سياسة الخلفاء الراشدين

سياسة أبي بكر الصديق

لحق الرسول بربه بعد أن دعا إليه ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين في المدينة، فعرت الصحابة دهشة عظيمة لوفاته، حتى إنَّ عمر نفسه قال يوم ارتحال النبي، ما مات محمد رسول الله وليبعثنه الله تعالى، فقال أبو بكر: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ. وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ، فنفخ الصديق في قلوب أصحابه روح الصبر، وأنقذهم بما ذكرهم به من الجزع، وأرشدهم إلى ما كانوا غفلوا عنه، من أن دعوتهم إلى الله وشرعه وتوحيده، وأنَّ صاحب هذا الشرع كان بشيرًا ونذيرًا وبشرًا رسولًا، إذا قضى فإن شرعه لن يموت، وأنَّ الواجب أن يعملوا كلهم جميعًا لإتمام مقصده الأعلى.

وكان لزامًا بعد وفاة الشارع أن يبايع لأعظم رجل من أصحابه، يتولى من أمر الأمة ما تولاه رسولها منه، لتظل الدعوة مستحكمة، والألفة بين المؤمنين شائعة، ويكمل هذا الصرح الديني الذي أسسه صاحبه العظيم لسلامة الخلق، وليس أفضل من أبي بكر لإتمام هذا الغرض، وهو شيخ قريش بسِنِّه وفضله وحسن بلائه، وهو أعرف الصحابة بمقاصد صاحب الرسالة لطول ملابسته له؛ ولأن الرسول لما مرض مرضته التي توفي بها، قال لمن حضره غيره مرة: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، وإنَّ تفضيله له على غيره دليل ثقته به.

اجتمع الناس غداة ارتحال الرسول في سقيفة بني ساعدة برياسة سيد الخزرج سعد بن عبادة، فأذعنت الأنصار لبيعته، وقال المهاجرون١ الأئمة من قريش، وطال الحوار فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وكان شاهد هذه المحاورة أبو بكر وعمر، وكان عمر هيَّأ كلامًا يريد أن يقوله فانقطع، وتقدم أبو بكر فخطب وقال: «نحن المهاجرون أول الناس إسلامًا والناس لنا تبع، ونحن عشيرة رسول الله، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابًا، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة، وأنتم والله الذين آووا ونصروا، وأنتم وزراؤنا في الدين ووزراء رسول الله، وأنتم إخواننا في كتاب الله تعالى، وشركاؤنا في دين الله — عز وجل — وفيما كنا فيه من سراء وضراء، والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه.» ودعاهم إلى مبايعة أبي عبيدة بن الجراح أو عمر بن الخطاب، فقال عمر وأبو عبيدة ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق بهذا الأمر، وطالت مرادات المؤتمرين من زعماء الأنصار والمهاجرين، ثم قام أبو بكر يدعوهم إلى الجماعة وينهاهم عن الفُرقة، وقال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عبيدة وعمر، فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا، أنت أقدمنا صحبةً لرسول الله، وأنت أفضل المهاجرين وثاني اثنين، وخليفته على الصلاة، والصلاة أفضل دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، ويتولى هذا الأمر عليك، ابسط يدك أبايعك فبايعوه، ومن الغد بويع مبايعة عامة في المسجد، ولم يتخلف عن بيعته سوى علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وسعد بن عبادة، وقعد علي والعباس والزبير في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيتها، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم النار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطاب جئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وحرص عمر كل الحرص على أخذ البيعة من علي لأبي بكر؛ لأن عليًّا أحد العشرة المبشرة، وما عبأ كثيرًا بتخلف سعد عن البيعة، وبايع بنو هاشم بأجمعهم.

وأقام أبو بكر بعد البيعة ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقيلهم ويقول: قد أقلتكم في بيعتي هذه، هل من كاره، هل من مبغض؟ وخطب القوم ومما قال: وايم الله ما حرصت عليها — أي الخلافة — ليلًا ولا نهارًا، ولا سألتها الله قط في سر ولا علانية، ولقد قُلدت أمرًا عظيمًا ما لي به طاقة ولا يد، وودت أني وجدت أقوى الناس عليه مكاني، فأطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم.

وأنكرت فاطمة ابنة الرسول وزوج علي بن أبي طالب حرمان زوجها الخلافة، ومنزلتها ومنزلة زوجها منزلتهما، فاستأذن أبو بكر وعمر عليهما فلم تأذن،٢ فأدخلهما عليٌّ عليها، فقالت: تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمروا ولم تردوا لنا حقًّا، فحاوراها فما زادت إلا غضبًا، وقالت: لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه، وقالت لأبي بكر: لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها، فخرج أبو بكر باكيًا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقًا حليلته مسرورًا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي، قالوا: يا خليفة رسول الله، إنَّ هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك، وما أخافه من رخاوة هذه العروة، ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعد ما سمعت٣ ورأيت من فاطمة.
وقال أبو بكر لعلي:٤ «والله لقد سألت رسول الله عن هذا الأمر فقال لي: يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش٥ عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يشمخ إليه، وهو لمن يُقال له هو لك، لا لمن يقول هو لي، والله لقد شاورني رسول الله في الصهر، فذكر فتيانًا من قريش، فقلت له: أين أنت من علي فقال: إني لأكره لفاطمة ميعة٦ شبابه وحداثة سنه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك حوجاء ولا لوجاء،٧ فقلت ما قلت، وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت لك إذ ذاك خيرًا منك الآن لي، ولئن عرض بك رسول الله في هذا الأمر، فلم يكن معرضًا عن غيرك، وإن قال فيك فما سكت عن سواك.»
وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح، وليس ثمة ما يمنع من صحتها؛ لأن معناها تدل عليه الظواهر والوقائع، فقد ثبت أنَّ عليًّا كان له وجه عند الناس حياة فاطمة،٨ فلما ماتت لخمس وسبعين ليلة من وفاة أبيها، انصرفت وجوه الناس عنه، فعندها ضرع زوجها إلى مصالحة أبي بكر، وقال له: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إليك من فضل وخير، ولكنا نرى أنَّ لنا في هذا الأمر شيئًا، فاستبددت به دوننا وما ننكر فضلك، وقالوا: إنَّ مما قاله أبو عبيدة لعلي: يا ابن عم٩ إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالًا واضطلاعًا، فسلم لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء، فأنت بهذا الأمر خليق وحقيق، في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.
وبديهي أنَّ الصحابة بأسرهم كانوا يحرصون على الجماعة، كما كانوا كلمة واحدة في نصرة الدين، ومثل علي بعقله وعلمه وتقواه لا تحدثه نفسه أن يسير على غير الجادة، بعد أن شاهد الإجماع على مبايعة أبي بكر، فراعى الأمر الواقع، ورأى الخير فيما تم، والسياسة مصلحة، وأكفأ الصحابة لها أبو بكر، وبهذا الإجماع من أهل الحل والعقد وعِلْية الصحابة، ممن مات رسول الله وهو عنهم راضٍ، وكانوا السابقين الأولين إلى هدايته، ثبت أنَّ الرسول لم يوصِ لأحد بعده، وليس في القرآن إشارة إلى استحقاق الخلافة بالإرث، بل ولا للخلافة بالمعنى الذي عرفه الناس بعد، ولو كان هناك شيء لما وسع الصحابة، على منزلة الصديق منهم أن يبايعوه، ويغفلوا عن علي، ويتركوا وصية الرسول جانبًا، وهناك أمور أدركها الصحابة بالبداهة، منها تقديم أبي بكر للصلاة؛ لأنه حِبُّ الرسول وصاحبه الأكبر، وعطفه عليه ظاهر، وثقته به لا تدفع، وأدركوا أنَّ الخلافة لعامة قريش،١٠ وأنَّ الرسول لم يخص بها أهل بيته ولا بني هاشم، حتى لا يتخيل الناس أنه ملك متوارث، «وإذا كان١١ جعفر أفضل بني هاشم بعد علي في حياته، ثم مع هذا أمَّر النبي زيد بن حارثة وهو من بني كلب عليه، علم أنَّ التقدم بفضيلة الإيمان والتقوى، وبحسب أمور أخرى، وبحسب المصلحة لا النسب، ولهذا قدم النبي أبا بكر وعمر على أقاربه؛ لأنه رسول الله، يأمر بأمر الله، وليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم، وكذلك كان أبو بكر وعمر، حتى قال عمر: من أمَّر رجلًا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرًا منه، فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين.»

قال زيد بن علي: إنَّ الخلافة فُوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبًا، وسيف أمير المؤمنين — عليه السلام — من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا الرقاب تنقاد له كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوه باللين والتودد والتقدم بالسن، والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله.

وقال أبو بكر للعباس: إنَّ الرسول خلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم متفقين لا مختلفين، فاختاروني عليهم واليًا، ولأمورهم راعيًا، وخرج أبو بكر إلى المسجد، فأقبل على الناس فقام علي فعظم حق أبي بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى فبايعه فأقبل الناس على علي فقالوا: أصبت يا أبا الحسن وأحسنت، يقول المسعودي:١٢ إنه تنوزع في بيعة علي بن أبي طالب أبا بكر، فمنهم من قال بعد موت فاطمة بعشرة أيام، وذلك بعد وفاة رسول الله بنيف وسبعين يومًا، وقيل بثلاثة أشهر، وقيل ستة، وقيل غير ذلك.
أما سعد بن عبادة الذي بايعه قومه أو كادوا بالخلافة في سقيفة بني ساعدة قبل أن يشهدها أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فقد بطلت بيعته بإجماع الناس على أبي بكر، وقال: لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي،١٣ وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي، فتُرك وشأنه لم يعرض له أحد بسوء، وكان سعد يدعو «اللهم هب لي حمدًا، وهب لي مجدًا.» وكان من أجواد الناس وأصحاب الجاه العريض والوفر المأثور، سمع عمر بعضهم يقول: إنَّ بيعة أبي بكر فلتة فتمت، فغضب عمر وخطب فيما جرى يوم السقيفة فقال: خشينا١٤ إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة، أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغِرةَ أن يُقتلا.١٥
والحق إنَّ الخير كل الخير كان في الإسراع ببيعة أبي بكر، وفي حرض أبي بكر وعمر على أن تكون بيعة عامة لا يفلت منها من كان له مكانة في الصحابة؛ وذلك لأن عقلاء القوم كانوا يتخوفون العرب، والجزيرة لم تصف كلها بالإسلام صفاء يُركن إليه، وارتد أكثر العرب عقبى وفاة الرسول١٦ إلا أهل المدينة ومكة والطائف، وحاول بعض أهل مكة أن يرتدوا، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم، فاجتمعوا إليه فقال: يا أهل مكة، كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد، والله ليتمن هذا الأمر كما قال رسول الله، فامتنع أهل مكة من الردة، وسهيل بن عمرو، هذا هو أخو عامر بن لؤي الذي تولى عقد الصلح عن قريش عشر سنين، وأبى على الرسول أن يكتب في العهد «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله»، فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، اكتب اسمك واسم أبيك، فقبل الرسول هذا التحكم على مضض ممن كان شاهد ذلك من الصحابة.
بعد استخلاف أبي بكر١٧ بعشرة أيام، امتنعت بعض قبائل العرب من أداء الزكاة، فمنعت شاتها وبعيرها وارتضوا بالصلاة، ولما كانت الزكاة من دعائم الإسلام، رأى أبو بكر أنَّ الممتنع عن أدائها مرتد، ومن أنكر بعضًا قد يبلغ به الحال أن ينكر أكثر من ذلك، واستشار أبو بكر الصحابة، فأجمع رأيهم١٨ كلهم أن يلزم أبو بكر بيته ومسجده؛ إذ لا طاقة له بقتال العرب، فقال أبو بكر: أإن كثر أعداؤكم وقل عددكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرنَّ الله هذا الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الحق، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،١٩ وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، والله أيها الناس لو أُفردت من جميعكم لجاهدتهم في الله حق جهاده، حتى أبلى بنفسي عذرًا أو أُقتل قتلًا، والله أيها الناس لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، واستعنت الله وهو خير معين، وعلى هذا جاهد حتى أذعنت العرب بالحق.

استبد الصديق برأيه في دفع هذه الغائلة، وأبى إلا قتال المرتدين والمتنبئين، فكان رأيه مسددًا دون سائر إخوانه، وأثبت للملأ أنه خير من يجمع كلمة المسلمين، بما أُوتي من نفس قوية وصبر، وعلم محكم بأفضل التجارب، فلم يترك بشدته على أهل الردة، والكذبة من متنبئة العرب، مجالًا لتسرب الضعف إلى نفوس المسلمين، وذهب وهو رجل الحرب والسلم، بهذه المفخرة من قتال النازلين على الدولة الفتية والدين الجديد، فعُد رجل البأس والدهاء السياسي، كما هو رجل الرحمة واللين، لم يتلكأ عن مباغتة المرتدين ومناجزتهم قبل أن يأخذوا عدتهم، وينشروا بين الناس دعوتهم، فكان عمله كله الحكمة وبها قام الإسلام.

كتب أبو بكر لأمرائه الذين وجههم لقتال أهل الردة ما نسخته: هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله لفلان، بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، عهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وجهره، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر٢٠ إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، ولا ينظرهم، ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله — عز وجل — وأقر له، قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يجب إلى داعية الله قتل وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه،٢١ لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر به قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه قتل فيه كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله إلا الخمس فإنه مبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألَّا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لئلا يكونوا عيونًا، ولئلا يؤتى المسلمون من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول. ا.ﻫ.
ومن وصايا الصديق ليزيد بن أبي سفيان لما أرسله إلى الشام «إذا دخلت بلاد العدو فكن بعيدًا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد وسر بالأدلَّاء ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيان فإن في العرب غرة،٢٢ واقلل الكلام فإن لك ما وعى عنك، وإذا أتاك كتابي فأنفذه، فإنما أعمل على حسب إنفاذه، وإذا قدمت عليك وفود العجم فأنزلهم معظم عسكرك وأسبغ عليهم النفقة، وامنع الناس عن محادثتهم ليخرجوا جاهلين كما دخلوا جاهلين، ولا تلحَّنَّ في عقوبة فإن أدناها وجع، ولا تسرعن إليها وأنت تكتفي بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكِلهم إلى الله في سرائرهم، ولا تجسس عسكرك فتفضحه، ولا تهمله فتفسده.» وفي رواية أنه قال ذلك لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة.

مثال من منهاج الصديق في محاربة الناشزين على دينه، وهو لم يخرج في مدته القصيرة التي ولي فيها الخلافة عن الخطة التي رسمها الرسول، قضى على المرتدين والمتنبئين، وما سها عن التوسع في الفتوح، وبسط سلطان الإسلام، وكانت حروب الردة من أول ما علم العرب أنَّ الانشقاق الداخلي مما يقوض دعائم الممالك، ويقصم عرا الوحدة في الأمم، وقُدر أن كانت هذه الغزوات بمثابة تمرين لرجال الإسلام على الحروب الكبرى، وفيها ظهرت لهم كفاءات غريبة ساعدتهم على الفتوح بعد حين، فدكوا عروش أمم تسلسل فيها الملك قرونًا، وعرفوا كيف يأخذون بمخنق الشعوب والقبائل.

أخذت العرب بعد ذلك تضيف إلى ما تعلمته من صاحب النبوة، ما هدتها إليه فطرتها السليمة، ولقنها إياه المحيط والبيئة، وأي سياسة أحكم مما قاله أبو بكر وهو يشيع يزيد بن أبي سفيان لفتح الشام يوصيه بما يجب عمله، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع مَن قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كلامهم، وإذا بلغتك عن عدوك عورة فاكتمها حتى توافيها، واستر في عسكرك الأخبار وأذك الحراس، وقال: إنك ستجد قومًا حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان، ثم قال إني موصيك بعشر: لا تغدر ولا تمثل، ولا تقتل هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلًا ولا تخربن عامرًا، ولا تغل ولا تجبن.

ومن خطب أبي بكر «إنكم اليوم على خلافة نبوة ومفرق محجة، وسترون بعدي مُلكًا٢٣ عضوضًا، وأمة شعاعًا، ودمًا مفاحًا، فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة، يعفو لها الأثر وتموت السنن، فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر.» كأن أبا بكر كان يستشعر ببصيرته على نحو ما يكشف السياسي المحنك، حجب الغيب أو يكاد، أنَّ الخلافة تنقلب إلى ملك عضوض لما يرى مما يجري في الخلفاء، ولما يبيت بعضهم من نيات تُراد الدنيا في تحقيقها أكثر من الأخرى.
وخطب يومًا أهل المدينة في يوم جمعة، وكان يبلغه عن قوم من أهلها أنهم ينالون من أصحاب الرسول، ويوافقهم آخرون على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس أن يقربوا من المنبر فلما فرغ من خطبة الجمعة كان مما قال: «ويحكم، إني لست أتاويًّا٢٤ أُعلَّم، ولا بدويًّا أفهم، قد حلبتكم أشطرًا، وقلبتكم أبطنًا وأظهرًا، فعرفت أنحاءكم وأهواءكم، وعلمت أنَّ قومًا أظهروا الإسلام بألسنتهم، وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله ببعض، وولدوا الروايات فيهم، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعوانًا يأذنون لهم ويصغون إليهم.»
ضبط أبو بكر الأمور بيد من حديد، ولم يترك في خلافته سبيلًا إلى الشهوات وخصوصًا ما أدى منها إلى الفرقة، وكان لا ينعم بشيء من مناعم الملك، بل هو في الزهد والتواضع والنسك على مثال صاحبه. رُؤي٢٥ يومًا في سوق من أسواق المدينة على كتفه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك، وقالوا له: قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار والعرب، قال: «أفأردتم مني أن أكون ملكًا جبارًا في الجاهلية جبارًا في الإسلام، لا والله لا تكون طاعة العرب إلا بالتواضع لله، والزهد في هذه الدنيا.» وتواضعت الملوك ومن ورد عليه من الوفود بعد التكبُّر، وقدم إليه زعماء العرب وأشرافها وملوك اليمن، وعليهم الحلل والحِبر والبرد، والوشى المثقل بالذهب والتيجان، فلما شاهدوا ما هو فيه من اللباس والزهد، وما هو عليه من الوقار والهيبة، ذهبوا مذهبه ونزعوا ما كان عليهم، وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذو الكلاع ملك حمير ومعه ألف عبد، دون من كان من عشيرته، وعليه التاج والبرود المغشاة بالذهب، فلما شاهد أبا بكر ألقى ما كان عليه وتزيا بزيه.
كان الصديق موضع إجلال، بكل ما في الإجلال من المعاني، ما خرج إنسان عن رضاه، وما جسر أحد أن يجهر بذات نفسه، وأي عاقل يجرؤ على الخلاف لمن كان جمهور المسلمين يعجبون بسيرته، وكان كل هذا من العوامل الفعالة في تطبيق مفاصل سياسته، وسر تغلبها أنه لم يكن له مأرب في شيء من أمر الدنيا، ولا أحب جلب النفع إلى ولده وأهله ومواليه وعشيرته دون سائر الناس، وعُرفت منزلة الصديق من نفوس قومه يوم قُبض، فارتجت المدينة بالبكاء كيوم قُبض النبي، وجاء عليٌّ باكيًا مسترجعًا وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى، فقال: يرحمك٢٦ الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه، ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته، كنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا وأشدهم يقينًا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناءً في دين الله، وأحوطهم على رسوله، وأحدبهم على الإسلام، وآمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبةً، وأكثرهم مناقب، وأفلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسوله هديًا وسمتًا، ورحمةً وفضلًا، وأشرفهم منزلةً، وأكرمهم عليه وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله خيرًا، كنت عنده بمنزلة السمع والبصر،٢٧ وصدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقًا، والذي جاء بالصدق — محمد — وصدق به — أبو بكر — وآسيته حين تخلوا عنه، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، نهضت حين وهَن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، لزمت منهاج رسول الله، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت إذا تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، كنت والله للدين يعسوبًا،٢٨ أولًا حين نفر عنه الناس، وآخرًا حين أقبلوا، فكنت للمؤمنين أبًا رحيمًا حين صاروا عليك عيالًا، فحملت أثقال ما ضعفوا عنه، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا، وكنت كما قال رسول الله آمن عليه في صحبتك وذات يدك، وكنت — كما قال — ضعيفًا في بدنك، قويًّا في أمر دينك، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، جليلًا في أعين المؤمنين، كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك ملمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لمخلوق عندك هواه، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، الغريب والبعيد عندك في ذلك سواء … فوالله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا، فألحقك الله بنبيه ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، وسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله.

سياسة عمر بن الخطاب

عقد أبو بكر عقد الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، وقد شاور فيه أصحابه من كبار رجال السياسة، وممن شاورهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: هو والله أفضل من رأيك فيه،٢٩ ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقًا، ولو أُفضي الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته٣٠ فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه، واشتد المرض بالصديق فأشرف على الناس وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا: سمعنا وأطعنا، وكتب إليه كتابًا هذا نصه:

هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول الله عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وفي الحال التي يُؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل، فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن جار وبدل، فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.

