سياسة الرسول
كان أول الناس إسلامًا زوج الرسول خديجة بنت خويلد، وأبو بكر الصديق، وابن عمه علي
بن
أبي طالب وهو طفل، ومولاه زيد بن حارثة، وقضى نحو ثلاث سنين منذ نبوته وهو يعمل
مستخفيًا يجتمع إليه أصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم سابع سبعة في الإسلام، ودُعيت
هذه الدار دار الإسلام؛
١ لأن فيها دعا الرسول إلى التوحيد، ومنها خرج المسلمون لما أسلم عمر بن
الخطاب وكبروا وطافوا بالبيت ظاهرين.
وأخذ الرسول ينذر عشيرته الأقربين من بني هاشم وبني المطلب قائلًا: ما أعلم إنسانًا
في العرب جاءكم بأفضل مما جئتكم بخير الدنيا والآخرة،
٢ فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم
القوم، وقام بالأبطح من ضواحي مكة فقال: إني رسول الله أدعوكم إلى عبادة الله وحده،
وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت.
فاستهزأت به قريش، وقالوا لأبي طالب: إنَّ ابن أخيك قد عاب آلهتنا، وسفَّه أحلامنا،
وضلل أسلافنا، فليمسك عن ذلك، وليحكم في أموالنا بما يشاء، فقال الرسول: إنَّ الله لم
يبعثني لجمع الدنيا والرغبة فيها، وإنما بعثني لأبلغ عنه وأدل عليه، وقال: لو وضعوا
الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته.
وأخذ يوافي الموسم كل عام،
٣ ويتبع الحاج في منازلهم في المواسم، بعكاظ ومَجَنَّة وذي المجاز من أسواق
مكة وضواحيها، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدًا
ينصره ولا يجيبه، وإنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: أيها الناس قولوا
لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم العجم، وقال «بُعثت إلى الناس
كافة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا
لي فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا لي فإليَّ وحدي.»
كان أبو طالب عم الرسول يرعاه ويحميه من أذى قريش، وعمه أبو لهب يضطهده ويؤذيه
ويؤلِّب قريشًا عليه، وهلك أبو طالب، ثم زوج الرسول خديجة، فذهب النصير والعشير، وعظمت
عليه المصيبة بموتهما، ووصلت قريش من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه:
يهزءون بدعوته ويكذبونه، ويضعون الشوك في طريقه، ويحثون التراب على رأسه، ومنهم من يطرح
عليه أو في بُرمته
٤ رحم شاة، فيقف على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟
أغرت قريش سفهاءها به، ومن قبل النبوة كانت تدعوه الأمين لما رأت من أمانته ومروءته،
وصدق حديثه وحسن جوابه، ولطالما حكمته قبل مبعثه في معضلاته فحكم بالحق، وقد شهد حلف
الفضول على التآسي بين قريش وعدم التظالم، واشترك في حرب الفِجار، ورضي العشائر بحكمه
يوم اختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود إلى محله في الحرم، حتى قال قائل ممن حضر من قريش
—
وقريش كلها حضور — متعجبًا من فعلهم وانقيادهم
٥ إلى أصغرهم سنًّا وأقلهم مالًا، فجعلوه عليهم رئيسًا وحاكمًا: أما واللات
والعزى ليفوتنهم سبقًا، وليقسمن بينهم حظوظًا وحدودًا، وليكونن له بعد هذا اليوم شأن
ونبأ عظيم.
شق على قريش أن يقوم من بنيها من يزحزحها عن مألوفها من العبادات والعادات، لا يحفل
بما تواطأت على تعظيمه، ويأتي على نظامهم الاجتماعي الذي كان لا يفيد إلا الممولين والملآء،
٦ وكان يقهر الصعاليك والضعفاء، وكانت مكة في الجاهلية لا تدين
٧ لملك من الملوك، ولم يؤدِ أهلها إتاوة، ولا ملكهم ملك قط، تحج إلى مكة ملوك
حمير وكندة وغسان ولخم، فيدينون للحمس من قريش، ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم
مفروضًا، وكان أهلها آمنين يَغزون ولا يُغزون، ويَسبون ولا يُسبون، وأهلها حلفاء
متآلفون، ومتمسكون بكثير من شريعة إبراهيم، وهي توحيد
٨ الخالق، وملة الإسلام هي ملة إبراهيم نزل القرآن بتوكيدها، وجاء الإسلام
ليأتي على الشرك، ويخرج العرب من عبادة اللات والعزى ومناة وغيرها من أصنامهم إلى توحيد
الخالق تعالى.
