر جبلة
على أن يفتدي نفسه أو يأمر الرجل بلطمه، فقال جبلة: كيف ذلك وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال:
إن الإسلام جمعكما، وسوَّى بين الملك والسوقة في الحد، ففر جبلة والتحق بالروم، وكان
يساوي بين الناس في القضاء مهما علت منزلتهم، وبلغه عن بعض عماله وهو في دار الحرب أنه
تعدى حدًّا من حدود الله فأغضى عنه لئلا يعتصم ببلاد الروم.
وكان يعرف أن الرسول قال: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها
إلا
مسلمًا، فسكت عمر عنهم، وراعى العهود التي أعطاها الرسول لهم، ولما كان من جملة شروط
نصارى نجران ألا يأكلوا الربا أمر بإجلائهم واشترى منهم أرضهم وأوصى بهم أهل الشام
والعراق، ولما انطلق نصارى بني تغلب هاربين من الجزية أضعفها عليهم
٧١ وشرط عليهم ألا يُنَصِّروا أولادهم، ولم يسمع لقول أحد بني تغلب: إنهم قوم
عرب يأنفون من الجزية وهم قوم لهم نكاية، وقوله له مهددًا: لا تعن عدوك عليك، وكان
يتحامى استعمال النصارى وعرضوا عليه كتابًا منهم فأبى أن يستعملهم، وكان إذا
٧٢ أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله
وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، وما كان يميز أحدًا من آل بيته في
شيء، وربما هضم بعض حقهم وأعطاه من هو أجدر منهم، قسم
٧٣ عمر مروطًا
٧٤ بين نساء المدينة فبقي فيها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير
المؤمنين، أعطِ هذا ابنة رسول الله التي عندك
٧٥ فقال: أم سليط أحق به؛ فإنها مما بايع رسول الله، وكانت تزفر
٧٦ لنا القرب يوم أُحُد. وقال أحدهم لعمر: اتقِ الله يا أمير المؤمنين، فقال:
لا خير فيكم إن لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم، وردت عليه امرأة فرجع
إليها وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت.
وكان لا يقرب الشعراء ولكنه يجري عليهم رزقًا يكفيهم، كتب مرة إلى المغيرة بن شعبة
أن
استنشد من قبلك من الشعراء ما قالوا في الجاهلية والإسلام،
٧٧ فأرسل إلى الأغلب العجلي فقال: إنه على استعداد لأن ينشده، ثم أرسل إلى
لبيد بن ربيعة فقال: أنشدني، فقال: إن شئت أنشدتك مما عفي عنه من شعر الجاهلية قال: لا،
أنشدني ما قلت في الإسلام، فانطلق إلى أديم فكتب فيه سورة البقرة فقال: أبدلني الله
مكان الشعر هذا، قال: فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: إنه لم يعرف أحد من الشعراء حق
الإسلام إلا لبيد بن ربيعة فانقص من عطاء الأغلب خمسمائة واجعلها في عطاء لبيد.
ونهج عمر لمن يخلفه النهج الذي يجب السير عليه في تدبير الملك، وأوصى الخليفة بعده
أن
يقر عماله سنة فيما قيل، وأوصاه
٧٨ بتقوى الله لا شريك له وبالمهاجرين الأولين خيرًا، وأن يعرف لهم سابقتهم،
وأوصاه بالأنصار خيرًا يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصاه بأهل الأمصار خيرًا
فإنهم ردء العدو وحياة الفيء، وأن لا يحمل فيئهم إلا عن فضل منهم، وأوصاه بأهل البادية
خيرًا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، وأن يأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فيرده على
فقرائهم، وأوصاه بأهل الذمة خيرًا وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا
ما عليهم للمؤمنين طوعًا أو عن يد وهم صاغرون، وأوصاه بالعدل في الرعية والتفرغ
لحوائجهم وثغورهم وأن لا يؤثر غنيهم على فقيرهم، وأن يشتد في أمر الله وحدوده ومعاصيه
على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذه في أحد رأفة حتى ينتهك منه مثل ما انتهك من حرم
الله، ويجعل الناس عنده سواء لا يبالي على من وجب الحق، ثم لا تأخذه في الله لومة لائم،
وأوصاه أن لا يرخص لنفسه ولا لغيره في ظلم أهل الذمة، ونشده الله أن يرحم جماعة
المسلمين، ويجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر عالمهم، وأن لا يضربهم فيذلوا، ولا يستأثر
عليهم بالفيء فيغضبهم، ولا يحرمهم عطاياهم عند محلها فيفقرهم، ولا يجمرهم في البعوث
فيقطع نسلهم، ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا يغلق بابه دونهم فيأكل قويهم
ضعيفهم.