ودعا أبو بكر عمر٣١ فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج فرفع أبو بكر يديه، ثم قال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به، فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضرني فاخلفني فيهم فهم عبادك، ونواصيهم في يدك، وأصلح لهم واليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدي نبي الرحمة، وأصلح له رعيته.
ولم يخلُ استخلاف الصديق عمر من حديث بين من كانت أنفسهم تحدثهم بالخلافة بعده، قال أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف: «إني٣٢ وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم٣٣ أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد٣٤ الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذربي،٣٥ كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان.»٣٦ بيد أنَّ ما ظهر من غناء أبي بكر وحسن بلائه، ألجم الألسن فما استطاعت أن تغلظ، وكبح من جماح النفوس، فما استرسلت في تطلب ما تطال إليه، وكأن بني هاشم يئسوا من أن يستخلف سيدهم، بعد الذي كان من أبي بكر وعهده لابن الخطاب، وهم يعرفون منزلة الثاني من نفوس من تجردوا عن الغايات، ولا مصلحة لهم غير قيام أمر المسلمين، والسير في الطريق التي اختطها صاحب هذا الشرع، ورأى الصديق أنَّ عمر أقوى عليها، ولو كانت — كما قال علي بن أبي طالب — محاباة لآثر بها ولده، واستشار المسلمين في عمر، فمنهم من رضي ومنهم من كره، ومن كره أولًا رضي آخرًا.

كان أول منطق نطق به ابن الخطاب حين استخلف: «إنما مثل العرب مثل جمل أَنِف اتباع قائده، فلينظر قائده حيث يقود، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق.» ولما فرغ عمر من دفن أبي بكر نفض يده عن تراب قبره، ثم قام خطيبًا مكانه فقال: إنَّ الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن الجزاء والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسننَّ إليهم، ولئن أساءوا لأنكلنَّ بهم. قالوا فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا، وقال: اللهم إني شديد فليِّني، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخِّني.

فتح عمر «الفتوح العظام في كل بلد»، ومن فتوحه مصر والشام والعراق والجزيرة وإرمينية وفارس وخوزستان وأذربيجان والجبال وطرابلس مما لم يُفتح مثله على أحد قبله ولا بعده، وما طاش له سهم، ولا التوى له علم، يحرص على حياة المسلمين، ويولي جيوشه رجالًا من أهل الفقه والعلم. كتب إلى النعمان بن مقرن في نهاوند: «أما بعد، فإنه قد بلغني أنَّ جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله وبعون الله وبنصر الله، وبمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقهم فتنفرهم، ولا تدخلنهم غيضة، فإن رجلًا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار.» وكان إذا أتاه نعي أحد قواده وأصحابه بكى، ولو كان جاءته الأخبار مع قتلهم بفتح بلاد عظيمة.

وهدي عمر هدي صاحبيه، ولسانه لسانهما، قال لسلمة الأشجعي لما أرسله إلى الأكراد: «سر٣٧ باسم الله، قاتل في سبيل الله، من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين، فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم، فلهم مثل الذي لكم، وعليهم مثل الذي عليكم، فإن أبوا فادعوهم إلى الخراج، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإن الله ناصركم عليهم، فإن تحصنوا منكم في حصن، فسألوكم أن تنزلوا على حكم الله وحكم رسوله، فلا تنزلوهم على حكم الله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله وذمة رسوله، فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله، وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. ا.ﻫ.»

ارتضى بعمر أهل الحل والعقد من الصحابة ومنهم علي، لما كان من أعماله التي ابتهجت بها النفوس، وهو القائل ما أبالي إذا ما اختصم إليَّ رجلان لأيهما كان الحق، وهو القائل مضى لي صاحبان، عملا عملًا وسلكا طريقًا، وإني إن عملت بغير عملهما، سلك بي طريق غير طريقهما، وهو الذي قال فيه الرسول: لو كان بعدي نبي لكان عمر، وقال: إنَّ الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، وقال: أشد أمتي في أمر الله عمر، وقال فيه بعض واصفيه: إنه كان جوادًا بالحق بخيلًا بالباطل.

كانت كلمة عمر عالية في سياسته الخارجية والداخلية، مزق شمل المملكتين المجاورتين لبلاده، وعُقدت في ظبات٣٨ سيوفه آيات النصر المبين، وسر هذا التوفيق العظيم، بُعد نظره وقوة نفسه، والأخذ بمشورة أهل الرأي، وحسن اختياره العمال والرجال، والعمل بكل نافع، والانتفاع من كل قوة، وما طمعت نفسه في شيء من حطام الدنيا، فكان كصاحبيه يؤثر الخشونة٣٩ ويبتعد عن كل ترف، ويريد عماله أن يتبعوه في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه، مع هيبة رُزقها، وكذلك كان عماله مع ما فتح الله عليه من البلاد وأوسعهم من الأموال، كان عمر يلتف في كسائه٤٠ وينام في ناحية المسجد، فلما وُرِد بالهرمزان صاحب تستر جعلوا يسألون عنه فيُقال: مر ههنا آنفًا، فيصغر في قلب الهرمزان إذ رآه كبعض السوقة، حتى انتهى إليه وهو نائم في ناحية المسجد، فقال الهرمزان: هذا والله الملك الهنيء، يقول لا يحتاج إلى حراس وعدد، فلما جلس عمر امتلأ قلب العلج٤١ منه هيبة؛ لما رأى عنده من الجد والاجتهاد، وأُلبس من هيبة التقوى.
ولقد كان علي بن أبي طالب من جملة مجلس شورى عمر، شاوره مرة في غزو الروم بنفسه فقال له: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفة٤٢ دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث رجلًا محربًا،٤٣ واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن كانت الأخرى كنت ردءًا للناس ومثابة للمسلمين،٤٤ واستشار عليًّا أيضًا في الشخوص لقتال الفرس بنفسه،٤٥ فقال له: إنَّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، ومكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدًا، والعرب وإن كانوا قليلًا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبًا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا يقولوا هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين، فإن الله — سبحانه — هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره. ا.ﻫ. وهكذا كان عمر لم يحارب بنفسه في حروب الفتح وهو خليفة؛ وقلَّ أن اشترك في الغزوات في زمن الرسول.
سمع عمر مرة شيئًا في بيعة الصديق وهو في مكة، وأراد أن يخطب الناس، فقال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حتى تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يُطيرها أولئك عنك كل مطير،٤٦ وألا يَعوها، وألا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص٤٧ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكنًا، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، وكذلك فعل وعمل بنصيحة قارون هذه الأمة عبد الرحمن بن عوف كما عمل بنصيحة علي بن أبي طالب.

كان عمر لا يأخذه هوى في اختيار الأصلح لخدمة الدولة، وهو جد عارف بما في نفوس الناس، يضع الأشياء مواضعها ويقدرها بقدرها، قام في المسجد ذات يوم يدعو الناس إلى الجهاد ويحضهم عليه، وقال: إنكم قد أصبحتم في غير دار مقام بالحجاز، وقد فتح الله عليكم بلاد كسرى وقيصر، فسيروا إلى أرض فارس، فقام أبو عبيد بن مسعود فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أول من انتدبت من الناس، فلما انتُدب أبو عبيد انتدب الناس. وقيل لعمر أمِّر على الناس رجلًا من المهاجرين والأنصار، فقال لا أُأَمِّر عليهم إلا أول من انتُدب. وكان عمر أبدًا على يقين من الخفي والجلي مما يدور في القاصية والدانية، ملء القلب وملء السمع، وما شئت من دهاء واستماتة في إحكام عرا المسلمين، أُطلق عليه لقب أمير المؤمنين، وكان أول من لُقب به، وكان يُقال لأبي بكر — خليفة رسول الله — فلما ولِّي عمر أصبح من المتعذر أن يُقال يا خليفة خليفة رسول الله، فاكتفى بلفظ الخليفة أو أمير المؤمنين.

لما طُعن عمر بيد أبي لؤلؤة، وكان قتله نتيجة مؤامرة٤٨ دبرها له الهرمزان؛ لما كان يكنه من الحقد على العرب بعد أن ثلوا عرش فارس — كانت الخلافة أول ما فكر فيه عمر، ودمه يسيل، فاستدعى عبد الرحمن بن عوف٤٩ فقال له: إني أريد أن أعهد إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نعم إن أشرت عليَّ قبلت منك، قال: وما تريد، قال: أنشدك الله أتشير عليَّ بذلك، قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدًا، قال: فهب لي صمتًا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ، أدعُ لي عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا، قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثًا — وكان متغيبًا عن المدينة — فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم بينكم، وقال لعلي: أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا، ثم اقضوا أمركم، وليصلِّ بالناس صهيب، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري قبل أن يفارق الحياة بساعة، فقال: قم على بابهم في خمسين رجلًا من الأنصار، فلا تدع أحدًا يدخل إليهم حتى يختاروا رجلًا منهم، وقال أوصي الخليفة من بعدي بالعرب فإنها مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتها حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت، تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة.

وقيل لعمر لما طُعن يا أمير المؤمنين لو استخلفت، قال: من أستخلف لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيًّا استخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأمة، لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته، فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك يقول: إنَّ سالمًا شديد الحب لله، فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله، والله ما أردت بهذا خيرًا، ويحك كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته، لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًّا فقد صُرف عنا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويُسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافًا لا وزر ولا أجر إني لسعيد، انظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.

ترك عمر الأمر شورى بين ستة من كبار الصحابة، مات الرسول وهو عنهم راضٍ، وسمى علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ابني عبد مناف، والزبير بن العوام حواري رسول الله وابن عمته، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة الخير بن عبيد الله، ليختاروا منهم رجلًا، وقال لهم إذا ولوا واليًا أن يحسنوا موازرته ويعينوه إن ائتمن أحدًا منهم يؤدي إليه أمانته. وبدأت الشورى ثلاثة أيام وأراد أهلها ألا يأتين اليوم الرابع إلا وعليهم أمير منهم، وقال عمر للمقدار بن الأسود، قم على رءوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلًا وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلًا منهم، وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين أن يرغبوا عما اجتمع عليه الناس.

صورة غريبة من انتخاب الخليفة وضعها عمر على غير مثال، مثل كثير من أعماله في السياسة، وفيها إبداع وعبقرية، أوحتها إليه معرفته بمرامي كل واحد من هؤلاء العظماء، وهو يتخوف انحلال أمر الأمة إذا دب دبيب الحسد إلى الصدور، وتحركت الضغائن والسخائم،٥٠ وهو القائل: إنَّ هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها، واللين الذي لا وهن فيه، ويعرف أنَّ غير الشدة لا تفيد في هذه المواقف الخطيرة، قدموا للبيعة٥١ أكثرهم فضلًا وأكملهم شروطًا، فسارع الناس إلى طاعته، وأمنت غوائل الفتنة، على نحو ما كان سارع عمر إلى مبايعة أبي بكر يوم السقيفة، وأكره من تجافوا عن بيعته من الصحابة على البيعة باللين أولًا والشدة آخرًا، وكان عمل عمر هذا من أحكم ما عمل، لم يلقِ الحبل على الغارب، واجتهد في خير الأمة حيًّا، وما أراد أن يدعها فوضى بعد مماته.
وعرفنا مما تم من استخلاف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان أنَّ الخلافة عن الرسول ليست من معالم الدين،٥٢ ولا هي جارية مجرى العبادات الشرعية كالصلاة والصوم؛ بل أجروها مجرى الأمور الدنيوية مثل تأمير الأمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعية، وأنَّ الخلافة عن الرسول قد وسدت إلى واحد بعهد أو شبه عهده، ووسدت إلى آخر بعهد صريح وإلى آخر بالشورى بين أهل الحل والعقد، فجمع الإسلام النظام الجمهوري المقيد، والنظام الملكي المقيد، على ما تقضي به حالة الزمن ومصلحة الأمة، وكان في هذه السلطة الروحية الزمنية معًا لأول الأمر شيء من الاستبداد المعقول الذي ينظم أمر الجماعة، ويحمل الناس على الطاعة، وهي الطاعة لأولي الأمر — أي الأئمة المتأَمرين على الناس — المقصود بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ.
عن ابن عباس قال: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه٥٣ الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم، فلم يرعني إلا ورجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدًا أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن ليجعلك الله معهما؛ أي صاحبيك، ذلك أني كنت كثيرًا أسمع من رسول الله يقول: فذهبت أنا وأبو بكر٥٤ وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأظن أن يجعلك الله معهما. وقال علي:٥٥ «ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم خيرها بعد أبي بكر عمر، ثم يجعل الله الخير حيث أحب.»

سياسة عثمان بن عفان

انتخب مجلس شورى الخلافة عثمان بن عفان خليفة في مسجد الرسول وعلى منبره، على الطريقة التي رسم عمر واستأمر بعض أهل الشورى أرباب الرأي من الرؤساء سرًّا، فأشاروا بعثمان إلا قليلًا، وجعل الناس يبايعون الخليفة الجديد بعد أن بايع كبار الصحابة، وتلكأ علي عن البيعة، فقال عبد الرحمن بن عوف: فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: «خدعة وأيُّما خدعة.» وسار الخليفة الثالث بسيرة أبي بكر وعمر ست سنين، كان الناس خلالها راضين عنه، والفتوح كما كانت على عهد عمر متصلة، والأموال على المدينة دارة، ويده بالعطاء مبسوطة، يولي الولايات من يراهم أصلح الناس للعمل، ولما توسع بتوسيد العمالات إلى أهله من بني أمية، انطلقت الألسن فيه، وتحقق خوف عمر لما نصح له، ولعلي ألا يحملا أقاربهما٥٦ على رقاب الناس، إذا كان لهما من الأمر شيء، فوقع كلاهما في هذا الحرج فثارت النفوس، ووجد الطاعنون من عملهما بابًا يلجونه إلى اللغط والشغب، وعثمان بنى على٥٧ أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمع فيه بعض الطمع، ودخل بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أُنكرت عليه فتولد من رغبة الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة.
بدأت الفتنة من مصر بانتزاء محمد بن أبي حذيفة ابن خال معاوية بن أبي سفيان على عثمان، وكان عثمان كفله لما مات أبو حذيفة، وسار إلى مصر فصار من أشد الناس تأليبًا على عثمان، والسبب في ذلك على ما يظهر أنَّ عبد الله بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة، كان أمير مصر ولاية عثمان كلها، وكان محمودًا في ولايته،٥٨ موفقًا في غزواته، فتح إفريقية فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار، فماذا كان نصيب الأمير من هذا المال؟ لا جرم أنه شق الأمر على محمد بن أبي حذيفة وجماعة آخرين إن لم يكن لهم سهم كبير من هذه المغانم، وأنشأ ابن حذيفة هنا يكتب الكتب على ألسنة أزواج النبي ويقرؤها في المسجد، ويقوم القارئ بالكتاب، فيقول: إنا لنشكو إلى الله واليكم ما عُمل في الإسلام، وما صُنع في الإسلام، فيحرك ساكن النفوس بهذا، حتى أرسل المصريون بضع مئات من الجند إلى المدينة يشتركون في إحراج عثمان، وكذلك فعل أهل الكوفة والبصرة.
وقيل: إنَّ بعض الصحابة٥٩ كتب بعضهم إلى بعض أن يقدموا المدينة إن كانوا يريدون الجهاد، وكثر الناس على الخليفة، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد «وأصحاب رسول الله يرون ويسمعون ليس فيهم أحد ينهى ولا يذب» ما خلا نفرًا قليلًا، وكان عبد الله بن سبأ من اليهود أسلم زمن عثمان، وأخذ يتنقل في بلدان المسلمين الحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، ثم مصر، وهو يقول بالرجعة ويزعم أنَّ محمدًا يعود كعيسى إلى الأرض، وقال: إنَّ عليًّا هو وصي محمد، وقال من أظلم ممن لم ينجز وصية رسول الله، ووثب على وصي رسول الله وتناول أمر الأمة، وادعى أنَّ عثمان أخذها بغير حق، وأراد الناس على النهوض في هذا الأمر، وقال: ابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، فانتقم هذا اليهودي لقومه عما أصابهم في الحجاز في بدء الدعوة الإسلامية.
لما اشتدت الحال بعثمان، وأخذت الجموع تسير إلى المدينة كتب إلى الأمصار «رفع إليَّ أهل المدينة أنَّ أقوامًا يشتمون وآخرين يضربون، فيا من ضُرب سرًّا وشتم سرًّا، من ادعى شيئًا من ذلك فليوافِ الموسم، فلنأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا أنَّ الله يجزي المتصدقين.» وتآمر عثمان وبعض الصحابة على ما كان من الناقمين، فناقشوه وناقشهم، ومما قال له عمرو بن العاص: إنك لنت لهم وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك، فتشتد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إنَّ الشدة لا تنبغي لمن لا يألو الناس شرًّا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، ولما عاتبوه على بسط المال لآل بيته قال: «إنَّ صاحبيَّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما، ومن كان منهما بسبيل احتسابًا، وإنَّ رسول الله كان يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلة٦٠ وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال، لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أنَّ ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه، فأمري لأمركم تبع.» وقال في مجلس آخر: «إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنِّي لم أمل معهم على جور بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحلُّ أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة٦١ من صُلب مالي، أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا، وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلًا، فيجوز ذلك لمن قاله.»
ورد عليهم في كونه حمى حمى المدينة فقال: والله ما حميت إلا ما حُمي قبلي على عهد عمر لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى، وما لي من بعير غير راحلتين وما لي ثاغية ولا راغية،٦٢ وإني قد وليت وإني أكثر العرب بعيرًا وشاءً، ورد على من قال: إنه رد الحَكَم وهو طريد رسول الله، فقال: «إنَّ رسول الله سير الحكم، وهو مكي من مكة إلى الطائف ثم رده، فرسول الله سيره ورسول الله رده.» ورد على من قال: إنه استعمل الأحداث في الولايات، فقال: إنه لم يستعمل إلا محتملًا مرضيًا، وعليهم أن يسألوا أهل عملهم عنهم، ولقد ولَّى مَن قبله أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله أشد مما قيل له في استعماله أسامة.
ثم استمد عثمان أهل الأمصار وكتب إليهم يقول: وأُدخلت في الشورى على ملأ منهم ومن الناس، على غير طلب مني ومحبة، فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون تابعًا غير مستتبع، متبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف، فلما انتهت الأمور وانتكث٦٣ الشر بأهله، بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا تِرَة فيما مضى إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره، بغير حجة ولا عذر، فعابوا عليَّ أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها. ا.ﻫ.
ثم خطب وتاب مما فعل على المنبر، فحصبوه فأُغمي عليه وحُمل إلى داره لا يعي، وتقاذفته العوامل، فمروان بن الحكم المتسلط عليه يؤنب الناس ويشتد عليهم، ويقول لجيوش الأمصار: «جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم، ولا تحمدوا غب٦٤ رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا.» ونائلة امرأة عثمان تتدخل في الأمر، وعلي ينصح لعثمان فلا يسمع له حتى نفض يده منه.
والواقع أن بسط عثمان الأموال لذوي قرباه أو إرجاعه الحَكَم طريد الرسول، أو تعديه حمى المدينة، أو استعماله الأحداث من آله، كل هذا لا يتألف منه جرم، يستوجب هذا التأليب عليه، أو يبرر إطالة الأيدي بأذاه، ولكن الكتاب الذي وجده محمد بن أبي بكر في رحل عبد من عبيد عثمان على مقربة من المدينة، وفيه خاتم عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح والي مصر، هو الذي كان العامل الأكبر والحجة القاطعة في الانحراف عنه، وفي هذا الكتاب «إذا جاءك محمد بن أبي بكر ومن معه بأنك معزول فلا تقبل واحتل له بقتلهم، وأبطل كتابهم وقر في عملك.» فرجع محمد بن أبي بكر وأصحابه وجمعوا الصحابة ووقفوهم على الكتاب، وسألوا عثمان عن ذلك فاعترف بالختم وخط كاتبه، وحلف بالله أنه لم يأمر بذلك، فطلبوا منه مروان ليسلمه إليهم فامتنع، فازداد حنق الناس، حتى قُتل شهيدًا مظلومًا، وفتق بمقتله على المسلمين «فتق لا يرتقه جبل»، ودافع عنه علي بن أبي طالب وأقام ابنه الحسن لذلك حتى خرج هذا مصبغًا بالدم، وأقام الزبير ابنه عبد الله، وطلحة ابنه محمدًا يذبان عنه، فلم يغنوا عنه شيئًا مع الألوف الهائجة التي جاءت من مصر والكوفة والبصرة إلى المدينة وانضموا إلى الثائرين من أهلها، «وكانوا٦٥ يدًا واحدة في الشر، وكان حثالة من الناس قد ضَووا إليهم، وقد مرجت عهودهم وأماناتهم، وكان أصحاب النبي الذين خذلوه كرهوا الفتنة، وظنوا أنَّ الأمر لا يبلغ قتله، فندموا على ما صنعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوههم التراب لانصرفوا خاسرين.»

كانت هذه الفاجعة مبعث كل فتنة في الأمة، أدى إليها حب الولايات والشغف بالأموال التي كثرت في أيام عثمان، فكان يفيض منها على من يستحقها، وقد لاموه على استعمال ابن خاله عبد الله بن عامر فاتح خراسان وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان، وآخذوه على استعمال أخيه من الرضاع عبد الله بن أبي سرح فاتح طرابلس، وإفريقية الذي قضى على جيش الروم وقتل الملك جرجيره، وفي أيام عثمان فُتحت أذربيجان وأرجان واصطخر وأصبهان وطبرستان وخراسان والجوزجان ونيسابور وطوس وسرخس ومرو وهراة وفرياب وبلخ وخوارزم والجبال، وقُتل بخراسان يزدجرد آخر ملوك الأكاسرة، وفي أيامه فُتحت جزيرة قبرص وغيرها من جُزر البحر الرومي، واستصفيت بعض الحبشة إلى غير ذلك من فتوحاته التي استعمل فيها رجالًا عظامًا وضع ثقته بهم، وكانوا عند حسن ظنه بما أبلوه من خدمة الإسلام والمسلمين.

