إدارة العباسيين
تدابير السفاح والمنصور
لم يتفرغ السفاح لوضع أساس ثابت للإدارة لانصرافه جملةً واحدة إلى توطيد دعائم الفتح وقتال الخوارج عليه، وسار في الجملة على نظام الأمويين، وكان أخوه أبو جعفر يتولى لأخيه كل أمر عظيم، وكانت العراق على حظ وافر من ترتيب دواوينها وانتظام شئون إدارته على العهد الأموي، بفضل من وليها من أكبر رجال الإدارة والسياسة من بني أمية. وكذلك الحال في معظم الأقطار، تبدلت دولة بدولة وخليفة بخليفة، ونسج الآخر على منوال الأول اضطرارًا واختيارًا، وقلَّ أن خالفه في ترتيبه ونظمه. خطب السفاح قائمًا، وكانت بنو أمية تخطب قعودًا، فضج الناس وقالوا: أحييت السنة يا ابن عم رسول الله.
كان السفاح جميل العشرة جوادًا بالمال يحب مسامرة الرجال، وكان كثيرًا ما يقول: العجب ممن يترك أن يزداد علمًا ويختار أن يزداد جهلًا، فقال له أبو بكر الهذلي: ما تأويل هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: يترك مجالسة مثلك ومثل أصحابك ويدخل إلى امرأة وجارية، فلا يزال يسمع سخفًا ويرى نقصًا، فقال له الهذلي: لذلك فضلكم الله على العالمين، وجعل منكم خاتم النبيين.
وعَدَ محمد بن عبد الله لما خرج عليه إذا رجع إلى طاعته من قبل أن يقدر عليه أن يعطيه ألف ألف درهم، ويؤمنه على نفسه وولده وإخوته، ومن بايعه وتابعه وشايعه، ويُطلق من في سجنه من أهل بيته وأنصاره، آثر أن يحقن الدماء ويعطي هذا العطاء على أن يبعث البعوث وينفق الأموال، وأنفق ثلاثة وستين ألف ألف درهم على جيش واحد كان مؤلفًا من خمسين ألفًا وجهه إلى إفريقية لقتال الخوارج، بمعنى أن أبا جعفر كان الحزم كله في تدبير ملكه، والحزم كله في جمع المال للشدائد، والإنفاق منه عند الحاجة لقيام الدولة، ويذكرون له في باب الإمساك أخبارًا كثيرة.
كان المنصور في أكثر أموره وسياسته وتدبيره متبعًا في أفعاله لهشام بن عبد الملك لكثرة ما كشفه من أخبار هشام وسيرته، وكان يقول: إنه، أي هشام، فتى القوم أي رجل بني أمية، وقال: الملوك ثلاثة: معاوية وكفاه حجاجه، وعبد الملك وكفاه زياده، وأنا ولا كافي لي. وكان يقول لأهل بيته: إني لأجهل موضعي حتى أحذر منكم؛ لأنه ما فيكم إلا عم وأخ وابن عم وابن أخ، فأنا أراعيكم ببصري وأهتم بكم بنفسي، فالله الله في أنفسكم فصونوا، وفي أموالكم فاحتفظوا بها، وإياكم والإسراف فيوشك أن تصيروا من ولد ولدي إلى من لا يعرف الرجل حتى يقول له من أنت.
كان المنصور يقول لابنه: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وكتب إليه عامله على إرمينية يخبره أن الجند شغبوا عليه ونهبوا ما في بيت المال فوقَّع في كتابه: «اعتزل عملنا مذمومًا مدحورًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.» ولقد حدث أن المنصور ولَّى المدينة رياح بن عثمان فخطب أهلها يهددهم ويقول: أنا الأفعى بن الأفعى، أنا ابن عثمان بن حيان وابن عم مسلم بن عقبة المبيد خضراءكم المفني رجالكم، والله لأدعنها بلقعًا لا ينبح فيها كلب، فوثب عليه قوم منهم وكلموه وقالوا: والله يا ابن المجلود حدين لتكفن أو لنكفنك عن أنفسنا، فكتب الوالي إلى المنصور يخبره بسوء طاعة أهل المدينة، فأرسل المنصور إلى رياح رسولًا، وكتب معه كتابًا يقول فيه: وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن لم تنزعوا ليبدلنكم بعد أمنكم خوفًا، وليقطعن البر والبحر عنكم، وليبعثن عليكم رجالًا غلاظ الأكباد بعاد الأرحام. فلما قُرئ عليهم نادوه من كل جانب كذبت يا ابن المجلود حدين، ورموه بالحصا وبادر المقصورة فأغلقها، فدخل عليه أيوب بن سلمة المخزومي فقال: أصلح الله الأمير، إنما تصنع هذا رعاع الناس. وقال بعض من حضر من وجوه بني هاشم: لا نرى هذا، ولكن أرسل إلى وجوه الناس وغيرهم من أهل المدينة فاقرأ عليهم كتاب المنصور، فجمعهم وقرأ عليهم فقالوا: ما أمرتنا فعصيناك ولا دعوتنا فخالفناك، وانفض الأمر بسلام.
وعني المنصور بالعمار في ملكه يعمر الجسور والقنى والآبار، ففشت في أيامه أعمال العمران، وحمل المهندسين من الآفاق إلى العراق خصوصًا لبناء مدينة بغداد، واختار المنصور موقعها بنفسه لإحاطتها بدجلة والفرات بحيث يصعب على أكثر الجيوش تخطيها، ولأن مواد الشام والجزيرة تأتيها بالفرات، ومواد الموصل وما وراءها تُحمل إليها في دجلة، وبنى الرصافة لابنه المهدي ليصير ابنه في مدينة، وعسكر بالجانب الشرقي، ويصير المنصور في مدينة، وعسكر بالجانب الغربي، فلا يشغب الجند.
وحج المنصور آخر حجة وكان موقنًا أنه لا يرجع من حجه، زاعمًا أنه عرف ذلك من المنجمين، فقال لابنه وأشار إلى سفط له فيه دفاتر وعليه قفل لا يفتحه غيره: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به؛ فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن حَزَبَك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد وإلا ففي الثاني والثالث، حتى تبلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة أي بغداد، وإياك أن تستبدل بها غيرها. وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البعوث فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، وأوصى ابنه بأهل بيته وأن يحسن إليهم ويقدمهم، ويوطئ الناس أعقابهم، ويوليهم المنابر، وأوصاه بأهل خراسان خيرًا؛ لأنهم أنصاره وشيعته الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولته، وأوصاه أن لا يدخل النساء في أمره، وأن يعد الكراع والرجال والجند ما استطاع، وأن يعد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وأن يباشر الأمور بنفسه، وأن يستعمل حسن الظن، ويسيء الظن بعماله وكتابه، وأن لا يبرم أمرًا حتى يفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآة تريه حسنه وسيئه، وقال له: يا بني، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره. وقال له أيضًا: إني تركت الناس ثلاثة أصناف: فقير لا يرجو إلا غناك، وخائفًا لا يرجو إلا أمنك، ومسجونًا لا يرى الفرج إلا منك، فإذا وَلِيت فأذقهم طعم الرفاهية، ولا تمدد لهم كل المد.
وتعرض لأهل الشام وذكره أنهم أشد الناس مئونة وأخوفهم عداوة وبائقة، فمن الرأي أن يختص منهم خاصة ممن يرجو عنده صلاحًا، أو يعرف منه نصيحة أو وفاء، فإن أولئك لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويدخلوا فيما حملوا عليه من أمرهم، ولا يعامل أهل الشام كما عاملوا أهل العراق من جعل فيئهم إلى غيرهم وتنحيتهم عن المنابر والمجالس والأعمال، كما كانوا ينحون عن ذلك من لا يجهلون فضله في السابقة والمواضع، ومنعت منهم المرافق كما كانوا يمنعون الناس أن ينالوا معهم أكلة من الطعام الذي يصنعه أمراؤهم للعامة، ورجاه أن يأخذ منهم أهل القوة والغناء وخفة المئونة والعفة في الطاعة، ولا يفضل أحدًا منهم على أحد إلا على خاصة معلومة، وقال بهذا المعنى في إقامة العذر لأهل الشام على نزواتهم، وأنه لم يخرج الملك من قوم إلا بقيت فيهم بقية يتوثبون بها، ثم كان ذلك التوثب هو سبب استئصالهم وتدويخهم.
وذكره بأصحابه «الذين هم بهاء فنائه، وزينة مجلسه، وألسنة رعيته، والأعوان على رأيه؛ ومواضع كرامته، والخاصة من عامته»، وأبان أنها مراتب طمع فيها الأوغاد «ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي، مشهور بالفجور في أهل مصره، قد غبر عامة دهره صانعًا يعمل بيده، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل البيوتات من العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيرهم من سروات قريش، ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم، ولا فقه في دين، ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث، ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء، ولا عدة يستعد بها، وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة، إلا أنه خدم كاتبًا أو حاجبًا فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به، حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.» ثم ذكره بأمر فتيان أهل بيته وبني أبيه وبني علي وبني العباس ووصفهم بأن فيهم رجالًا لو مُتعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوهًا وكانوا عدة لأخرى.
ومن أهم ما ذكره به أمر الأرضين والخراج، قال: فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعد ما يتأنقون لها في العمارة، ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب مساحة يستخرج ممن زرع ويترك من لم يزرع، فيعمر من يعمر ويسلم من أخرب، ورجاه على أن يعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة، وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يُؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا من كان له فضلها ونفعها ليكون في ذلك صلاح للرعية، وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال، قال: «وهذا رأي مؤنته شديدة، ورجاله قليل، ونفعه متأخر، وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا أمير المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله، من تخير العمال وتفقدهم.»
هذه زبدة تقرير ابن المقفع للمنصور وفيه صورة جميلة مما تحتاجه إدارة البلاد من الصلاح، وما يجب القيام به لاستصلاح الجند والرفق بأهل الكوفة والبصرة، والعناية بأهل العراق والعطف على الحجاز واليمن واليمامة واختيار العمال الكفاة والرجوع إلى أهل الرأي، واصطناع أرباب العقل من أهل الشام وإشارة إلى أن بغضهم بني العباس من الأمور الطبيعية؛ لأن الملك كان فيهم فانتقل إلى غيرهم، وعرَّفه الطرق إلى استصلاح العامة واختيار الخاصة من الأصحاب والموالين إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن تطبيقها لعمران البلاد، ورفع الحيف عن الخلق والانتفاع بالقوى المفيدة للرعية وأرضهم، ومن أهم ما وقفنا عليه هذا التقرير أن الأمة لم تعدم في إبان مجدها رجالًا يدلونها على مواطن الضعف من سلطانها، ومعالجة الإصلاح بالعقل حتى يبلغ كماله، والأخذ في كل أمر من أمور الدولة بالحزم النافع والمصلحة الشاملة.
إدارة المهدي والهادي والرشيد
كان المهدي أول من جلس للمظالم من بني العباس، يقيم العدل بين المتظالمين، ومشى على إثره الهادي والرشيد والمأمون، وكان المهتدي آخر من جلس للنظر فيها، وبسط المهدي يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون في جميع الآفاق، وأمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن وبغداد ببغال وإبل، ولم يكن هناك بريد قبل ذلك ولا في قطر من الأقطار، وكان وزيره «يرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة من أمور الثغور والولايات، وبناء الحصون وتقوية الغزاة، وتزويج العزاب وفكاك الأسرى والمحبسين، والقضاء على الغارمين والصدقة على المتعففين.» واشتد المهدي على الزنادقة فقتل في جملة من قتل ابن وزيره أبي عبد الله بن معاوية فاستوحش كل منهما من صاحبه، فاعتزل الوزير الخدمة.
قال رجل للمهدي عندي نصيحة يا أمير المؤمنين، فقال: لمن نصيحتك هذه؟ لنا أم لعامة المسلمين أم لنفسك؟ قال: لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس الساعي بأعظم عورة ولا أقبح حالًا ممن قبل سعايته، ولا تخلو من أن تكون حاسد نعمة فلا نشفي غيظك، أو عدوًّا فلا نعاقب لك عدوك، ثم أقبل على الناس فقال: لا ينصح لنا ناصح إلا بما فيه رضا لله وللمسلمين صلاح، فإنما لنا الأبدان وليس لنا القلوب، ومن استتر عنا لم نكشفه، ومن بادانا طلبنا توبته، ومن أخطأ أقلنا عثرته، فإني أرى التأديب بالصفح أبلغ منه بالعقوبة، والسلامة مع العفو أكثر منها مع العاجلة، والقلوب لا تبقى لوالٍ لا ينعطف إذا استُعطف، ولا يعفو إذا قدر، ولا يغفر إذا ظفر، ولا يرحم إذا استُرحم، وهذا أرقى الأدب في استمالة القلوب وحسن سياسة الناس، ومن وافق إلى تطبيق هذه القواعد على أمته لم يحتج إلى سلاح يخيفهم ولا إلى جند يضبطهم.
وأفضت الخلافة إلى الهادي، والدواوين مدونة مرتبة، فمن ديوان الخراج إلى ديوان الضياع، إلى ديوان الزمام، إلى ديوان التوقيع والتتبع على العمال، إلى ديوان النظر، أي المكاتبات والمراجعات، إلى ديوان الرسائل، إلى ديوان البريد والخرائط، إلى غير ذلك من الدواوين، وجعل الهادي أمور الدولة تسير في قواعدها المرعية على ما تقضي به أحكام الشرع والعقل، ويراه الوزراء والأمراء والقضاة، وكان جبارًا عظيمًا وهو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
وما قسمت أعمال الدولة منذ انتقالها إلى بني العباس تقسيمها في زمن الرشيد؛ ولذلك كان للخليفة وقت ليحج ووقت ليغزو، ووقت ليصطاف ويرتبع في الرقة، ويترك قصر الخلد في بغداد، وما اشتعلت فتنة في أرجاء مملكته إلا أطفأها، ومنها فتنة النزارية واليمانية في الشام أي قيس ويمن، عادوا إلى ما كانوا عليه فقُتل منهم بشر كثير، فأرسل عليهم إبراهيم بن محمد المهدي واليًا، ففكر أن يعمد إلى طرق إدارية لقطع شأفة هذه الغائلة، فرأى أن يلهيهم بقشور، ويتقرب من قلوبهم بما يستميلها، فسار في استقبالهم على قانون من «التشريفات» أو «البروتوكول» أرضاهم به وما تكلف شيئًا؛ فقد أمر حاجبه بإحضار وجوه الحيين، وأمره بتسمية أشرافهم، وأن يقدم من كل حي الأفضل فالأفضل منهم، فأمر بتصيير أعلا الناس من الجانب الأيمن مضريًّا وعن شماله يمانيًّا، ومن دون اليماني مضري ومن دون المضري يماني، حتى لا يلتصق مضري بمضري ولا يماني بيماني، فلما قدم الطعام قال قبل أن يطعم شيئًا: «إن الله عز وجل جعل قريشًا موازين بين العرب، فجعل مضر عمومتها، وجعل يمن خئولتها، وافترض عليها حب العمومة والخئولة، فليس يتعصب قرشي إلا للجهل بالمفترض عليه.» ثم قال: يا «معشر مضر كأني بكم وقد قلتم إذا خرجتم لإخوانكم من يمن قد قدم أميرنا مضر على يمين، وكأني بكم يا يمن قد قلتم وكيف قدمكم علينا، وقد جعل بجانب اليماني مضريًّا وبجانب المضري يمانيًّا، فقلتم يا معشر مضر إن الجانب الأيمن أعلا من الجانب الأيسر، وقد جعلت الأيمن لمضر والأيسر ليمن، وهذا دليل على تقدمته إيانا عليكم، ألا إن مجلسك يا رئيس المضرية في غد من الجانب الأيسر، ومجلسك يا رئيس اليمانية في غد من الجانب الأيمن، وهذان الجانبان يتناوبان بينكما، يكون كل من كان في جهة متحولًا عنها في غده إلى الجانب الآخر.» فانصرف القوم كلهم حامدًا.
ولقد كان الرشيد على أشد ما يكون من الانتباه لكل ما دقَّ وجلَّ من شئون الملك، «ومن أشد الملوك بحثًا عن أسرار رعيته وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمرًا»، يصطنع الرجال ويحلم عن مساوئ تغتفر من رجاله، ويسعى في عمران البلاد ويكف الأذى عن الرعية، ويأخذ بأيدي العلماء والباحثين ويجتمع إليهم ويأنس بهم، ولما رأى أن ملكه في خطر محقق من نفوذ آل برمك وزرائه وخاصته، لانصراف الوجوه إليهم لكثرة ما أحسنوا إلى الناس، ولإجماع القاصي والداني على حبهم، حتى ساموا الخليفة أو أربوا عليه في المكانة، أمر بالقبض عليهم ومصادرتهم وقتلهم، وما أراد أن يبوح بسر ما أتاه، فرجم القوم الظنون به؛ وذلك لأنه خافهم على ملكه، وهم فرس لهم قديم يمتون إليه من الإمارة، والفرس يحاولون منذ القرن الأول أن يعيدوا الملك فيهم فارسيًّا ويخرجوه عن صبغته العربية، ونشأت من قتلهم قصة طويلة سداها ولحمتها المبالغة، بل الاختلاق، شغل الرشيد بها الناس عن نفسه وعن سياسة بلاده.