ضاقت مكة بمن أجابوا الدعوة من المسلمين، ومنهم من ليس له عشيرة تحميه، فأمر الرسول
بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها نحو ثمانين رجلًا وثماني عشرة امرأة سوى
الأبناء، وسافر إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة، فعاد وقومه أشد مما كانوا عليه من
خلافه وفراق دينه إلا قليلًا مستضعفين،
٩ ممن آمن به، ورجع أصحابه إلى مكة من الهجرة الأولى فاشتد عليهم قومهم
١٠ وسطت بهم عشائرهم، ولقوهم أذى شديدًا، فأذن لهم الرسول في الخروج إلى أرض
الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الأولى أعظمهما مشقة، ولقوا من قريش تعنيفًا شديدًا،
وكبر عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره، وغضبوا على الرسول وأصحابه، وأجمعوا على
قتله، وكتبوا كتابًا على بني هاشم ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، وعلقوا
الصحيفة في جوف الكعبة، ثم حصروا بني هاشم في شعب أبي طالب، وانحاز بنو المطلب بن عبد
مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم
وبني المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى
بلغهم الجهد، وسمعت أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه،
ومكث الرسول في الشعب سنتين وقيل أكثر.
وكان من ضروب الأذى الذي تُلحقه قريش بالمستضعفين من المؤمنين، أن يلبسوا بعضهم أدراع
الحديد، ثم يصهرونهم في الشمس، أو يلصقون ظهورهم بالرَّصَف
١١ حتى يذهب لحم متنهم، ويجيعونهم ويعطشونهم حتى ما يقدر أحدهم أن يستوي
جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، ويقولون له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول:
نعم، حتى اضطر الرسول أن يحث المؤمنين ألا ينزلوا إلا مع المسلمين، لما كان يلحقهم من
أذى المشركين إذا جاوروهم؛ لأنهم لا عهد لهم.
كل هذا والرسول لا يفتأ يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويقف بمِنًى على منازل
القبائل من العرب
١٢ فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا
به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأوثان، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني، وما
كان يسمع بقادم يقدم من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له أو عرضه عليه ما عنده.
واهتدى به في بعض السنين ستة من الخزرج من أهل مدينة يثرب — وأهلها قبيلتان الأوس
والخزرج يجمعهم أب واحد وهم يمانيون — وبين القبيلتين حروب، وهم حلف قبيلتين من اليهود
يُقال لهما قريظة والنضير، فذهبوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، وجاءه
من قابل اثنا عشر رجلًا من أهل يثرب أيضًا، فأسلموا وبايعهم بيعة النساء، وبيعة النساء
ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، فعادوا إلى المدينة ينشرون
الدعوة المحمدية.
وما برح المؤمنون بالرسالة يكثرون سنة فسنة، حتى رأى الرسول في السنة الثالثة عشرة
من
مبعثه أن يهاجر إلى يثرب ليكون والمؤمنين به بمأمن من الأذى، وينفسح أمامه المجال لنشر
دعوته، وما إن علمت قريش أنه صار له أنصار وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، وأنَّ أصحابه
بمكة لحقوا به ونزلوا يثرب وأصابوا ممن آمن منعة، ورأوا «ظهور الرسول وعلو حقه» حتى
اجتمعوا في دار قصي بن كلاب، وهي دار ندوتهم
١٣ فأجمع رأيهم على أن «يأخذوا من كل قبيلة رجلًا يضربونه بسيوفهم ضربة رجل
واحد ليضيع دمه في القبائل.»
وجاء مدينة يثرب فآخى بين المهاجرين والأنصار،
١٤ آخى بينهم على الحق والمؤاساة، يتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام،
وكانوا تسعين وقيل مائة، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، وظلوا على هذه المؤاخاة
حتى نزلت في وقعة بدر آية
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ فنسخت هذه الآية ما كان قبلها،
وانقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه.
وكتب الرسول كتابًا في يثرب — وكانت أرض يثرب لليهود — بين المهاجرين والأنصار وبين
اليهود، أقر فيه اليهود على دينهم وأموالهم، وعاهدهم ووادعهم، واشترط عليهم وشرط لهم،
جاء فيه: أنَّ المؤمنين لا يتركون مفرحًا
١٥ بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء وعقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه،
وأنَّ المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد
بين المؤمنين، وأنَّ أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في
كافر، ولا يُنصر كافر على مؤمن، وأنَّ ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأنَّ
المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنَّ من اتبع المسلمين من يهود، فإن له النصرة
والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأنَّ سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون
مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأنَّ كل غازية غزت مع المسلمين
يعقب بعضها بعضًا، وأنَّ المؤمنين يبيء
١٦ بعضهم بعضًا بما نال دماءهم في سبيل الله، وأنَّ المؤمنين المتقين على أحسن
هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنَّ
من اعتبط
١٧ مؤمنًا قتلًا عن بينة، فإنه قود به إلى أن يرضي ولي المقتول، وأنَّ
المؤمنين عليه كافة، لا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنَّ اليهود يتفقون مع المؤمنين ما
داموا محاربين، وأنَّ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم،
فإنه لا يُؤتغ
١٨ إلا نفسه وأهل بيته، وأنَّ بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا
بإذن محمد، وأنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنَّ بينهم النصر على من دَهِمَ
يثرب، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم
الذي قبلهم، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد
بالمدينة آمن إلا من ظلم أو أثم.