ومن أهم المسائل التي صرفت الوجوه عنه وألَّبت المغيظين المحنقين عليه، أمره بضرب عمار بن ياسر — أحد كبار الصحابة — لما جاءه يحمل إليه كتابًا من بعض أصحاب النبي،٦٦ ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان سنة الرسول من تطاوله في البنيان، وإفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية، وما كان من الوليد بن عقبة أمير الكوفة الذي صلى بالمسلمين وهو سكران (جلده ثمانين على شرب الخمر)، وما كان من تركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم، وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على قوم بالمدينة، ليست لهم صحبة من النبي، ثم لا يغزون ولا يذبون، وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط، وأنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس، وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران. وعمار لا يضرب حتى يفتق بطنه ويُغشى عليه ويُطرح على باب الدار، فيغضب لما حل به بنو المغيرة وكان حليفهم، بل يغضب السواد الأعظم من الصحابة لما حل به، وكان من النقباء في مجلس الرسول، ومناقبه كثيرة في الإسلام، فكان بما جرى عليه من أعظم من ألَّب على عثمان، وخدم عليًّا ضروب الخدم، حتى قُتل في صفين.

سياسة علي بن أبي طالب

بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان، قيل جاءه طلحة والزبير وسألاه البيعة له فقال: لا حاجة لي في أمركم، من اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مرارًا وقالوا: إنا لا نعلم أحدًا أحق بالأمر منك، ولا أقدم منك سابقة، ولا أقرب من رسول الله، فقال:٦٧ دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنَّ الآفاق قد غامت،٦٨ والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا، وبعد هذا التمنع قصدوه في المسجد فبايعوه وبايعته الأنصار، إلا حسان٦٩ بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبا سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، ومحمد بن مسلمة، وفضالة بن عبيد، وزيد بن ثابت، قيل: إنَّ عثمان كان ولاهم على الصدقات وغيرها، وكذلك لم يبايع عليًّا سعيد بن زيد، وعبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة، وسُمِّيَ هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي، وسار النعمان بن بشير إلى الشام بقميص عثمان الملطخ بالدم، فأخذ معاوية بن أبي سفيان أمير الشام يعلقه على المنبر، يحرِّض أهل الشام على المطالبة بدم عثمان، ثم على قتال علي؛ لأنه لم يقتل قتلة عثمان.
وطلب علي من معاوية البيعة له فأبى إلا أن يسلم إليه قتلة عثمان أولًا، وكتب إلى علي يقول: «لو بايعك القوم الذين بايعوك، وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان — رحمة الله عليهم — ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين، وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك، حتى تدفع إليهم قَتَلة عثمان، فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين.» فأجابه علي: «لعمري، ما كنت إلا رجلًا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى.» على أنَّ معاوية ما كان بالذي٧٠ ينكر فضل علي واستحقاقه الخلافة، لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القَوَد من قتلة عثمان على البيعة أولًا، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان، والكلام فيه عن ولد عثمان دون الحكم بن أبي العاص لسنه وقوته على الطلب بذلك، ولمكان قرابته من عثمان، فهو المطالب ضمنًا بالأخذ بثأره.
بعث معاوية بكتاب مع أبي مسلم الخولاني٧١ إلى علي بن أبي طالب جاء فيه: وأخرى أنت بها ظنين إيواؤك قتلته — قتلة عثمان — فهم عضدك ويدك وأنصارك وبطانتك، فلما وقع الكتاب إليه أراده على أن يجيئه من الغد، فدخل عليه أبو مسلم وهو في المسجد؛ فإذا بزهاء عشرة آلاف رجل قد لبسوا السلاح، وهم ينادون كلنا قتلة عثمان، فقال أبو مسلم لعلي إني لأرى قومًا ما لك معهم أمر، وأحسب أنه بلغهم الذي قدمت له ففعلوا ذلك خوفًا من أن تدفعهم إليَّ.
والواقع أنَّ قتلة عثمان كانوا من أكثر القبائل، اختلطوا بعشائرهم وعشائرهم أكثر أتباع علي، وما خالف علي٧٢ في البراءة من قتلة عثمان، ولكنهم كانوا عددًا ضخمًا لا طاقة له عليهم، ومن المتعذر عليه أن يسلمهم أو بعضهم وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم، ومسألة وقعت على غير رضاه، ليس من مصلحته أيضًا أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم، أما هو فكما رُوي عنه أنه قال: والله٧٣ لو شاءت بنو أمية لأتيتهم بخمسين غلامًا من بني هاشم يحلفون بالله ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه.

كان في نفس عائشة أم المؤمنين شيء من علي لما جرى حديث رميها بالإفك في حياة الرسول، وبرأها القرآن مما قُذفت به في عدة آيات، ولما كان ما كان من مقتل عثمان كانت في مقدمة من حنق لمقتله، وقامت لسد الفتق الحادث في الإسلام تطالب بدم الشهيد العظيم، وهي تعرف منزلته من الرسول، وبلاءه في خدة الأمة، وتعرف المتآمرين على قتله، ومن غضوا الطرف عنهم طوعًا أو كرهًا، ورأت ومن معها من الصحابة، ومنهم طلحة والزبير ورهط من بني أمية أهل عصبية عثمان، أن يقصدوا إلى البصرة في الجموع العظيمة التي تبعتهم يطالبون بدم عثمان، وقالوا معاوية بالشام يكفينا أمرها، وجمع عليٌّ أربعة آلاف رجل، فيهم جلة من الصحابة، ومنهم أربعمائة ممن بايع تحت الشجرة وثمانمائة من الأنصار، فالتقى الجيشان وعائشة في هودج على جمل، فتمت الهزيمة على أصحاب الجمل، وقُتل طلحة والزبير، فكانت عدة القتلى من الفريقين نحو عشرة آلاف، وهذه أول مرة التقى فيها المسلم بالمسلم بالسلاح، مقدمة مشئومة استفتحت بها خلافة علي.

فرغ علي من حرب الجمل، فانتظم له أمر العراق ومصر واليمن والبحرين وعمان واليمامة وفارس والجبل وخراسان والحرمين، ولكن معاوية في الشام والجزيرة وثغورهما لم يبايع ولم يشايع، بل يطالب بدم عثمان بكل ما لديه من حيلة، وأهل الشام بايعوه على المطالبة بذلك، يقاتلون معه حيث أراد من أراد. واتفق معاوية مع عمرو بن العاص على أن يسيرا يدًا واحدة في المطالبة بدم عثمان، وكتبا بينهما كتابًا ببيت المقدس على التناصر والتخالص والتناصح في أمر الله والإسلام، لا يخذل أحدهما صاحبه بشيء، ولا يتخذ من دونه وليجة،٧٤ ولا يحول بينهما ولد ولا والد أبدًا ما حيَّا، فإذا فُتحت مصر فإن عمرًا على أرضها، ومعاوية أمير على عمر في الناس وفي عامة الأمر، حتى يجمع الله الأمة، فإذا اجتمعت فإنهما يدخلان في أحسن أمرها على أحسن الذي بينهما في أمر الله.
سار علي من العراق بجيشه يريد الشام لقتال معاوية، وسار معاوية من الشام للقاء جيش علي في العراق، والتقى الجيشان بصفين على الفرات، واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يقتتل المسلمون مثله، وخاض علي المعارك بنفسه، فقُتل سبعون ألفًا من الفريقين على أصح الروايات، منهم مئات من الصحابة، وفيهم القراء والعلماء، فكانت مصيبة الإسلام بهم عظيمة، «وما كف القتال أيام صفين إلا لما أمر معاوية جماعته٧٥ أن ينادوا في سواد الليل نداء معه صراخ واستغاثة، يقولون: يا أبا الحسن، من لذرارينا من الروم إن قتلتنا، الله الله في البقية الباقية، كتاب الله بيننا وبينكم.» وغدا جماعة معاوية وقد رفعوا المصاحف على الرماح، وقلدوها أعناق الخيل، والناس على راياتهم قد أصبحوا للقتال.
وجرت المهادنة بين الجيشين على أن يكون لعلي العراق ولمعاوية الشام، لا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، على أن يحكِّم الفريقان بينهما حكمين، حكمًا من جهة علي، وحكمًا من جهة معاوية، فحكَّم علي أبا موسى الأشعري، وحكَّم معاوية عمرو بن العاص، ويكون الخليفة من يتفق الحكمان على توليته، «وكتبوا بينهم كتابًا٧٦ أن يوافوا رأس الحول بأذرح،٧٧ فينظروا في أمر هذه الأمة، فافترق الناس فرجع معاوية بالألفة من أهل الشام، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدَّغل، فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومن كان معه، وقالوا: «لا حكم إلا لله» وعسكروا بحروراء،٧٨ فبذلك سُموا الحرورية … وساروا إلى النهروان، فعرضوا للسبل وقتلوا عبد الرحمن بن خبَّاب بن الأرت، فسار إليهم علي فقتلهم وقتل منهم ذا الثُّدية،٧٩ وذلك في سنة ثمانٍ وثلاثين، ثم انصرف علي إلى الكوفة، فلم يزل بها يخافون عليه الخوارج من يومئذ إلى أن قُتل، رحمه الله، واجتمع الناس بأذرح في شعبان سنة ثمانٍ وثلاثين، وحضر سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما من أصحاب رسول الله، فقدَّم عمرو أبا موسى فتكلم فخلع عليًّا، وتكلم عمرو فأقرَّ معاوية، وبايع له فتفرَّق الناس على هذا.»

وأخذ علي بالعراق يقنت في الصلاة ويدعو على معاوية، وعلى عمرو بن العاص، وعلى الضحاك، وعلى الوليد بن عقبة، وعلى الأعور السلمي، ومعاوية يقنت في الصلاة ويدعو على علي، وعلى الحسن، وعلى الحسين، وعلى عبد الله بن جعفر.

وكان سعد بن أبي وقاص من الصحابة الذين اعتزلوا الاشتراك بصفين، وقال إذا كان غزو الكفار قاتلنا، فأما قتال الفتنة والبغي، فلا نقاتل أهل القبلة،٨٠ أما عبد الله بن عمر فكان يقول: لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب،٨١ وقال: إنما كان مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم كانوا يسيرون على جادة يعرفونها، فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضنا يمينًا وبعضنا شمالًا، فأخطأنا الطريق، وأقمنا حيث أدركنا حتى تجلى عنا ذلك، فأبصرنا الطريق الأول فعرفناه فأخذنا فيه، إنما هؤلاء فتيان قريش يتقاتلون على هذا السلطان، وعلى هذه الدنيا، والله ما أبالي ألا يكون لي ما يقتل فيه بعضهم بعضًا بنعلي.
ومن مكملات هذه الفتنة، فتنة الخلافة بين علي ومعاوية، قيام الخوارج على علي، وكانوا من أصحابه وأنصاره يوم الجمل وصفين، وهم يزيدون على اثني عشر ألفًا، ساءهم رضا علي بالتحكيم، وقالوا لا حكم إلا لله، فإن الله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ.٨٢ وكفروا عليًّا بفعله واعتزلوه، فعاتبهم علي فلم يفد فيهم، ثم قاتلهم وظهر عليهم، وقتل منهم نحو أربعة آلاف، ولم تُطفأ نائرتهم، وظلت سيوف فلولهم مصلتة قرونًا بعده، ونشأ من ذلك مذهب جديد قام على التشنيع على علي، كما نشأ مذهب الشيعة الذي قام على التشيع له، والأصل في هذه المذاهب والمتاعب مقتل عثمان، وتعذر قصاص قاتليه على علي، وحرص هذا على الخلافة.

•••

كان المأمول بعد أن اهتدى العرب بالرسول، أن يحتكموا إلى كتابه في كل ما شجر بينهم، لا أن يجعلوا فصل الخطاب للسيف في دق أمورهم وجلها، على ما كانوا في الجاهلية، وأن تعتدل طبيعة العرب المأخوذة بحب الحرب والتناغي بالسيادة، لا ترى تحقيقها إلا من طريق العصبية القبلية، ولا تنام عن الثأر تطلب به، وعادت نغمة العصبيات التي جاء الإسلام بمحوها تتغلب على نفوسهم، مع ما غلب على أمزجة سوادهم الأعظم من المزاجين العصبي والصفراوي، وكان الخطب بالعصبيات عند العرب كالخطب بالأحزاب عند الأمم الحديثة أو أدهى وأمر.

نعم! ما ارتاحت العرب زمنًا طويلًا في الإسلام من أحداث وفتن يتقاتلون فيها، فيفني بعضهم بعضًا، على نحو ما كان أجدادهم، كأن الدين لم يصقل من نفوسهم إلا ظواهرها، على حين دل ما بدا منهم من نصرة الشارع الأعظم، ثم من نصرة صاحبيه من بعده، على أنَّ الإسلام هذَّب كثيرًا من حواشيهم، ثم بدأ هذا التهذيب يضعف بجرأة العامة على الخاصة، وأي جرأة أعظم من قتل أمير المؤمنين عثمان؟ وقديمًا كان قتل الملوك من أشأم ما يحدث في الأمم وقلما أتى بخير، فكيف بمقتل هذا العظيم؟

كان للعرب في الجاهلية بعض العذر في شن غاراتهم، وأرضهم مجدبة، وعيشهم ضنك، وأمرهم شتات، وأي معذرة لهم في الإسلام، وقد أذكى الدين عقولهم، ولقنهم الرحمة، ودمث من أخلاقهم، وقضى أو كاد على العادات الضارة فيهم، وفتح عليهم أبواب النعمة في الأقطار التي دخلوها فاتحين، ووضعوا أساس الملك العتيد، فدرت لهم أخلاف البركات، في كل بلد نزلوه واستثمروه.

دل اقتتال المسلمين يوم الجمل وصفين والنهروان، واغتيال الثالث والرابع من الخلفاء بأيدي جماعة من المسلمين، على استسهال العرب سفك الدماء، وأنهم أبوا إلا أن يتحاكموا إلى السيف، ويعمدوا إلى التقاتل، وأنَّ القوانين مهما سمت لا تغير كثيرًا من روح من يأخذون أنفسهم بها، وقد يخالفونها عند أقل بادرة، ولكم أضاع العرب من قوتهم، ولما يمضِ جيل واحد على تكونهم، وإذا عرفنا أنَّ المسلمين كانوا على ما روى الشافعي٨٣ ستين ألفًا لما قُبض الرسول، ثلاثون ألفًا بالمدينة وثلاثون ألفًا في قبائل العرب وغير ذلك، وأنه هلك منهم ألوف في حروب الردة وحروب الشام والجزيرة وإرمينية وإفريقية والعراق وفارس على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، أدركنا عظم هذه النازلة بهذا القدر من الرجال الذين قُتلوا في حروب علي.
كانت وقعة صفين المشئومة مما عاق الإسلام عن الانتشار، ووقف بالفتوح العربية عند حد كاد يُطمع الأمم المجاورة برده على أعقابه إلى أقصى الأرض العربية، ولولاها لكُتب لمعاوية أن يفتح القسطنطينية، وكان أعد لذلك في أرض الشام وبحره القوتين البرية والبحرية، فلما ظهرت مسألة علي اضطر معاوية أن يصانع الروم لشغله بعلي،٨٤ وأن يرجع عن عزمه، أو يؤخر إنفاذه إلى أجل غير معلوم، ولو فُتحت القسطنطينية لسرى الإسلام إلى الغرب على أيسر حالة، وكان في الإمكان توقي هذه الحرب الحاصدة، لو لجأ المتخاصمان لأول الأمر إلى التحكيم، ولو قدَّر كل واحد منهما حالة الأمة وما يتربص لها أعداؤها، ما امتشق أحدهما حسامًا في سبيل غرضه مهما كان شريفًا؛ لأن هناك ما هو أشرف منه، وهو بث الدعوة وحماية البيضة، ولو سمع علي نصح بعض عقلاء الصحابة ما تسرع في عزل عمال عثمان، وفي مقدمتهم معاوية، ولما أُهرقت هذه الدماء المحرمة، ولكن عليًّا أُصيب بكرامته ولما أبى معاوية مبايعته، أو يسلم إليه القتلة في جيشه، ومن أخلاق علي ألا يسكت ساعة عمن يكون غير راضٍ عنهم، ويعد مصانعتهم خروجًا على قواعد الصدق والإخلاص.
أشار المغيرة بن شعبة،٨٥ وهو المعروف بدهائه وبعد نظره، على علي أن يقر معاوية على الشام تسمح له طاعته، قال: فإن أهل الشام قد ذاقوه فاستعذبوه ووليهم عشرين سنة، لم يعتبوا عليه ولم يعتبوه٨٦ في عرض ولا مال، فقال علي: «والله لو سألني قرية ما وليته إياها.» قال المغيرة: «أراه سيلي أرضين وقريات.» وكان الأمر كما تنبأ المغيرة، وما قدر عليٌّ، على ثقوب ذهنه وكثرة علمه، أن يقدر قوة خصمه فاحتقره، ورأى أنَّ دينه يمنعه من أن يقره، وهو يعتقد في إقراره الضرر له وللجماعة.
أدرك علي بعد الدخول في العمل، أنَّ جنده مشتت الأهواء تغلب عليه الفوضى، على ما عرف من بعض شيعته من الاستماتة في سبيل دعوته؛ ولطالما تمنى لو يقايض عشرة من جنده بواحد من جند معاوية.٨٧ ومن خطبه لما بلغه مقتل محمد بن أبي بكر أمير مصر، وتملك عمرو بن العاص لها باسم معاوية: «أوليس عجيبًا أنَّ معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه بغير عطاء، ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء، وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على معاوية، وطائفة منكم على العطاء، فتتفرقون عني وتعصونني وتختلفون عليَّ.»
وَرِيت زناد معاوية بأهل الشام؛ لأنه طالما أحسن إليهم، فكان في أطوع جند، وجنده يعتقد أنَّ صاحبه على الحق، ورُوي عنه أنه قال:٨٨ أُعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال: فقد كان ظُهَرة عُلَنة لا يكتم سرًّا، وكنت كتومًا لسري، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر، وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافًا، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافًا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت، فلله من جامع إلي ومفرِّق عنه!

قال علي بعد وقعة صفين، وقد آلمه ما أُهرق من دماء المسلمين، وما جرَّت عليه الخلافة من المتاعب، رحم الله عمي العباس كأنما كان يطلع على الغيب من وراء ستر رقيق، وصدق والله ما نلت من هذا الأمر شيئًا إلا بعد شر لا خير معه، وكان العباس أشار عليه لما اشتد مرض رسول الله أن يسأله إن كان الأمر في بني هاشم يعطوه، وإن كان في غيرهم يوصي بهم، فقال علي: إنَّ مُنعناه لم يعطناه أحد.

فلما قُبض الرسول دُعيَ علي للبيعة فقال: في جهاز رسول الله شغل، ولن يفوت الأمر، فبويع في السقيفة لغيره، ولما طُعن عمر أشار عليه العباس ألا يدخل في الشورى؛ لأنه إن اعتزلهم قدموه، وإن ساواهم لم يقدموه، ولما أخذ عثمان في الأمور قال له العباس، وقد وقع في نفسه أنَّ عثمان سيُقتل: والله لئن كان ذلك وأنت حاضر بالمدينة ليرمينك الناس بدمه، وإن فعلوا لا تنال من هذا الأمر شيئًا إلا شرًّا لا خير معه.

يقول ابن حزم٨٩ في معرض الكلام على أنَّ عليًّا كان أسوس الصحابة، بعد أن ذكر ما قام به أبو بكر من حروب الردة حتى ثبت الإسلام، وما قام به عمر وعثمان من حروب انتهت بظهور الدين في الأقطار: «ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله، وافتراق كلمة المؤمنين، وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف، وشك بعضهم قلوب بعض بالرماح، وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف، وشغلهم بذلك عن أن يُفتح من بلاد الكفر قرية، أو يُذعر لهم سرب،٩٠ أو يجاهد منهم أحد، حتى ارتجع أهل الكفر كثيرًا مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم، فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة، فأين سياسة من سياسة.»
ويقول ابن تيمية:٩١ «تولى علي والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم ملطخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه، والمبغضون لغيره من الصحابة، فإن عليًّا لم يعن على قتل عثمان ولا رضي به، كما ثبت عنه وهو الصادق أنه قال ذلك، فلم تصفُ له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال، وظن أنَّ به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفًا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقًا، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في الأول يُطلَب منه الكف، وضعفت الخلافة ضعفًا أوجبت أن تصير ملكًا، فأقامها معاوية ملكًا برحمة وحلم، ولم يتولَّ أحد من الملوك خيرًا من معاوية، فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة الملوك بعده.»

وقال أيضًا: «إنَّ معاوية بقي في الشام عشرين سنة أميرًا وعشرين سنة خليفة، ورعيته من أشد الناس محبة وموافقة له، وهو من أعظم الناس إحسانًا إليهم، وتأليفًا لقلوبهم، حتى قاتلوا علي بن أبي طالب، وصابروا عسكره إلى أن قاوموهم وغلبوهم، قاتلوا مع معاوية؛ لظنهم أن عسكر علي فيهم ظلمة معتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يقاتلونهم دفعًا لصيالهم، وقتال الصائل جائز؛ ولهذا لم يبدءوهم بقتال حتى بدأهم أولئك؛ ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم يُنصرون علينا؛ لأنا نحن بدأناهم بالقتال، وعليٌّ كان عاجزًا عن قهر الظلمة من العسكرية، ولم تكن أعوانه يوافقونه على ما يأمر به، وأعوان معاوية يوافقونه. ا.ﻫ.»