ووضع الرشيد عن أهل السواد العشر الذي كان يُؤخذ منهم بعد النصف، وترك بعض أهل الضياع في فلسطين أرضهم فوجه إليهم أحد كبار قواده فدعا قومًا من أَكَرتها ومزارعيها إلى الرجوع إليها، على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم، فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف، وجاء قوم منهم بعدُ فرُدت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه وهم أصحاب الردود، والرشيد يسد كل خلل في مملكته، ويهتم كل الاهتمام أن يخفف عن الفلاحين، وكان رجاله لا يألونه نصحًا؛ لأنه يهتم لكل ما ينفع، وفي الرسالة التي كتبها له قاضيه أبو يوسف في الخراج نموذج من هذه العناية، ومما قال فيها: وقد بلغني أن عمال الخراج يبعثون رجالًا من قبلهم في الصدقات فيظلمون ويعسفون ويأتون ما لا يحل، وإنما ينبغي أن يتخير للصدقة أهل العفاف والصلاح، فإذا وليتها رجلًا، ووجد من قبله من يوثق بدينه وأمانته، أجريت عليهم من الرزق بقدر ما تجري، ولا تجري عليهم ما يستغرق أكثر الصدقة … ويكون من يولي فقيهًا عالمًا مشاورًا لأهل الرأي مؤتمنًا على الأموال، إني قد أراهم لا يحتاطون فيمن يولون الخراج، إذا لزم الرجل منهم باب أحدهم أيامًا ولاه رقاب المسلمين وجباية خراجهم، ولعله أن لا يكون عرفه بسلامة ناصية ولا بعفاف، ولا باستقامة طريقة ولا بغير ذلك … وتقدم إلى من وليت أن لا يكون عسوفًا لأهل عمله، ولا محتقرًا لهم، ولا مستخفًّا بهم، ولكن يلبس لهم جلبابًا من اللين، يشوبه بطرف من الشدة والاستقصاء، من غير أن يظلموا أو يحملوا ما لا يجب عليهم، واللين للمسلم والغلظة على الفاجر، والعدل على أهل الذمة وإنصاف المظلوم، والشدة على الظالم، والعفو عن الناس … فإن كل ما عمل به والي الخراج من الظلم والعسف فإنه يُحمل على أنه قد أُمر به وقد أُمر بغيره، وإن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره واتقى وخاف، وإن لم تفعل هذا بهم تعدوا على أهل الخراج، واجترأوا على ظلمهم وعسفهم وأخذهم بما لا يجب عليهم، وإذا صح عندك من العامل والوالي تعدٍ بظلم أو سعف وخيانة لك في رعيتك، واحتجان شيء من الفيء، أو خبث طعمته، أو سوء سيرته، فحرام عليك استعماله والاستعانة به، وأن تقلده شيئًا من أمر رعيتك أو تشركه في شيء من أمرك، بل عاقبه على ذلك عقوبة تروع غيره فلا يتعرض لمثل ما تعرض له.
ولما دخل عليه عامله بدمشق يرسف في قيده، قال له الرشيد: وليتك دمشق وهي جنة بها غُدر تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت أموالي، فما برح بك التعدي لأرفاقهم فيما أمرتك، حتى جعلتها أجرد من الصخر، وأوحش من القفر، قال: والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهة، ولكن وليت أقوامًا ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا إلى ميدان التعدي، ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة، فلا جرم أن أمير المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي.
وكان الرشيد إذا أحس من عامل له خيانة دبَّر له من صائب رأيه ولطف حيلته ما يدل على بعد نظره وحسن إدارته، وجميل تدينه، وشدة غيرته على مصلحة ملكه، فيمسك أقصر الطرق إلى القضاء على الفتن الملحوظة والغوائل المستجنة، فيضرب على المسيء بسيفه وسنانه، كما يغمر المحسن بإنعامه وإحسانه، أراد مرة أن يعزل علي بن عيسى عن خراسان — وخراسان كثيرًا ما كانت تشغل بال الرشيد كما شغلت بال أسلافه — فدعا هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم أطلعه على سرِّي فيك، وقد اضطربت عليَّ ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره، وقد كتب يستمد ويتجيش، وأنا كاتب إليه أخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفتضه ولا تطلعن فيه، حتى تصل إلى مدينة نيسابور، فإذا نزلتها فاعمل بما فيه وامتثله ولا تجاوزه إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي ليتعرف ما يكون منك ومنه، وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى وعونًا له.
ثم كتب إلى علي بن عيسى كتابًا بخطه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك، فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري، حتى عُثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته، بسوء سيرتك، ورداءة طُعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة ابن أعين مولاي ثغر خراسان وأمرته أن يشدد وطأته عليك، وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهمًا ولا حقًّا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به، حتى ترده إلى أهله، فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك، فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقامًا لله عز وجل بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا، فلا تعرض نفسك للتي لا سوى لها، واخرج مما يلزمك طائعًا أو مكرهًا.»
وكتب عهد هرثمة بخطه ونصه: «هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولَّاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه، أمره بتقوى الله وطاعته، ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه، ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله، وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده. وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين، فإذا استنظف ما عندهم وقِبَلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم، فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق المسلمين فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته، حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم وبطلت أرواحهم، فإذا خرجوا من حق كل ذي حق فأشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطأة، وجشوبة المطعم والمشرب وغلظ الملبس مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين إن شاء الله، فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحش معه إلى أمر يريبهم وظن يرعبهم، وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته ومن ولاك الله أمره إن شاء الله، هذا عهدي وكتابي بخطي وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سماواته وكفى بالله شهيدًا، وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.»
أمثلة تكشفت بها حقيقة إدارة الرشيد وبعد غوره في تراتيبه، ولقد رُفع إليه أن رجلًا بدمشق من بقايا بني أمية عظيم الجاه واسع الدنيا كثير المال والأملاك مطاعًا في البلد له جماعة وأولاد ومماليك وموالٍ، يركبون الخيل، ويحملون السلاح، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه، فعظم ذلك عليه، فاستدعى منارة صاحب الخلفاء وأمره بالخروج إلى دمشق، وضم إليه مائة غلام وأجله لذهابه ستة وإيابه ستة ويومًا لقعوده، وأمره أن يتفقد دار الرجل وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه، وما يقولون وقدر النعمة والحال والمحل، فجاءه به في الميعاد المضروب وقص عليه ما سمعه ورآه، فعرف الرشيد أن الرجل محسود على النعمة مكذوب عليه، فأدناه واعتذر عن استدعائه، وقال له: سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك، فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون وقد استغنيت بعدله عن مسألته من ماله، وأموري منتظمة وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل البلد بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فأعاده إلى بلده على خير حال، ولم يترك للوشاة سبيلًا إليه.
ولقد توسع الرشيد في توسعة سلطة عماله، شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها فبنى فيها المساجد والرباطات، واتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وذكروا أن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل فسموا ببغداد الكرنبية وخلف الباقي بخراسان على أسمائهم ودفاترهم، وكتب والي إرمينية للرشيد إلى وزيره أن قومًا صاروا إلى سبيل النصح، فذكروا ضياعًا بإرمينية قد عفت ودرست، يرجع منها إلى السلطان مال عظيم، وأني وقفت عن المطالبة حتى أعرف رأيك فكتب إليه: «قرأت هذه الرقعة المذمومة وفهمتها، وسوق السعاية بحمد الله في أيامنا كاسدة، وألسنة السعاة في أيامنا كليلة خاسئة، فإذا قرأت كتابي هذا فاحمل الناس على قانونك، وخذهم بما في ديوانك، فإنَّا لم نولك الناحية لتتبع الرسوم العافية، ولا لإحياء الأعلام الداثرة، وجنبني وتجنب بيت جرير يخاطب الفرزدق:
وأجرِ أمورك على ما يكسب الدعاء لنا لا علينا، واعلم أنها مدة تنتهي وأيام تنقضي، فإما ذكر جميل، وإما خزي طويل.»
والرشيد لا يضن بالمال في سبيل الدولة، والمال وحده لا يكفي الخليفة أمر الفتوق التي تحدث إن لم يكن لها من يُوثق بأمانته في تلافي شرها، والرشيد على كثرة بذله المأثور خلف من المال «ما لم يخلف أحد مثله مذ كانت الدنيا»؛ وذلك أنه خلف من الأثاث والعين والورق والجوهر والدواب سوى الضياع والعقار ما قيمته مائة ألف ألف وخمسة وعشرون ألف ألف دينار. قال ابن الأثير: كان الرشيد يطلب العمل بآثار المنصور إلا في بذل المال فإنه لم يرَ خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر ذلك.
إدارة الأمين والمأمون
لم يعرف التاريخ شيئًا من التدبير الذي جرى عليه الأمين بعد الرشيد؛ لأنه كان يعبث وقلما يجد، وفرَّق ما في خزائن الدولة من الأموال والأعلاق والذخائر، حتى دالت الخلافة وضاعت بعد الرشيد، ولم يُرزق الأمين وزراء كوزراء أخيه: طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين والحسن بن سهل والفضل بن سهل ثم أحمد بن يوسف وعمرو بن مسعدة وأضرابهم، بل اصطنع من نبذهم أبوه الرشيد، وكان أقصاهم لسوء سيرتهم، فربح المأمون برجاله وعقله، وخسر الأمين برجاله وضعف تدبيره.
وبينا كان المأمون في مرو ينظر في أمور الدولة كان الأمين يوجه «إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق ونافس في ابتياع فره الدواب وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه … وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه … وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس وأنفق في عملها مالًا عظيمًا.»
وعاد فوضع له قواعد في حكمة الأخلاق لا تصلح بغيرها الولاية، فقال: «ولا تحقرنَّ ذنبًا، ولا تمالئن حاسدًا، ولا ترحمن فاجرًا، ولا تصلنَّ كفورًا، ولا تداهننَّ عدوًّا، ولا تصدقنَّ نمامًا، ولا تأتمننَّ غدارًا، ولا توالينَّ فاسقًا، ولا تبتغينَّ عاديًا، ولا تحمدنَّ مرائيًا، ولا تحقرنَّ إنسانًا، ولا تردنَّ سائلًا فقيرًا، ولا تجبين باطلًا، ولا تلاحظن مضحكًا، ولا تخلفن وعدًا، ولا ترهقن هُجرًا، ولا تظهرن غضبًا، ولا تأتين بذخًا، ولا تمشين مرحًا، ولا تركبن سفهًا، ولا تفطرن في طلب الأخرة، ولا تدفع الأيام عتابًا، ولا تغمض عن الظالم رهبة منه أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.»
قال: وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل ولا تسمعن لهم قولًا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا، فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، يذهب الله بذلك فاقتهم، فيقوى بك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا …
ثم ذكر له القضاء وإقامة العدل فيه «لتصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة»، إلى أن قال، بعد أن عرفه ما يفعل لحقن الدماء وإعطاء الحقوق: وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًّا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهديهم ذلًّا وصغارًا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرًا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضا العامة، واعلم أنك جعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سُمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأُسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع، فأمضه وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته …
وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز للناس وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولِن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعطِ بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة … «واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وينفقون منها، ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك.
وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقِّت لكل منهم في كل يوم وقتًا يدخل به عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه، واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك …»
أرأيتم هذا الكلام الآخذ بجماع الفؤاد الذي كتب به طاهر بن الحسين إلى ابنه قبل خمسين ومائة وألف سنة في هذا الموضوع الجليل الذي فيه قوام الممالك والشعوب؟ أتظنون أن هذه الأفكار يصدر اليوم أحسن منها عن أكبر عالم إداري عارف بطبائع الناس وما يصلحهم، والممالك وما ينبغي لها؟ وعرفنا من هذا الكتاب مكانة طاهر بن الحسين من قيام الدولة والدفاع عن حوزة الخلافة، وأن المأمون الذي يكون من جملة قوَّاده ورجال دولته هذا العظيم لا بد أن يكون في عمله جدُّ عظيم.
وكان من تربية طاهر بن الحسين أن جاء ابنه، كما قال له أحمد بن يوسف الكاتب، موفقًا في الشدة والليان في مواضعهما، ولا يعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدله، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوه، قال: ولقل ما رأينا ابن شرف لم يُلْقِ بيده متكلًا على ما قدمت له أبوته. قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا (في مصر) فتى حدث من المشرق، يعني ابن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيا وأمَّن البريء وأخاف السقيم واستوثقت له الرعية بالطاعة، ولقد قال المأمون لبعض جلسائه: من أنبل ما تعلمون نبلًا وأعفهم عفة؟ فجالوا بما فتح الله عليهم، وبعضهم مدحه وقرظه، فقال: ذلك والله أبو العباس عبد الله بن طاهر دخل مصر وهي كالعروس الكاملة، فيها خراجها وبها أموالها جمة، ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج منها بعشرة آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إليَّ أنه عُرضت عليه أموال لو عُرضت عليَّ أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج من ذلك البلد إلا وهو بالصفة التي قدمها فيها، إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس، فمن رأى أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام، فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخريج نعمتي.
وفي الحق إنه لم يُعرف عصر كعصر المأمون وعصر أبيه وأخيه الأمين في استفاضة الأموال في كل طبقة من طبقات الأمة، فقد أنفق الحسن بن سهل على عرس ابنته بوران على المأمون أربعة آلاف ألف دينار، وماتت الخيزران أم الهادي والرشيد (١٧٣) وكانت غلتها ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ومات محمد بن سليمان وقبض الرشيد أمواله بالبصرة وغيرها، فكان مبلغها نيفًا وخمسين ألف ألف درهم سوى الضياع والدور والمستغلات، وكان محمد بن سليمان يغل كل يوم مائة ألف درهم، وأنفق جعفر بن يحيى على داره التي ابتناها في دار السلام نحوًا من عشرين ألف ألف درهم، وغنَّى إبراهيم بن المهدي محمدًا صوتًا فأعطاه ثلاثمائة ألف درهم، فقال إبراهيم: يا سيدي قد أمرت لي إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم فقال: وهل هي إلا خراج بعض الكور!
ووقع للمأمون غير مرة أنه كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة لا يعتمد على رجاله، على كثرة الصالحين منهم للعمل، ولما انتقضت أسفل الأرض كلها بمصر، عربها وقبطها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة، وكان ذلك لسوء سيرة العمال فيهم، هبط المأمون مصر لعشر خلون من المحرم سنة سبع عشرة ومائتين، وسخط على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه وأمر بلباس البياض وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتموني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد، وقال: ما فتق عليَّ قط فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال. وقال لمن رفع إليه خبرًا في عامل: إني امرؤ أداري عمالي مداراة الخائف، وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجة البيضاء سبيلًا، فاعمل على حسب ذلك ولنْ لهم تسلم منهم.
وخص المأمون بالإغضاء عن المساوئ، والتغابي عن التفاهات، وحمل الناس على محمل الخير، وجهد أن يسوق إليهم كل خير، وهذا مع كثرة عنايته بالأخذ بأخبار عماله ورعيته، قيل: إنه كان للمأمون ألف عجوز وسبعمائة يتفقد بها أحوال الناس ومن يحبه ويبغضه ومن يفسد حرم المسلمين، وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه كلها، وكان يدور ليلًا ونهارًا مستترًا، ومع كل هذا كان المأمون أبدًا إلى جانب المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما تشتم منه رائحة الطمع والإسفاف إلى أموال العمال، وكادت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب إلا من حاول نقض بنيان الدولة، ولقد رُفع إليه أن عمرو بن مسعدة أحد وزراء دولته، خلف ثمانين ألف ألف درهم، أو نحو ثمانية ملايين دينار، فوقَّع على الرقعة: «هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه.»
ولقد كان من أهم قوانين إدارة المأمون التوسعة على عماله حتى لا يسرقوا الرعية والسلطان ويضيعوا حقوقهم؛ رفع منزلة الفضل بن سهل وعقد له على الشرق طولًا وعرضًا وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى عن خاصة عماله لأدنى سبب، بل يغض الطرف عن مساويهم ويتركهم في بزخ بين الرغبة والرهبة؛ ولذلك استراح واستراح الناس معه، وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي العامة، فقد قال في وصيته للخليفة بعده: ولا تغفل أمر الرعية والعوام؛ فإن الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح المسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقرِّبهم وتأنَّ بهم.