وبهذا العهد مع أهل يثرب أمن المؤمنون على أنفسهم، واستعدوا لما يخبؤه المستقبل في
صدره من الحوادث والكوارث، وكان الرسول في مكة بالأمس داعيًا إلى دينه، يتلطف بنشره بين
المشركين، ويتحمل العَنَتَ والأذى، فلما غادر دار أهله وهي دار الشرك، إلى بلد بعيد وهي
دار النصرة، قلب لمن طال عداؤهم له ظهر المجن، وكان المكيون وهو بين أظهرهم يحاربونه
بأقوالهم وأفعالهم، وهو يسالمهم لا يريد منهم إلا القول بالتوحيد ونزع أوضار الشرك،
فأصبح بعد الجلاء عنهم إلى دار هجرته، قويًّا بنفسه وبمن معه، وأخذ يحاربهم بأقواله
وأفعاله.
•••
وكثرت هجرة المؤمنين إلى مدينة يثرب، وقوي المكيون المهاجرون بالأنصار المدنيين، وكان
«أول
١٩ ما بعث الله نبيه بالدعوة بعثه بغير قتال ولا جزية، فأقام على ذلك عشر سنين
بمكة بعد نبوته يؤمر بالكف عنهم، ثم أنزل الله عليه:
أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآية، وأمره بقتال من قاتله
والكف عمن لم يقاتله، وقال الله عز وجل:
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ
فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، ثم نزلت براءة لثماني سنين من الهجرة، فأمره بقتال
جميع من لم يسلم من العرب، من قاتله أو كف عنه، إلا من عاهده ولم ينتقض من عهده شيئًا
فقال:
فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
كانت
٢٠ الكفار بعد الهجرة مع النبي على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم على ألا يحاربوه
ولا يؤلبوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبني قينقاع، وقسم
حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش، وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من
العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه
ظاهرًا ومع عدوه باطنًا وهم المنافقون»، وهو يوادع ويتلطف وسياسته التي علمه إياها ربه:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.
وشرع الرسول في غزواته وسراياه، وأول غزواته غزوة ودان، وهي غزوة الأبواء، وتواترت
غزواته حتى بلغت إلى حين وفاته سبعًا وعشرين غزوة وسراياه، وبعثوه ثماني وثلاثين على
أرجح الأقوال، ومن غزواته أو سراياه ما كان يضرب فيه المكيين في تجارتهم بين الحجاز
والشام، يتسقط عير قريش إذا اجتازت بأرض المدينة، ذاهبة جائية بين دمشق ومكة، وقد وفق
في أكثر سراياه وغزواته؛ لأنه كان يعمل برأي من نجذتهم الحروب من أصحابه، وعُرفوا
بالشجاعة وحسن التدبير، وقد يعمل بما يذهب إليه أصحابه من رأي سديد، ولا يتمسك بما يراه
إذا ظهر له صواب ما اعترض عليه به، ويقول «الحرب خدعة»؛ أي إنَّ آخر مكايد الحرب القتال
بالسيف إذا كان بدؤها خدعة، وقد يحضر بعض الغزوات بنفسه واشترك في بضع منها، ووصل العدو
إليه مرة، وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته، وشج وجهه، وكَلِمت شفته، وانهزم
المسلمون يوم حنين، وكانوا أعجبوا بعديدهم فجاء التنزيل:
لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ، وكان الرسول
يفادي بالأسرى، ويرفق بهم، وإذا جاءه أهلهم ونساؤهم أو شفع فيهم أحد أصحابه، يخفف عنهم
أو يطلق سراحهم ولو كان لقي منهم شرًّا، وفادى بأسارى بدر على قدر أموالهم، وكان أهل
مكة
٢١ يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من
غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه.
قال الرسول يوم الحديبية، وقد قيل له إنَّ قريشًا قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ
المطافيل،
٢٢ قد لبسوا جلود النمور
٢٣ يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدًا، أي مكة: يا ويح
٢٤ قريش! قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم
أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا
قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى
يُظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.