لا جرم أنَّ عليًّا اضطرته الحال إلى الوقوع فيما وقع فيه من قتال المسلمين، وعمل ما عمل وهو كاره، ولم يواته الحظ في خلافته، وكاد ألَّا يفكر في غير رد المطالبين بدم عثمان، والناشزين على خلافته من الخوارج وأهل الشام وغيرهم، ورأى انفراج قلوب الأمة بمقتل عثمان، وأحس أكثر من غيره بما وقع من تشتت في الأهواء، وتأصل في الأحقاد التي انتقلت من الأجداد إلى الأحفاد، وما كان له مفزع غير السيف، والسيف لا تؤمن غائلته على الغالب والمغلوب، وهو شر لا بدَّ منه، ولقد قالوا: «إنَّ في القرآن أربعة٩٢ سيوف: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يؤسروا فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً، وسيف على المنافقين وهو سيف الزنادقة، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وآخر سورة الأحزاب، وسيف على أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف على أهل البغي وهو المذكور في سورة الحجرات، ولم يسلَّ الرسول هذا السيف في حياته، وإنما سله علي في خلافته، وكان يقول: أنا الذي علَّمت الناس قتال أهل القبلة، وله سيوف أخر، منها سيف على أهل الردة، وهو الذي قال فيه من بدل دينه فاقتلوه، وقد سله أبو بكر من بعده في خلافته على من ارتد من قبائل العرب، ومنها سيف على المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج، ورُوي عن علي أنَّ النبي أمر بقتال المارقين والناكثين والقاسطين، وقد حرق علي طائفة من الزنادقة فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار، فقال عليٌّ: ويح ابن عباس لِبحَّاث عن الهنات.»

وبعد، فإن الخلفاء الراشدين قاموا بخلافة النبوة على أكمل وجه أمكن، وإذا لاحظنا اليوم أنه وقع من بعضهم شيء فهو منهم محض اجتهاد، والمجتهد يصيب ويخطئ، والسياسة صعبة المراس على كل الناس، وما كان للبشر أن تجيء أعمالهم تامة من كل وجه، ومن المؤلم أن يستغل هذه الحوادث المرمضة في سبيل الخلافة أناس عز عليهم أن يقوض العرب بالإسلام عرش ملوكهم وهم الفرس، فيندسون في الغمار ويتخذون من آل البيت تُكأَة، ويزعمون لعلي أنه بُغِيَ عليه منذ أول يوم، ويدعون له العصمة على نحو ما كان أجدادهم يدعونها لملوكهم من المجوس، وأن يكون من عبد الله بن سبأ وأمثاله ممن تظاهروا بالإسلام، وهو لم يمس شغاف قلوبهم، ما كان من الدعاية لتأليب الناس على عثمان، وكان من أثر دعايتهم تمزيق الأمة طرائق وحزائق.

هذا، وعلي حرق من غلوا فيه، وأنكر ابنه محمد بن الحنفية على شيعته دعواهم فيه أنه يعلم المغيبات وأنَّ علمه لدني، ومن بعده زاد الغلو فسكت آل البيت عما ينسبه أنصارهم إليهم ووضعوهم في غير مواضعهم؛٩٣ «لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم ووظفوا عليهم شرائع دينهم ونحلوهم علم ما هو كائن.»
عن سويد بن غفلة،٩٤ وكان من كبار التابعين، صحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، واختص بعلي وقاتل معه، قال: مررت بقوم يذكرون أبا بكر وعمر ويتنقصونهما، فأتيت عليًّا فذكرت ذلك له، فقلت: إني مررت بقوم من الشيعة يذكرون أبا بكر وعمر ويتنقصونهما، ولولا أنهم يعلمون أنك تضمر ما هما عليه لم يجسروا على ذلك، قال: أعوذ بالله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل: أخوا رسول الله ووزيراه، ثم نهض دامع العين يبكي قابضًا على لحيته ينظر فيها وهي بيضاء، وقد اجتمع الناس فقام فخطب خطبة موجزة بليغة، ومما قال: ما بال أقوام يذكرون سيدَي قريش وأبوي المسلمين بما أنا عنه متنزه، ومما يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقب، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا فاجر رديء، صحبا رسول الله بالصدق والوفاء، يأمران وينهيان، ويعاقبان فما يجاوزان فيما يقضيان. وبعد أن امتدح أبا بكر وعمله في أهل الردة، قال: إنه سار بسيرة رسول الله حتى قُبض، ثم ولي الأمر من بعده عمر بن الخطاب، واستأمر في ذلك الناس، فمنهم من رضي ومنهم من كره، وكنت ممن رضي، فوالله ما فارق عمر الدنيا حتى رضي من كان له كارهًا، فأقام الأمر على منهاج النبي وصاحبه يتبع بآثارهما، كما يتبع الفصيل إثر أمه إلى أن قال: فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني، وأنا منه بريء، ولو كنت تقدمت في أمرهما لعاقبت أشد العقوبة، فمن أُتيت به بعد مقامي هذا فعليه ما على المفتري.
وجيء علي برجل وهو بالكوفة يتنقص أبا بكر وعمر فقال: يا قَنْبر اضرب عنقه، قال: يا أمير المؤمنين علام تضرب عنقي وإنما غضبت لك؟ قال: وما ذاك ويلك! قال: إني رجل غريب ما صحبت رسول الله، ولا علمت مكان هذين الرجلين منه ولا منك، وإنما سمعت من بعض من يغشاك يفضلك عليهما، ويذكر أنهما ظلماك حقًّا، وتقدماك في أمرك، قال علي: أوتعرف القوم؟ قال: لا، إلا بأعيانهم عند نظري إليهم، قال: أما والله ما تقدماني إلا بأمر الله وبأمر رسوله، وما ظلماني ما يزن ذرة،٩٥ ولولا أنك أقررت بغربتك، وقلة معرفتك بشيخي المسلمين، لضربت عنقك، ثم قال: يا قنبر، نادِ في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس له ظهرًا فصلى بهم، ثم صعد المنبر فقال: أيها الناس، إنَّ الله بعث محمدًا وقد اخلولق الإسلام، وذهب صفاء الدين، وظهر الظلام بالكفر، والناس في عَمْيَة جاهلية جهلاء، يعبدون الأصنام، ويعظمون الأوثان، ويكفرون بالرحمن، فقال: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، فقالوا بأجمعهم: كذبت أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، فقال أبو بكر: صدقت، وأنا إذ ذاك طفل صغير لا أغني عن نفسي شيئًا في حجر رسول الله وفي بيته، فلم يزل أبو بكر الصديق معه على تلك الحال، يضرب الناس ويضربونه، ويغلبهم ويغلبونه، ويقاتلهم ويقاتلونه، ويخافهم ولا يخافونه، يُظهر دينه ولا يكتم إيمانه، حتى قالت قريش: إنَّ ابن أبي قحافة مجنون، فلم يكن أحد أولى بالإسلام منه، ولا أكرم على الله في هذه الأمة بعد نبيها منه، ولا خيرًا منه، ولا أفضل في الدنيا والآخرة، وإنَّ أقوامًا يفضلونني عليهما في قلوبهم بقية النفاق، يريدون فرقة أهل الإسلام واختلاف الأمة … وفي هذا مقنع لمن «جودوا الجنون في الغلو».

سياسة الأمويين

بويع بالخلافة للحسن بن علي بعد مقتل أبيه، فحاول أن يحارب معاوية، وهو أيضًا خليفة مبايَع، ورأى من تخلف القوم عن نصرته أنهم لا يتوقفون عن خذلانه عند الحاجة — كما خذلوا أباه من قبل — واستُنفر الأحنف بن قيس من جماعة أبيه، فقال: قد بلونا الحسن وآل الحسن، فلم تكن عندهم إيالة الملك، ولا صيانة المال، ولا مكيدة الحرب، واتفق أنَّ أحد شيعته طعنه ذات يوم في جنبه فصرعه عن فرسه، فكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية، فنزل عن الخلافة بعد أن خطب له بها نحو ستة أشهر في العراقين العربي والعجمي وخراسان وجزيرة العرب، مشترطًا أن يكون ولي عهد معاوية من بعده،٩٦ وألا يأخذ معاوية أحدًا من آل الحسن بإحنة،٩٧ وأن يؤمن الأسود والأحمر، ويجعل له خراج الأهواز مسلمًا في كل عام، ويحمل إلى أخيه الحسين بن علي كل سنة ألفي ألف درهم، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، فبذل معاوية له العهود المؤكدة على ذلك، وأعطاه كل ما طلب إلا ما كان من لعن أبيه على المنابر، ودخل الحسن في طاعته، فحقن بذلك الدماء، وحمد فعلته العقلاء، وأكبرت شيعة الحسن أمر هذا الصلح، ولم يسعها إلا أن تحمله على محمل الخير؛ لاعتقادهم بعصمة آل البيت في كل ما يصدر من أقوالهم وأفعالهم، لا يسألون عما يبدر منهم.
وكان أهل الشام بايعوا معاوية بالخلافة في سنة ٣٧ حين تفرَّق الحكمان، كما بايعوه على الطلب بدم عثمان، فلما تنازل الحسن عن الخلافة بويع له بإيلياء سنة ٤٠ مبايعة عامة أخرى، وسُمي هذا العام عام الجماعة؛ لاجتماع الأمة على إمام واحد، وكان معاوية يُدعى بالشام الأمير فلما قُتل علي دُعي أمير المؤمنين،٩٨ وغدا يسوس بلاد الإسلام كلها بسلطانه مباشرةً، وكان بالأمس يسوس بعضها تحت سلطان أعظم من سلطانه.

أحسن معاوية تأليف القلوب، واستخدم العصبيات لما فيه مصلحة الدولة، وكان كلما زاد قوة انقطعت آمال الطامعين في الخلافة، المشاغبين على السلطان، فاستخدم الشعراء في تأييد دعوته كما يستخدم رجال السياسة اليوم أرباب الصحف والإذاعات لمثل هذا الغرض، ويرسل الوعاظ إلى الآفاق ليحولوا القلوب عن علي، عدا ما كان يخطب به وعماله في علي على المنابر ينفر القلوب منه، وكانت العراق أضعف جزء في ملك معاوية فرمى أهلها بأخيه زياد، وكان هذا من عمال علي فانضم بعد موته لأخيه، فجاء زياد والعراق تغلي مراجله بالفتن، يوقد نارها أرباب الشغب، فسلَّ الأحقاد وداوى الأدواء، وتولى العراق بعد زياد ابنه عبيد الله فاشتد على الخوارج، فقتل منهم صبرًا جماعة كثيرة، وحاربهم حتى كاد يفنيهم، وكانوا قاموا لأول خلافة معاوية فعفا عن بعضهم، ثم ثار آخرون فقتلهم، وسكنت نأمة الشيعة وأصبحت دعوتهم سرية.

وأهم ما عاناه معاوية من مسائله الخارجية غزو الروم، وكان اعتاد غزوهم منذ كان أميرًا، ووصلت جيوشه إلى القسطنطينية وإلى بحر هيجاي (إيجه)، وإلى سواحل بحر الروم ومنها جزيرة صقلية، وكان ألحَّ على عمر في خلافته بغزو البحر، فما جاء دور عثمان حتى كان للشام أسطول عظيم، فصير عثمان إلى معاوية غزو الروم، على أن يوجه من رأى على الصائفة،٩٩ وفتح قبرص ورودس وأرواد وغيرها من الجزر، وفتح السودان وصالح الروم في سنة ٤١ على مائة ألف دينار، وكانوا جمعوا جموعًا كثيرة فخاف أن يشغلوه عن تدبير بلاده وإحكام أمره، وهو أول من صالح الروم، فلما استقام له الأمر أغزى أمراء الشام على الصوائف، فسبوا في بلاد الروم سنة بعد سنة، حتى طلب صاحب الروم الصلح على أن يضعف المال فلم يجبه، واستولى الروم على جبل لبنان في السنة السابعة عشرة من خلافته بمعاونة الجُراجمة،١٠٠ فاضطر لعقد معاهدة مع الروم (سنة ٥٧) صعبة الشروط عليه؛ وذلك ليدفع غائلة أسطولهم عن بلاده.

رأى معاوية في سنة ٥٦ أن يجعل ولاية العهد لابنه يزيد من بعده، فكان هذا الوضع الجديد في أساس الملك مما استفظعه بعضهم؛ لأنه كان في الصحابة أفراد يليقون للخلافة أكثر من يزيد، وعيَّر معاوية خصومه أنه جعل الخلافة كسروية وقيصرية؛ أي جعلها وراثية وما كانت بها، أو كما قال مروان بن الحكم: جئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم، بيد أنَّ معاوية كان يرى هذا التدبير على ما فيه من غمط حقوق الكفاة للخلافة، أضمن لسلامة الدولة وتُتقى به شرور قد تستطير بين الناس كلما مات لهم خليفة، أو قوي أعداؤه فأرادوا استلاب الخلافة منه، ويخشى إذا ظل المسلمون على تناحرهم أن يجمع أعداؤهم شملهم، ويعيدوا الكرة عليهم في صميم جزيرة العرب، والله أعلم ما تكون النتيجة على الإسلام والمسلمين.

بوضع قانون ولاية العهد في الإسلام بعض الحيطة التي تنجي من انقسام الكلمة، وقد يخطئ رأس الملة في توليته من يريد، وربما قل في رجال الخليفة، أو من اصطنعهم لخدمته من يسعهم الإنكار عليه، أو إرجاعه إلى الصواب إن أخطأ، والعهد للأبناء أو الأخوة أو أبناء العم على شرط الكفاية في الجملة، أقرب إلى سلامة الدولة من فتنة تنشب بين الأحزاب أو أصحاب العصبيات، وكل حزب يرشح خليفته بالحق والباطل، حتى لا يكاد يجد الصالح من المستخلفين، أدنى مما يجد الطالح من المعونة والمظاهرة، ولو كان مرجع هذه الولاية أرباب الرأي في الأمة فقط؛ أي أهل الحل والعقد كما اشترط في توسيد الخلافة لكان في ذلك الخير كله.

ثم إنَّ حصر السلطات الدينية والمدنية في يد الخليفة أو الملك يُخرج الأمر مهما تلون اسمه بالأسماء المختلفة عن أحكام الشورى ويعيده استبدادًا. والشورى حياة الممالك والشعوب، ومن النادر ظهور رجل سلمت نفسه من العيوب واستجمع شروط الخلافة، فما توخى غير مصلحة الناس والدولة كأبي بكر وعمر. وفي الحكومة الملكية عيوب، وفي الحكومة المقيدة عيوب، وفي الحكم «الأتوقراطي» الديني عيوب، وفي الحكم «الديمقراطي» الشعبي أو الجمهوري عيوب، ولقد كثرت أخطاء الجمهوريات في آثينة ورومية في العهد القديم، وفي جمهوريات الدول الحديثة المقيدة بالأنظمة الدستورية، فنُسب الخيرُ والشر إلى من تضامنوا من أهل شوراها على القيام بأمر الأمة؛ أي إنه يخطئ في الحكم الجمهوري أو النيابي مجموع مختار في الجملة من أبناء البلاد، ولا يكون الخطأ خطأ فرد بمحض إرادته كما هو الشأن في الحكومات المطلقة الاستبدادية.

قلنا: إنَّ خصوم معاوية نالوا منه بعهده لابنه يزيد، وفي الأمة بقايا رجال من الصحابة أعظم مكانة وسابقة منه، وكان من المتعذر توسيد الخلافة إليهم؛ لأنهم ضعاف في عصبيتهم، بالقياس إلى أرباب العصبيات الكبرى كعصبية الأمويين في ذاك العهد، ويُخشى إذا استُخلفوا أن يُشغلوا بالدفع عن أنفسهم فتضيع المصلحة العامة، كما جرى في عهد الخليفة الرابع، ولما تم الأمر ليزيد أخذ بعض الطامعين في الخلافة وأتباعهم، وقد رأوا حرص معاوية على حمل بعض الصحابة والتابعين على مبايعة ابنه بعده، يتقولون على يزيد ويرمونه بالكبائر، ويسقطون منزلته ويصغرون شأنه، وما كان يزيد كما قال ابن تيمية مظهرًا للفواحش كما يحكي خصومه، ولا كان من الصحابة، ولا من المشهورين بالدين والصلاح، وكان من شبان المسلمين، ولا كان كافرًا ولا زنديقًا، وتولى بعد أبيه العهد على كراهية من بعض المسلمين، ورضا من بعضهم، وكان فيه شجاعة وكرم، وكان أبوه يشركه في مشورته، ويأخذ برأيه أحيانًا في تدبير الملك وسياسته، وقد أغزاه الروم فبلغ أسوار القسطنطينية، وكثيرًا ما بعث همته على العمل وعلمه وثقفه، وغاية ما ثبت عنه أنه كان به رسلة يحب الراحة ويدرب كلابًا للصيد.

كان يُرجى بعد استقرار الخلافة أن يُطوى حديثها، خصوصًا وقد رضي السبطان بحظهما من الدنيا، ولكن أهل الكوفة بعد أن خذلوا عليًّا وابنه الحسن، عادوا يزينون للحسين بن علي الرحيل إليهم؛ ليعاونوه على إخراج الأمر من يزيد فاغتر بهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به، وصاروا مع عبيد الله بن زياد عامل يزيد، حتى قُتل الحسين وأكثر آله بكربلاء، فأكبرت الأمة هذه المصيبة وراحت شيعته وقد خذلته في حياته، تستغل مقتله بعد مماته، وعظم حظ يزيد من اللعن والطعن مع أنه لم يأمر بقتل الحسين،١٠١ ولا أظهر الفرح بهلاكه، ولكن أمر بدفعه عن الأمر ولو بقتاله، ولما سمع يزيد ما تم على الحسين دمعت عينه١٠٢ وقال: ويحكم! قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه، وكان بلغ معاوية في حياته أنَّ الحسين في آخر أيامه كان يتهيأ لشق عصا الطاعة فكتب إليه: «أما بعد، فقد انتهت إليَّ أمور عنك لست بها حريًّا؛ لأن من أعطى صفقة يمينه جدير بالوفاء، فاعلم رحمك الله أني متى أنكرك تستنكرني، ومتى تكدني أكدك، فلا يستفزنك السفهاء الذين يحبون الفتنة.» والحسين ما تحلل في الحقيقة من مبايعة معاوية إلا بموته حتى إذا خلفه ابنه خالف عليه.

وصح ما تنبأ به معاوية فيما قاله لابنه يزيد قبيل موته، قال: إني لست أخاف عليك إلا أربعة رجال: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن الزبير. فأما الحسين بن علي فأحسب أنَّ أهل العراق غير تاركيه حتى يخرجوه، فإن فعل فظفرت به فاصفح عنه، وأما عبد الله بن عمر فإنه رجل قد وقذته العبادة، وليس بطالب للخلافة، إلا أن تأتيه عفوًا، وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه ليس في نفسه من النباهة والذكر عند الناس ما يمكنه من طلبها، ومحاولة التماسها، إلا أن تأتيه عفوًا، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذلك عبد الله بن الزبير، فإن فعل وظفرت به فقطعه إربًا إربًا، إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل منه، واحقن دماء قومك بجهدك، وكف عاديتهم بنوالك، وتغمدهم بحلمك.

وكان أن امتنع عبد الله بن الزبير في الحجاز من بيعة يزيد بن معاوية، ووافقه كثير من أهل المدينة، وفيهم بعض المهاجرين والأنصار، على خلع طاعة يزيد، وأخرجوا نوابه وأهله من المدينة، فأرسل يزيد عليهم جيشًا، وأمر قائده إن لم يطيعوه بعد ثلاث، أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا، ووقعت الحرب وأُبيحت المدينة في هذه الوقعة التي سُميت بوقعة الحَرَّة نسبة لحرة المدينة، وقُتل من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس ألف وسبعمائة، ومن سائر الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان، وكان معاوية أوصى ابنه يزيد عند موته بقوله: انظر أهل الحجاز فهم عصابتك وعترتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومن قعد عنك فتعاهده، وانظر أهل العراق فإن سألوك عزل عامل كل يوم فاعزل له عنهم، فإن عزل عامل واحد أهون عليك من سل مائة ألف سيف، ثم لا تدري علام أنت عليه منهم، ثم انظر أهل الشام فاجعلهم الشعار دون الدثار، فإن رابك من عدو ريب فارمهم به، فإن أظفرك الله فاردد أهل الشام إلى بلادهم، لا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير آدابهم.

واعتصم عبد الله بن الزبير بمكة، ومات على الأثر يزيد، فاستخلف ابنه معاوية فلبث شهرين لا يخرج إلى الناس، ثم خطبهم فقال: إني نظرت فيما صار إليَّ من أمركم، وقلدته من ولايتكم، فوجدت ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم وفيهم من هو خير مني وأحقهم بذلك، وأقوى على ما قلدته، فاختاروا مني إحدى خصلتين: إما أن أخرج منها وأستخلف عليكم من أراه لكم رضًا ومقعنًا، ولكم الله عليَّ لا آلوكم نصحًا في الدين والدنيا، أو أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني منها، وقال: قد ضعفت عن أمركم ولم أجد لكم مثل عمر بن الخطاب لأستخلفه ولا مثل أهل الشورى، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا من أحببتم، وطُعن معاوية الصغير بعد أيام، فخاف بنو أمية أن يخرج الأمر عنهم، وعبد الله بن الزبير يقوي سلطانه في الحجاز، وتنتشر دعوته في الشام سرًّا، فدخلوا عليه فقالوا له: استخلف على الناس من تراه لهم منا، فقال لهم: عند الموت تريدون ذلك، لا والله لا أتزودها، ما سعدت بحلاوتها، فكيف أشقى بمرارتها، ثم جاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية فتورع أن يستخلف على صغر سنه.