كان في المأمون شيء من الجاذبية الفطرية يستميل بها القلوب ويجمعها على حبه، ذلك أنه كان يعرف أمزجة أمته فيشغلها في المفيد، ولا لغو ولا لهو في حياته، فكان بإدارته مثال الجد في الخوالف من بني العباس، يفكر في أمر رعيته أكثر من تفكيره في أمور نفسه، كتب إلى عامله على دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد التقدمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك، وكتب بهذا إلى جميع عماله في أجناد الشام، واستجلب المأمون لمساحة أرض الشام مساح العراق والأهواز والري، وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله. كان العلاء بن أيوب لما ولي فارس من قبل المأمون يكتب عهد العمال فيقرؤه من يحضره من أهل ذلك العمل، ويقول: أنتم عيوني عليه فاستوفوه منه، ومن تظلم إليَّ منه فعليَّ إنصافه ونفقته جائيًا وراجعًا، ويأمر العمال أن يقرءوا عهده على أهل عمله في كل جمعة ويقول لهم: هل استوفيتم؟
أصاب أهل مكة سيل جارف مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة وكتب إلى الوالي: «أما بعد، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم بسيب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم، عاجلًا وآجلًا، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته.» قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها. وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها أحد من الخلفاء، ذكر المؤرخون أن المأمون لما كان في دمشق أضاق إضاقة شديدة، ثم وافاه المال ثلاثون ألف ألف درهم، فقال ليحيى بن أكثم: أخرج بنا لننظر إلى هذا المال، فخرج وخرج الناس، وكان قد زين الحمل وزخرف، فنظر المأمون منه إلى شيء حسن كثير، فاستعظم الناس ذلك واستبشروا به، فقال المأمون: إن انصرافنا إلى منازلنا بهذا المال وانصراف الناس خائبين لؤم، فأمر كتابه أن يوقع لهذا بألف ألف ولذاك بمثلها ولآخر بأكثر منها حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم حول الباقي على عرض الجيش برسم مصالح الجند.
عقد المأمون لأخيه أبي إسحاق على ثغر المغرب، ولابنه العباس على الشام والجزيرة، ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك، وفرق فيهم ما لم يفرق مثله أحد مذ كانت الدنيا: أمر لكل واحد منهم بخمسمائة ألف دينار، وما كان المأمون يضن بمال إذا كان فيه صلاح الدولة والرعية، وخمسمائة ألف دينار يأخذها العامل ينفقها في أتباعه ورجاله ومروءته، وكانت نفقة المأمون كل يوم ستة آلاف دينار يصرف أكثرها على الرعية ولا يناله منها إلا جزء طفيف. كتب عمرو بن مسعدة إلى المأمون كتابًا يستعطفه على الجند ونصه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قِبَلي من أجناده وقواده في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، واختلت أحوالهم.» فقال المأمون: والله لأقضين حق هذا الكلام، وأمر بإعطائهم ثمانية أشهر، وكتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون: إن الجند شغبوا ونهبوا، فكتب إليه: لو عدلت لم يشغبوا، ولو وفيت لم ينهبوا، وعزله عنهم، وأدرَّ عليهم أرزاقهم.
روى الجاحظ قال: حدثنا أحمد بن أبي داود قال: قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين ملوكهم وحماتهم وكفاتهم وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمهم وخدمهم واجتهادهم ونصحهم، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرًا حتى لا يزال الرجل يقول ما أوقع به إلا رغبةً في ماله أو رغبة في بعض ما لا تجود النفس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك المريب، ولا يستطيع ترك عقابه لما في ذلك من الفساد على عمله بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة.
أُرانا قد خرجنا من وصف إدارة المأمون إلى وصف سيرته، ونحن إلى ذلك مسوقون على الرغم منا، وأنَّى لنا أن نصدر حكمًا صحيحًا على حكومة مطلقة قبل أن نتعرف أخلاق رأسها خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا، والرأس هو الكل في مثل هذه الدول، إذا صلح صلح الجسد كله.
الإدارة على عهد المعتصم وأخلافه
أراد المعتصم أن يتشبه بأخيه المأمون فسار على أحكامه ونظامه، ومن أين له أن يشبهه بعلمه وحلمه، فقد ذكر واصفوه أنه كان قليل البضاعة من الأدب، وإذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل، وقالوا: إنه كان يحب العمارة ويقول: إن فيها أمورًا محمودة من عمران الأرض التي يحيا بها العالم، وعليها يزكو الخراج، وتكثر الأموال، وتعيش البهائم، وترخص الأسعار، ويكثر الكسب، ويتسع المعاش، ولطالما قال لوزيره محمد بن عبد الملك إذا وجدت موضعًا متى أنفقت فيه عشرة دراهم جاءني بعد سنة أحد عشر درهمًا فلا تؤامرني فيه، وأعطى أهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام.
لم يبتدع المعتصم ولا ابنه الواثق شيئًا جديدًا في الإدارة لم يعرفه المأمون والرشيد، بل عاشا وعاشت الخلافة العباسية بعد ذلك بالأساس الذي وضعه المنصور للدولة، ولم يكن لها بعد منتصف القرن الثالث تلك الروعة التي كانت لها في عهد الخلفاء الأول، وقلَّ بعد المأمون الخلفاء النادرون بذكائهم وتجاربهم، فأُصيبت الخلافة بعد عظمائها بفتور، وأعمالهم بقلة الرواء والاتساق، ومن أهم الدواعي إلى هذا الانحطاط فساد الإدارة واختلال أحوال القضاء، وقد نشأ ذلك من شراهة نفوس العمال والوزراء وإضاعة الحقوق، ومن يصادر أو يموت عن عشرات أو مئات الألوف من الدنانير من هذه الطبقة كيف يصح لك أن تحكم عليه بالبراءة من مال السحت والرشا والسرقات، مساوئ ما فشت في أمة إلا ضاع حق سلطانها وحق رعيته.
كانت أهم عقوبة تقع على الظالم من العمال مصادرة الخليفة أو وزيره أو عامله الأكبر، وأصبح العمال في الدولة العباسية صورة عجيبة من استنزاف الأموال، وهم موقنون بأن مصيرهم بما جمعوه إلى المصادرة والقتل، وقل فيهم من كان يكتفي بما قرره له الخليفة أو العامل الأعظم من الجرايات والمشاهرات، وقد تكون على حد الكفاية وأكثر من الكفاية بالنسبة لتلك الأعصر، وما حدث فيها من وفرة الثروة وعوائد الترف والسرف، وللوزراء ومن يلونهم طرق إبليسية في السلب، والأرجح أن أهم موارد الوزراء والولاة كان من نهب جباية الدولة أو بيت مالها، ومن الهدايا التي يضطرون صغار عمالهم إلى تقديمها في كل فرصة، ومن رشا يتناولونها ممن يحاولون أن يستخدموا في أعمال الدولة، إلى غير ذلك من وجوه انتهاب الأموال وإعنات الناس، وكانت هذه الطبقة من الوزراء والكبراء تصوم وتصلي وتتعبد وتتصدق وتغار على الإسلام والدولة، ثم تجوز الاحتيال لأخذ الأموال؛ لأن الأبهة تقتضي التوسع في الإنفاق!
قال عامل مصر لأحد من زاره من وزراء العباسيين في الفسطاط فرأَى جسرًا يحتسب العمال عنه على السلطان ستين ألف دينار في كل سنة، وهو لا يكلف عشرة دنانير: إن جاريه ثلاثة آلاف في الشهر ولا يمكنه وهو عامل مصر أن يكون بغير كتاب ولا عمال ولا كراع ولا جمال ولا إعطاء ولا إفضال، وله حرم وأولاد وأقارب وأهل يحتاج لهم إلى مئونة، ولا يخلو أن يرد عليه زوار بكتب من الرؤساء فتقضي المروءة أن يبرهم ويصلهم، إلى غير ذلك مما يُصانع به، ومنها هدايا سنوية إلى الخليفة وأنجاله والسيدة والقهرمانة وكتابهم وأسبابهم، وبهذا رأينا أن العامل كان مضطرًّا بحسب مصطلح ذلك الزمان إلى أن يسد العجز في موازنته الخاصة من طرق غير مشروعة، وقل العف الجيد الطعمة، وكلما تقدم الزمن وزادت الخلافة العباسية عتقًا بليت الأخلاق في الناس وتبعها تقلقل الإدارة، لفسولة رأي القائمين بالدولة وتشعب أغراضهم.
ولقد كان الخلفاء على الأكثر يتخيرون للولايات والوزارات أكتب الناس وأعلمهم، وللقضاء أقضاهم وأفتاهم، وحظوة الرجل عند قومه قد تكون من بواعث إسناد كبار الأعمال إليه خصوصًا الوزارات والولايات والقيادات، وأَتى زمن بعد المعتصم والوزير أعجم طِمطم لا يفهم ولا يُفهم، وأصبح أنصار الدولة والغُيُر عليها يتأففون ممن لا يحسنون العربية، وإن كان منطويًا على صفات أخرى صالحة في تدبير الملك؛ وذلك لكثرة من دخل في الأعمال من غير العرب، وكان معظم العمال يحاولون أن يجروا الرعية على المعاملات القديمة، ويحملوهم على الرسوم السليمة، ولكن تطلب أنفس الولاة والعمال إلى العبث بحقوق الناس، ليجنوا من ذلك ما تتلمظ له شفاههم من المغانم، كان الباعث على استشراء الفساد في معظم طبقات المجتمع.
كان لولي العهد في الممالك الثلاث التي قسمها الواثق بين أولاده، أو المملكة العباسية بأجمعها، الصلاة والمعاون، أي الشحنة والشرطة، والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالها، وما في عمل كل واحد منها من البريد والطراز وخزن بيوت الأموال ودور الضرب، يستخلفون على القطر الكبير حربًا وخراجًا، ويفوضون الأمور كلها للعامل يأذن إليه في الحل والعقد بغير استئماز ويخلعون عليه سوادًا، أي إن القطر الواحد بل المصر الواحد يُحكم برأي عامله وجماعة ممن يختارهم لمشورته ومعاونته، فينظر في الأمور بحسب فهمه وما يوحيه إليه المحيط والعادة والعرف، ويطبق الأحكام الشرعية على الكبير والصغير والملِّي والذمي، وينصب العامل الأكبر في الولاية العمال من ذوي الرأي والتدبير والخبرة والعلم بالسياسة، ويشاور الفقهاء وأرباب التجارب، وينفق من المال ما تصلح به الولاية، وما يوسع به على القرَّاء والفقراء وذوي الحاجات، وما تقتضيه من عطاء الجند وتقوية الثغور وشحن المصالح، ثم يبعث بالباقي من الأموال إلى الخليفة، وللخليفة الخطبة والسكة، فإذا كان العامل يحسن عمله، ويعرف مدى التبعة الملقاة عليه، يستسيغ الخراج إن كان ذا قوة، أو آنس من جانب الحضرة ضعفًا، ولا يرجع في العادة إلى استشارة العاصمة إلا في عويص المسائل التي يمكن تأجيلها، وتكون من حقوق الخليفة داخلة في أمهات المسائل الكبرى في الدولة، وقد يجتهد ويرتكب غلطًا فتصرفه العاصمة إن أحسته أو توجعه في العقوبة، كما فعل المنصور لما بلغه ضرب عامله على المدينة عالمها مالك بن أنس فشق ذلك على الخليفة وأهان عامله وصرفه، ولكن كانت كتف مالك قد زالت عن مكانها بالضرب المبرح، فالعامل في الحقيقة هو الملك الفعلي، ولا يسع العاصمة إلا أن تقره على ما يقرر ويدبر في أكثر الحالات، وقد ظهرت مضارُّ هذه الطريقة عندما كانت العاصمة تعجز عن ضبط كل شيء من أمور الولايات لضعف الخلافة ووناء القائم على سدتها، وإذا كان هناك قضاة وولاة وناظرون ومفتشون وكتَّاب وحسَّاب فإن التنفيذ يختلف قوة وضعفًا بحسب كفاية العامل وسلطان الخليفة والوزير.
خلع المتوكل على عبيد الله بن يحيى وأمر أن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين على الخليفة شيئًا، وأن يدفعوا أعمالهم إلى وزيره ليعرضها، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم، لما كان في نفسه من الأتراك واستبدادهم بالأمر، فكان عهده عهد جذب ودفع بين أصحاب الخلافة ومن رفعهم المعتصم على رقاب الناس من الترك، وعلق المتوكل يداوي الأمراض البادية في جسم الدولة بإنفاق المال الذي جمعه المأمون والمعتصم والواثق على نحو ما فعل الأمين؛ وهذا فرَّق ما جمعه السفاح والمنصور والمهدي والرشيد من الأموال، فقال الناس: إن أيام المتوكل كانت في حسنها ونضارتها ورفاهية العيش فيها ورخص أسعارها وحمد الخاص والعام لها ورضاهم عنها أيام سراء لا ضراء. نعم كان هذا الخليفة منفاقًا لا يحسن تدبير خرجه، وله مع هذا عناية خاصة بديوان زمام النفقات، أنفق ما أنفق مما ادخره أجداده في بيوت أمواله، فكان هذا منه تدبيرًا مؤقتًا غير ناجح، وما استطاع أن يداوي ما تجلى من تسلط الأتراك على الدولة في عامة أقطارها وأعمالها.
شدد على أهل الذمة لما أيقن أنهم كانوا يتطلعون إلى دولة الروم ويعملون ما يخالف مصلحة الدولة، وأمر بإجلاء النصارى عن حمص؛ لأنهم كانوا يعينون الثوار من اليمانيين، والثورة لا تكاد تنطفئ كل حين من حمص حتى سُميت الكوفة الصغرى؛ لكثرة قيام أهلها على العمال، كما خصت تونس بالتشغب والقيام على الأمراء والخلاف للولاة.
وجاء المنتصر يقاوم العلويين كأبيه المتوكل ويكتب إلى عامل مصر (٢٤٧) أن لا يُقَبل علوي ضيعة، ولا يركب فرسًا، ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإن كانت بين العلوي وبين أحد خصومة قُبل قول خصمه فيه ولم يُطالب ببينة؛ ذلك لأن العلويين ما ناموا ساعة عن المطالبة بالملك، فمثل هذا الأمر يضيق عليهم دائرة حركتهم، وإن كان في بعض ما يرمي إليه غير عادل.
إدارة المعتز والمهتدي والمعتمد
تولى المعتز الخلافة فأمر بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طباعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، وحاول أن يتخلص من الأتراك وكانوا تأصلوا في جسم الدولة وروحها، وكانوا كثروا، وأي كثرة، في العاصمة والولايات، وقُدرت أرزاقهم وأرزاق المغاربة والشاكرية في سنة ٢٥٢ فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة لسنتين، فإذا تأخر عطاؤهم فهناك المؤامرات والمشاغبات وخوف البدوات والنزوات والوثوب بالدولة.
تولى المهتدي (والدنيا كلها مفتونة) فحاول، إعادة الخلافة إلى رونقها، وأمر بإخراج الفتيان والمغنين والمغنيات من سامرَّا ونفاهم إلى بغداد، وأمر بقتل السباع وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس ليرفعها فُرفعت إليه قصص في الكسور، فسأل عنها فقال وزيره سليمان بن وهب شيئًا في تاريخ الخراج منذ عهد عمر إلى عهد المنصور فأجاب المهتدي: معاذ الله أن ألزم الناس ظلمًا تقدم العمل به ولو تأخر، أَسقِطوه عن الناس، فقال أحدهم: إن أسقط أمير المؤمنين هذا ذهب من أموال السلطان في السنة اثنا عشر ألف ألف درهم، فقال المهتدي: عليَّ أن أقرر حقًّا وأزيل ظلمًا، وإن أجحف ببيت المال.
وكان المهتدي آخر الخلفاء الذين كانوا يتولون بأنفسهم القضاء والمظالم، وربما كانوا يجعلون القضاء والمظالم لقضاتهم كما فعل عمر مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعل المأمون مع يحيى بن أكثم والمعتصم مع أحمد بن أبي داود، وربما كانت تُجعل قيادة الجيوش للقضاة، وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم، وكان تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب.
وجيء بالمعتمد فقسم المملكة بين ابنه وأخيه الموفق، فغلب أخوه عليه وشُغل هو بلذاته، وكثر دخول الزعانف في القبض على الأعمال والفتن منتشرة؛ ومن أهمها فتنة صاحب الزنج، والموفق يقود العساكر، ويرابط ويرتب الوزراء والأمراء، وقيل: إن المعتمد احتاج إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها فقال:
وأمر المعتضد بافتتاح الخراج في النيروز المعتضدي وهو في حزيران من شهور الروم، وذلك للرفق بالناس، وكتب إلى الأقطار برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وكان من قبل يلحق كثيرًا من الناس إعنات في مواريثهم، ويتناول على سبيل الظلم من أموالهم، ويتقلد جبايتها أناس يجرون مجرى عمال الخراج، شيء لم يكن في خلافة من الخلافات إلى أن مضى صدر من خلافة المعتمد، فجرى العمل بذلك على سبيل تأول، فأزال المعتضد ذلك وأمر أن يرد على ذوي الأرحام ما أوجب الله ورسوله وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود، وأن تُرد تركة من مات من أهل الذمة ولم يخلف وارثًا على أهل ملته، وأن يصرف جميع عمال المواريث في النواحي ويبطل أمرهم، ويرد النظر في أعمال المواريث إلى الحكام، وكانوا يرتادون القضاة من أهل البلاد نفسها.