٢٥
وفي هذه الغزوة صدته قريش عن زيارة البيت الحرام، فأرسل عثمان بن عفان لمفاوضة قريش
في مكة وبلغه أنه قُتل، فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا إلى البيعة، بيعة الرضوان،
فبايعه أصحابه تحت الشجرة، وهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلًا، بايعوه على الموت،
وقيل بايعهم على ألا يفروا من الزحف، ولم يتخلف عن بيعته أحد من المسلمين،
٢٦ وعادت هذه البيعة على الإسلام بالنصر المؤزر، وكُتب للمسلمين بعدها كل قوة
في الأرض العربية، وكان الرسول شعر بالضعف قبل حين، وهمَّ بمصالحة الأحزاب على ثلث تمر
المدينة.
وما كانت غزوات الرسول وسراياه إلا عن دواعٍ اضطرته إلى حرب المشركين، فسبب وقعة
الخندق أنَّ قريشًا كانت تبعث إلى اليهود وسائر القبائل يحرضونهم على قتال الرسول،
والسبب في وقعة حنين، وتُسمى غزوة هوازن ما بلغ الرسول بعد أن فتح مكة وأسلم عامة أهلها
أنَّ هوازن وثقيف جمعت فيها جمعًا كثيرًا، وقصدوا محاربة المسلمين، فخرج إليهم الرسول
من مكة في اثني عشر ألفًا، منهم الثلثان من أهل مكة وهم الطلقاء الذين خلى عنهم يوم فتح
مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، والسبب في غزوة غَطَفان إلى نجد أنه بلغ الرسول أنَّ جمعًا
من
بني ثعلبة ومحارب بذي الكنف أَمَر قد تجمعوا، يريدون أن يصيبوا من أطرافه، والداعي إلى
سرية أبي سلمة بن عبد الأسد إلى قطن ما بلغ النبي من أنَّ طُلَيحة وسلمة ومن أطاعهما
يدعونهم إلى حربه، وسرية المنذر بن عمرو إلى بئر معونة كان فيها سبعون، وقيل أربعون
رجلًا من المسلمين فيهم أشهر القراء والحفاظ أرسلهم مع عامر بن أبي براء ملاعب الأسنة
الكلابي؛ ليدعو أهل نجد إلى الإسلام، فخرج عليهم عامر بن الطفيل من بني عامر ورعل
وذكوان وعُصَيَّة، فقتلوا ولم يجد رسول الله على قتلى ما وجد على قتلى بئر
معونة.
وسبب سرية مرثد بن أبي مرثد أنَّ رهطًا من عضل والقارة سألوا النبي أن يرسل معهم
من
يعلمهم شرائع الإسلام، فلما كانوا بين عُسفان ومكة غدروا بهم فقتلوهم غير اثنين، ودعا
إلى غزوة دومة الجندل ما بلغه من أنَّ فيها جمعًا كثيرًا يظلمون من مرَّ بهم، ويريدون
أن يدنوا من المدينة، وسبب غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ما بلغه من أنَّ فيها
جمعًا يريد حرب الرسول بقيادة الحارث بن أبي ضرار، وسبب غزوة الغابة أنَّ جماعة استاقوا
غنمه وقتلوا ابن أبي ذر، وسرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك ما بلغه من
أنَّ لهم جمعًا يريدون أن يُمدوا يهود خيبر، وسرية عبد الله بن رواحة إلى أسيد بن زارم
اليهودي ما بلغه من أنه يجمع اليهود لحرب الرسول، والسبب في غزوة تبوك للطلب بدم جعفر
بن أبي طالب ما بلغه من الأنباط
٢٧ الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أنَّ الروم تجمعت مع هرقل، وكانت
نصارى العرب كتبت إلى هرقل أنَّ هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون
فهلكت أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفًا، وسرية زيد بن حارثة أنَّ
زيدًا هذا خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي فلما كان بوادي القرى لقيه
أناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، وسرية بني الرجيع
بعث الرسول ستة من أصحابه فغدروا بهم، فكان ذلك سبب غزوة بني لحيان، وكثير من غزواته
وسراياه كان الداعي إليها أنه دعا قومًا إلى الإسلام، فشاكسوه وقاوموه وامتهنوا ما
دعاهم إليه.
٢٨
وأخذ أمر المشركين يضعف ويتراجع، والمسلمون يقوون ويكثرون، والرسول يطلب من الناس
أن
يبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئًا،
٢٩ ولا يسرقوا ولا يزنوا، ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا
يقتلوا أولادهم، ولا يعصوه في معروف، والناس يبايعونه على السمع والطاعة في العسر
واليسر، والمنشط والمكره، على ألا ينازعوا الأمر أهله، وعلى أن يقولوا بالحق أينما
كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، وإذا بايعه الناس على السمع والطاعة يقول: فيما
استطعتم.