وكان الناس لما مات يزيد بايعوا بمكة ابن الزبير بالخلافة وبايع له أهل العراق والحجاز واليمن ومصر، وبايع له١٠٣ سرًّا بالشام الضحاك بن قيس، وبايع له بحمص النعمان بن بشير، وبايع له بقنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وكان مروان بن الحكم بعد رحيله من الحجاز أيام ابن الزبير أقام بالشام، واجتمعت إليه بنو أمية، وصار الناس بالشام فرقتين: اليمانية مع مروان، والقيسية مع الضحاك بن قيس، وهم مع ابن الزبير، فاجتمع بنو أمية على عقد الأمر لمروان، وهو «شيخ مجرب بقية بني أمية في وقته»، فضرب مروان القيسية بمن كان مع الأمويين من اليمانية بمرج راهط من أرض دمشق فغلبهم، ودخل الفيحاء فقعد مقعد الخلافة.١٠٤ قال المسعودي: وكانت وقعة مرج راهط سبب ملك بني أمية، وقد كان زال عنهم إلى بني أسد بن عبد العُزَّى؛ ولذلك رأى قوم أنَّ مروان أول من أخذ الخلافة بالسيف، وعُزي إلى عبد الملك بن مروان قوله:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها
والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
وأبو ليلى هو معاوية بن يزيد بن معاوية، وجعل الأمر بعد مروان لخالد بن يزيد بن معاوية، ولعمرو بن سعيد الأشدق، وبذلك انتقلت الخلافة إلى بني مروان، وخرجت عن آل أبي سفيان، وكلهم أمويون، وكلهم بنو عبد شمس، تولاها من تأهل لها من هذا البيت، وظل عبد الله بن الزبير خليفة يُخطب له في الحجاز واليمن والعراق ومصر وفارس، وأول ما اتجهت له همة مروان الاستيلاء على مصر من ابن الزبير، وامتدت حدود البلاد الإسلامية في أيام مروان إلى نهر كور أكبر أنهار القوقاز، ودخلت بعد حين بلاد الكرج وطاغستان وشركسستان في حظيرة الملك الأموي، ولما هلك مروان اجتمع الناس على ابنه عبد الملك، فقال لهم: إني أخاف أن يكون في أنفسكم مني شيء فقام جماعة من شيعة مروان، فقالوا: والله لتقومن إلى المنبر أو لنضربن عنقك، فصعد المنبر فبايعوه، ولم يختلف عليه أحد من قريش لما عرفوا من صدقه وعلمه، ولما وصل عبد الملك إلى العراق لإرجاعها إلى الأمويين وثب بدمشق عمرو بن سعيد الأشدق، وكان من أحب الناس إلى أهل الشام يسمعون له ويطيعون، فدعا إلى نفسه بالخلافة واستولى على دمشق، فرجع إليه عبد الملك ولاطفه وراسله، وحلف له أن يكون الخليفة من بعده، وألا يقطع شيئًا دونه ولا ينفذ أمرًا إلا بمحضره ثم قتله، وكان مصعب بن الزبير الذي قاتل الجيوش الأموية في العراق فقتله عبد الملك، من أحب الناس إلى عبد الملك وأشدهم له إلفًا ومودة، وقال في الاعتذار عن قتله: «ولكن الملك عقيم.»١٠٥ وقام المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعي الطلب بثأر الحسين، فقتل عبيد الله بن زياد وتمزق أكثر جند الشام، وكانوا أربعين ألفًا، فغلب المختار على الكوفة وأباد قتلة الحسين، وبعد حين قتل مصعب بن الزبير المختار وجميع رجاله وكانوا سبعة آلاف، وقضى الحجاج في ولايته العراق على ابن الأشعث، وكان ادعى الخلافة، وذلك بالقرب من دير الجماجم في ثمانين وقعة تواقعاها، وابن الأشعث في جيش أعظم من جيش الحجاج، ولكن ليس له عقل الحجاج ولا حزمه، وانهزم ابن الأشعث وأنصاره من أهل العراق، ولم يكن١٠٦ بعد وقائع صفين أعظم من هذه الحروب.
لما أمن الخليفة جانب العراق وبايعه أهلها بالخلافة، رمى الحجاز بالحجاج ليقضي على ابن الزبير وخلافته، فكان ذلك بعد حروب أُهرقت فيها الدماء، وبمقتل ابن الزبير صفت الحجاز واليمن وفارس للخليفة الأموي، فصفت بها بلاد الإسلام، وقضى عبد الملك على الأزارقة من الخوارج في فارس، وعلى الروم والبربر في إفريقية، وعاهد الروم ثم نقضوا عهده،١٠٧ وظلوا على عدائهم طول أيامه، وعلى كثرة ما قُتل من المسلمين في غزوات الروم في أرجاء إرمينية وآسيا الصغرى، كان الروم يخافون المسلمين لتهديدهم بلادهم، والمسلمون يخافون الروم؛ لأنهم كانوا حتى في حال الضعف لا تُؤمن غوائلهم على بلاد المسلمين، وظلت هذه الحروب محتدمة إلى أيام ابنه الوليد وردد أقصى الغرب النصراني صداها. يقول سترستن: إنَّ غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد الأشدق وقسوته عليه، يلقي شيئًا على شخصية عبد الملك، والظاهر أنَّ عمله كان شاذًّا، وأنَّ هناك أسبابًا قاهرة حملته في مثل هذا الموقف على ما أتاه، ليقضي على الفتوق التي كانت ظاهرة في كل مكان. قال: ومن الثابت أنه ليس في خلفاء بني أمية من يدانيه في الاضطلاع بأساليب الحكم، وكان يحرص١٠٨ على أن يكون ولاته ممن ينفذون أمره، ولا يفكرون إلا في إرضاء الخليفة والفناء فيه، على طريقة الحجاج والمهلب في سياسة الدولة لا ينظرون إلا إلى مصلحة الملك، والمهلب بانضمامه إلى عبد الملك بعد أن كان مع ابن الزبير، كزياد بانضمامه إلى معاوية بعد أن كان مع علي، وما كان عبد الملك يطلق الحرية لغير أخيه عبد العزيز والي مصر وكانت له طعمة، ومصر كانت تتمتع منذ عهد عمرو بن العاص بشيء من الاستقلال، ويرعاها الأمويون رعاية خاصة؛ لأنها طريقهم إلى شمال إفريقية وإلى ما وراءها، ولكونها برأسها مملكة عظيمة غنية.

غزا عبد الملك الروم مرارًا برًّا وبحرًا، وصالحهم مرة لاضطراب البلدان عليه، وحمل إليهم أموالًا كثيرة حتى انصرفوا عن المصيصة على أن تكون الهدنة عشر سنين، ويخرج الروم الذين كانوا في جبل لبنان من آخر أيام معاوية فيؤدي عبد الملك إليهم في كل يوم ألف دينار وفرسًا ومملوكًا، على أن يكون خراج قبرص وإرمينية مشتركًا بين الروم والعرب، ثم أخذ ملك الروم اثني عشر ألف مقاتل من المردة أو الجُراجمة في جبال الشام إرضاءً لعبد الملك، وكان صالح الروم (٧٠ﻫ) لأول خلافته على أن يؤدي إليهم في كل جمعة ألف دينار، وكانوا طمعوا في الشام، وهو موزع الفكر بمسائل عمرو بن سعيد، ومصعب بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وليس من الحزم أن يحارب حربين داخلية وخارجية في وقت واحد، وفي أيامه وصل من الروم موريق وموريقان (٧٥ﻫ) وحملا بجيشهما على دير القديس مارون في جهات حماة من الديار الشامية، وقتلا خمسمائة راهب، ثم تحولا إلى قنسرين والعواصم فقتلا الأهلين ونهبا وخربا المساكن، ولم يعفيا عن أحد من الموارنة، وخضعت لهم بلاد الكورة في لبنان، ثم قوي الجبليون على عساكر الروم، وقتلوا أكثرهم وانهزم الباقون.

وصف الجاحظ عبد الملك فقال فيه: «كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيًا وحزمًا، وعابدها قبل أن يستخلف ورعًا وزهدًا»، ويعد في العلماء العاملين كما هو من أكبر الساسة، ويشبه عبد الملك معاوية بحزمه وسياسته، وما كان يدهش لما يحل به من المفظعات،١٠٩ وكان من جملة وصيته لأولاده أن يعطف الكبير منهم على الصغير، وأن يعرف الصغير حق الكبير، وحذرهم البغي والتحاسد، وأوصاهم بأخيهم مسلمة، وأن يصدروا عن رأيه، وأن يكرموا الحجاج، فإنه هو الذي وطَّأ لهم هذا الأمر. وعمل زياد بن أبي سفيان وخالد القسري وقتيبة بن مسلم وأمثالهم من رجال بني أمية، لا يقل عن أعمال الحجاج في سياسة الدولة، وكانوا كلهم «قطب١١٠ الملك الذي عليه مدار السياسة ومعادن التدبير، وينابيع البلاغة، وجوامع البيان، هم راضوا الصعاب حتى لانت مقاودها، وخزموا الأنوف حتى سكنت شواردها، ومارسوا الأمور، وجربوا الدهور، فاحتملوا أعباءها، واستفتحوا مغالقها، حتى استقرت قواعد الملك، وانتظمت قلائد الحكم، ونفذت عزائم السلطان.»
وأريد عبد الملك على أن يعهد لابنيه الوليد وسليمان فأبى؛ لأن البيعة كانت لأخيه عبد العزيز، وكان عبد الملك لا يفضل عبد العزيز في شيء إلا باسم الخلافة، وهو نظير عبد الملك في الحزم والعقل، ومات عبد العزيز فعهد عبد الملك إلى ولديه الوليد، ثم سليمان بالخلافة، وكانت أيام الوليد خالية من المشاغل الداخلية في الجملة، والعمران يعظم والفتوح سائرة على ساق وقدم. فتح بلادًا في أرض الترك والروم والهند وأعظم ما فتح الأندلس، وجاء فاتحها موسى بن نصير إلى دمشق في طائفة من أبناء ملوك البربر والجزائر والروم والإسبان والإفرنج، يلبسون تيجانهم وهم في حالة الأسر، وسُئل فاتح الأندلس في حضرة الخليفة سليمان عن حال تلك الأمم التي افتتح بلادها فقال: إنَّ الروم١١١ أسود في حصونهم، عقبان على خيولهم، نساء في مواكبهم، إن رأوا فرصة افترصوها، وإن خافوا غلبة فأوعال ترقل١١٢ في أجبال، لا يرون عارًا في هزيمة تكون لهم منجاة. وقال عن البربر: إنهم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرًا، وفروسية وسماحة وبادية غير أنهم غُدُر. وقال عن الإسبان: إنهم ملوك مترفون، وفرسان لا يجبنون. ووصف الإفرنج: بأن هناك العدد والعدة، والجلد والشدة، وبين ذلك أمم كثيرة ومنهم العزيز ومنهم الذليل، وكل قد لقيت بشكله فمنهم المصالح ومنهم المحارب، وما عامل الخليفة سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير ولا قتيبة بن مسلم بما يستحقان لما قدما من خدمة الدولة؛ فقد قتل قتيبة بن مسلم فاتح خوارزم وسمرقند وبخارى، وضارب الجزية على ملك الصين؛ لأنه أظهر الخلاف وأثار الجيش على الخليفة فيما قيل، وقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير توهمًا منه أنه يستقل بالأندلس، وبعث سليمان إلى الروم بأخيه مسلمة بن عبد الملك وعمر بن هبيرة فلقيا جهدًا وفتحا بعض مدن الروم، وكان أول من ضرب بسيفه باب القسطنطينية وأذن في بلاد الروم أحد بني عامر بن صعصعة، وكان مع مسلمة فأراد قيصر قتله فقال: والله لئن قتلتني لا تبقى بيعة في بلاد الإسلام إلا هُدمت.١١٣

ومن أهم ما عمله سليمان عهده لابن عمه عمر بن عبد العزيز بالخلافة ومن بعده لأخيه يزيد، وذلك بإشارة وزيره رجاء بن حيوة، فدل على بعد نظر، وحب الخير للأمة، فدُعي مفتاح الخير، ولم يكد عمر بن عبد العزيز يقبض على زمام الخلافة حتى استدعى من الروم جيش المسلمين لما لقوا من الجهد، وطلب إلى عامله على الأندلس أن يرسم له مصوَّرها؛ لأن المسلمين هناك محاطون بالأعداء، بعيدون عن مقر الخلافة، وكان من رأيه أن يجليهم عن أرضها، وكتب إلى عامله في بلاد ما وراء النهر بإقفال المسلمين بذراريهم إلى البلاد التي أظلها سلطان العرب منذ سنين، قائلًا: حسب المسلمين الذي فتح الله عليهم؛ ذلك لأن عمر بن عبد العزيز كان يضن بدماء قومه، ولا يحب التوسع في الفتوح، ويحرص على إصلاح البلاد وأهلها، وفي أيامه سكنت الخوارج فلم يثوروا، وكان ناقشهم وأفحمهم، وعطف على الطالبيين ووسع عليهم، فكانوا عنه راضين، وأبطل لعن أبي تراب علي بن أبي طالب من منابر الإسلام، وكان بنو أمية يسبون عليًّا من سنة إحدى وأربعين، وهي السنة التي خلع فيها الحسن نفسه من الخلافة.

وكانت علاقة عمر مع الروم سلمية، ولما بلغ صاحب القسطنطينية نعيه نزل عن سريره وبكى، وذكر من مآثر عمر أمام وفد من العرب — كان ذهب للفداء بين العرب والروم — ما أبكى المقل، ومما قال: لقد بلغني من بره وفضله وصدقته ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطنًا وظاهرًا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدًا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعة، ولكني عجبت لهذا الراهب الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب.١١٤

أعاد عمر للخلافة جمالها وجلالها، على ما كانت عليه أيام جده لأمه عمر بن الخطاب، ولكن ابن عبد العزيز عمل في زمان غير زمان ابن الخطاب، وبرجال غير رجاله، وكان دأبه أن يذكر الناس بالآخرة، ويخوفهم من العذاب، ودأب جده أن يذكرهم العمل للدنيا، مع شدة التمسك بحقوق الأخرى، فسياسة عمر بن الخطاب ملائمة لزمانه، وسيرة سبطه كذلك، هذا والناس في آخر القرن الأول قد فسدوا أو بدءوا بالفساد، عمل عمر أعمالًا عظيمة في خلافته القصيرة، وهي سنتان وخمسة أشهر، وهذا من أعجب ما يدون في تاريخ عظماء الأرض، ولو لم يتقيد بعهد سلفه سليمان بن عبد الملك ليزيد بن عبد الملك، لعهد إلى القاسم بن محمد بن أبي بكر، أو إلى إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأشدق، لما كان يعرف من غنائهما، ولكن حاذر إن أقدم على ذلك أن يغضب بني أمية، وكان بعضهم يبطن له الكراهة، وإذا حول الأمر عن المروانيين تقع التفرقة لا محالة.

وكان عمر بن عبد العزيز يشعر أنَّ يزيد بن عبد الملك لا يسير بعده بسيرته، بل يسير بسيرة أخيه على طريقة الملكية المطلقة، يجمع الأموال ويبددها، ويقتل ولو على الشبهة لما يعتقد أنَّ فيه سلامة الدولة، فلما بويع ليزيد أعاد سب علي على المنابر، وأرجع الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل سلفه، وكتب إلى مصر بمنع الزيادة التي كان عمر بن عبد العزيز أمر لأهل الديوان بها فمنعوها،١١٥ وأتاه١١٦ قوم من قريش وخيار بني أمية، وكانت قلوبهم قد سكنت إلى هدي عمر واطمأنت إلى عدله، فاتهم منهم نفرًا بالخلع والخروج فأسكنهم السجن عشرين شهرًا، ثم دس لهم السم فماتوا جميعًا، وأقصى من سائر قريش ثلاثين رجلًا، بعد أن صادرهم وعذبهم، وصلب من الناس جملة ممن ألف هؤلاء القوم واتُّهم بمصانعتهم ومصاحبتهم، وقيل: إنَّ يزيد بن عبد الملك١١٧ لما ولي الخلافة قال: «سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز فأتوه بأربعين شيخًا فشهدوا عنده أنَّ الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب، وكان طائفة من الجهال الشاميين يعتقدون هذا.»
كان يزيد بن عبد الملك على غير طريقة إخوته، قرب القيسيِّين وأقصى اليمانيين، خلافًا لما جرى عليه أخوه سليمان، وبذلك استهدف لغضب اليمانيين، وهم الكثرة الغامرة في جيوش الشام، وفي أيامه وثب بالبصرة يزيد بن المهلب وتسمى بالقحطاني، ونصب رايات سوداء، وقال أدعو إلى سيرة عمر بن عبد العزيز فقتله أمير العراقين مسلمة بن عبد الملك، وكانت أيضًا ملحمة كبرى عند باب١١٨ الأبواب التقى الجراح الحكمي وهو والترك فانكسروا بعد قتال عظيم، وكان١١٩ يزيد جعل ولاية العهد من بعده لهشام، ثم بدا له أن يبايع بولاية العهد لابنه الوليد، فأقنعه خالد بن عبد الله القسري بالعدول عن ذلك؛ لئلا تقع العداوة والشر بينهم، ويجد الناس السبيل إلى الطعن فيهم والاختلاف عليهم، وصيَّر الوليد ولي العهد بعد أخيه هشام.
وجاء هشام بن عبد الملك يتولى الخلافة، وهو آخر من تولاها من ولد عبد الملك، تولاها هو ويزيد وسليمان والوليد، فلُقب هؤلاء الإخوة الأربعة بالأكبش الأربعة، ولُقب والدهم عبد الملك بأبي الأملاك لتولي الخلافة أربعة من أولاده. تولى هشام فلم يخرج١٢٠ عليه خارج، ولم يقم عليه قائم، اللهم إلا زيد بن علي في بعض نواحي الكوفة، فقتله ابن هبيرة، فعظم قتله على هشام، وأقصى ابن هبيرة وصادره، وقال الخليفة: إنَّ ابن هبيرة لم يزل مبغضًا لأهل البيت من آل هاشم وآل عبد المطلب، وإني ما زلت محبًّا لهم حتى أموت، وكانت سياسته رشيدة وكُتب له التوفيق في فتوحه، وما سارت طريقة الجباية سيرًا أحسن من سيرها في أيامه، وكان النظام في الأخذ والعطاء على أتمه، وزعم مؤرخو النصارى١٢١ أنَّ هشامًا أتى على ثروة الذميين والمسلمين، فثارت ثورات من تطبيق قوانين الجباية عليهم، وعم البلاد الشقاء والفاقة، وفي أيامه دخل الخوارج إلى الشام، وأعقب ذلك خلل في الجيش، وحاول فان فلوتن١٢٢ أن يثبت أنَّ الجباية كانت فاحشة في عهد الأمويين، وأنَّ من الثورات ما نشب بتأثر تلك المظالم والضرائب، لكن لم يأتِ ببراهين مقنعة، بل استنتج استنتاجًا ضعيفًا واستقرى استقراءً ناقصًا. ويقول الطبري: إنه كان لا يدخل بيت مال هشام مالٌ حتى يشهد أربعون قسامة أنه أُخذ من حقه، وأُعطي لكل ذي حق حقه، ومن كان هذا شأنه في أخذ ما حل له كيف يستحل أخذ أموال الذميين والمليين بالباطل، ولكن من الرعية من لا يرضيهم شيء حتى ولو أُعفوا من كل ضريبة. قال أرباب السير من العرب: إنَّ السواس ثلاثة في بني أمية، وهم معاوية وعبد الملك وهشام، وبه ختمت السياسة وحسن السيرة، وأجمعوا على أنه لم يكن في بني أمية ملك أعظم من هشام، أخذ الجزية من الروم والفرس والترك والفرنج والزنج والسند والهند، ولم يجترئ أحد معه على ظلامة، وهو «رجل محشو عقلًا»، وغزا هشام الروم عدة غزوات موفقة، وكان الأسطول يشترك مع الجيش البري من اليابسة، وذلك بقيادة ابنيه معاوية وسليمان، وأسر قسطنطين ملك الروم،١٢٣ وتقدمت جيوشه في الشرق فغزا الترك وفتح الفتوح العظام.
وأتت نوبة الوليد بن يزيد لتولي الخلافة، فعقد لابنيه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده، وأساء السيرة وانتحى على أهله وجماعة من قريش، وأحدث الأحداث العظيمة وسفك الدماء، وقتل خالدًا القسري فأغضب اليمانية، واشتد على بني هشام وأضرَّ بهم، وضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عمان، وحبس يزيد بن هشام، فرماه بنو هشام وبنو الوليد، وكان أشدهم قولًا فيه ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر التنسك١٢٤ فألحت عليه القدرية، وكان قدريًّا يرى رأي غيلان، وقالوا له: لا يحل لك إهمال أمر الأمة، وأجابته اليمن بأسرها، وقاتل الوليد بمن كان معه من المضرية، وأثخنت اليمانية القتل في مضر، إلى أن أحاطوا بالوليد بحصن البخراء من أرض تَدمر، وذبحوه وحملوا رأسه على رمح فطيف به في دمشق، وبايع المضريون ليزيد بن الوليد طوعًا أو كرهًا، فاضطربت عليه البلدان، وسُمي الناقص؛ لأنه نقص من عطاء الناس، ومما خطب به القوم يستميلهم «فإن وفيت لكم بما قلت، فعليكم بالسمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن لم أفِ فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب، وإن كنتم تعلمون أنَّ أحدًا ممن يُعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما قد بذلت لكم، وأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه معكم.» وفي أيامه خرج يحيى بن زيد من آل البيت بأرض الجوزجان فوجه نصر بن سيار صاحب خراسان أحد رجاله، فقُتل زيد في المعركة، ولما قُتل الوليد خرج أهل حمص وأغلقوا أبواب المدينة، وأقاموا النواح والبواكي عليه، وطلبوا بدمه، قالوا:١٢٥ «إنَّ المضرية تلاومت فيما كان من غلبة اليمانية عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد، فدبَّ بعضهم إلى بعض، واجتمعوا من أقطار الأرض، وساروا حتى وافوا مدينة حمص، وبها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان يومئذ شيخ بني أمية وكبيرهم، وكان ذا أدب كامل ورأي فاضل، فاستخرجوه من داره وبايعوه، وقالوا له: أنت شيخ قومك وسيدهم فاطلب بثأر ابن عمك الوليد بن يزيد، فاستعد مروان بجنوده في تميم وقيس وكنانة وسائر قبائل مضر، وسار نحو مدينة دمشق فاقتتل جيشه مع جيش يزيد بن الوليد في ثنية العقاب وانهزم الحمصيون، واستولى يزيد على حمص، ووثب أهل فلسطين، وأحضروا يزيد بن سليمان بن عبد الملك فجعلوه عليهم، فدعا الناس إلى قتال يزيد الناقص فأجابوه إلى ذلك، وبلغ يزيد ذلك فأرسل إليهم جيشًا مع سليمان بن هشام بن عبد الملك، ووعد كبراء فلسطين ومناهم، فتخاذلوا عن صاحبهم، وأخذ سليمان البيعة من أهل طبرية والرملة ليزيد بن الوليد.»
ومات يزيد بن الوليد بعد ستة أشهر من خلافته، فخلفه أخوه وولي عهده إبراهيم بن الوليد، وقيل: إنَّ أخاه لم يعهد إليه ولكنه استولى بغير عهد، وقيل لم يتم له الأمر، فكان قوم يسلمون عليه بالخلافة، وقوم يسلمون عليه بالإمرة، وأبى قوم أن يبايعوا له، وأقبل مروان بن محمد من إرمينية داعيًا إلى نفسه في جيش من أهل الجزيرة، وكان القوم بايعوا لإبراهيم بن الوليد ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك من بعده، ودخل مروان دمشق فخلع إبراهيم نفسه وهرب وتوارى حتى أمنه مروان ودخل في طاعته، وكان أهل حمص لم يبايعوا إبراهيم، وكان مروان أخاه لأمه، ثم قتل مروان بعد أخذ البيعة له إبراهيم بن الوليد وعبد العزيز بن الحجاج، ونبش عسكره قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية بدمشق، وسُمي مروان بالجعدي نسبة للجعد بن درهم، الذي لقنه مذهبه في القدر والقول بخلق القرآن،١٢٦ وأخذ مروان بحزمه يقضي على النازين على الخلافة كقضائه على فتنة ثابت بن نعيم الجذامي لما خرج عليه ببلاد طبرية والأردن، ودخلت خوارج اليمن مكة والمدينة يدعون لعبد الله بن يحيى الكندي الأباضي، فجهز مروان جيشًا وقاتل هؤلاء الخوارج في الحجاز، ثم في اليمن، وقُتل في ذلك خلق كثير، ودخل داعية عبد الله بن يحيى طالب الحق إلى مصر فبايع له ناس من تجيب وغيرهم، فاستخرجهم عامل مروان فقتلهم، وقاتل مروان الضحاك بن قيس الشيباني الحروري، وكان قوي أمره في أرجاء الكوفة حتى بلغ جيشه — فيما قيل — مائة وعشرين ألفًا، فأرسل إليه ابنه عبد الله وما زال يحاربه حتى قتله، ثم قتل من خالفوه من الحرورية، وكان ممن لحق بالضحاك بن قيس هذا سليمان بن هشام بن عبد الملك، وبايعه بعد أن اختلفت به الأحوال منذ خرج من سجن الوليد في عمان وثار فأخذ ما كان بها من الأموال، وأتى دمشق فلحق أولًا بيزيد بن الوليد، فولاه بعض حروبه١٢٧ إلى أن كسره مروان بن محمد بعين الجر، فهرب ثم استأمن إلى مروان وبايعه ثم خلعه، واجتمع عليه نحو سبعين ألفًا وطمع في الخلافة، فبعث إليه مروان عسكرًا فندم سليمان على ما كان منه ومضى إلى حمص فتحصن بها، ثم التحق بالضحاك، ثم بقحطبة١٢٨ بن شبيب أحد قواد العباسيين الذي تولى حرب ابن عمه مروان بن محمد فأحسن البلاء، فحسن موقع سليمان من أبي العباس السفاح العباسي، ثم شعر سليمان أنَّ السفاح يريد قتله فخرج ولحق بالجزيرة، وكتب إلى مواليه وصنائعه فاجتمع إليه منهم خلق كثير، فبعث إليه أبو العباس بعثًا ليقاتله فانهزم، ثم بعث إليه بعثًا آخر فهزمه أيضًا، ثم بعث إليه بعثًا آخر فأسره وصُلب على دار الإمارة بالكوفة.