الإدارة على عهد المكتفي والمقتدر وكلام في الوزراء
اكتفى المكتفي بنهج منهج والده المعتضد في الإدارة، وكان وزيره العباس بن الحسن يقول لنوابه بالأعمال: أنا أوقع لكم وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة، وقد كان يأخذ الوزير سبعة آلاف دينار في الشهر راتبًا، ومن الكبراء من فادوا بخمسمائة ألف دينار ليصلوا إلى الوزارة، ومنهم من أعطوا المنجمين مائة ألف دينار ليحتالوا على الخليفة ويغيروا خاطره على أحد وزرائه ثم يتوصلون إلى منصب الوزارة، دليل ناصع أن الخلفاء انحطوا والوزراء كذلك.
بيد أن قواعد الدولة لم تتزلزل دفعة واحدة؛ لأن المعتضد ثبت قواعدها، ومن يجيء بعده مهما ارتكب من الأغلاط لا يقضي على عامة التراتيب الموضوعة للخلافة منذ سنين، وقد خلف المكتفي في بيوت الأموال من العين ثمانية آلاف ألف دينار، ومن الوِرق خمسة وعشرين ألف ألف دينار، وفي رواية أنه خلف مائة ألف ألف دينار عينًا وعقارًا وأواني بمثلها.
واستُخلف المقتدر طفلًا، ووالدته وخالته وأم ولد المعتضد تدير الملك، حتى إن هذه السيدة جلست بالرصافة للمظالم تنظر في الكتب يومًا في كل جمعة، فأنكر الناس ذلك واستبشعوه وكثر عيبهم عليه والطعن فيه، ولم يكن في جلوسها أول يوم طائل، وفي اليوم الثاني أحضرت القاضي فحسن أمرها وخرجت التوقيعات عن سداد، فانتفع بذلك المظلومون وسكن الناس إلى ما كانوا نافرين من قعودها ونظرها، فالمقتدر في سنيه الأولى خصوصًا كان يتدبر بآراء النساء والحاشية، والسيدة وقهرماناتها ومن يجري مجراهن من نساء القصر، يتحكمن في كل أمر ويتدخلن في العزل والنصب، وأمروا صاحب الشرطة ببغداد أن يُجلس في كل ربع من الأرباع فقيهًا يسمع من الناس ظلاماتهم، ويعتني بمسائلهم حتى لا يجري على أحد ظلم، وأمروه ألا يكلف الناس ثمن الكاغد الذي تُكتب فيه القصص وأن يقوم به، وألا يأخذ الذين يشخصون مع الناس أكثر من دانقين في أجعالهم.
قيل: إنه كان بين ابن زبر القاضي وبين علي بن عيسى الوزير عداوة، وعجز ابن زبر عن رضاه فألقى رقعة في ورق المظالم، وفيها أن رجلًا من خراسان رأى في ثلاث ليالٍ متوالية العباس بن عبد المطلب في وسط دار السلام يبني دارًا، فكلما فرغ من موضع تقدم رجل لهدمه، فقال له: يا عم رسول الله من هذا الذي بُليت به؟ فقال: هذا علي بن عيسى كلما بنيت لولدي بناء هدمه، فقُرئت الرقعة على المقتدر فقال: إن هذه الرؤيا صحيحة يُصرف علي بن عيسى ويُقبض عليه، فما جاء آخر النهار حتى وافى ابن زبر ومعه عهده بقضاء مصر ودمشق، فإن صحت هذه القصة كان تصديق المقتدر حيلة القاضي من أغرب ما أُثر من ضعف العقول.
هذا تمثيل للإدارة على ذاك العهد وصورة من أعمال الوزراء، وبأمثال علي بن عيسى وابن الفرات كانت القوة تدخل على ملك بني العباس إذا عراه الضعف ويجبرون نقص الخلفاء، وبمثل الوزير الخاقاني والوزير الخصيبي ترجع القهقرى.
فإن كان علي بن عيسى بعيد النظر في أمور الدولة جد عارف بما يصلحها، عفًّا عن أموال الرعية، ساهرًا على مصلحتهم الحقيقية، فإن ابن الفرات كان نافذًا في عمل الخراج وتدبير البلاد وجباية المال وافتتاح الأطراف، وكلاهما من بلغاء الكتَّاب ومن العارفين بأدب الملك.
وكان للدولة رسوم في تخريج رجال الإدارة، ومما ذكروه أن بادوريا كان يتقلدها جلة العمال، قال ابن الفرات: سمعت أبا العباس أخي يقول: من استقل ببادوريا استقل بديوان الخراج، ومن استقل بديوان الخراج استقل بالوزارة؛ وذلك لأن معاملتها مختلفة وقصبتها الحضرة، والمعاملة فيها مع الوزراء والأمراء والقوَّاد والكتَّاب والأشراف ووجوه الناس، فإذا ضبط اختلاف المعاملات واستوفى على هذه صلح للأمور الكبار.
وقرأ كتابًا ورد من صاحب البريد بالموصل أن أبا أحمد الحسن قد قسط في الأعمال، ومدَّ يده إلى المال، وزاد في إظهار المروءة، وركب باللبود الطاهرية، وبين يديه عدة حجاب وخلفه جماعة غلمان، حتى إنه يسير بينهم في موكب، وأنه وصل معه من البغال والجمال والزواريق التي تحمل أثقاله شيء كثير، وهذا إنفاق وتوسع لا يقتضيه الرزق وإنما هو من الأصول، فرمى ابن الفرات بالكتاب وقال لكاتبه: وقِّع عليه يجاب بأنه نفع الرجل من حيث أراد الإضرار به؛ لأنه إذا كان في مثل هذا الصقع عامل ذو وجاهة وتجمل ومروءة، صلح أن يتقلد للسلطان مصر وأجناد الشام متى أنكر من عمالها حالًا.
عزم ابن الفرات يومًا على الصبوح وكان يوم الأحد ومن رسمه أن يجلس للمظالم فيه، ثم انتبه أنه لا يجوز أن يتشاغل بالسرور، ويصرف عن بابه قومًا كثيرين قد قصدوه من نواحٍ بعيدة وأقطار شاسعة مستصرخين متظلمين، فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاضٍ، ويمضون مغمومين داعين عليه، فأجلس صاحب ديوان المظالم وشخصًا آخر من خاصته، يستدعيان القصص ويوقعان منها ما يجوز توقيعهما فيه، ويفردان ما لا بد من وقوفه عليه ويحضرانه ليوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين.
وعرض عليه في وزارته الثالثة وقد جلس للمظالم رجل عُمَري رقعة تتضمن شكوى حاله ورقتها، وأن عليه دينًا قد ضاق ذرعه به، وعلى ظهرها توقيع أحد الوزراء بأن يُقضى دينه من مال الصدقات فقال: يا هذا، إن مال الصدقات لأقوام بأعيانهم لا يتجاوزهم، ولقد رأيت المهتدي بالله، رحمة الله عليه، وقد جلس للمظالم وأمر في مال الصدقات بما جرى هذا المجرى فقال له أهلها: ليس لك يا أمير المؤمنين ذلك، فإن حملتنا على أمرك وإلا حاكمناك إلى قضاتك وفقهائك، فحاكمهم فخاصموه وإن شئت أنت حاكمتك، فقال له العمري: لا حاجة بي إلى المخاصمة، قال: الآن نعم أواسيك وأقضي دينك وفعل، وكان مبلغه خمسمائة دينار.
وكان هذا الوزير يقلد في أسبوع واحد الكورة الواحدة عدة من العمال، وذلك لارتفاق أولاده وكتابه من العمال الذين يولونهم، ويتقرب مع هذه الأعمال الجائرة إلى قلوب الخاصة والعامة بأن يمنع خدم السلطان ووجوه القواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد التي على الطرق، فاتضعت الوزارة بأفعاله وذلت.
ومثله كان الوزير الخصيبي، يواصل شرب النبيذ بالليل، والنوم في النهار، وإذا انتبه يكون مخمورًا لا فضل فيه للعمل، فيرد إلى غيره فض الكتب الواردة من عمال الخراج والمعاون وقراءتها والتوقيع عليها وإخراجها إلى الدواوين، وقراءة الكتب النافذة والإعلام عليها، وكانت تُعمل له جوامع خاصة مختصرة للمهم مما يرد وينفذ فيعرض عليه إذا انتبه، فربما قرأه وربما لم يقرأه، وإذا كثرت الرسائل تُقرأ عليه، وإلى أن ينفذ الجواب تتمرد البثوق وتتسع الفتوق، وتحتمل الغلات الأعراب، وتحدث الحوادث المفسدة لمعنى ذلك الكتاب، وكان أكثر هؤلاء الوزراء يضيعون الأموال ويخربون الملك، ويولُّون بالعناية، ويصانعون على الولايات بالرشوة، تولى المقتدر الخلافة نحو خمس وعشرين سنة فكان الوزراء يديرون الملك فإن كانوا من عيار علي بن عيسى وابن الفرات جرت الأمور على سداد، وإن كانوا من عيار الخصيبي والخاقاني كان البلاء ظلمات فوق ظلمات.
الإدارة على عهد القاهر والراضي ومن بعدهما
أفضت الخلافة إلى القاهر فأظهر في أول أمره من الجود والتقشف والتصون وبعد الهمة والاقتصاد والقناعة ما هابه به الناس، أراد قطع ثوب يلبسه فحمل إليه من داره فقيل له: لو أُخذ لك ثوب من خزائن الكسوة؟ فقال: لا تمسوا لهم شيئًا، وعُرضت عليه صنوف الألوان والحلواء والفواكه التي كانت توضع بين أيدي الخلفاء في كل يوم فاستكثرها وقال في الفاكهة: بكم تُبتاع هذه كل يوم؟ فقيل له: بثلاثين دينارًا، فقال: نقتصر من ذلك على دينار واحد، ومن الطعام على اثني عشر لونًا، وكان يصلح لغيره كل يوم ثلاثون لونًا من حلواء فاقتصر على الكافي له.
ونادى القاهر في بغداد بإبطال المغنيات والخمر والمخانيث وكسر آلات الطرب، على أنه لم يكن يصبر عن الشراب وسماع القينات، وقضى على أن تُباع المغنيات على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء ثم وضع من يشتري منهن كل حاذقة في صنعتها فاشترى منهن من أراد بأرخص الأثمان. قال ابن الأثير: «وكان القاهر مستهترًا بالغناء والسماع جعل ذلك طريقًا إلى تحصيل غرضه رخيصًا، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامة الناس.» وقيل: إن السبب في غضبه على إسحاق بن إسماعيل أنه كان أراد اشتراء جارية قبل الخلافة وكانت موصوفة بالجمال والغناء، فزايده إسحاق فيها واشتراها، وأن نصر بن حمدان كان أراد شراء جارية أخرى قبل الخلافة فاشتراها نصر وما زال به بعد الخلافة حتى قتله، وبضروب من مثل هذه السخافة لا تُدار خلافة.
كان القاهر يحب جمع المال وهو أهوج طائش لا يعرف كيف يسير، ويقدم على سفك الدماء فيهاب رهبة منه لا رغبةً فيه، أما خلفه الراضي فأحيا رميم الخلافة وختم الخلفاء في أمور عدة؛ منها أنه آخر خليفة له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش والأموال، وآخر خليفة خطب على منبر في يوم جمعة، وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء، وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه ومطابخه وشرابه ومجالسه وخدمه وحجابه وأموره جارية على ترتيب الخلافة الأولى، وآخر خليفة سافر بزي الخلفاء القدماء، وله فضائل كثيرة.
وفي أيام الراضي بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق الناظر في الأمور جميعها وتقلب عمال الأطراف عليها ولم يبقَ للراضي غير بغداد وليس له فيها حكم، وفي أيام المتقي عزت الوزارة وصغرت لضعف الدولة وصغر دائرة الخلافة، وكان الخليفة هو الذي يولي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم وتُكتب عنه العهود والتقاليد لا يشاركه في ذلك سلطان، وكان قاضي القضاة ببغداد منذ عهد الرشيد يستخلف على قضاء الأمصار وهؤلاء يستخلفون نوابًا عنهم في أقطارهم، ثم صار القضاء يقلده صاحب المال والجاه منذ القرن الثالث فما بعده، وربما توسط أهل البلد فكتبوا محضرًا بطلب فلان وإسقاط فلان، ويكون العامة مع واحد والخاصة مع آخر، والعامة إذا دخلوا في مسائل أعلى من عقولهم كان الفساد في الأعمال.
ولقد كان الخليفة إذا مالت نفسه عن الوزير، أو أُريد أن يغضب عليه بإيعاز أحد النافذين في دولته من كبار قواد مملكته، يسلمه إلى يد من يخلفه من الوزراء فيهلكه بالضرب والإهانة، وربما يقتله ويقتل بعض خاصته، أو يقر بما احتجن من أموال الدولة وأموال الناس، ويقبض على أسبابه وعلى عماله، وينالهم بسبب من ولاهم كل ضيم في أنفسهم، وإذا انفصلوا من الخدمة كانت قيمتهم قيمة اللصوص، ولما كانت الوزارة تنتقل بين أيدي بضعة أشخاص على الأغلب في كل دور، كان كل معزول يؤمل الرجوع إلى دست الوزارة، فإذا عاد فهناك الانتقام من كل إهانة وقعت عليه من الوزراء والعمال.
وما حدث شغب في الجيش فأدى إلى قتل عامل أو وزير أو خليفة إلا كان السبب فيه على الأغلب تأخر أرزاق الجند أشهرًا؛ ذلك لأن كل من كانت إليه الجباية يفكر في مصلحته قبل كل مصلحة على الأكثر، وقلما يتعادل دخل الدولة مع خرجها، والإسراف شامل قصر الخليفة فما دونه، لا تعد الدولة المال إلى حين الحاجة المبرمة على ما كان المنصور والرشيد، فقد كان الجند إذا شكا التريث في تقاضي رواتبه يُعطى أشهرًا بل سنة مقدمًا فتضمحل كل ثورة، وينطفئ لهيب الفتنة، «كان الخلفاء المتقدمون يجمعون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين.»
يعيد الخلفاء إلى الخدمة من الوزراء، من كانوا غضبوا عليهم وسلبوهم، وذلك في الأزمات التي لا يستطيعون حلها، كما فعل مع علي بن عيسى، وأبي الحسن ابن الفرات، ومن كتاب عن المقتدر في شأن ابن الفرات «ولما لم يجد أمير المؤمنين غنًى عنه، ولا للملك بدًّا منه، وكان كتاب الدواوين على اختلاف أقدارهم، وتفاوت ما بين أخطارهم، مقرين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحول القلب، المحنك المحبب، العالم بدرة المال كيف تُحلب، ووجوهه كيف تُطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عُرف من حده، فنفذ الأعمال كأن لم يغِب عنها، ودبر الأمور كأن لم يخل بها.»
وهم الخلفاء في هذه الحقبة إذا كانوا على انتباه، وبمنجاة من شهواتهم وشرابهم، أن يخزنوا الأموال ويصادروا من طالت أيديهم إليهم من عمالهم، يستأثرون بما جمعوا لأنفسهم، أو لبيت مال الخاصة. حكى ابن مسكويه في معنى تبذير المقتدر للأموال، والتنفير من هذه الطريقة نصيحة ساقها للملوك ومدبري أمر المملكة، لئلا يغتروا بكثرة الأموال فيتركوا تثميرها، ويعدلوا عن التعب به إلى الراحة اليسيرة؛ لأن من كان هذا حاله يبتدر حينئذ ولا يلحق، ويكون مثله مثل البثق الذي ينفجر بمقدار سعة الدرهم ثم يتسع فلا يضبط، وقد ذكر أن المقتدر أتلف نيفًا وسبعين ألف ألف دينار سوى ما أنفقه في موضعه وأخرجه في وجوهه، وهذا أكثر مما جمعه الرشيد وخلفه، ولم يكن في ولد العباس من جمع أكثر مما جمعه الرشيد فإنه خلف ثمانية وأربعين ألف ألف دينار، ولما تقلد المقتدر الخلافة كان في بيت مال الخاصة أربعة عشر ألف ألف دينار، وأخذ من أموال ابن الفرات في مصادرته ومصادرات كتابه وأسبابه أربعة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار، ومن ابن الجصاص الجوهري ألفي ألف دينار، ومن العباس بن الحسن ألفي ألف وثمانمائة ألف ألف دينار، ومن أموال حامد بن العباس ألفي ألف ومائتي ألف دينار، ومن الحسين ومحمد المادرائيين ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار، ومن علي بن عيسى وابن الحواري وسائر الكتاب ووجوه العمال المصادرين ألفي ألف دينار، ومن تركة الراسبي خمسمائة ألف دينار، ومن تركة المسمعي ثلاثمائة ألف دينار، وما حصل من أموال أم موسى وأخيها وأختها وأسبابها ألفي ألف دينار، هذا عدا خراج الأقطار وغيره من الموارد الكثيرة، ولقد شغبوا على المقتدر وطلب الجند الزيادة وشتموه ونهبوا القصر الملقب بالثريا وصاحوا: أبطلت حجنا وأخذت أموالنا وجرأت العدو وتنام نوم الجارية! فبذل لهم المال فسكنوا.