وبعد صلح الحديبية جاءه نساء مهاجرات من الكفار، فورد التنزيل:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن
لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا
يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ، فكان يأمر بامتحان النساء بالحلف، وأنهن ما خرجن
إلا رغبةً في الإسلام
٣٠ لا بغضًا لأزواجهن من الكفار، ولا عشقًا لرجال من المسلمين، ومعنى لا يأتين
ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن؛ أي بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، فإن الأم إذا وضعت
الولد سقط بين يديها ورجليها، ومعنى لا يعصينك في معروف هو ما وافق طاعة الله كترك
النياحة، وتمزيق الثياب، وجز الشعور، وشق الجيب، وخمش الوجه إلى ما شاكل ذلك من أعمال
الجاهلية. وما جوز الرسول قتل النساء والولدان في الحرب، ولا قتل العسفاء ولا الوصفاء،
٣١ وأغضى عن المنافقين وأجرى عليهم
٣٢ حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر العدد، وأغضى عن القاعدين عن الحرب،
وهو أشد ما يكون حاجة إلى تكثير سواد من يقاتل معه.
وصالح الرسول قريشًا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، ثم انتقض هذا الصلح بعد مدة؛
لأن خزاعة كانت في عهد الرسول، وكنانة في عهد قريش، فأعانت قريش كنانة، فأرسلوا
مواليهم، فوثبوا على خزاعة، فقتلوا فيهم، فشكت خزاعة إليه.
فصحت نيته عندئذ على فتح مكة متحللًا من المعاهدة التي بينه وبينهم، وخفَّ يدوخها
في
عشرة آلاف من المؤمنين، فيهم الأنصار والمهاجرون وطوائف من العرب، فسقط
٣٣ في أيدي المشركين، وخافوا إذا ظهر عليهم أن يفنيهم على بكرة أبيهم، فما
رأوا منه وهو في موقف الغالب إلا العطف، وكل ما يحبب الإسلام إلى قلوبهم، وشمل أعاظم
قريش بإحسانه، وكف عن الأذى عندما أعطوا
٣٤ بأيديهم، وقال: ألا كل دم ومال ومأثرة في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي
هاتين، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج، فإنهما مردودان إلى أهلهما، ألا وإنَّ مكة محرمة
بحرمة الله، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وإنما حلت لي ساعة ثم أُغلقت، فهي
محرمة إلى يوم القيامة، لا يُختلى خلاها، ولا يُعضد شجرها،
٣٥ ولا يُنفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين،
٣٦ إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل، وقال من كان في بيته صنم فليكسره،
ودعا بالنساء فبايعنه، وأخذ عليهن العهد والميثاق، فإذا أقررن بألسنتهن قال: بايعتكن،
ولا يمس أيديهن، فجعل من النساء أدوات صالحة لنشر الإسلام، وكان بعضهن في الجاهلية
يصبغن ثيابهن بدم القتيل، ويأكلن كبده وقلبه.
قال ابن قيم الجوزية: لما خرج رسول الله من حصر العدو دخل في حصر النصر، فعبثت أيدي
سراياه بالنصر في الأطراف، فطار ذكره في الآفاق، فصار الخلق معه ثلاثة أقسام: مؤمن به،
ومسالم له، وخائف منه، دخل مكة دخولًا ما دخله أحد قبله ولا بعده، حوله المهاجرون
والأنصار لا يبين منهم إلا الحدق، دخل وذقنه تمس قربوس سرجه خضوعًا وذلًّا لمن ألبسه
ثوب هذا العز الذي رفعت إليه فيه الخليقة رءوسها، ومدت إليه الملوك أعناقها، فدخل مكة
مالكًا مؤيدًا منصورًا، وعلا كعب بلال فوق الكعبة بعد أن كان يُجر في الرمضاء على جمر
الفتنة، فنشر بزًّا طوى عن القوم من يوم قوله «أحد أحد»، ورفع صوته بالآذان، فأجابته
القبائل من كل ناحية، فأقبلوا يؤمون الصوت، فدخلوا في دين الله أفواجًا، وكانوا قبل ذلك
يأتون آحادًا، فلما جلس الرسول على منبر العز، وما نزل عنه قط، مدت الملوك أعناقها
بالخضوع إليه، فمنهم من سلم إليه مفاتيح البلاد، ومنهم من سأله الموادعة والصلح، ومنهم
من أقر بالجزية والصغار، ومنهم من أخذ في الجمع والتأهب للحرب.