رأينا كيف تلونت أحوال السياسة في عهدها الأخير، وكانت في الأيام الخالية متسقة مطردة، وبهذا التناحر بين أبناء العم على الخلافة، دب الفشل في جيش الأمويين، وقتلت هيبتهم في النفوس بهذا الانشقاق البادي بينهم، وكيف يستقيم لهم الأمر كما كان في زمن هشام مثلًا، وفي سنين قليلة خرج على خليفة الوقت من أهله بشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين، وسليمان بن هشام بحمص وقنسرين، وبايعه أهل حمص بالخلافة، وخلعوا مروان بن محمد بعد أن قُتل من عسكر سليمان بن هشام ثلاثون ألفًا، وكان في سبعين ألفًا.

ولما انهزم مروان بن محمد الجعدي في الزاب الصغير قرب الموصل أمام جيش بني العباس لم ينفعه تعصبه١٢٩ مع النزارية شيئًا، بل غدروا به وخذلوه، ولما اجتاز ببلاد قنسرين وخناصرة أوقعت تنوخ بساقته وجاز حمص فناوشه أهلها القتال، وكان قاتلهم غير مرة وقتل من رجالهم ومثَّل بهم، ووثب به في دمشق الحارث بن عبد الرحمن الحرشي، فما آوته دمشق عاصمة آبائه، ورحل بجيشه إلى الأردن فوثب بها هاشم بن عمرو العنسي والمذحجيون — أي اليمانون جميعًا — ثم مر بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان لما رأوا من إدبار الأمر عنه.
وكان مروان لما وسدت إليه الخلافة ودخل دمشق ترك لأهل كل جند من أجناد الشام أن يختاروا عمالهم، فوقع اختيارهم على هؤلاء العمال الذين ثاروا بهم بعدُ على مروان، وخذلوه أي خذلان، وجعل مروان يستقري١٣٠ مدن الشام فيستنهض أهلها، فيروغون عنه ويهابون الحرب فلم يسر معه منهم إلا قليل، بل لقد انقلب عليه من كان مواليًا لدولته، وقتل أهل مصر واليهم، وقتل أهل حمص واليهم، واكتفى أهل المدينة بإخراج عاملهم، وخرج عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة، فانهزم ومضى إلى فارس فغلب عليها وعلى أصبهان، والفتنة انتشرت في أنحاء البلاد كلها حتى انهزم مروان وهبط مصر، فلحق به الجيش العباسي فقُتل في بيعة في بوصير من أرض الصعيد وبه انحل ملك الأمويين في الشرق.

•••

أهم الأسباب التي عجلت القضاء على ملك بني أمية تحكم أهواء المتأخرين من الخلفاء في قوادهم العظام، فابتعد العارفون الصادقون عن الخدمة، ودخل الأغمار الأغرار، أبعدوا أولياءهم، كما قال أبو مسلم الخراساني، ثقة بهم، وأدنوا أعداءهم تألفًا لهم، فلم يصر العدو بالدنو صديقًا، وصار الصديق بالبعاد عدوًّا، ومنها إلقاء بذور الخلاف بين النزارية والمضرية، وقيس ويمن، واعتصام خليفة بهذا، وآخر بذاك، فمروان بن محمد اصطفى قيس عيلان وانحرف عن اليمن، وباداها العداوة فصارت١٣١ عليه إلبًا، وله حربًا، وما عطف بنو أمية على العراق وخراسان العطف المطلوب فظاهروا غيرهم، وكان تنازع رؤساء العرب في خراسان على الولاية، وانقسام الجيش إلى مضري ويماني من العوامل أيضًا في ظهور أعداء الأمويين عليهم، ثم إنَّ الأمويين توسعوا في الفتوح، حتى اتسعت دائرة ملكهم إلى ما لم تبلغه دولة الرومان، فقد استطاعوا أن يقضوا على الطالبيين الذين نازعوهم سلطانهم في الأقطار القريبة من دار ملكهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على رجل من الخوارج الصفرية اسمه ميسرة لما قدمه البربر في شمالي إفريقية سنة ١٢٢ وبايعوه بالخلافة، وخوطب في طنجة وما إليها بأمير المؤمنين، هذا والأمويون كانوا في أوج سلطانهم.
كانت الدولة الأموية عربية صرفة برجالها وبكثير من أوضاعها، لم يتولَّ القيادات والنيابات فيها إلا جماعة من أبنائهم، ومن أهل البيوتات العربية المعتمد عليها عندهم، وجيوشهم كلها من أصول عربية لم يمازجها غير قليل من البربر في شمال إفريقية والأندلس، «وكان أمر بني أمية نافذًا في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقُتل، ولم يرد أمره، ثم اضمحلَّت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا.»١٣٢ وكان الأمويون على الأكثر أصحاب ثقافة عربية راقية فيهم المرونة السياسية والإدارية، تمرنوا على قيادة الجيوش وحكم الناس منذ عهد الرسول، وكان أكثر عماله منهم،١٣٣ ولم يكن في عماله ولا في عمال أبي بكر وعمر أحد من بني هاشم، وأثبت الأمويون كفاءتهم الحربية والسياسية منذ قاتلوا الروم يوم اليرموك في الشام، فكان نساؤهم وبناتهم يقاتلن مع الرجال، وما فُتحت من كور الشام مدينة إلا وجد عندها رجل منهم ميتًا، فكان من الطبيعي أن يحبهم الشاميون ويستميتوا في نصرتهم لأول أمرهم، ومن الطبيعي أن تكون الشام لهم ولأعقابهم دار ملك، ومبعث عزة وسلطان، ومن الطبيعي أن يمتد ظلهم هذا الامتداد العظيم في المشرق والمغرب.
امتد ملكهم من سواحل الأطلنطي إلى بلاد الصين، ومن جبال القوقاز وما وراءها١٣٤ إلى خط الاستواء وما وراءه، ودخلت في الإسلام في عهدهم أمم كثيرة من السلالة السامية (العرب والسريان والكلدان)، ومن السلالة الحامية (المصريون والنوبيون والبربر والسودان)، ومن السلالة الآرية (الفرس واليونان والإسبان والأهاند)، ومن السلالة التورانية (الترك والتتار)، وأمست تُتلى آي القرآن في سمرقند كما تُتلى في قرطبة،١٣٥ ويتلاقى الهندي مع السوداني في مكة للحج، وكلاهما يدين لبني أمية، وأخذت الجزية من النوبة كما قررها عمر بن الخطاب، ومن الهند والصين على ما قدرها قتيبة، وأصبحت دمشق في نظر المسلمين كرومية في نظر أهل النصرانية.
وصعب في عهد خلفائهم قيام دولة شيعية، على أنَّ الشيعة كانت تعمل منذ طمعت نفس آل أبي طالب في الخلافة، محتجين بأن الرسول أوصى بالخلافة لعلي يوم الغدير بالنص، وأنه وآله معصومون، وأنه مصيب في كل أحواله، وأنه ضل كل من لم يبايعه من الصحابة، ولم تجد هذه الدعوى أنصارًا كثارًا لها في المسلمين، وكانت الغلبة للجماعة، والأمم تحكم في كل عصر بسوادها الأعظم، وبصفات خاصة في الفاتحين والمتغلبين، وهذه الصفات كانت متوفرة فيمن تولوا بعد الراشدين، واستمات الشيعة في تحقيق أمنيتهم في الخلافة، فمُزق بهذا السبب شمل العرب والإسلام أو كاد، وجرت حروب أُبيحت١٣٦ بسببها الأموال والدماء، وتشعبت منها آراء ومذاهب، وسرى الاعتقاد بالمهدي المنتظر عند الشيعة إلى أهل السنة، وباسمه قامت أو حاولت أن تقوم دول في المغرب في القرون اللاحقة.١٣٧
وما فتئ الفريقان المتخاصمان يلبسان خلافاتهم على الخلافة ثوبًا دينيًّا، وما وجد الفريق المقهور حرجًا في الاختلاق على خصمه وتجسيم غلطاته، وكان هذا يتطلب رضاه بكل حيلة، ويعرف له مكانته وقرابته، حتى اضطر الأمويون بعد حين أن يعاملوا خصومهم بالشدة، والخصمان في نظر التاريخ من البشر، يعشقان الدنيا ويقاتلان عليها المنافس، ولا ينظر في التنظير بين الفريقين، إلا إلى الأثر الذي أثره كل منهما في كيان الأمة. وخرج أعداء الأمويين في التشنيع على أعدائهم، عن حد الاعتدال، فراحوا يخرجونهم عن الملة، وهم مساهموهم في خدمة الدين، بل لقد بذوهم في نشره، وبسط سلطان أهله على العالمين، وما أورثت هذه الخصومات الدنيوية غير تأريث الأحقاد، وفصم عرا الوحدة، والسير في طريق رَدْب،١٣٨ ما انتهت بغير الإحن والمحن على طول الزمن، سالت الدماء كالأنهار، وقتل ولاة الأمر في الدولة جماعة الشيعة والخوارج بدون توقف، والأمويون كغيرهم من أرباب الدول، لا يرون سلامتهم إلا في قتل من يناصبهم العداء، ولا يتهاملون في القضاء على من يخرج على خلفائهم.
وعجيب في مثل هذه الدولة وبنيانها قائم على العدل واللين ممزوجًا بشدة، وقد توفرت لها عامة أسباب البقاء، وعملت للأمة أعمالًا لم توفق إليها دولة إسلامية بعدها، ألا يطول عمرها كثيرًا، وقُضي عليها على أيسر سبب وهي في معظم قوتها. وقد علل أسباب انقراضها باحثان في تاريخها ربما كانا على صواب فيما ارتأياه، قال فال:١٣٩ إنَّ وفاة هشام زعزعت أركان الدولة الأموية، فثارت ثورات أوقد نارها تحريض الشيع المخالفة ودعاتهم، وكان من مظالم الولاة وتنازع الأمويين بينهم ما عجل سقوطهم. ومن أسباب الضعف أن يتعاقب على الخلافة في سنة واحدة ثلاثة خلفاء، الوليد الثاني ويزيد الثالث وإبراهيم، وكان حظ محمد والخلفاء الأول كحظ مملكة الكارولنجيين، توسعت فتوحها في العالم القديم، وانتهت بأن تزرعه بالأنقاض المنتثرة منه، والعوامل في انحلالها كالعوامل في تلك المملكة، فتن داخلية من أجل الملك، ميل الرؤساء إلى خلع ربقة الطاعة، نقمة العناصر والجنسيات ودعاة القوميات.
وقال ليفي ديلافيدا:١٤٠ لا يكفي فساد الوليد الثاني لسقوط الدولة الأموية، بيد أنَّ الوليد هيأ انحلال الدولة بعهده إلى ولديه، وما استطاع الوليد ولا يزيد الثالث، ولا أخوه إبراهيم وضع حد للفوضى، وضعف الإشراف على القاصية واستولى الخارجي الضحاك بن قيس الشيباني على الكوفة، وقام مروان بن محمد القيام المحمود في السنين الثلاث الأولى، بجيش دربه أيام ولايته إرمينية وظهر به على الروم، فذكر بعمله أعمال جده وسميَّه، وأعمال عبد الملك بعده ببلائه الحسن في توحيد المملكة، إلا أن حاله لم تكن تشبه حالهما، وكان عمله شاقًّا؛ ذلك لأن البيت الأموي كان قد دخله الوهن، وجفت فيه مادة النشاط أو كادت، وأيقن أعداؤه بنجاح الدعوة للدولة الجديدة، وما كان مروان أمام جيوش مرتجلة، كما كان الشأن في جند ابن الزبير، والعصابات المستبسلة من العلويين، بل كان أمام جيش منظم اعتاد حرب الترك، كان أمام جيش فارسي دربه أبو مسلم الخراساني. هذا وما استطاع الأمويون أن يجعلوا المملكة جسمًا واحدًا متماثلًا، وكذلك قصر باع العباسيين بعدهم في هذا السبيل، وكانت مسألة استخلاف الخلفاء في العهدين الأموي والعباسي من المشاكل الصعبة الحل، تتجدد غوائلها كلما مات خليفة.

سياسة العباسيين

لما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، قامت الشيعة من أهل المدينة،١٤١ وأهل مكة والكوفة والبصرة واليمن وخراسان، فاجتمعوا إلى محمد بن الحنفية فبايعوه على طلب الخلافة، وعرضوا عليه قبض زكاتهم، فولَّى على شيعة كل بلد رجلًا منهم، وأمره باستدعاء من قِبَله في ستر، على ألا يبوحوا بمكنونهم إلا لمن يوثق به حتى يرى للقيام موضعًا، فأقام ابن الحنفية إمام الشيعة حتى مات، وولي عبد الله ابنه من بعده، وأمره بطلب الخلافة إن وجد إلى ذلك سبيلًا، وعلم به الخليفة سليمان بن عبد الملك، ولما اجتمع إليه أنكر ما عزى إليه من المبايعة له بالخلافة؛ إذ كان «من١٤٢ الجائز للإمام في حال التقية١٤٣ أن يقول: إنه ليس بإمام.» فقيل: إنَّ سليمان بن عبد الملك دس على عبد الله من سمه في الطريق، وقيل: إنه مرض فأتى الحُميمة من أرض الشام، وبها جماعة آل العباس، فعهد قبل موته إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أن يطالب بالخلافة بعده، وولاه وأشهد له من الشيعة رجالًا، فأقام محمد بن علي هذا إمامًا، ودعوة الشيعة له حتى مات، فلما حضرته الوفاة ولي الأمر إبراهيم بن محمد المدعو بالإمام، فانتبه مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين لما كان منه فقتله، وقيل: إنَّ إبراهيم بن محمد عهد بالخلافة بعده إلى أخيه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العباس عم الرسول.
اختار محمد بن علي يوم قام يحاول انتزاع الملك من الأمويين بلاد خراسان ميدانًا لإظهار دعوته؛ لأن أهل الشام والجزيرة والحجاز لم يكن هواهم مع آل العباس، وهم يعلنون ولاءهم للأمويين سرًّا وجهرًا؛ ولأن في أهل خراسان العدد الكثير١٤٤ والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، وليس فيهم التحزب للقبيلة والعصبية للعشيرة،١٤٥ وهم مظلومون يؤملون الدول، ولم يكونوا على العهد الأموي محل الرعاية، بل أقصوهم عن الحكومة، وجلبوا إليهم العمال من الأحزاب العربية، وكان أهل خراسان في أكثر ملك العجم لقاحًا، لا يؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجًا، فلما جاء الإسلام صالحوا على بلادهم، فلم تسفك بينهم الدماء وخف خراجهم. ومن مرو الشاهجان ظهرت دولة بني العباس (١٢٧ﻫ) وصُبغ أول سواد لبسته المسودة، وقلما سمع أهل بلد بجيش خراسان إلا سودوا قبل أن يوافيهم؛ أي لبسوا السواد شعار بني العباس ونزعوا شعار المبيضين، أي الأمويين.
قالوا لما جاء الوقت الذي أعد١٤٦ فيه أبو مسلم مستجيبيه خرجوا جميعًا في يوم واحد من كور خراسان، وانجفل الناس من هراة وبوشنج ومرو الروذ والطالقان ومرو ونسا وأبيورد وطوس ونيسابور وسرخس وبلخ والضغانيان والطخارستان وختَّلان وكش ونَسف، فتوافوا جميعًا مسودي الثياب، وقد سودوا أيضًا أنصاف الخشب التي كانت معهم، وسموها «كافر كوبات» وأقبلوا فرسانًا وحمارة ورجالة يسوقون حميرهم ويزجرونها «هَرَّ مروان»، يسمونها مروان ترغيمًا لمروان بن محمد وكانوا زهاء مائة ألف رجل.
لما وجه إبراهيم الإمام أبا مسلم الخراساني إلى دعاته بخراسان أعطاه لواء يُدعى الظل وراية تُدعى السحاب، فعقدهما على رمحين، ومعنى الظل والسحاب أنَّ السحاب يطبق على الأرض فلا تخلو من الظل، كما لا تخلو الأرض من خليفة عباسي آخر الدهر، وجعلت الراية سوداء حزنًا على شهدائهم من بني هاشم، ونعيًا على بني أمية في قتلهم،١٤٧ وكان الحارث بن سريج لما ثار على بني أمية (سنة ١١٦ﻫ)، وكذلك بهلول الخارجي (سنة ١١٩ﻫ)، وأبو حمزة الخارجي (سنة ١٢٨ﻫ) اتخذوا اللواء الأسود شعارًا، وما كان أحد منهم في حداد على أحد من آل البيت.١٤٨
وكان إبراهيم الإمام أوصى أبا مسلم باليمانيين، وأن يقتل من يشك فيه من مضر، وإن استطاع ألا يدع بخراسان من يتكلم بالعربية فليفعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله، فأنفذ أبو مسلم ما أمر به، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار في خراسان. واستمر١٤٩ ما كان من الشنآن بين النزارية واليمانية، وتحزب الناس بالمثالب، وثارت بينهم في البدو والحضر، فغلب على خراسان، بضعف الأمويين آخر أيامهم عن إنجاد واليهم عليها، وتخطت عسكره إلى العراق، وما وضع مقاليد الخلافة في أيدي بني العباس بالكوفة حتى كان قتل فيما قيل ستمائة ألف إنسان.
كان آل العباس وآل أبي طالب شرعا١٥٠ في المطالبة بالخلافة؛ ولذلك سُموا شيعة آل محمد، ولم يكن إذ ذاك بين بني علي وبني العباس افتراق في رأي ولا مذهب، فلما ملك بنو العباس نفر عنهم فرقة من الشيعة مالت إلى بني علي، واعتقدت أنهم أحق بالأمر، فصار المتشيع هو الذي يعتقد إمامة أئمة الإمامية من بني علي لا الموالي لبني علي والعباس — كما كان من قبل — وكان المنصور أول١٥١ ملك أوقع الفرقة بين ولد العباس وولد علي بن أبي طالب، وإذ قدر أن يستأثر بالملك آل العباس دون الطالبيين، أصبح هؤلاء بحكم الطبيعة من المخالفين، ونقم الطالبيون على العباسيين وخرجوا عليهم في كل عصر.