وفي ذاك الدور كان في بغداد أنواع من الدواوين منها ديوان المشرق وديوان المغرب، وديوان الضياع الخاصة والمستحدثة، وديوان الضياع الفراتية، وديوان زمام الخراج والضياع العامة، وديوان زمام النفقات والخزائن، وديوان الدار وديوان البر — وهو أشبه بديوان الأحباس — وديوان الصدقات وديوان زمام الجيش، وديوان الحرم وديوان الفص والخاتم وديوان الجهبذ وديوان زمام القواد، وديوان الخاصة وديوان الدار الأصغر الذي تنشأ منه الكتب بالزيادات والنقل.
الإدارة في العهد العباسي الأخير
وجاء الناصر فملأ القلوب هيبة وفتح البلاد البعيدة وكان رديء السيرة في الرعية مائلًا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم، وكان يفعل أفعالًا متضادة وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية بخلاف آبائه، وطالت خلافته (٤٧) سنة وكان منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة، والفتوة أشبه بجمعية فوضوية، فكان الفتيان يغتالون كل من يخالفهم حتى أفتى الفقهاء بعد ذلك العصر بتحريم الفتوة، وأنكروا نسبتها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومن قواعد الفتوة أنه متى قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته وعوقب، وإن قتل غير فتى عونًا من الأعوان أو متعلقًا بديوان في بلد الناصر سقطت فتوته بهذا السبب أيضًا، وكتب الناصر منشورًا وسلمه إلى كل واحد من رءوس الأحزاب وألزم الناس إجراء الأمر على ما تضمنه.
قال: إن جميع العباسيين معتقلون اعتقالًا جميلًا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم.
وجاء الظاهر بعد أبيه الناصر يحسن إلى الرعية كل الإحسان ويحيي سنة العمرين ويبطل عدة مظالم ويسقط المكوس والضرائب، ومن ذلك أنه كان بخزانة الخليفة صنجة زائدة يقبضون بها المال ويعطون بالصنجة التي يتعامل بها الناس، وكانت زيادة الصنجة في كل دينار حبة فخرج توقيع الظاهر بإبطال ذلك وأوَّله: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ وعمل صنجة المخزن قبل صنجة المسلمين، وكانت العادة في زمن أبيه أن يكتب الحراس بأخبار الناس فلما أتته مطالعاتهم قال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة تفسد بذلك ويعظم شرها، فقال: نحن ندعو الله أن يصلحهم، ولما توفي وجد في بيت في داره ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها فقيل له ليفتحها فقال: لا حاجة لنا بها، فإن فيها كلها سعايات، وجاء بعد الظاهر ولده الأكبر المستنصر صاحب المدرسة المستنصرية والآثار الجليلة في العمران وقالوا: إن أيامه كانت طيبة والدنيا في زمانه ساكنة والخيرات دارة والأعمال عامرة، ثم خلفه المستعصم وهو سابع ثلاثينهم وآخرهم وهو الذي قتله التتر فانقرضت به الخلافة العباسية من بغداد سنة ٦٥٦.
إدارة دول الشرق والغرب
كانت الوزارة بالأندلس مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصًا لمكان النائب المسمى بالوزير فيسميه الحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة بذلك، ثم صار اسم الوزارة عامًّا لكل من يجالس الملوك ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يُعْرَف بذي الوزارتين — أي وزارة السيف والقلم — وأكثر ما يكون فاضلًا في علم الأدب، ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة.
ويقول ابن خلدون: إنَّ دولة بني أمية بالأندلس نفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة، ثم قسموا خطته أصنافًا وأفردوا لكل صنف وزيرًا فجعلوا لحسبان المال وزيرًا، وللترسل وزيرًا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرًا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرًا، وأفردوا للتردد بينهم وبين الخليفة واحدًا منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه من مجلسهم، وخصوه باسم الحاجب، فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها، ثم كان من دولة الموحدين أتباع دولة الأمويين، فقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه، وأرجعوا الدواوين عندهم إلى صنفين من الكُتَّاب: كاتب الرسائل وكاتب الزمام؛ أي كاتب الجهبذة أو كاتب الأشغال الخراجية، وتراقب السلطة العليا ما يصدر من أعمالهم، ويفيدنا تصفح تراجم رجال الأندلس، وتاريخ الرجال تاريخ السياسة، إنَّ القائمين بالحكم من الوزراء والقوَّاد والعظماء والعمال في هذه الديار كانوا أقرب إلى التعفف عن أموال الناس من رجال العباسيين، وكثير من الدول التي قامت في المشرق، وكانت دولة الأندلس إذا تأثلت حال الكاتب فيها نُكب وصودر؛ لأن هذه الزيادة التي حصلت له «إما أنْ يكون قد أخذها بحق أو ظلم، فإن كان أخذها بحق كان متبرعًا بها، لا يستحق لها زيادة على المسمى في جاريه، وإنْ كان ظلمًا وجب ردُّها على من ظلم بها، وكان عدوانًا من العامل يؤخذ بجريرته.»
سار الأمويون في بدء أمرهم في الأندلس بسيرة بعض خلفائهم، وقضوا ألا يكون كاتب الزمام في مملكتهم نصرانيًّا ولا يهوديًّا، ثم دخل النصارى بعد حين في أعمال الدولة يتولون حتى العظام منها، وبنو أمية في إدارتهم بعيدون عن الجمود، يسيرون بما يستلزمه الزمان والمكان، وتهمهم المصالح والمنافع، ولا يتحرجون من الأخذ بجديد، لما خصوا به من عمائق الفطن، وقرائح العقول. وجملة الأمر أنَّ الأمويين ما كانوا بالمبخلين ولا بالمسرفين، ولا بالضعاف الضعف الذي تضيع معه الحقوق وتفسد الأمور، ولا بالأشدَّاء الشدة المفرطة التي تبغضهم إلى من يعملون معهم من الناس من وزراء وأصحاب ولايات.
وقد يكون لخطة صاحب الشرطة النظر في الجرائم وإقامة الحدود، وإذا كان صاحبها عظيم القدر عند السلطان يكون له القتل لمن وجب عليه، دون استئذان السلطان، ولكنه يحد على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، ويُعرف صاحب الشرطة عندهم بصاحب المدينة أو صاحب الليل، وهناك خطة أخرى أشبه بخطة الشرطة وهي الطواف بالليل، ويُقال لأربابها أصحاب أرباع في المشرق، ويُعرفون في الأندلس بالدرابين.
هذا إجمال في أوضاع الأندلس ومصطلحها، والأيدي التي كانت تديرها وتنفذها صالحة في الجملة، لصلاح ملوكهم ومعرفتهم الواسعة بمن يصلح لكل عمل؛ فقد كان هشام بن عبد الرحمن متحريًا للعدل يعود المرضى ويشهد الجنائز ويتصدق بالصدقات الكثيرة، «ويبعث بقوم من ثقاته إلى الكور يسألون الناس عن سير عماله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه، وأنصف منه ولم يستعمله بعد.» ورأينا الاعتداءات والمصادرات تقل في الأندلس مدة ملك بني أمية فيها؛ لأن التضامن كان على أتمه بين الملك وحاجبه — أي وزيره — يختاره من أشرف الطبقات العربية، وهذا يختار العمال الصالحين والكُتَّاب والحاسبين، وللقضاة إجلال دونه كل إجلال، وقلَّ أن جاء من أصحاب القضاء الساقط في مروءته، الجائر في أحكامه، المصانع على قضائه، وكان من ملوكهم كالحكم من يباشر الأمور بنفسه، أو يسترشد بآراء الفقهاء والعلماء كمن سلف من أجداده، وله عيون يطالعونه بأحوال الناس، وقد شبهوه بالمنصور العباسي، والحكم أول من جند الأجناد، واتخذ العدة والسلاح، واستكثر من المماليك فصار له منهم خمسة آلاف، وكانوا يسمونهم الخرس لعجمة ألسنتهم، وقد جعلوا أفواجًا على باب قصره وجعلهم في المرتزقة، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه.
وتعددت الدواوين في الأندلس منذ أواسط عهد الأمويين فيها، ومن جملتها ديوان الشعراء؛ لكثرة غرامهم بالأدب والشعر واستحسانهم له، ولما ضعف الوازع السياسي في الأمويين ضعفت إدارتهم بضعف القائمين بها، وظلَّ لتراتيبهم شيء من النظام اقتدى به، واتخذه إمامًا كل من دولة المرابطين، ثم الموحدين، ثم دولة بني نصر من بني الأحمر، وكذلك ملوك الطوائف الذين تقاسموا تلك الدولة في بعض أدوارها، واستقل كل متغلب أو أمير أو قاضٍ بولاية أو ولايتين بسط عليهما سلطانه.
يقول ابن خلدون: إنَّ يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس لم يرَ في بلد من بلاده على طول أيامه رسم مكس ولا خراج، لا في حاضرة ولا في بادية، إلا ما أمر الله به، وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم، وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجبه أحد قبله، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة، وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وذكر المؤرخون أنه طلب من أهل البلاد المغربية والأندلسية المعونة بشيء من المال على ما هو في صدده من الجهاد فامتنعوا، وأباحها له بعض الفقهاء والقضاة، وأفتوه أنَّ عمر بن الخطاب كان أضاق ففرض مالًا في زمانه، وأجابه أهل الرأي: إنَّ عمر ما اقتضاها حتى دخل مسجد الرسول وحضر من كان معه من الصحابة، وحلف أنه ليس عنده في بيت مال المسلمين درهم واحد ينفقه عليهم، فإذا فعل ابن تاشفين وحلف أنه ليس في بيت مال المسلمين درهم وجبت معونته.
وفي أيامه أمر أن يتميز اليهود في المغرب بلباس يختصون به دون غيرهم لشكه في إسلامهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئًا للمسلمين، ولم تنعقد ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا عمرت في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، واليهود يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويقرئون أولادهم القرآن، وكان ذلك في الربع الأول من القرن السابع.
قلنا: إنَّ الرياسة في دولة بني أبي حفص كانت أولًا، والتقديم لوزير الرأي والمشورة، وكان يخص باسم شيخ الموحدين، وقد اختص القلم عندهم أيضًا بمن يجيد الترسل ويؤتمن على الأسرار. وللسلطان قهرمان خاص بداره، وفي أحوال يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرها وخص باسم الحاجب، وكان السلطان في إفريقية إذا جلس للمظالم جلس حوله ثلاثة للرأي والمشورة، وجلس معهم وزير الجند إن كان كبيرًا، وإن لم يكن كبيرًا وقف بإزاء أولئك الثلاثة جلس دونهم عشرة من أكابر أشياخه، وقد يكون هؤلاء الثلاثة من العشرة المذكورين بعد هؤلاء، وهم خمسون نفرًا، فإذا أمر السلطان بأمر بلغه وزير الجند لآخر واقف وراءه، وبلغه الآخر إلى أن يُسمع الأمر السلطاني من خارج الباب، بنقل أناس عن أناس، وتقف جماعة تُسمى بالوقافين بأيديهم السيوف حوله، وهم دون الخمسين المذكورين في الرتبة.
هذا ما نقله ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار على عهد دولة الحفصيين، وذكر أنَّ الجند هم من الموحدين والأندلسيين، ومن قبائل العرب، وقليل ممن هرب وأقام عندهم من مصر، والفرنجة هم خاصة السلطان يُقال لهم العلوج لا يطمئن إلا إليهم، ثم ذكر أرزاقهم وطبقاتهم والإحسانات عليهم والمرتبات والرتب وإحصاء الجيوش، وكان لهذا السلطان ثلاثة وزراء: وزير الجند وهو بمثابة الحاجب بمصر، ووزير المال وهو صاحب الأشغال، ووزير الفصل وهو كاتب السر، ومهما تجدد عند كل واحد منهم أمر يطالبه بالمكاتبة فيما يتعلق بشغله المنوط به، ويجاوبهم بما يراه. قال ابن سعيد والذي يتولى إبلاغ قصص الظلامات إلى هذا السلطان يُسمى صاحب الرقاعات يأخذ براءات المتظلمين؛ أي قصصهم ويعرضها ويخرج بجوابها.
منذ بدأت الخلافة العباسية بالضعف أصبح التاريخ على الجملة تاريخ ملوك الأطراف، أو ملوك الطوائف، أو الأمراء الخاضعين أو المشاكسين، ويستمد كل ملك أو أمير قواعده في إدارة الملك من حاجته ومحيطه، وينسج في ظواهرها على ما أخذه عن بغداد، وقلما يتعدى في الجباية الحد المقرر في الشريعة، ولا يختلف الخروج عنها إلا بقدر قوة السلطان وحاجته وطمعه.
وبعد، فلم يكن يحول بين الملوك وما يشتهون من الاسترسال في طلب المال من الناس إلا خشية فتاوى أمثال النووي وابن عساكر، ممن يعتقد الشعب صدقهم وصحة يقينهم ويسير إذا دعاه الداعي على رغائبهم، وإذا كان الممتنع عن مماشاة السلطان أو الملك يقصد بما يقول الآخرة أو وجه الله تقف موعظته عند حد الوعظ، لا تتعدى الأقوال، وإذا كان ممن يهتم بالأمور السياسية، ويعرف كيف يصيب الغرض ويبلغ المحز، يثير على السلطان وأصحاب السلطان غارة شعواء، ربما كان فيها زوال أمره وجرأة خصومه عليه. ولا يخلو زمن من حزب مخالف يرى في السياسة المتعبة بعض الحيف أو الخروج عن مقاصد الشرع. وزعماء هؤلاء المخالفين إما أن يقاوموا السلطان ويجاهروه بالعداء وينقدوه لا تأخذهم رهبة ولا رغبة، وإما أن يثيروا من يهوى هواهم يحملونهم على النقد أو الطعن في سياسة الملك، ومنهم من يستعمل الشعراء في الدعوة إلى ما يتطالون إليه من تنبيه الأفكار، يضعون أبياتًا أو آغاني يتناشدها الناس والنساء والأولاد، وفيها صراحة أو شبه صراحة بما يجري في البلاد من الظلم، ومنهم من يكتب إلى السلطان رقاعًا يبسطون له فيها سوء الحال، ويحذرونه قبح المآل عليه وعلى دولته، والسلطان أو الأمير يقابل هذه القوة بمثلها، فيستكثر من الرجال الذين يتخذهم بوق دعاية له، ويحتال بكل حيلة لتحقيق الآمال واستتباع الرجال، فإما أن يغدق المال على من يحاذر مخالفتهم فيعمي أبصارهم وبصائرهم، أو أن يطمعهم في منصب ما كانوا يحلمون بتوليه يشتري به سكوتهم، أو أن يصانعهم على ما يوافق هواهم، فيكون متدينًا مع المتدينين، حرًّا مع الأحرار، يبسم لهذا ويحترم هذا، ويرفع مقامه فيشايعه ويرتضيه، ويحمل مَن وراءه من قومه على مشايعته بدون إعمال فكر ولا نظر. ومن الملوك من كانوا يعمدون في الوصول إلى مآربهم إلى الطرق المشروعة، ولا يطلبون من أمتهم غير المطالب المعقولة التي يقرها جمهور العقلاء.
لما ضاق المسلمون بوطأة الصليبيين عليهم في دمياط كتب الملك المعظم إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور، أريد أن تحرض الناس على الجهاد، وتعرفهم ما يجري على إخوانهم أهل دمياط، وإني كشفت ضياع الشام فوجدتها ألفي قرية منها ألف وستمائة أملاك لأهلها وأربعمائة سلطانية، وأريد أن تخرج الدماشقة ليذبوا عن أملاكهم، الأصاغر منهم والأكابر، فأجابوا بالسمع والطاعة، ثم تخلفوا فأخذ الثمن والخمس من أموالهم لتقاعسهم، فما اعترض معترض، ولا نقد ناقد عاقل؛ لأن مطلب السلطان كان ظاهر الفائدة، خاليًا من الشوائب، يقصد من حمل الناس على الحرب غيرته على البلاد وأهلها، ويعرف قومه أنه بعيد عن الإسراف في أموال الرعية لا يجبي مالًا، وفي قصره ألوف وألوف من الجواهر والحلي والذهب على نحو ما فعل الظاهر بيبرس وشق عليه مجاهرة النووي له بالحق. على أنَّ عمل الظاهر في أخذ فتاوى العلماء دليل على أنه لا يخرج عن الشرع، ويحاول تطبيق أعماله عليه، لا يسير سير المستبدين ولو بمراعاة الظواهر، قال ابن إياس: إنَّ الظاهر كان سخيًّا على الرعية باسط اليد، يفرق الغنائم التي تحصل من فتوحاته على الرعية حتى يرغبهم في القتال وقت الحرب، وكان محبًّا للمال كثير المصادرات للرعية لأجل الغزوات والتجاريد، وينفق ذلك على العسكر، ولما وردت الأخبار في سنة سبعمائة بعودة التتر إلى الشام، صدر أمر سلطان مصر من المماليك باستخراج ثلث أموال غالب الأغنياء بمصر والشام؛ لاستخدام المقاتلة وبرز إلى محاربتهم بنفسه، فكان في ذلك النصر، ودفع عادية الأعداء عن البلاد.