بعث الرسول في سنة سبع كتبه ورسله إلى الملوك والأمراء من العرب والعجم يدعوهم إلى
الإسلام، وذلك لما تمت له الغلبة على قريش، ولم يبالِ سلطانهم، ولا استخذى
٣٧ في سبيل دعوته، وكان كل كتاب أرسله يختلف بألفاظه ومعناه واحد، فمن الملوك
من تلطف وهاداه ووالاه، ومنهم من أكبر هذه الجرأة منه ككسرى، فإنه مزَّق كتابه وأمر أحد
عماله في اليمن أن يأتي الحجاز ويستتيب الرسول أو يبعث إليه برأسه.
هذا والناس يدخلون في الدين أفواجًا، والقبائل تنزل على حكم الرسول وأصحابه، والوفود
تفد عليه من أقطار بلاد العرب، يدخل أهلها في طاعته، وتتخلى عن الشرك وتدين بالتوحيد،
وتؤدي الصدقات والأموال، ومنهم من ينضم إلى جيشه، ومنهم من يبقى في أرضه، وأهل الكتاب
يؤدون الجزي والعشور، ويسالمون الرسول لا يرجون غير رضاه، وفي كتبه إلى من رأى دعوتهم
إلى دينه من الملوك والأقيال والزعماء مثال من سياسته واستبطانه أحوال كل قطر ومصر، وهو
أبدًا في شغل شاغل من تأمير الأمراء، يوصيهم بتقوى الله
٣٨ وبمن معهم من المسلمين، ثم يقول: «اغزوا على اسم الله في سبيل الله، قاتلوا
من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت
عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكفَّ عنهم،
ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم إلى دار
المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة
والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل
منهم، فإن أبوا فاستعن بالله تعالى وقاتلهم، وإذا حصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم
ذمة الله وذمة نبيه فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك فإنكم إن تخفروا ذممكم، أهون من أن
تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل بل على حكمك، فإنك لا
تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا.»
ومن سياسة الرسول أن كان القريب والبعيد، والقوي والضعيف، في الحق سواء، ما هاب ملكًا
لملكه، ولا ذا سلطان لسلطانه، ولا صانع ذا مال لماله، يؤلف بين قلوب أهل الشرف، ويؤلف
أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم قومه، وهو أحلم الناس، يحب العفو والستر ويأمر بهما،
يخوض مع أصحابه إذا تحدثوا، فيذكرون الدنيا
٣٩ فيذكرها معهم، ويذكرون الآخرة فيذكرها معهم، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولا
ضرب امرأة ولا خادمًا قط، كان يبشر ولا ينفر، وييسر ولا يعسر، يعدل في الغضب والرضا،
ويعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، ويأمر أمراءه — أي عماله — أن يأذنوا للفقير قبل الغني،
وللوضيع قبل الشريف، وللمرأة قبل الرجل.
أشعر القلوب معنى المساواة والحرية، وإلغاء الطبقات التي كان من نظامها أن يستعبد
الشريف المشروف، والغالب المغلوب، استعبادًا دونه الرق، سرقت امرأة من بني مخزوم
٤٠ فأهم قريشًا شأنها، فقالوا من يكلم فيها رسول الله، فقالوا: ومن يجترئ عليه
إلا أسامة بن زيده حِبُّه، فكلمه أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام
فاختطب،
٤١ ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه،
وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت
يدها.
ومن خطبة أيام التشريق
٤٢ ألا لا تظالموا ثلاثًا، ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه،
ألا إنَّ كل دم ومال ومأثرة كانت في أيام الجاهلية تحت قدمي هذه، ألا وإنَّ أول دم وضع
دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، كان مسترضعًا في بني ليث فقتلته هذيل، ألا وإنَّ كل
ربا كان في الجاهلية موضوع، ألا وإنَّ الله تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس
وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.
وأوصى الرسول آخر أمره بالأنصار وأهل الذمة وبالنساء، وأذن في الناس في السنة التاسعة
أنه لا يحج بعد ذاك العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان،
٤٣ ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته، ولا عهد لمشرك ولا ذمة بعد
أربعة أشهر، ولم تمضِ سنة حتى دخلت العرب في الإسلام، وكانوا أكثر من مائة ألف وتعايروا
بالشرك بينهم والمقام عليه.