أيقن إبراهيم الإمام بأنه مقتول لا محالة بأيدي الأمويين فنعى نفسه إلى أهل بيته، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه عبد الله، وأوصى إليه بالخلافة، فسار بأهل بيته وفيهم أخوه أبو جعفر، فأقام بالكوفة شهرًا وهو مستخفٍ، ثم ظهر وسلموا عليه بالخلافة، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي، ولُقب بالسفاح؛ لأنه سفح دماء بني أمية، وقال في أول خطبة خطبها «أنا السفاح المبيح والثائر المنيح.» وفي هذه الخطبة يقول ردًّا على الشامية — أي بني أمية — في قولهم: إنهم أحق بالرياسة والسياسة والخلافة من غيرهم: إنَّ الله لما قبض الرسول إليه قام بالأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم، «وحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها، ثم وثب بنو حرب وبنو مروان، فانتبذوها وتداولوها، فجاروا فيها واستأثروا … وقام عمه داود بن علي فقال: أيها الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينًا ولا عقيانًا، ولا نحفر نهرًا ولا نبني قصرًا، وإنما أخرجتنا الأنَفَة من ابتزازهم حقنا، والغصب لبني عمنا، وما كرهنا من أموركم.»

وفرق السفاح الولايات على رجال من آل بيته، وعهد إليهم أن يستأصلوا الأمويين، وكل من يمتُّ إليهم بسبب، ولم تأخذ العباسيين رأفة بأطفال الأمويين ونسائهم وشيوخهم، قتلوا حتى من استأمن منهم، وبحثوا عنهم في كل صوب وحدب، واجتثوا أصولهم وفروعهم، وأخذوا ثاراتهم من أحيائهم بالقتل، ومن أمواتهم بنبش قبورهم، وصلب أشلائهم، وإحراق عظامهم، وتذريتها في الريح، أو بصب اللعنات عليهم، وتسويد صحائفهم، ثم كتب السفاح كتابًا عامًّا إلى البلاد يعطي فيه الأمان للأمويين، وما كان أمانه إلا مدرجة لظهورهم، حتى إذا برزوا للناس قُتلوا كل قتلة بلا حكم ولا مسوغ.

وأهم ما وقع بموت السفاح قيام عبد الله بن علي عم السفاح يدعو بالشام والجزيرة إلى نفسه، زاعمًا أنَّ السفاح جعله ولي عهده من بعده، فجهز المنصور لحربه أبا مسلم الخراساني فاشتد القتال بينهما في نصيبين، ثم انهزم عبد الله والتحق بأخيه في البصرة، واستولى أبو مسلم على جميع ما كان أخذه عبد الله من نعمة بني أمية في الشام.

ولقد كان المنصور كالسفاح ممن لا تأخذهم هوادة في سبيل الملك، وربما كان في شدته على العلويين أكثر من شدته على الأمويين؛ فقد كان في العلويين بقية من قوة يخشى شرها، أما رجال بني أمية فقد قُتلوا، ولم يبقَ منهم إلا عبد الرحمن بن معاوية الذي أفلت من مجازر العباسيين، وذهب إلى الأندلس وأقام فيها ملكًا، جمع حوله فيه كل شريد وطريد من آله وأنصارهم، فأرسل المنصور عليه جيشًا بقيادة العلاء بن مغيث اليحصبي، فنزل باجة داعيًا إلى المنصور واجتمع إليه خلق فسار إليه عبد الرحمن ولقيه بنواحي إشبيلية، فقتل القائد العباسي وجيشه كله، وكان سبعة آلاف، وقع هذا بعد سنة ١٣٩ﻫ فقال المنصور في عبد الرحمن الداخل: ما هذا إلا شيطان، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر، أو كلامًا هذا معناه، ولقَّبه بصقر قريش.

ولما قتل المنصور أبا مسلم الخراساني خرج١٥٢ رجل اسمه سنباذ بخراسان يطلب بثأره، ولما التقى هو وعسكر المنصور، كان سنباذ قد أخذ معه عدة من النساء المسلمات اللواتي قد سباهنَّ، وهنَّ على جمال، فأمر سنباذ بإخراج النساء المسبيات قدام عسكره، فخرج النساء حواسر على الجمال، وصحن صيحة واحدة: وا محمداه، فنفرت الجمال، وكرت راجعة على عسكر سنباذ ففرقتهم، فتبعها عسكر المنصور ودخلوا خلف الجمال، فوضعوا فيهم السيوف وأبادوهم قتلًا، وكان عدد القتلى ستين ألفًا.
وظهر محمد بن عبد الله العلوي (١٤٥ﻫ) في المدينة ودعا إلى نفسه فبايعه أهلها بالخلافة، وقال: إنه خرج١٥٣ غضبًا لله، واستولى على مكة واليمن فندب المنصور لقتاله ولي العهد عيسى بن موسى، وقال: لا أبالي أيهما قتل الآخر، يعني إن قُتل هذا الخارج فبها ونعمت، وإن قُتل عيسى استراح منه ليولي مكانه ابنه المهدي، فحارب محمد حتى قُتل، ثم خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله بالبصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وعلى فارس وأكثر السواد، وشخص عن البصرة في المعتزلة وغيرهم من الزيدية، فبعث إليه أبو جعفر عيسى بن موسى فحارب إبراهيم حتى قُتل وقُتلت المعتزلة بين يديه.١٥٤ ويقول أرباب التواريخ: إنَّ المنصور لما بلغه خروج إبراهيم بن عبد الله خاف واشتد قلقه، وتحول فنزل بالكوفة ليأمن غائلة الشيعة، وألزم الناس حينئذ بلبس السواد حتى العوام، وجعل يقتل كل من يتهمه أو يسجنه، والشيعة يغلون ويتبايعون سرًّا لإبراهيم حتى اتسع الخرق، وبقي المنصور لا يقر ولا ينام وحار في نفسه، وحوله بالكوفة مائة ألف سيف كامنة مضمرة للشر. قال الذهبي: لولا السعادة لزال ملكه بدون ذلك، وقيل: إنَّ عسكر إبراهيم بن عبد الله بلغوا مائة ألف، فلو هجم على الكوفة لاستولى على الأمر وظفر بالمنصور: وخشي إن هجمها أن يُستباح الصغار والكبار، وكان جنده يختلفون عليه وكل واحد يشير برأي، إلى أن كانت الوقعة بباخمرا على يومين من الكوفة، وقُتل إبراهيم وأفلت ابن أخيه إدريس بن عبد الله فأتى مصر وحمله صاحب البريد إلى المغرب، فانتهى إلى أرض طنجة ونُودي به إمامًا سنة ١٧٢، ثم خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بفخ على ستة أميال من مكة، فخرج إليه عيسى بن موسى فقتل الحسين وأكثر من معه.

وخرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة (١٥٠ﻫ) فاشتد الأمر على المنصور، وجهز جيشًا عظيمًا، وكذلك كان من الأمير الذي عصا عليه فجرت بين الفريقين وقعة يُقال إنه قُتل فيها سبعون ألفًا، وضرب الجيش العباسي أعناق الأسرى، وكانوا أربعة عشر ألفًا، وغلب الخوارج الأباضية على إفريقية (١٥٣ﻫ)، وبايعوا أبا قرة أحد رؤسائهم بالخلافة، وجهز المنصور خمسين ألف فارس وأنفق عليهم ثلاثة وستين ألف ألف درهم، وكانت إحدى شيع الخوارج النكرية هي التي قامت بهذه الثورات على الخلافة، ثم استعاد المنصور إفريقية من الخوارج وقتل عامله كبارهم.

وغزا الروم في أيام المنصور ملطية وقالقيلا وهدموا سور ملطية، وعفوا عن المقاتلة والذرية، فأرسل المنصور (سنة ١٤٠ﻫ) فعمرها في ستة أشهر، ثم سار ملك الروم إليها في سبعين ألفًا، فلما بلغه كثرة المسلمين رجع عنهم. وفي أيام المنصور أيضًا احتل الروم طرابلس الشام، وظهر في لبنان رجل من أهل المنيطرة١٥٥ (سنة ١٤٢-١٤٣ﻫ) وسمى نفسه ملكًا، ولبس التاج وأظهر الصليب، واجتمع عليه أنباط جبل لبنان وغيرهم، واستفحل أمرهم، فظهر الجيش العباسي عليهم، وكانت علائق المنصور مع ملك فرنسا (ببين القصير) حسنة، أسرع١٥٦ هذا إلى عقد صلات مع خليفة بغداد، وأرسل في سنة ٧٦٥م رسلًا لبثوا ثلاث سنين حتى رجعوا إلى فرنسا، ومعهم رسل الخليفة، ثم عادوا إلى بغداد ومعهم الهدايا إلى الخليفة. ويُقال: إنَّ المنصور١٥٧ حرض ببين على قتال عبد الرحمن الأموي في الأندلس، وكان خلفاء الشرق يحاسنون ملوك الفرنسيس ويتبادلون وإياهم الهدايا والألطاف، وببين هذا لا يزال يغري بعضهم بالإيقاع ببعض، وملوك قرطبة يراسلون قياصرة القسطنطينية الذين كانوا في حرب مع مسلمي الشام وفارس ومصر، وظهر المنصور على من بيضوا في الشام؛ أي لبسوا شعار الأمويين، وكان عرب الشام١٥٨ ندموا على ما أتوا من خذلان بني أمية، حتى تسلط العجم من أبناء خراسان عليهم، فهاجت لذلك واضطربت، وامتنعوا من البيعة لبني العباس، وقاوموهم بجموعهم، وحاربوهم بمن بقي من أحباب الأمويين، ومنهم من ادعى الخلافة، ومنهم من ادعى أنه السفياني نسبة لأحد أبناء أبي سفيان المبشرين بإعادة ملك بني أمية، فالتف الناس حولهم، وكان المقصود من دعوى السفياني تقوية الآمال برجوع دولة بني أمية، ومسألة السفياني عند الأمويين كدعوى المهدي عند العلويين، اختلقوا لها أحاديث وجلبت ويلات على الضعفاء، وقُتل المشايعون لها تقتيلًا بأيدي الأقوياء، عن مسلمة بن عبد العزيز قال: سمعت العزرمي يقول: سمعت محمد بن علي يقول: النبي ما زال منا والمهدي من بني عبد شمس، ولا نعلمه إلا عمر بن عبد العزيز، وكان الناس يرون موسى بن طلحة بن عبيد الله في زمانه هو المهدي.
كان اليمانيون يذهبون إلى أنه سيظهر فيهم القحطاني المنتظر، والمضريون يعتقدون بالتميمي حتى إنَّ عبد الرحمن بن الأشعث ادعى أنه القحطاني،١٥٩ وكان الحارث بن سريح الذي قام على الأمويين يدعي أنه المهدي وأنَّ الله أرسله لإنقاذ الأمة من الظلم وإقامة حكومة يرضى عنها السواد الأعظم، وبالطبع تكون من آل البيت.
والمنصور١٦٠ أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه في أعماله، وقدمهم على العرب، فاقتدى به من بعده من الخلفاء، حتى سقطت قيادات العرب وزالت رياستها وذهبت مراتبها، واستعمل كثيرين من أهل بيته في القيادات الكبرى، واختار من استخلصه من غيرهم للأعمال الصغيرة، واستوزر أبا أيوب المورياني الخوزي وهو فارسي، كما استعمل ابن عطية الباهلي وهو من صميم العرب، فهو الخليفة الذي بدأ بخلط العناصر الإسلامية، وما تشدد في أصول من يستعملهم في شئون الدولة.

وخلع المنصور من ولاية عهده عيسى بن موسى (سنة ١٤٧ﻫ) وعهد لابنه المهدي، وجعل لعيسى بن موسى ولاية العهد بعد المهدي، ووجه المهدي في خلافته رسلًا إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى الطاعة، فدخل أكثرهم في طاعته، فكان منهم ملوك كابل وطبرستان والسغد وطخارستان وباميان وفرغانة وأشروسنة والخرلخية وسجستان والترك والتبت والسند والصين والهند والتغرغز، وغزت جيوشه الروم والهند، وخرج عليه في خراسان يوسف بن إبراهيم فقضى عليه.

وحمل المهدي عيسى بن موسى على خلع نفسه من ولاية العهد، وبايع لابن المهدي موسى بن محمد الذي لُقب بالهادي، وكان المهدي في آخر أيامه يود لو تنحى ابنه الهادي من ولاية العهد، ويقدم عليه ابنه الآخر هرون، لما رأى من كفاءة هذا. وفي أيام المهدي خرج نائبه دحية بن مصعب بن الإصبغ بن عبد العزيز بن مروان بصعيد مصر، ومنع الأموال ودعا إلى نفسه بالخلافة، وملك عامة الصعيد، وقاتل العباسيين مدة فأعجزهم.

كانت الخيزران أم الهادي تتدخل في أمور السلطان لقضاء حوائج الناس، فمنعها ابنها من ذلك، وكانت تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله، في الاستبداد بالأمر والنهي فأرسل إليها، ألا تخرج من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل، فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليها بصلاتها وتسبيحها وقبلتها، ولها بعد هذا طاعة مثلها فيما يجب لها، وحرضها ألا تفتح فاها في حاجةٍ لملِّي ولا ذمِّي، وحلف أن يضرب عنق كل من يقف على بابها من قواده وخاصته وخدمه.

•••

بويع للرشيد عند موت أخيه الهادي، وكان أبوهما عقد لهما بولاية العهد معًا، وكانت حدثت الهادي١٦١ نفسه بخلع الرشيد، وجمع الناس على تقليد ابنه العهد بعهده فأجابوه، وأحضر هرثمة بن أعين فقالوا له: تبايع يا هرثمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين يميني مشغولة ببيعتك، ويساري مشغولة ببيعة أخيك، فبأي يد أبايع، والله يا أمير المؤمنين ما أكدت في الرقاب من بيعة ابنك أكثر مما أكده أبوك لأخيك في بيعته، ومن حنث في الأولى حنث في الأخرى، ولولا تأول هذه الجماعة بأنها مكرهة، وإسرارها فيك خلاف ما أظهرت، لأمسكت عن هذا، فقال لجماعة من حضر: شاهت وجوهكم، والله لقد صدقني مولاي وكذبتموني، ونصحني فغششتموني، وسلم إلى الرشيد ما قدره الهادي فيه.
ومن الغريب أن سَلَّم على الرشيد بالخلافة، وهو في الثانية والعشرين من عمره، كل من عمه سليمان بن المنصور، وعم أبيه المهدي وهو العباس بن محمد، وعم جده المنصور وهو عبد الصمد بن علي، وبويع له بإجماع الأمة ما عدا جزيرة الأندلس،١٦٢ وكانت سياسة الرشيد رشيدة في شئونه الداخلية والخارجية، غزا الروم حتى وصل إلى اسكدار من ضواحي القسطنطينية أيام ولايته العهد، وتغلغل مرة ثانية في بلادهم وغزاهم في خلافته بضع غزوات، وأخذ منهم هرقلية، وبعث ملكهم إليه بالجزية عن رعيته وعن رأسه ورأس ولده وبطارقته، واشترط عليه الرشيد ألا يعمر هرقلية، وأن يكون الحمل في السنة ثلاث مائة ألف دينار، وكان نقفور صاحب الروم نقض العهد الذي كان أعطاه، قال معاوية بن عمرو:١٦٣ وقد رأينا من اجتهاد أمير المؤمنين هرون في الغزو، ونفاذ بصيرته في الجهاد، أمرًا عظيمًا، وأقام من الصناعة (الأسطول) ما لم يقم قبله، وقسم الأموال في الثغور والسواحل، وأشجى الروم وقمعهم، وسُمي الرشيد جبار١٦٤ بني العباس؛ لأنه أغزى ابنه القاسم الروم فقتل منهم خمسين ألفًا، وأخذ خمسة آلاف دابة بسروج الفضة ولجمها، وأغزى علي بن عيسى بن ماهان بلاد الترك فقتل منهم أربعين ألفًا، وسبى عشرة آلاف، وأسر ملكين منهم، ثم غزا الرشيد نفسه الروم وافتتح هرقلية وأخذ الجزية من ملك الروم.
يقول أرباب التواريخ١٦٥ من الإفرنج: إنَّ الرشيد كان بينه وبين شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا في عصره صلات سياسية، وإنهما تبادلا السفراء، وإنَّ الرشيد أرسل هدايا إلى شارلمان، وبعث إليه بمفاتيح القبر المقدس، وإنَّ نصارى الشام نُفس من خناقهم عقبى هذه العلائق بين ملكي الإسلام والنصرانية. ولا أثر لهذه الرواية في تواريخ العرب. ويقول١٦٦ رينو: إنَّ هرون الرشيد بعث وفدًا إلى شارلمان، وكان شارلمان قبل ذلك قد أرسل رسولًا يهوديًّا اسمه إسحق، مصحوبًا باثنين من الفرنسيس للسلام على الخليفة، فعاد الوفد من الشرق إلى الغرب يحمل إلى شارلمان هذا شيئًا من المنسوجات وفيلا وطيوبًا ومعطرات، ومن جملة الهدية شمعدان من نحاس أصفر عظيم الحجم، وساعة من نحاس أصفر أيضًا تتحرك بالماء وتدق اثنتي عشرة مرة بعدد ساعات النهار، وأبلغ الوفد شارلمان ما قال له الرشيد من أنه يضع مودته فوق مودة جميع الملوك.

وفي أيام الرشيد خرج الوليد بن طريف الحروري من رءوس الخوارج (سنة ١٧٩ﻫ) فقُتل بعد أن استفحل شأنه، وخرج في الديلم يحيى بن عبد الله العلوي وبايعه الشيعة وكثرت جموعه، فبعث إليه الرشيد جيشًا فقتله وأنصاره، وخرج بتاهرت السفلى محمد بن جعفر فغلب عليها وصارت في أيدي مناصريه، وخرج الخزر (سنة ١٨٣ﻫ) من باب الأبواب فقتلوا وسبوا، وقيل: إنهم سبوا مائة ألف، فطردتهم عساكر الخليفة، ثم سدوا الباب الذي خرجوا منه، وأمر الرشيد بإخراج الطالبيين من دار السلام إلى المدينة.

ومن رأي سترستين١٦٧ أنَّ انحطاط دولة بني العباس بدأ بالرشيد، ونحن نرى أنَّ عهد الرشيد وابنه المأمون أرقى عصور بني العباس قوة وعظمة وثقافة، وهو العصر الذهبي، بما لا يقبل الجدال ودور الانحطاط، إنما بدأ بعد عصر المعتصم باستيلاء الأعاجم على مقاليد الدولة، فخرجت عن عظمتها، وعلق الضعف يدب فيها، والفساد يعبث بكيانها، ولعل سترستين يعد من انحطاط هذه الدولة أن يعهد الرشيد لابن الأغلب عامله على إفريقية (تونس) بأن يؤدي عنها كل سنة أربعين ألف دينار، وينزل عن المعونة التي كان سلفه يأخذها من مال مصر، وقدرها مائة ألف دينار، وجعل الإمارة لعقبه من بني الأغلب يتوارثونها، والواقع أنه قلما عُهد من الخلفاء توسيد العمالات للبنين بعد الآباء، وأنَّ إفريقية بهذا الصنيع أصبحت مستقلة في داخليتها، مرتبطة بالخلافة العباسية في أمورها المهمة فقط، فصغرت رقعة الدولة العباسية بالإمارة الأغلبية في إفريقية، ومن ورائها الدولة الرسمية في تاهرت، ودولة إدريس في طنجة، ودولة بني أمية في الأندلس، فانسلخت ممالك من جسم دولة بني العباس في الظاهر، واكتفوا بتوسعهم في أملاكهم في الشرق، وحصروا وكدهم في البلاد الباقية، وفيها ما يستغرق جميع قوى الدولة.

وربما كان مما دعا الرشيد إلى إعطاء هذا الاستقلال كون جمهرة جيوش العباسيين من خراسان وما وراء النهر وغيرها من أرض الترك، والأعاجم كغيرهم تهوي أفئدتهم أبدًا إلى بلادهم، وهم أعرف بمداخل بلادهم ومخارجها، وطباعهم أقرب إلى التلاؤم مع هواء المشرق، ولئن كانت جيوش الرشيد مستعدة على الدوام للوثبة على الأعداء، لكن أي الحملات يضمن لها النجاح كل حين، إذا قضى عليها أن تسير عند الاقتضاء من ضفاف الفرات ودجلة إلى المغرب الأقصى، أو من مصر إلى الغرب الأقصى، مع هذه المساوف الطويلة في البر، وهي لا تقل عن بضعة أشهر بسير الجيش.