كان الإخشيد أول من عمل الرواتب في مصر، وعمل له تقدير يحجز فيه المرتب عن الارتفاع، فأريد على أن يحط من الجرايات والأرزاق، فرأى أصحاب الرواتب الضعفاء وفيهم المستورون وأبناء النعم، فأخذ هذا العجز من كاتبه، أما الخلفاء فاقتنعوا في عصور الضعف أن تضمن الولايات من ديونهم بمال يُحمل إليهم، وكانوا يضيقون فتنفجر الثورات، وأكثر ما يثور الجند لانقطاع أرزاقهم ورواتبهم، وكان الدافع إلى كثير من الثورات الأهلية ظلم العمال وجوع النساء والأطفال، والناس في مثل هذه الأحوال يلبون دعوة من يتقدم أمامهم ليتبعوه، والوزراء والكبراء ينهبون الرعايا من جهة ويطعمونهم من جهة أخرى.
كان الوزير ابن الفرات من أكبر رجال السياسة والإدارة في العباسيين، يسلب ما يسلب بطرق له يعرفها، ومنها أخذ مئات الألوف من الدنانير من ديوان الخاصة؛ أي أموال الخليفة يدبر لاقتنائها طرقًا ملتوية، ومع هذا يجري على خمسة آلاف إنسان ما بين مائة دينار في الشهر إلى خمسة دراهم، وبنى داره بثلاثمائة وخمسين ألف دينار، وكان من المحسن ابنه وخليفته على عماله، وهو على ديوان المصادرات، من الجور والعيث، ما جمع به في آخر وزارة أبيه الثالثة بضعة ملايين دينار، وكان راتب الوزير في هذا العهد خمسة آلاف دينار في الشهر.
ومع أنَّ من مقتضى مذهب الفاطميين البعد عن أهل الذمة لم يتلكأ بعض خلفائهم من الاعتماد عليهم في إدارة مصر والشام؛ فقد وسد العزيز الفاطمي الأمر لرجل من الأقباط اسمه نسطورس، وقلد أموال الشام ليهودي اسمه منشا، يجمعان الأموال ويوليان أبناء نحلتهما الأعمال، ويعدلان عن الكُتَّاب والمتصرفين من المسلمين، فغضب الناس في مصر والشام، وعمد بعضهم في القاهرة إلى مبخرة من حديد، وألبسها ثياب النساء وزينها بإزار وشعرية، وجعل في يدها قصة على جريدة، وكتب فيها رقعة ليراها العزيز عند مروره، وهي «بالذي أعز جميع النصارى بنسطورس، وأعز جميع اليهود بمنشا، وأذل جميع المسلمين بك إلا ما رحمتهم، وأزلت عنهم هذه المظالم.» فتوسطت ست الملك ابنة العزيز لنسطورس فعفا عنه، بعد أن حمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار، وأعاده العزيز إلى ما كان ناظرًا فيه، وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله، وأما منشا فقُتل ولم يشفع به أحد.
وإقطاع الأمراء في مصر أفحش مما هو في الشام، وكان رزق أحمد بن خيران الملقب بولي الدولة صاحب ديوان الإنشاء ثلاثة آلاف دينار في كل سنة، وله عن كل ما يكتبه من السجلات والعقود، وكتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء بحسبه. وقد خلف الأفضل وزير المستنصر والمستعلي والآمر (٥١٥) من العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الفضة مائتين وخمسين أردبًا وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس إلى آخر ما خلف. وخلف جوهر القائد من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار، ومن الدراهم أربعة آلاف ألف درهم، ومن اللؤلؤ الكبار واليواقيت أربعة صناديق إلى آخر ما خلف، وإذا كان وزير من وزرائهم يجمع هذا القدر العظيم من النعمة فما يكون في أيدي غيره وأيدي خلفائهم؛ فقد وقع صلاح الدين لما أخذ مصر منهم على كنوز عظيمة في قصورهم، لا يستطيع قلم أن يدوِّنها، وهذا كله ما جُمع من طرق مشروعة، والفلاح كان في شدة بالطبيعة.
هذه تراتيب الفاطميين، ولا يشفع في هذه الإدارة بسطهم الأيدي في إعطاء الألوف للشعراء والفقهاء والدعاة. وكانت حالة الدولتين الصلاحية والنورية على عكس ذلك؛ كان طغتكين صاحب دمشق، ومن عظماء أمراء السلاجقة (٥٢٢) مثالًا من صاحب الإدارة الحسنة، أعاد إلى الرعية كثيرًا من أملاكهم التي اغتصبها منهم ولاة الجور، وجرت عليها أحكام المقاسمة، وأرجعها إلى خراجها القديم، وأحيا الأرض المعطلة، وباع منها ما كان شاغرًا للناس يعمرونه، وعمرت البلاد بجميل سياسته وحسن تدبيره، وانبسطت الرعية في عمارة الأملاك.
استفتى نور الدين الفقهاء في أخذ ما يحلُّ له من المال، فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره، وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات، وكتب أكثر من منشور بذلك، وأطلق في بلاده المظالم؛ أي القرى التي استصفاها بعضهم بالعنف من أربابها، وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس، وحرمها على كل متطاول، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج، وجدد قنى السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقرَّاء، وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، وكان يبعث بما يصل إليه من الهدايا، وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئًا، ووقف الوقوف الكثيرة بعشرات الألوف من الدنانير على المدارس والجوامع، وعمارة الطرق والجسور، ودور المرضى والبائسين والخانات، وإقامة الأبراج والقلاع ومكاتب الأيتام.
هذه زبدة ما قاله ابن الأثير في سيرة نور الدين، ومما قال: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا — أي في القرن السادس — فلم أرَ بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه. وكان نور الدين أول من بنى دار العدل بدمشق، ثم بنى مثلها في مصر، وجلس فيها الملوك منذ عهد صلاح الدين.
أما صلاح الدين فقد سار بسيرة نور الدين، سامح بمئات الألوف من الدنانير، وأعطى عطاء من لا يخاف الفقر، وأجرى كل سنة مبلغًا لا يقل عن مائتي ألف دينار على أرباب العمائم في دولته، وكان يضن كل الضنانة برجاله، أُسر قاضيه الهكاري فافتداه بمبلغ جسيم، وكان يصل كاتبه ووزيره ومشاوره القاضي الفاضل بالألوف، ويضن على أهله وأولاده، والقاضي الفاضل في الحروب الصليبية يشبه بدهائه وإخلاصه وعلمه أكبر ساسة الغرب في عهد نهضته الأخيرة، وهو الذي منع صلاح الدين عن الحج لما أراده، وقال له: إنَّ رفع المظالم من البلاد، والقعود للإفرنج بالمرصاد، على حين تقطر السيوف دمًا، أفضل من حجك فأطاعه.
كان صلاح الدين يجلس في كل يوم اثنين، وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير أو صغير وعجوز وهرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا، على أنه كان في جميع زمانه قابلًا لما يُعرض عليه من القصص، وفي كل يوم يفتح باب العدل، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل وإما في النهار ويوقع على كل قصة، ولم يرد قاصدًا أبدًا، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قصته وكشف ظلامته، واقتصر في جباياته على الخراج والعشور على الزراع مما أباحه الشرع. هكذا فعل في مصر لما قضى على دولة الفاطميين، وكانت المكوس فيها فاحشة فأسقطها، وأنواعها كثيرة جدًّا فألغاها، ورجع إلى الزكوات المشروعة والخراج عن الأرض، وكان قبل الفاطميين أيضًا مكوس وضعها أمراء السوء، فأُبطلت كلها في الدولة الصلاحية، ثم كانت بعض تلك الرسوم والمكوس تُعاد إلى سابق حالها، ومنها الشائن كالمكس على المغنيات والفاحشات، وتصدر بالبواقي مساميح أيام العقلاء من الملوك في الدول المختلفة.
رأى نور الدين وصلاح الدين أنَّ بلادهما كادت تخلو من علماء ممتازين، فأخذا يستدعيان العلماء من البلاد الإسلامية الأخرى، وكلما سمعا بعالم كبير زينا له نزول بلادهما، وعمرا له المدارس، وحققا له جميع رغائبه ومطالبه، وهما يريان في ذلك منة له عليهما؛ ولذلك كثر العلماء والشعراء في عهديهما، وكان منهم المجود والفهامة. وكان نور الدين متبحرًا في الشرع وألَّف كتابًا في الجهاد، وصلاح الدين لكثرة ما خالط العلماء وأخذ عنهم كان في مجالسه وحديثه كأنه من كبار الفقهاء، يضرب في كل علم من علوم الدين بالسهم الصائب، وهو متفرد في معرفة وقائع الأمم وسير الليالي.
إدارة المماليك
وفتح أحد ملوكهم باب قبول البدل في الإقطاعات والوظائف، وجعل لذلك ديوانًا؛ وذلك لأنه كان متطلعًا إلى جمع المال، وألزم ديوان الجيش الفلاحين بالفلاحة في الإقطاعات، ومن نزح من دون ثلاث سنين يُعاد إلى قريته قهرًا، فخربت البلاد وكثرت المظالم والمغارم. وكان من ملوكهم من يستكثر لضعفه من الأنصار، ويتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة، والمماليك يتفننون في أخذ أموال الناس وهتك حرمهم. وحدث بعد الناصر قلاوون بين أجناد الحلقة نزول الواحد منهم عن إقطاعه لآخر بمال أو مقايضة الإقطاعات بغيرها، فكثر الدخيل في الأجناد بذلك، واشترت السوقة والأراذل الإقطاعات حتى صار أكثر أجناد الحلقة أصحاب حرف وصناعات، وخربت بهم أرض إقطاعاتهم.
كان الرسم في دولتي المماليك أن تقبَّل الأرض بين يدي الملك، كأن يحاول الملك الذي كان مملوكًا أن يملك الأحرار، بإذلال الكبير والصغير من رعيته. ويرى الباحث في عهد المماليك ألوانًا من الأحكام والقانون وعمرانًا من جهة، وخرابًا من أخرى، وقلَّ أن جاء منهم رجل لم يطلق المال لإقامة المصانع والمعاهد في بلاده، وإذا رأيناهم من جهة يأخذون من الناس أموالًا في الشدائد، فقد رأينا منهم ملوكًا يبطلون كثيرًا من المكوس والمظالم ينادون في الجوامع برفعها، وينقشون المرسوم العالي في رخام أو على سواري المساجد، ويلعنون فيها من يعود إلى تجديدها.
ولقد أصبحت أحكام مجالس المظالم في دولتهم أحكامًا سياسية؛ أي إنها لا تتقيد بالشريعة فقط، فالأحكام عندهم على قسمين: حكم الشرع وحكم السياسة، وحكم الشرع معلوم، وحكم السياسة القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال، ويرى المقريزي أنها قواعد ورثوها عما سنه لهم جنكيز خان، وكان هذا لا يدين بدين ويحكم العقل في دولته، ففوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الشرعية، ورجعوا إلى عادات جنكيز والاقتداء بقانونه، فنصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عقائدهم، وجعلوا إليه النظر في قضايا الدواوين السلطانية، وكانت من أجل القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأرضين، فشرعوا في الديوان ما صار لهم به سبيل إلى أكل الأموال بغير حقها.
قال «هذا وستر الحياء يومئذ مسدل، وظل العدل ضافٍ، وجناب الشريعة محترم، وناموس الحشمة مهيب، فلا يكاد أحد يزيغ عن الحق، ولا يخرج عن قضية الحياء، إن لم يكن له وازع من دين كان له ناهٍ من عقل، ثم تقلص ظل العدل وسفرت أوجه الفجور، وكشر الجور عن أنيابه، وقلت المبالاة، وذهب الحياء والحشمة من الناس، حتى فعل من شاء ما يشاء، وتعدت — منذ عهد المحن التي كانت في سنة ست وثمانمائة — الحجاب وهتكوا الحرمة، وتحكموا بالجور تحكمًا خفي فيه نور الهدى وتسلطوا على الناس …»
والولاة هم أصحاب الشرطة، وكان والي مصر أو ملكها منذ عهد ابن طولون يجلس للنظر في المظالم، وإذا ضعفت قوة الدولة يجري نقل الولاة والنواب في الأقاليم بسرعة، حتى قال ابن الوردي منكرًا هذه الطريقة في التبديل وناعيًا على الدولة أثرها في إضعاف البلاد:
وكثرت الدواوين آخر دولة المماليك، وكان أهمها ديوان الإنشاء، ويُقال لناظر الإنشاء كاتب السر وكاتم السر. ومن الدواوين ديوان الجيوش، وديوان الخزانة الشريفة، وديوان المستأجرات والحمايات، وديوان الأحباس — الأوقاف — وديوان الإشراف، وديوان الذخيرة، وديوان المرتجع، وديوان الاستيفاء، وديوان الزكاة، وديوان العمائر، وله علاقة بالمهندسين وأرباب العمائر ويتكلم صاحبها في العمائر السلطانية مما يختار السلطان إحداثه وتجديده من القصور والمنازل والأسوار، ولكل ديوان ناظر ومباشرون.
هذه دولة الزيدية في الجبال، أما دولة اليمن في تهامة كالدولة الرسولية مثلًا، فقد وصفها القلقشندي، فقال: إنَّ أوقات ملوكها مقصورة على لذاتهم، والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء والمطربين، فلا يكاد السلطان يُرى ولا يسمع أحد من أهل اليمن خبرًا له على حقيقته، وأهل خاصته المقربون الخصيان، وله أرباب وظائف للوقوف على أموره، وهو ينحو في أموره منحى صاحب مصر يتسمع أخباره، ويحاول اقتفاء آثاره في أحواله وأوضاع دولته.
إدارة الترك العثمانيين
وقف الأتراك العثمانيون في حكومتهم مع حدود الشرع الإسلامي، واتخذوا قضاة يحكمون بين الناس، وأخذوا يعدلون ما وضعوا من قوانين الإدارة بحسب الزمن، ولما كان السلطان مصدر كل تقنين كسائر الحكومات الإسلامية السالفة، كان الوزير يعرض رأيه على الملك فإما أن يقبله، وإما أن ينفيه.
وقلت الموارد من الغنائم في العصور الأخيرة وكثرت الحروب، ولما نضب ما في خزائن الدولة وجيوب الرعايا حاولت الدولة منذ سنة ١٨٠٨م أن تقترض مالًا من أوروبا، وفاوضت الماليين والسياسيين فلم توفق إلى تحقيق أمنيتها إلا في حرب القرم؛ أي في سنة ١٨٥٤م، وقد أُدخلت الدولة في عداد الدول الأوربية، فأخذت تقترض بالفائدة الفاحشة، ولما أعلنت الدولة إفلاسها بعجزها عن تأدية النجوم المستحقة من رأس المال ورباه، ترك أرباب الديون لها خمسة وثمانين مليون ليرة عثمانية، وسرعان ما نسيت الدولة معرة إفلاسها فعادت إلى ما كانت عليه من الإسراف، وعلى ملوكها تحمل أكبر تبعة، وكان عبد الحميد الثاني يمزج حاجاته الخاصة باحتياجات المملكة ويبالغ في الإنفاق، إلا أنه يحاول ألا يستدين من الغرب ما أمكن.
قال: ومما يروى أنَّ أحمد باشا صهر رستم باشا تقلد منصب الوزير الرابع في حرب سكتوار، ثم أُسندت إليه الصدارة العظمى، ولما تقلد الوزارة أول مرة لم يكن يملك من ألبسة الأبهة غير فروتين، يتجمل بإحداهما في الديوان، ويلبس الثانية في بيته، مع أنه كان يملك خمسمائة مملوك بالعدة الكاملة، وكان جماع الوزراء على هذا المنوال، وفي ضياع كل واحد منهم مائة قطار من البغار ومائة من الجمال، فإذا سار أحدهم إلى وجه يستغني عن شراء جمل أو حصان، وتتيسر له أسباب الرحلة في ثلاثة أيام. ثم انتقلت الدولة من البداوة إلى الحضارة، وأصبح الملوك يقيمون في دار الخلافة حتى اطمأنوا إلى الراحة، واقتدى بهم في هذا الشأن رجال الدولة، فعمروا القصور الشامخة والمباني العظيمة في الآستانة، وجملوها بأنواع الزينة والزخارف والأثاث الثمين، فسرى داء التقليد إلى العامة، وزادت نفقات أرباب المناصب والعمال زيادة فاحشة عن مشاهراتهم، فاضطروا إلى تناول الرشوة، وغدا أرباب الإقطاعات والزعامات يلزِّمون أرضهم بأجور باهظة، ويتقاضى الملتزمون الفقراء من الناس ما لا طاقة لهم بتحمله من المظالم والمغارم، ليتأثلوا ما يسد نهمتهم وتربح به تجارتهم، مما أهاب بمعظم الأهلين إلى الهجرة من أوطانهم، وارتحل الرعايا وأهل الذمة منهم إلى الديار الأجنبية، ونزل كثير من الناس عاصمة الملك واستوطنوها، وتكاثروا فيها حتى غصت بهم وضاقت على اتساعها، وكثر انتشار الحريق، وفسد الهواء بكثرة الزحام وانتشرت الأمراض والعلل الوافدة، وعزت المؤن والغلات، فأكرهت الحكومة على ابتياعها واشتط الباعة في أسعارها، فكان ذلك داعيًا إلى خراب البلاد. ا.ﻫ.