٤٤
•••
صورنا في الصفحة الماضية صورة من دعوة الرسول إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،
ومثلنا ما بلغ قومه من إيذائه وإيذاء أصحابه، إلى ما لم تكد نفس بشرية تتحمله، وها نحن
أولاء نرسل صورة أخرى تكذب أيضًا من تقولوا عليه، واتهموه بأنه ظلم من قاتلهم، ولطالما
رماه بذلك المتنطعون ليقولوا: إنَّ الإسلام ما قام إلا بالسيف، فقد رأينا عطف الرسول
على نصارى نجران، لما جاءه وفد منهم فيه عاقبهم وثمالهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم
٤٥ في ستين راكبًا فناقشوه وناقشهم، ثم ارتضوا بأداء الجزية فداموا بخير ما
حافظوا على عهدهم، وكذلك كان حال أهل دومة الجندل
٤٦ وأذرُح وهجر والبحرين وأَيلة من بلاد النصارى، فإنها كانت من أرض الصلح،
وأدت إلى الرسول الجزية، وعاشت مع المسلمين بسلام، ولم يقاتل بني قيس بن ثعلبة، وكانوا
نصارى وتركهم يلحقون باليمامة حتى أسلم الناس، فمنهم من أسلم، ومنهم من أقام على
نصرانيته. وقال الرسول من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا
بغير طيب نفسه فأنا حجيجه. وقال من قتل قتيلًا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة. وقال
من قتل نفسًا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها، وجعل دية المعاهد كدية
المسلم ألف
٤٧ دينار.
وعطف المسلمون على الروم لما غلبهم الفرس في أرض الجزيرة حتى فرح المشركون وشمتوا بالمسلمين،
٤٨ وقالوا أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أميون، فقد ظهر إخواننا المجوس
على إخوانكم فلنظهرن عليكم، فنزل قوله تعالى:
الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، ثم ظهرت الروم على فارس، والتقى الجيشان في
السنة السابعة من الالتقاء الأول، وغلب الروم الفرس فسُر المسلمون وصدق التنزيل.
٤٩
وفي السنة الأولى من الهجرة كانت واقعة ذي قار بين بكر بن وائل وبين الجيش الذي بعثه
إليهم الملك خسرو أبرويز، فهزمت العجم ومن كان معها من تغلب وطي وضبة وتميم والنمر
وبهراء وتنوخ وغيرهم من متنصرة العرب، ولما أتى بعض بكر بن وائل الموسم وقف عليهم النبي
وهو يعرض نفسه على القبائل، فوعدوه إن نصرهم الله على الأعاجم أن يؤمنوا به فدعا لهم
بالنصر، ولما حمي وطيس الحرب بينهم وبين جيوش كسرى قالوا عليكم بشعار التهامي، فنادوا
يا محمد يا محمد فهزموا عدوهم، فلما بلغه ظهورهم على الأعاجم، قال: هذا أول يوم انتصفت
فيه العرب من العجم.
٥٠
هكذا كانت عاطفة الرسول والمسلمين نحو النصارى، ومثل ذلك كانت عاطفته نحو اليهود،
٥١ ولولا ذلك ما عاهدهم ولا هاجر من بلده إلى بلدهم معتصمًا بالأوس والخزرج
حلفائهم، وبعد أن عاهدوه وشرطوا عليه واشترط عليهم خانوه وألبوا عليه الأحزاب — أي
قبائل العرب — وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فبنو قريظة نقضوا عهده وأعانوا
عليه في غزوة الخندق، وهي غزوة الأحزاب، فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه، فأمر بقتل
المقاتلين منهم، وسبي ذراريهم، واستفاءة
٥٢ أموالهم لمظاهرتهم المشركين على المسلمين، وبنو النضير امتنعوا منه
بحصونهم، فقطع نخلهم وشجرهم وأضرم النار عليهم، فصالحوه على أن يحقن لهم دماءهم ويسيرهم
إلى أذرعات في الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء على أن لهم ما أقلت الإبل ما
عدا الحلقة،
٥٣ ويهود خيبر طالوه وماكسوه،
٥٤ ثم صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرية على أن يجلوا ويخلوا بين المسلمين
وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزة إلا ما كان منها على الأجساد.
ثم قالوا له: إنَّ لنا بالعمارة والقيام على النخل علمًا فأقرنا فأقرهم، وساقاهم
على
النصف من ثمارهم، وبنو قينقاع نزلوا على حكمه فغنم أموالهم، وأخذ الخمس وهو أول خمس خمسه،
٥٥ وفرَّق أربعة الأخماس على أصحابه، وبنو المصطلق كان حكمهم حكم غيرهم، وفتح
وادي القرى وأخذ المسلمون أرضهم؛ لامتناعهم عن قبول الإسلام وقتالهم له، فما كان الرسول
هو الظالم لليهود، بل هم الذين ظلموا أنفسهم.