وأعظم سبب في شيوع الرشوة أنَّ الموظفين والعمال يعفون على الغالب من العقوبات مهما أجرموا، لا يُعاقبون بأكثر من أن يُنقلوا من ولاية إلى أخرى، فيمثلون في الثانية ما مثلوه في الأولى، وما قامت ثورة أهلية في السلطنة إلا كان العمال السبب فيها، ومن تُكتب له حظوة عند الناس من العمال لحصافته وشرف نفسه قد يكون من المبعدين، وتختار الدولة المتوسطين في إدارتهم ومعلوماتهم على الأكثر أو من يتبالهون وينافقون، وتحاذر وزراءها في دار الملك، فتقصيهم إلى الولايات عند أقل شبهة، أو لمجرد شهوة السلطان، أو لوشاية الواشين وتصادرهم وتعذبهم، ومن يعرفون أنَّ مصيرهم إلى مثل هذه الحال لا يتذممون من شقاء الناس ولا يرحمونهم، ويتناسون أنَّ الحكم أمانة في عنق صاحب الشرف.
ومن القواعد التي لا تتخلف كثيرًا في دار الملك أنَّ كل رجل تحدث له بعض قوة، وتنطوي نفسه على شيء من حب المغامرة، يستجيش له أناسًا من الغوغاء، ويؤلف له حزبًا يستغويه بالوعود الخلابة، فلا يلبث أن يستولي على الأمر، ويشرد سلفه أو يقتله وبعض كبار حاشيته، تشتد شكيمة القوى مدة فيحكم ويتبسط في سلطانه، حتى يقوم أقوى منه فيسقطه ويتبوأ مكانه، ويخرب ما عمله سلفه من أعمال، وينهج غير نهجه في الإدارة، ولا شأن له غير ابتزاز الأموال وإسكات الناس عن الخوض في أمور الدولة، ومن جرؤ على أمر بمعروف ونهي عن منكر يُشرَّد ويُضطهد، ويُتهم بعظائم ما دارت له في خَلَد، وقد تكون دعوته لإزالة شر أو لبث فكرة يكون من أثرها إصلاح سلطانهم، فيتهمونه بالجنون أو المروق من الدين، أو بدعوى النبوة أو الألوهية، أو أنه يدعو إلى أن يكون النساء مشتركات بين الناس، ويحلل ما حرم الله إلى غير ذلك من الأكاذيب؛ ليصرفوا أذهان العامة والخاصة عن حقيقته، حتى لا يأسف الخلق عليه، ولا ينصروه إن أمكنهم نصره.
تقدم معنا أنَّ جيش الإنكشارية بدأ انحطاطه من عهد مراد الثالث، وقد رأيناه في عهده الأخير أعظم عابث في الولايات بحياة الرعية، يقتل بعضه بعضًا ويقتتل مع الطبقات العسكرية التي أُنشئت بعدُ مثل السكبان والقبوقولي والدالاتية، وكم من فتنة حدثت بين هذه الطبقات من الحاميات، وكان معظم ضرره أيام السلم يتناول أبناء الأمة، ويسلب قرارها، ويبتز أموالها، ويسطو على النساء والولدان فزاد بجبروته في شقاء البلاد، ويُضاف إلى ذلك أنَّ معظم الموظفين والضباط لا يقبضون رواتبهم كل شهر، وإذا قبضوها لا تقوم بحاجتهم، فيرجعون أبدًا على جيوب ضعاف السكان يسددون منها العجز، وليس للدولة موازنة ثابتة تعرف بها دخلها من خرجها، إن جاءتها أموال ومغانم في بعض السنين أسرفت فيها، فإذا أحست الضائقة تمسك عن دفع مشاهرات عمالها والإنفاق على جندها فينهالون على الخلق، ويكاد يكون معظم أموال الجباية خاصًّا بحاشية السلطان وقصره يحمل منها إلى خزانته ما يحب ويهوى.
نشأت صعوبات جمة من تطبيق القانون الجديد المنقول عن القوانين الفرنسية، والمقصود منه أولًا إرضاء الدول الأوربية التي اشتد تدخلها في خصوصيات السلطنة بحق وبلا حق؛ ذلك لأن قانون أمة وهو زبدة تاريخها ومحيطها وعاداتها ومصطلحاتها، يصعب تطبيقه على أمة أخرى ليس لها مثل نزعاتها ومدنيتها، ورب قانون لأمة راقية يتعذر إنفاذه في أمة منحطة ويضر في كيانها أكثر مما ينفعه، وخاصة إذا كانت منوعة الشعوب والمدنيات واللغات والأجواء كالعثمانيين؛ فلقد حاذر غير المسلمين مساواتهم بالمسلمين في هذا القانون الجديد، لئلا يفقدوا جانبًا مما كانوا يتمتعون به من الحقوق منذ عهد الفاتح، ومنها إعفاؤهم من الخدمة العسكرية، وإمتاع كنائسهم بحق الاشتراع لطوائفهم، وإطلاق حريتهم في تنظيم شئونهم الملية، فكثر الاعتراض من كل جانب، وكان النصارى بعد عهد الإصلاحات يتمتعون بكل ما فيها من مرافق ويبعدون عما فيها من متاعب؛ لأن الدول عاونتهم على مطالبهم، وقالت للدولة أنت وشأنك مع المسلمين. قال ريشاروود: «أما اعتراض المعترض بأن المساواة بين الطوائف غير كاملة ما دام النصارى لم يشتركوا في الجندية العثمانية، فجوابنا عنه: أنَّ الذنب في ذلك على النصارى أنفسهم عليه لا على الباب العالي؛ إذ النصارى مع حرصهم على نيل كل الحقوق لم يقبلوا أن يدخلوا تحت ما يقابلها من الواجبات.»
كان من الإصلاحات التي قام بها الوزير رشيد بعد سنة ١٢٥٥ﻫ، وضع أصول جديدة لإدارة الولايات على قاعدة المركزية، ثم توسعت بعد حين وجرى تعديلها والعمل بها إلى آخر أيام السلطنة، وأُنشئت القوانين العدلية — الحقانية — ومنها قانون التجارة، وأُسست المحاكم ومنها المحاكم المختلطة، للاختلال المشهود في المحاكم الأهلية، ونقل قانون الجزاء إلى التركية، ووضعت مجلة الأحكام العدلية مأخوذة من كتب المذهب الحفني مذهب الدولة، ثم أُنشئت وزارة المعارف والجامعة (١٨٤٥)، ثم المدارس المنوعة المقاصد في دار الملك، ولم تثمر هذه الإصلاحات إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وجنى من ثمرتها الأتراك أكثر من العنصر العربي.
وبهذه القوانين والإصلاحات وإن لم تنفذ كلها دخلت السلطنة في عداد الأمم الممدينة، وزاد توغل الأجانب في البلاد وإشرافهم على سير الحكومة فيها، وتيسر لهم نيل امتيازات لشركات من رعاياهم استولت على اقتصاديات البلاد وطرق مواصلاتها، وأنشأوا يبشرون فيها بالنصرانية ويحببون إلى المتعلمين لغاتهم، فزاد بذلك التباين بين المسلمين وغيرهم، وكثر بغض العناصر غير المسلمة للعناصر المسلمة، وكان من هذا التعليم بلاء على الأرمن خاصة، وكان الروم والبلغار والصرب والرومان باكروا الاستقلال في ولاياتهم، وكان تعليم أفراد منهم من العوامل المفيدة في تحقيق أمانيهم القومية، ومهما قيل في الداعي لتسلل أصابع الدول الغربية إلى المسائل العثمانية وفي اشتطاطها عليها في الأحايين، فإنه مما لا جدال فيه أنَّ الإدارة العثمانية كانت في معظم أدوارها مختلة على ما اعترف بذلك علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة من الترك أنفسهم، وظهر في القرن الماضي الفرق بين إدارة بلاد الغرب وإدارة العثمانيين، وكانت مساحة بلاد الدولة لا تقل عن نصف أوروبا بعد القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتجلى البون الشاسع بين أمة جامدة أو مجموعة شعوب جامدة مشتتة أهواؤهم، لا وازع يضم شملهم، وبين أمم متوحدة تتحرك وتتكلم وتعاود نُظُمها بالحذف والإثبات، وتسير مع العقل في إقامة بنيان ممالكها.
أدرك عظماء السلطنة عاقبة هذه الأمراض على الدولة، وكانوا يزعمون كلما تذرعوا بالإصلاح أنَّ الصدمات تأتيهم من الداخل والخارج، والحقيقة أنهم كانوا عاجزين عجزًا مطلقًا، وكسالى لا يحبون التعب. عرف رجال الدولة في العهد الأخير أمثال رشيد وعالي وفؤاد ومدحت وكامل وسعيد مواطنَ الداء، ولكنهم ما وفقوا قط إلى وصف الدواء الناجع، وكان الوزير رشيد كثيرًا ما يردد قوله: إنَّ المملكة العثمانية إما أن تصلح نفسها وإما أن تنقرض، وكيف لا نقول بعجزها، والقضاء كان كالسلع يوضع في السوق، فمن دفع الثمن الأعلى تولاه، ولو كان فيه جميع العيوب الشرعية، أسسوا منذ سنة ١٢٧٢ﻫ في العاصمة مدرسة للنواب — أي القضاة — ولكنهم ظلوا إلى آخر أيامهم يوسدون القضاء إلى الأميين والساقطين، وكيف يقيم العدل بين الناس من دفع ثمن قضائه، والقضاء إلى عهد قريب كان مرجع كل شيء.
مثال من عجز الدولة وأنَّ نسبة الإخفاق إلى معاكسات الأجانب غير صحيحة دائمًا، أنها كانت إذا أعلنت حربًا أو أرادت إطفاء فتنة داخلية، يموت من جندها ورعاياها بالأمراض والإهمال أكثر ممن يموت بالسيف والنار؛ وذلك لأنها كانت ترسل ابن البلاد الباردة إلى البلاد الحارة والعكس بالعكس، فيهلك الخلائق بالألوف، يهلكون بقلة التدبير والبصيرة، والمملكة لا طرق لها، وليس للجند مآكل مغذية كافية ولا ألبسة دافئة، ولا شيء من أسباب الصحة مما تُحفظ به حياة الآدميين، شُوهد ذلك في معظم أدوار السلطنة، وما استطاع قائد ولا صدر ولا والٍ أن يُدخل الإصلاح المطلوب على هذا الخلل الممكن تلافيه، وأنت ترى أنه يحتاج إلى عقل يميز ويقدر، وأيدٍ تحب أن تعمل أكثر من احتياجه إلى المال، وندر جدًّا من عمال السلطنة من كان ينظر لمصلحتها الحقيقية، كما عز من لم يكن هدفه من عمله غير جمع المال يعمر به على الأقل قصرًا في أرباض العاصمة، ويترك لأسرته ثروة.
كان الفلاحون إذا ضاقت بهم الحال في قريتهم، واشتط عليهم المتغلبون وأرباب المقاطعات، يهجرونها إلى قرية بعيدة في إقليم آخر، ففُقد الاستقرار، وقد تتعطل الزراعات سنة وربما سنين، ولا يداوي أرباب القرى ما يقعون فيه إلا باستعمال السياط وضبط الفرش والماعون، وأحيانًا ضبط النساء والأولاد، وجاء زمان والفلاحون ينزلون برضاهم عن أرضهم إلى الكبراء؛ لأنهم لا يستغلون منها ما يفي بالضرائب الموضوعة عليها؛ بل أتى دهر وأرباب النفوذ إذا غضبوا على إنسان يأتون بشاهدين يشهدان عليه أنه عبدهم فيسترقونه، وجاء زمن وأعراب البادية يتقاضون حتى من المدن «خوة» أو مالًا سنويًّا، ولهم على كل قرية مبلغ أو إتاوة سنوية، وإلا رعوا الزروع وقطعوا الأشجار وخربوا المساكن وقتلوا الأنفس.
قال هذا الجبرتي في حوادث سنة ثمانٍ وتسعين ومائة وألف وختمه بقوله: «وضاع الناس بين صلحهم وغبنهم، وخروج طائفة ورجوع الأخرى، ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها، وإذا سُئل المستقر في شيء تعلل بما ذُكر، ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب، إنها حيل على سلب الأموال والبلاد.» وقال في حوادث سنة سبع ومائتين وألف: «استهل المحرم بيوم الخميس والأمر في شدة من الغلاء وتتابع المظالم وخراب البلاد وشتات أهلها، وانتشارهم بالمدينة حتى ملئوا الأسواق والأزقة رجالًا ونساءً وأطفالًا، يبكون ويصيحون ليلًا ونهارًا من الجوع، ويموت من الناس في كل يوم جملة كثيرة من الجوع.» وقال في حوادث سنة تسع ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث الخارجية سوى جور الأمراء وتتابع مظالمهم، واتخذ مراد بك أمير الإنكشارية الجيزة سكنًا وزاد في عمارته واستولى على غالب بلاد الجيزة، بعضها بالثمن القليل، وبعضها غصبًا، وبعضها معاوضة.» وقال في حوادث سنة عشر ومائتين وألف: «لم يقع بها شيء من الحوادث التي يُعتنى بتقييدها سوى مثل ما تقدم من جور الأمراء والمظالم.» وكانت الفتن بين الإنكشارية في الريف والعاصمة متصلة، وقد تستولي طائفة على الوجه البحري وأخرى على الوجه القبلي، فتتحاربان وينضم الهوارة والعربان إلى أحد الفريقين والناس بينهما في أمر مريج «من الظلم والفجور والفسق بأهل الريف والعسف بهم وتكليفهم الكلف الشاقة.»
وإذا شئت الوقوف على حالة القضاء فاقرأ الصفحة التالية من تاريخ الجبرتي بالنص الذي كتبه في ماجريات سنة ١٢٣١ﻫ، قال: «حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم، وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة (محمد علي)، وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور، والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل، وذلك أنَّ القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمراء المصريين، فلما استولت هؤلاء الأروام — الترك — على الممالك والقاضي منهم، فحش أمرهم وزاد طمعهم، وابتدعوا بدعًا وابتكروا حيلًا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل، وكلما ورد قاضٍ ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشياء يمتاز بها عن سلفه، حتى فحش الأمر وتعدى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل الباشا، وصارت ذريعة وأمرًا محتمًا، لا يحتشمون منه ولا يراعون خليلًا ولا كبيرًا ولا جليلًا، وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية التزم بالقسمة بين المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي، وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ أو المحلول، وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية، وباب سعادة، والخرق، وباب الشعرية، وباب زويلة، وباب الفتوح، وطيلون، وقناطر السباع، وبلاق، ومصر القديمة ونحو ذلك، وله عوائد وإطلاقات وغلال من الميري، وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضاء، وهو خمسة أنصاف فضة، فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدًا من المحكمة القريبة منهم، فيقضي فيها بما يقضيه ويعطونه أجرته، وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث، ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر، ثم يمضيها من القاضي، ويدفع له معلوم القضاء لا غير، وأما القضايا لمثل العلماء والأمراء فبالمسامحة والإكرام، وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء، وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه، فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها، ابتدعوا بدعًا شتى، منها إبطال نواب المحاكم، وإبطال القضاة الثلاثة بخلاف مذهب الحنفي، وأن تكون جميع الدعاوي بين يديه ويدي نائبه، وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى كتخداه لدفع المحصول، فيطلب منه المقادير الخارجة عن المعقول، وذلك خلاف الرشوات الخفية، والمصالحات السرية، وأصناف التقرير والقسمة لنفسه، ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق، وإذا دُعي بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة فلا يذهب إلا بعد أن يأذن له القاضي، ويصحبه «بجوقة دار» ليباشر القضية وله نصيب أيضًا، وزاد طمع هؤلاء «الجخدارية» حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر، وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخدوميهم، وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب.
وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارًا، أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول، ثم التجهيز والتكفين والمصرف والديوان، وما بقي بعد ذلك يُقسم بين الورثة، فيتفق أنَّ الوارث واليتيم لا يبقى له شيء، ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضًا، ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين أو ثلاث، وقد كان يصالح عليها بأدنى شيء وإلا إكرامًا، وابتدع بعضهم الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة، ومن أين تلقوها، وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر، وفيها من هو باسم النساء ولسن أهلًا لذلك، وجمع من هذا النوع مقدارًا عظيمًا من المال، ثم محاسبات نظار الأوقاف، والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك، وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرًا عظيمًا في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس، ومما هو زائد الشناعة أيضًا أنه إذا ادعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها، بأن قال ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول، حقًّا كان أو باطلًا، معقولًا أو غير معقول، ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها، فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي، أو سطره الكاتب، يدفعه المدعى عليه للقاضي على دور النصف الواحد، أو يحبس حتى يوفيه، وذلك خلاف ما يُؤخذ من الخصم الآخر، وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول، فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى، فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس. ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات، وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا يرجع به مع القاصد تقييدًا أو إثباتًا، فعند ذلك لا يكتب له ذلك الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه، إلا أن يسلخ من جلده طاقًا أو طاقين، وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له يستعجله، ويساعد كتخدا القاضي عليه، ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم، مع أنَّ الفرنسيين الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة، حددوا له حدًّا في أخذ المحاصيل لا يتعداه، بأن يأخذ على المائة اثنين فقط، له منها جزء وللكُتَّاب جزء، فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية، فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري، كتبوا عرض محضر، ذكروا فيه بعض هذه الأحداث والتمسوا من ولي الأمر رفعها، ورجوا من المراحم أن يجري القاضي، ويسلك في الناس طريقًا من إحدى الطرق الثلاث، أما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمراء المصريين، وأما الطريقة التي كانت في زمن الفرنسيين، أو الطريقة التي كانت أيام مجيء الوزير، وهي الأقرب والأوفق، وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور، وتمموا العرض محضرًا، وأطلعوا عليه الباشا، فأرسله إلى القاضي، فامتثل الأمر، وسجل بالسجل على مضض منه، ولم تسعه المخالفة.» ا.ﻫ.
وما كانت إدارة بقية بلاد العرب بأحسن مما كانت في الشام ومصر، ولا أكثرها من القوانين والتراتيب الإدارية، فالحجاز يحكمه أشراف مكة مع والٍ للدولة يتقاسمان المغانم فيئن الناس من الظلم، واليمن تتنازعها سلطتان سلطة بني عثمان في تهامة، وسلطة أئمة الزيدية في الجبال، والأتراك أبدًا هناك في حالة حرب واحتلال مؤقت، والدولة تنفي إلى اليمن كما تنفي إلى طرابلس الغرب من تغضب عليهم، وبالنظر لبعدها ما كان يرضى بالتوظف فيها إلا من ضاقت سبل الأعمال أمامه، فكان اليمانيون من هاتين الطبقتين في مصيبة، والبلاد تحكم بقواعد العشائر وعاداتهم ليس فيها طرق ولا مدارس ولا مصانع كسائر الولايات، وأخرب البلاد ما يشب فيها من حروب وغوائل دامت إلى أن عقدت الدولة مع إمام الزيدية في سنة ١٣٢٩ﻫ، معاهدة اعترفت به وبمذهبه وسلطته اعترافًا رسميًّا، وسواحل اليمن كانت أبدًا في فوضى، ولم ينتشر الأمن في ربوعها إلا لما ارتبطت بحكومة الهند الإنجليزية، فأصبح لكل إمارة وناحية إدارة خاصة بها، ونجد لا شأن لقبائلها البدوية إلا أن تتقاتل، وكان الأمن مفقودًا فيها كسائر البوادي، وأقر آل سعود وبعدهم آل الرشيد الأمن في ربوعها لما حكموها، وكان العراق بأيدي الولاة في الظاهر، وأيدي متزعمة القبائل في الحقيقة، حتى أصبح بعد عمرانه القديم بادية إلا قليلًا، لولا بقع من مجموعات سكان تنزل أرجاء بغداد والبصرة والحلة والموصل وغيرها، وسلطة الدولة لا تكاد تتعدى الحواضر شأنها في كثير من الولايات العربية، والقاصية بأيدي أرباب الزعامات والإقطاعات، وأخذت بعض الولايات التي تولاها عظماء من رجال السلطنة في العهد الأخير تؤسس فيها قواعد الإدارة، وتكثر فيها مراكز الحكومة من أقضية وألوية، فقد أسسوا لواءين في جنوب الشام وشرقها: «لواء الكرك» و«لواء الزور»، فدخل عرب البادية في حياة الزراعة وخف اعتداؤهم بعضهم على بعض، وبطل الغزو أو كاد لاستلاب المواشي. ولما أُنشئت السكة الحجازية بين دمشق والمدينة بدأ الأمن يستتب والبادية تحس طعم السكنى، وعُمرت على بعض جانبي الخط قرى ومزارع.
وفي الحق أنَّ الدولة أنشأت، بعد تنظيم الولايات، ترسل ولاة ومتصرفين لا بأس باقتدارهم، ومنهم من كانوا يحاولون الإصلاح ما أمكنهم ويقرون العدل بعض الشيء، ويؤمنون السبل بالقليل من القوات التي كانت لهم من الجند والدرك والشرطة، ومنهم من أنشأ مدارس وطرقًا كما فعل الوزير مدحت في العراق والشام، وقد كتب من دمشق في إصلاح الإدارة إلى الآستانة يقول: إنَّ الأوامر التي تصدر من الآستانة إلى الشام محصورة في طلب المال والجند فقط، وبذلك بطل العمل بالقانون والأصول المتبعة، وفُتحت أبواب سوء الاستعمال، وما عدا بعض رجال من الموظفين أصبح كبار العمال، وصغارهم لا يلتفتون إلى غير مصالحهم فطرأ على المعاملات خلل، وبسوء تأثير ذلك فسدت أخلاق الناس، وكثر القتل والنهب والغارة على الأموال والعروض في كل مكان، واختل الأمن كل الاختلال، قال: وإذا ألقينا نظرة على واردات الدولة رأينا الخراج والأموال قد نزل ارتفاعها إلى النصف، وخربت مسائل الأعشار البلاد، وقل البدل العسكري — الجزية — كتب هذا قبل نحو ستين سنة والدولة آخذة في تقليد الغربيين في إدارة بلادها.
هذا ما قاله صاحب المؤنس، وهذه العجمة الغالبة على قضاة الترك التي أشار إليها كانت سببًا عظيمًا من أسباب سوء الإدارة، وسوء التفاهم بين الحاكم والمحكوم منذ الزمن الأطول، وكيف يفهم القاضي أو الوالي أقوال المتقاضين والشاكين إذا كان أعجميًّا، بل كيف يفهم مع عجمته الحكم الشرعي من كتب العرب، والشريعة عربية، وهل للوالي أو الشاويش أن يؤثر في نفوس من يتولى أمرهم إذا لم يستطع التفاهم معهم، بل أن يخطبهم إذا دعت الحال، وأنَّى لابن العرب أن يفهم كلام التركي في زمن ضعفت فيه أيضًا ملكته في لغته! ولذلك خرجت الدولة العثمانية من بلاد العرب، ومنها ما حكمته ثلاثة قرون، ومنها ما حكمته أربعة، وهي لا تعرف روح البلاد ولا روح أهلها.
وبعد فمهما قيل في فساد الإدارة العثمانية منذ القرن العاشر إلى الثالث عشر من الهجرة، فإن فجر القرن الرابع عشر انبلج عن إجماع الحاكم والمحكوم على قبح هذه الإدارة وإرادة الإفاقة من كابوسها صيانة للبلاد، ورأينا الدولة في آخر أيامها ترسل مفتشين لكشف أحوال عمالها في المالية والداخلية والقضاء والحربية وغيرها، ورأينا منهم طبقة صالحة في الجملة إذا بحثوا سقطوا لا محالة على الخلل المتسرب إلى الأوضاع الحكومية، وكانوا يضعون التقارير النافعة لما شاهدوا وحققوا، لكن التنفيذ كان قليلًا، وندر أن يُؤخذ عامل مجرم بما يُقرر فيه، وغاية ما يناله من عقوبة أن يُنقل إلى ناحية أخرى، أو يُترك مدة بلا عمل ويُلقى الستار على جنايته أو جريمته، وكان من الصعب إذا كان للموظف حامٍ يحميه إنزال العقوبة به ولو كان قاتلًا. أما سرقة مال الدولة وتعريق لحم الملة فهذا مما لا يؤبه له كثيرًا، وعلى هذا كان الناس في هذه الإمبراطورية العظمى بين ظالم ومظلوم، ينفذ فيها القانون على فقراء الرعية غالبًا، وقد يُستثنى من أحكامه من كان له شافع من ثروة وجاه وقرابة ونسبٍ.
وأول من لقب بالدين في الإسلام بهاء الدولة بن بويه ركن الدين وذلك في القرن الرابع وسرت هذه الألقاب إلى العامة والخاصة ولم تخلُ منها إلا الأندلس؛ لأن دولتهم بقيت على عربيتها وبقي الأمر كما قال القلقشندي على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلى أيام القادر فافتتح التلقيب بالإضافة إلى الدين، وكان أول من لُقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه فصار لقبه بهاء الدولة ونظام الدين. ودرج على هذه الألقاب الترك كما يقول ابن الحاج في المدخل: فإنهم لما تغلبوا على الخلافة سموا هذا شمس الدولة وهذا ناصر الدولة وهذا نجم الدولة إلى غير ذلك، فتشوفت نفوس بعض العوام ممن ليس له علم بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر، فلم يجدوا سبيلًا إليها لعدم دخولهم في الدولة، فرجعوا إلى أمر الدين فكانوا أول ما حدثت عندهم هذه الأسماء إذ ولد لأحدهم مولود لا يقدر أن يكنيه بفلان الدين إلا بأمر يخرج من السلطنة، فكانوا يعظمون على ذلك الأموال حتى يُسمى ولد أحدهم بفلان الدين، فلما أن طال المدى وصار الأمر إلى الترك لم يبقَ لهم بالتسمية بالدولة معنى؛ إذ إنها قد حصلت لهم فانتقلوا إلى الدين، ثم فشا الأمر وزاد حتى رجعوا يسمون أولادهم بغير ما يعطونه على ذلك، ثم انتقل إليه بعض من لا علم عنده، ثم صار الأمر متعارفًا متعاهدًا حتى أنس به العلماء فتواطأوا عليه. انتهى.
وجاء في رسالة معرفة الحلى والكنى والأسماء والألقاب: اعلم أن الكنى المشروعة في الإسلام أن يكنى الرجل بولده أو ولد غيره وكذلك المرأة تكنى بولدها أو ولد غيرها، والكنية ما فيها لفظ أب كأبي زيد أو أم كأم كلثوم، والأدب أن لا يكني نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان أشهر من الاسم أو لا يُعرف إلا بها. وقال الزمخشري: لم تكن الكنى لشيء من الأمم إلا للعرب خاصة وهي من مفاخرها، والكنية إعظام وما كان يؤهل لها إلا ذو شرف من قومه والذين دعاهم إلى التكنية الإجلال عن التصريح بالاسم بالكناية عنه، ثم ترقوا عن الكنى إلى الألقاب، وأما اللقب فهو غير خاص بالعرب، واللقب ما أشعر بمدح أو ذم والعمدة فيه الاستعمال، ثم إن كان اللقب يتأذى به صاحبه كالأعرج والأعمش ونحو ذلك حُرم النداء به للإيذاء، وإن كان لا يُعرف إلا به جاز، ولا بأس باللقب الحسن إلا ما توسع فيه الناس حتى سموا السفلة بفلان الدين وقد وضعوا لمن اسمه محمد جميع الألقاب، فإن كان من المتعممين لُقب بشمس الدين وبدر الدين ونور الدين وشرف الدين ونحو ذلك، وإن كان من الجند فبناصر الدين وما أشبه ذلك، وقد يقع في الجند من يلقب بشمس الدين ونحوه، لكن ما ذكر هو الأغلب، ووضعوا لمن اسمه أحمد من المتعممين شهاب الدين ومحيي الدين وشارك في ذلك الجند أيضًا، ووضعوا لمن اسمه أبو بكر من المتعممين عز الدين وهو أحسن ما يُلقب به وشاع فيه سراج الدين ويُلقب بفتح الدين ونحوه ومن الجند زين الدين وعز الدين ووضعوا لمن اسمه عثمان من المتعممين فخر الدين ونور الدين وهو أحسن ما لُقب به، ومن الجند فخر الدين أيضًا ووضعوا لمن اسمه علي من المتعممين علاء الدين وعماد الدين، ومن الجند سيف الدين وهو أحسن ما لقب به وشاع فيه نور الدين علي ووضعوا لمن اسمه عبد الله شمس الدين وعفيف الدين وشارك الجند في ذلك أيضًا ووضعوا لمن اسمه يوسف أمين الدين وصلاح الدين، وأحسن ما يكنى به أبو المحاسن وشاع فيه جمال الدين ووضعوا لمن اسمه إبراهيم برهان الدين ووضعوا لداود علم الدين وموفق الدين وسليمان علم الدين وموسى وعيسى شرف الدين وحسن بدر الدين وحسام الدين وحسين وجعفر كريم الدين وإسماعيل عماد الدين وخليل غرس الدين وحمزة عز الدين وزكريا محيي الدين ونبيه الدين وإسحاق مجد الدين ويعقوب تاج الدين وقاسم شرف الدين.
إنَّ تركة الوزير سنان كان فيها مائة وستون مصحفًا، مرصعًا بالدر والجواهر، وثلاثون طستًا، وإبريقًا من الذهب مرصعة بالدر والياقوت، وخمسة صناديق زبرجد عليها خمسة أقفال من الذهب مرصعات بالجوهر، وفي داخل كل صندوق منها مائتا مثقال من الإكسير، كل مثقال منها على ألف قنطار من الحديد، يستحيل ذهبًا خالصًا وشطرنج بيادقه البيض ماس، وبيادقه السود لعل، ومائتا مرآة مرصعة بالدر والياقوت، واثنان وثلاثون زوجًا من الركابات ذهبًا مرصعة بالدر والياقوت، وستون «رختًا» من الذهب مرصعة بالجوهر ومثلها سلاسل ذهبية، وأربعمائة رخت فضة مطلية بالذهب، ومائة وستون رشمة ذهب، وأربعمائة رشمة فضة، ومائة وستون سرجًا مرصعة بالدر والياقوت، ومائة وستون عباءة مكللة باللؤلؤ الرطب، ومائة وستون سكينًا ذهبًا مرصعات بالدر واليواقيت، وثلاثمائة وأربعون تاجًا مرصعة بالجواهر، ومائتان وستون «حمايليا» مرصعة بالدر والجواهر، ومائة وستون خنجرًا ذهبًا مرصعة بالماس، ومائتان وثلاثون زنارًا من الجوهر، ومائتان وستون «بازوند» مرصعة بالجواهر، وخمسة وثلاثون صندوق كتب مرصعة باليواقيت والمعدن، وسفرة صحون وثلاث صوانٍ من ذهب وجميعها مرصعة، وعشر طاسات بأغطية وتحتها صوانيها، وعشر مباخر وعشرة قماقم ذهب مرصعة بالدر والجوهر، وخمسة وستون خاتمًا من الماس، ومائة وأربعة وأربعون خاتمًا من الياقوت الأحمر، ومائتا خاتم من لعل، ومثلها من الياقوت الأصفر والأزرق والزمرد الخالص، وسبعون وسادة كل واحدة بمائتي دينار، ومائتان وستون وسادة مرصعة بالجواهر، وستون قفلًا ومفتاحًا مرصعات بقطع ماس في كل قفل منها نحو ألف دينار، وقبضة ماس مقدار كف الإنسان لا نظير لها، وأربعة شماعدين من ذهب، وتحتها سفرها مرصعة بالجواهر قوموها بمائة ألف دينار، ومائة وخمسون خلعة صراصر كل واحدة منها تساوي مائة دينار، وثلاثمائة فروة سمور قيمة كل واحدة منها خمسمائة دينار، وأربعمائة فروة وشق قيمة كل واحدة ثلاثمائة دينار، وأربعمائة فروة ناقة وغيرها قومت كل واحدة بسبعين دينار، وثمانية أباريق كبيرة من نحاس أصفر في جوف كل إبريق منها مائة ألف دينار، وستة وسبعون كيسًا في كل كيس ثلاثة آلاف دينار، وثلاثة وثلاثون كيسًا في كل كيس منها اثنا عشر ألف دينار، وثلاثمائة شمامة من العنبر إلى غير ذلك من الأمتعة والعود الخالص المختوم، وثمانية آلاف جمل، وألف بغل، وتسعمائة فرس وحصان لركوبه خاصة بسرج حرير، وما عدا الصيني والنحاس والبندق المجوهر والدروع والقامات والسناجق المذهبة وعدة «الشكار» مع طاساتها الذهب، وأشياء كثيرة لا يمكن حصرها.
وأمثال سنان كثير ممن جمعوا الأموال من دماء الأمة، ومنهم الوزير رستم الذي ولي الصدارة خمس عشرة مرة، وكان من وزراء سليمان القانوني، قال فيه مؤرخو الترك: إنه زاد في أموال الدولة وما قصر أن يغتني أيضًا، فكان يملك ٨١٥ مزرعة و٤٧٦ طاحونًا و١٧٠٠ مملوك و٢٩٠٠ حصان و١١٠٦ جمال، ومن الحلي والجواهر ما لا يُقدر بمال وبعضه مما قُدر بأحد عشر مليونًا وربع مليون دوكا ذهب، ومن النقد مليوني دوكا ذهب، عدا ما صرفه على الأعمال الخيرية من جوامع ومدارس عمرها في فروق وروسجق وحماة.