ومن اليهود من ألقى صخرة على الرسول يريد قتله ومن كان معه من أصحابه، وفي غزوة خيبر
أدخلت عليه السم في الطعام زينب بنت الحرث اليهودية، ومنهم من آذاه وآذى المسلمين ككعب
بن الأشرف الشاعر اليهودي هجاه وشبب بنساء المسلمين، وحرض عليهم وآذاهم فقتله، وعصماء
بنت مروان الشاعرة اليهودية كانت تعيب الإسلام وتؤذي النبي، وتحرض عليه وتهجوه، وأبو
عفك اليهودي يحرض على المسلمين، ويقول الشعر على الرسول، ولم يترك اليهود حيلة لإلقاء
الشقاق بين المسلمين، وبين المسلمين والمشركين إلا أتوها، وغاظهم تألف
٥٦ الأوس والخزرج فذكَّروهم يوم بعاث، وكان الظفر فيه للأوس في الجاهلية،
فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وتداعوا إلى السلاح، ولولا أن وعظهم الرسول وأبان لهم
أنَّ ذلك كيد من عدوهم لأفنى بعضهم بعضًا، وفي هذه المؤامرات نزلت آية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
كَافِرِينَ.
وبدأ بدومة الجندل فكانت أول غزواته للروم فيها وغزا تبوك، ثم أغزى بعض خاصته مؤتة
من
أرض الشام ذلك لما بلغه أنَّ الروم تجمع جموعها، تريد أن تغزو بلاد العرب بمن عندها من
متنصرة العرب وغيرهم، وكان شرحبيل بن عمرو الغساني من عمال الروم عرض للحرث بن نمير
الأسدي رسول الرسول إلى أمير بصرى يحمل كتابًا فقتله، ولم يُقتل للنبي رسول غيره فوجد
عليه وجدًا كثيرًا.
فلم يعمد الرسول إلى السيف إلا لما رأى الخطر يتحيفه من كل وجه، وما قال بالقوة إلا
لما استنفد عامة طرق الدعاية إلى دينه، وما غزا غزوة إلا عن سبب قوي دعاه إليها، ومن
المتعذر أن يحمي حمى الدين بغير حماية القائمين به، ولا يأمن المضعوف شر القوي إلا إذا
قوي مثله، ولن تكون الحجاز بمأمن من جيوش الروم وفارس، إذا لم تكن العرب ذات سطوة يُخشى
بأسها، ولا يكون محمد والمؤمنون به بمنجاة من مجاوريهم إذا لم يكونوا أبدًا على استعداد
لمقابلتهم بمثل سلاحهم.
قويت كلمة الإسلام وزاد كَلَب أعدائه، فأمر الرسول بقتال المشركين والكفار والمنافقين،
٥٧ وجاءت عدة آيات في قتالهم منها:
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ،
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ،
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ،
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَنتَهُونَ،
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ،
وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ،
انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ،
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا
يَفْقَهُونَ،
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ
وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
وكان من حرب الرسول للعرب فوائد أخرى، منها الضرب على أيدي من استنزفوا ثروة الجزيرة،
تُوزع أموالهم على العاملين من الناس، ويُعوض من مال من قاوموا الإسلام على المهاجرين،
الذين فقدوا بهجرتهم ما كانوا يملكونه في مكة من عروض التجارة والعقار والأرض، ويعتاض
الأنصار عما أنفقوه في إكرام إخوانهم المهاجرين إلى المدينة، فأعانت الحروب الأولى أهل
الإسلام على المضي في دعوتهم؛ ليتفرغوا بما تصل إليه أيديهم من المغانم والصدقات،
فيقووا على حرب من أفسدوا كيان الجزيرة بما استحلوا من ظلم أهلها، ومنهم من كانوا
يكرهون إماءهم على الزنا، ويضربون عليهم الضرائب فنزل قوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا
لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
ثم إنَّ العرب ذلوا زمنًا طويلًا لفارس والروم، وآن لهم بعد أن اعتزوا بالإسلام أن
يخرجوا من صحاريهم داعين لما تلقوه من آداب الدين، آخذين بحظ من الدنيا، ومن قبل كانت
تجارتهم مسارقة ومغامرة، تشتد حاجتهم إلى جيرانهم، وهؤلاء قلما يحتاجون إليهم، ويتطلبون
رضا من ينزلون عليهم، وهؤلاء لا يعبأون بهم كثيرًا، وكيف السبيل إلى الاستمتاع بالكرامة
والأمنة إذا فقدت القوة المادية، وكيف تؤمن الطرق إلى انتشار الدين إن لم تكن وراءها
قوة تحميها، وعَلَم يرفرف على دعاتها.
ولأحمد شوقي مخاطبًا الرسول في جهاده:
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا
لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة
فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
لما أتى لك عفوًا كل ذي حسب
تكفل السيف بالجهال والعُمَمِ
٥٨
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم
سل المسيحية الغرَّاء كم شربت
بالصاب من شهوات الظالم الغلم
٥٩
طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها
في كل حين قتالًا ساطع الحدم
٦٠
لولا حماة لها هبوا لنصرتها
بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم
٦١