إذا نظرنا إلى توسيد إمارة إفريقية إلى ابن الأغلب من وجهها الحسن، نقول: إنَّ الرشيد أراد أن يجعل من إفريقية سدًّا بينه وبين أعدائه من الأمويين، ويترك لبني الأغلب أن يعالجوا شئون الغرب الأقصى والأدنى، وما يقوم فيه النُّزاع إلى الثورة والخارجون على السلطان، ليتفرغ لشئون مملكته التي أربت بسعتها على مملكة الرومان في أوج عظمتها. أما إذا نظرنا إلى ما جرى من وجهه القبيح، فنقول: إنَّ العباسيين بدءوا على عهد الرشيد ينزلون عن أجزاء مهمة من ممالكهم؛ لعجزهم عن سياستها وإملاء إرادتهم عليها، والانتفاع بها من كل ناحية، بيد أنَّ الرشيد لم يعهد لابن الأغلب بولاية إفريقية إلا لما استشار أولياءه،١٦٨ وفي مقدمتهم أعظم قواده هرثمة بن أعين، وكان ولي إفريقية وخبر أحوالها، وتولى الآغالبة قتال الأباضية وبني إدريس بن عبد الله الظاهر ملكهم يومئذ بالمغرب، وفتحوا صقلية ومالطة وجزائر البحر، ووسعوا بما فتحوا ملك الإسلام تحت علم الخلافة العباسية، وعمرت إفريقية وغيرها من الأقطار والجزائر التي فتحوها عمرانًا لا نظير له من كل وجه.
وعهد الرشيد في سنة ١٧٥ﻫ إلى ولده محمد الأمين، ومحمد بن خمس سنين، قال اليعقوبي أخرجه إلى القواد فوقف على وسادة، فحمد الله وصلى على نبيه، فقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس، لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولقد اضطر الرشيد إلى هذه البيعة لتطاول أعناق كثير من بني العباس للخلافة، ولكن ما عُزي من الكلام إلى عبد الصمد بن علي فيه نظر؛ لأنه أشبه بالهزل١٦٩ منه بالجد، على أنَّ الرشيد أخذ البيعة للمأمون بعد الأمين في سنة ١٨٣، وأودع العهد الذي كتبه بينهما في الكعبة، وقال فيه: إنَّ الغادر منهما خارج عن الأمر، أيهما غدر بصاحبه فالخلافة للمغدور به،١٧٠ وكان الأمين البادئ بهذا الغدر بنزعه ولاية العهد من أخيه المأمون وتفويضها إلى ابنه الطفل، وكان الرشيد جعل للمأمون خراسان وسجستان وجرجان وطبرستان والري وما إليها خمس سنين على أن يكون له جميع ما في جيشه وفي البلاد من العتاد والعدة، فكانت هذه المهمات من العوامل النافعة في تغلبه على أخيه، ولم تصف له الخلافة حتى أهرقت دماء كثيرة. ولما جرى بين الأمين والمأمون ما جرى، وقتل الأمين، وأعطى أهل خراسان الطاعة للمأمون، وبايعوه بالخلافة خطبهم فقال: أيها الناس، إني جعلت لله على نفسي إن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دمًا عمدًا لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالًا ولا أثاثًا ولا نحلة تحرم علي، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي، جعلت ذلك كله لله عهدًا مؤكدًا، وميثاقًا مشددًا، فإن غيرت أو بدلت كنت للعبر مستأهلًا، وللنكال متعرضًا، وكان منه أن وفى بشروطه.
وحاول المأمون أن يريح الأمة من متاعب الخلافة، بعد أن رأى عبث أخيه الأمين وعبث المهدي والهادي، فارتأى أن يوسد ولاية العهد لأحد أبناء علي، فرأى وهو في خراسان قبل أن يعود إلى دار ملكه، أن يعهد إلى علي بن موسى الرضا، رجل زمانه من آل البيت علمًا وصلاحًا، وزوجه ابنته أم حبيب، وزوج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل،١٧١ وضرب اسم ولي عهده على الدينار والدرهم، وأزال السواد شعار بني العباس من اللباس والأعلام، فأكبر آل العباس هذا، ورأوا فيه مسًّا بحقوق بيتهم، وكانوا ثلاثة وثلاثين ألفًا، فبايعوا بالخلافة في بغداد لعم المأمون إبراهيم بن المهدي، ولما رأى هذا قوة ابن أخيه اختفى مدة، فعفا المأمون عنه، وكان المأمون شاور فيه أصحابه فكل أشار بقتله فقال لهم: «إن قتلته كنت متبعًا للملوك قبلي فيما فعلته بمن ناوأها ونازعها، وإن عفوت كنت أمة وحدي.» وكذلك كان أمة وحده. قالوا: وكان المأمون يقصد من جعل حصة للعلويين في الخلافة، والاستعاضة عن سواد بني العباس بخضرة آل علي، أن يحمل هؤلاء على الظهور؛ لأن القوم كادوا يعدونهم من غير الطينة البشرية، وارتأى أنهم متى ظهروا من استتارهم للناس رأوهم مثل غيرهم، وفيهم الفاجر والطاهر، فتنتهي المطالبة أو تخف وتحقن الدماء، وأخرى أنَّ المأمون كان يرى في الخلافة رأي المعتزلة، وهو أن توسد إلى الأصلح لها في المسلمين ولو كان من غير قريش، وبذلك ترجع الأمة مجموعة الشمل، لا فرقة في صفوفها، ولا خلل في بنيانها، وتكون الخلافة للصالح لها، يعيدها سيرتها الأولى على عهد أبي بكر وعمر، بعهد من الخليفة للأصلح، أو شورى يختاره لها جماعة من الأخيار، وأما قول من قال: إنَّ المأمون عهد لعلي بن موسى الرضا؛ لأنه كان يتشيع، فإن تشيع المأمون هذا كان مقبولًا معتدلًا، وهو أقرب إلى الاعتزال، والمأمون يريد أن ينصب خليفة للمسلمين كافة، لا للسنة ولا للشيعة ولا للمعتزلة ولا للخوارج.

كانت الخلافة أوائل العهد الأموي قد انقلبت ملكًا عضوضًا، يقوم على الغلب والعصبية، ويورث ويُتنازل عنه، فإن جاء في الخلفاء من انطوى على حزم وكياسة، استقرت أمور الدولة، وسارت شئونها على الصراط السوي، وإلا أصبحت في بحر مائج من الفضائح والفظائع، وندر في البيوت تسلسل الفضائل والذكاء في بطون كثيرة مددًا متطاولة، مهما عني الأسلاف بتأديب الأخلاف، ولا بدَّ من حدوث عوارض كالمرض أو الشيخوخة، تطرأ على البيوت كما تطرأ على الأوطان والإنسان، وهذا في الجملة ما دعا إلى تقلقل الدول الإسلامية بتقلقل القائمين بالأمر فيها؛ لأن الأيدي التي تعاورتها كانت تتفاوت قوةً وضعفًا.

أراد المأمون أن يغير نهج العباسيين في الخلافة، وقد رأى آله أخذوا بنظرية الحق الإلهي١٧٢ في الحكم وصبغوها بصبغة إسلامية، فجعلوا الخلافة ميراثًا عن النبي يتوارثونها، وساروا على قواعد الفرس في نظام البلاط، وفي هذا النظام من فتح المجال للدسائس ما فيه؛ فقد ذهب المهدي والهادي ضحية مكايد دُبرت لهما في البلاط، وما أغنى عنهما الاستبداد، وكان من يحكم في ظل هذا النظام، إذا كان قويًّا يستبد ويطغى، وإن كان ضعيفًا فهناك الفتن والاضطرابات والدسائس؛ فقد كان المنصور والمهدي والرشيد والمتوكل جبابرة مستبدين في أحكامهم؛ لأنهم على قوة في ذاتهم، أما الضعاف من خلفائهم فكانوا ألاعيب في أيدي أهل البلاط ونساء القصر، يصرفونهم على الهوى، ويرأمون للمذلة، فيكون اسم الخلافة لهم، والفعل للنافذين من أهل سلطانهم. ا.ﻫ.

وآية كل ذلك أنَّ الخليفة إذا استجمع ما تقتضيه الخلافة من علم وعدل وكفاية، أراح الأمة والدولة في حياته وبعد مماته، وإذا كان على عكس ذلك، ومثله من كثر ظهورهم في القرن الثالث من الخلفاء، فهناك البلاء والشقاء.

وفي أيام المأمون خرج في مكة محمد بن جعفر الصادق وكان يُلقب بديباجة لحسن وجهه، وبويع له بالخلافة وسموه أمير المؤمنين، فأرسل المأمون إليه جيشًا فكانت الغلبة له، وظفر به المأمون وعفا عنه، ثم أخرجه معه من بغداد فمات بجرجان. وفي سنة مائتين ظهر في اليمن إبراهيم بن موسى الكاظم ولم يتم أمره، وكان يُعرف بالجزار لسفكه الدم،١٧٣ وكان داعية لمحمد بن إسماعيل صاحب أبي السرايا فوجه إليه المأمون جيشًا فهزمه وصار إلى العراق فأمنه المأمون، وخرج بالكوفة في أيام المأمون محمد بن إبراهيم من آل البيت ودعا إليه أبو السرايا، والمأمون بخراسان، وأنفذ زيد بن موسى داعية له، ثم مات بعد أربعة أشهر من خروجه، فخرج بعده مع أبي السرايا محمد بن محمد بن زيد العلوي، فأخذ بطريق خراسان فقتله أبو السرايا، وأظهر بعد ذلك موت محمد، ويُقال: إنه حُمل إلى المأمون وهو بمرو فمات هناك،١٧٤ وفي أيامه خرج زيد بن موسى بالبصرة على المأمون وفتك بأهل البصرة فأرسل إليه المأمون أخاه علي بن موسى الرضا فجاءه، وقال له: ويلك يا زيد؛ فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله، والله لأشد الناس عليك رسول الله، يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطي به. فبلغ كلامه المأمون فبكى وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله. وفي سنة سبع ومائتين خرج عبد الله١٧٥ بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن، يدعو إلى الرضى من آل محمد، فوجه إليه المأمون دينار بن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه فقبل ذلك، ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمر بأخذهم بلبس السواد، وعلى ما رأى المأمون من تهجم الطالبيين على خلافته، أوصى أخاه المعتصم أن يحسن صحبة بني عمه من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويتجاوز عن مسيئهم، ويقبل من محسنهم، وألَّا يغفل صلاتهم في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتَّى.١٧٦
وكان المأمون يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ويوجه رسله فيفرضون لمن يرغب في الديوان، وأراد الفريضة لأهل تلك النواحي وأبناء ملوكهم، ويستميلهم بالرغبة، فإذا وردوا بابه شرَّفهم وأسنى صلاتهم وأرزاقهم. ثم استخلف المعتصم، فكان على مثل ذلك حتى صار جل شهود عسكره من أهل ما وراء النهر، من السغد والفراغنة والأشروسنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه، وغلب الإسلام على من هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك. والترك١٧٧ أجناس مختلفة، ولكل جنس مملكة منفردة يحارب بعضهم بعضًا.

ولم يغفل المأمون عن قتال الروم، غزاهم غير مرة وفتح مدنًا من بلادهم، وفي أيام أبيه جرى الفداء بين الروم والمسلمين، حتى لم يبقَ في أرض الروم من أهل الإسلام أحد، وكأن الروم كانوا عارفين بأن مملكتهم لا تنجو من أيدي المسلمين إلا إذا غزوهم، كلما استطاعوا إلى غزوهم سبيلًا، وكذلك المسلمون كانوا موقنين بأن غزو الروم فريضة عليهم، وإلا جاء الروم، إذا آنسوا ضعفًا، يستولون على ما قدروا عليه من البلاد، فتعادل بهذا التوازن بين الأمتين، ورجحت كفة المسلمين، ولا سيما في عهد الرشيد والمأمون والمعتصم.

وأرسل المأمون وفدًا من قبله إلى ملك فرنسا مؤلفًا من رجلين مسلمين وآخر نصراني، حملوا إلى إمبراطورها من قبل الخليفة العباسي فيها منسوجات فاخرة، وأفاويه عطرة، وكانت العلائق بين العباسيين وملوك فرنسا حسنة.

•••

دبَّ الضعف في الخلافة العباسية بعد المعتصم بفتحه للأتراك باب السيطرة على الأمة، واعتماده عليهم في تدبير ملكه وإدارة ولاياته، فكان ناقض الحجر الأول من أساس دولته،١٧٨ ولم يتجلَّ الانحلال في أيامه كثيرًا، وبعد زمنه أخذ الأتراك يسيطرون على الخلفاء، بل يقتلونهم ويسملون عيونهم، ويستبدلون بهم غيرهم، ويبعدون عن الخلافة من يصلح لها، فقد بدءوا بقتل المتوكل بن المعتصم، وأنشأوا يقتلون من شاءوا ويبقون على من شاءوا، استضعفوا الخلفاء فكان الخليفة١٧٩ في أيديهم كالأسير. وفي أيام المعتصم خرج محمد بن القاسم من ولد الحسين بن علي بالطالقان من بلاد خراسان فحاربه عبد الله بن طاهر وهو على خراسان فانهزم محمد، ثم قدر عليه فحمل إلى المعتصم فحبسه معه في قصره، فاختلف الناس في أمره فمن قائل يقول هرب، ومن قائل يقول مات، ومن الزيدية من يزعم أنه حي وأنه١٨٠ سيخرج. وفي أيامه خرج علي بن محمد من آل البيت فقتله بنو مرة بن عامر، وظهر بابك الخرمي المجوسي سنة إحدى ومائتين وتبعه خلق كثير، واستفحل أمرهم فاستولوا على جبال طبرستان، ومكث بابك عشرين سنة فقتل في حروبه عشرات الألوف من الخلائق، وانهزم أمامه الجيش العباسي، حتى بعث المعتصم أفشينًا فحاربه (٢٢٣ﻫ)، وسُمي أصحاب بابك المحمرة؛ لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيامه.١٨١ وكان العراك شديدًا في أيام المتوكل بينه وبين القواد الأتراك، حتى عزم أن ينقل عاصمة الخلافة إلى دمشق، ونقل إليها الدواوين بالفعل، وجاءها بنفسه ثم عدل عن رأيه، وكان شديدًا على العلويين، عفى قبر الحسين بن علي، وبقدر ما كان من شدة المتوكل في هذا المعنى، كان الواثق يكرم العلويين ويحسن إليهم، «وما أحسن أحد إلى آل أبي طالب من خلفاء بني العباس ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير.» ورد أيضًا على بعض بني أمية أموالهم، وكان القادر أيضًا بارًّا بالطالبيين وبأهله، وفي أيام المتوكل غزا الروم دمياط وقتلوا وسبوا من المسلمين والأقباط، فأمر المتوكل بهدم جميع البيع المحدثة في الإسلام١٨٢ في مملكته، وألا يُستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من عمل السلطان، ومنع١٨٣ النصارى من العمارة، وأفردهم بلباس خاص، وكتب بذلك إلى الآفاق.

عقد الواثق لبنيه الثلاثة وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابًا على نحو ما أجرى جده الرشيد مع أولاده، فأعطى ابنه الأكبر المنتصر من عريش مصر إلى إفريقية المغرب كله إلى حيث بلغ سلطانه، وأضاف إليه جند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين واليمن واليمامة وحضرموت والبحرين والسند وكرمان وكور الأهواز وماسبذان ومهرجان وشهرزور وقم وقاشان وقزوين والجبال. وأعطى ابنه المعتز خراسان وطبرستان وما وراء النهر والشرق كله، وأعطى ابنه المؤيد إرمينية وأذربيجان وجند دمشق والأردن وفلسطين، وهذا التقسيم في المملكة لم يقع لأحد، ولم يخرج الملك مع هذا عن القواعد التي وضعها القدامى من الخلفاء.

وخلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما (٢٤٨ﻫ)، وفي أيام المستعين خرج بطبرستان الحسن بن زيد من آل علي بن أبي طالب، فغلب عليها وعلى جرجان بعد حروب كثيرة، ثم خلف من بعده محمد بن زيد أخوه، ثم قتل بعد حرب كانت بينه وبين محمد بن هرون، وخرج بقزوين الكوكبي وهو من ولد الأرقط، واسمه الحسن بن أحمد من ولد الحسين بن علي فغلب عليها، ثم هزمه بعض الأتراك، وخرج بالكوفة أيام المستعين يحيى بن عمر فقُتل، وخرج في أيامه أيضًا الحسين بن محمد من ولد الحسين بن علي فظُفر به وأُخذ وحُبس إلى أن أطلقه المعتمد، وخرج بسواد الكوفة أيام فتنة المستعين بن الأفطس، وكان داعية لمحمد بن إبراهيم بالمدينة فلما مات هذا دعا إلى نفسه. وفي سنة خمسين ومائتين خرج بسواد المدينة إسماعيل بن يوسف من ولد الحسين بن علي فغلب عليها، وتوفي بعد سنتين وخلفه أخوه بعده محمد بن يوسف، وما زال على أمره إلى أن خرج أبو الساج إلى مكة والمدينة فقتل خلقًا كثيرًا من أصحابه، وهرب محمد فمات في هربه١٨٤ وخلع المستعين (٢٥١ﻫ) نفسه وبايع للمعتز.
وخاف الوزيران الحسن١٨٥ بن الفرات والعباس بن الحسن أن يتولى الخلافة عبد الله بن المعتز وهو من أكفأ الرجال لمنصبه وبايعا لصبي، فأدخلا سوس الفساد في الدولة، بايعا للمقتدر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ولم يلِ أمر الأمة صبي قبله، وضعف دست الخلافة في أيامه، وأصبحت والدة المقتدر تأمر وتنهي، وترسل قهرمانتها تنظر في القصص والمظالم بحضرة القضاة، ورزق المقتدر ولدًا صغيرًا فولاه على إمرة الديار المصرية وله أربع سنين، فأصبحت الخلافة خلافة نسوان وصبيان، كل هذا بفعل وزيرين خافا زوال نعمتهما، إذا جاء الكفؤ إلى الخلافة يتولاها، فقضيا على نعمة الأمة بتولية الأطفال خلافة المسلمين وإمرة بلادهم، كان ابن الفرات يريد الخليفة ممن لا يعرف أسعار الخبز واللحم حتى يأمن الوزراء على نفوسهم، وما جمعوه من أموال الناس والدولة، يريد خليفة يقضي أوقاته في شهواته وصيوده ونزهاته، مسجونًا في السجن المزوَّق وهو قصر الخلافة، والوزير يملي إرادته على نحو ما قال الشاعر في أحد هؤلاء الخلفاء:
خليفة في قفص
بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا

حاولوا إبعاد مثل ابن المعتز عن الخلافة؛ لأنه لا يطلق أيدي الأغمار والأغرار في مطالبتهم الناس، ويعرف الدقيق والجليل من أحوالهم. ولا عجب بعد هذا أن تكثر الفتوق في الدولة، ويقتل مثل صاحب الزنج الذي استولى على قسم من العراق خمس عشرة سنة، ألف ألف وخمسمائة ألف رجل، وقيل: إنه قتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان له منبر يسب عليه عثمان وعليًّا ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة، وهذا رأي الخوارج الأزارقة. ويروي الطبري أنَّ صاحب الزنج كان علويًّا واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، سُمي بصاحب الزنج؛ لأنه جمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ بالبصرة، ويقول الأشعري: إنَّ في اسمه خلافًا وإنَّ أنصاره الزنج، وغلب على البصرة سنة سبع وخمسين، وقُتِل سنة سبعين ومائتين قتله أبو أحمد الموفق بالله ابن المتوكل على الله، وعلى ذلك تكون دعوى أنه من الخوارج فيها نظر، وخرج بأرض الشام من آل البيت المقتول على الدكة، فظفر به المكتفي بعد حروب ووقائع كانت. وفي رواية أنَّ الذي ظهر في أعمال دمشق سنة ثلاثمائة هو ابن الرضي محسن بن جعفر بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد، فكانت له مع أحمد بن كيغلغ عامل الشام وقعة قُتِل فيها صبرًا، وقام القرامطة فاستولوا أيضًا على أقسام من العراق والشام والحجاز وعلى البحرين وهجر أواخر المائة الثالثة، استولوا عليها وقتلوا عشرات الألوف من الناس، وكان لصاحبهم اتصال بالفاطمي صاحب مصر وكان صاحبهم يكتب إلى عماله، «من عبد الله المهدي، المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بدين الله، الحاكم بحكم الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين وإمام المسلمين»، ودعوته من الدعوات الباطنية المتسترة بالانتساب إلى آل البيت العلوي. وقالوا: إنَّ القرامطة من الرافضة يزعمون أنَّ النبي نص على علي بن أبي طالب، وأنَّ عليًّا نص على إمامة ابنه الحسن، وأنَّ هذا نص على إمامة أخيه الحسين، وزعموا أنَّ محمد بن إسماعيل حي لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض، وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به.

وأصبحت الخلافة في هذا الدور ولا شأن فيها لأذكياء الوزراء في الدولة إلا أن يجمعوا الأموال، وأمست الدولة دولة الأتراك والديالمة والخصيان والنسوان، وما كان للخليفة إلا إرضاء الأمراء وأرباب الصولة، روى صاحب١٨٦ تاريخ بغداد أنَّ جماعة (٢٩٦ﻫ) من الكتاب والقواد سعى بعضهم إلى بعض عازمين على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فناظروه في ذلك، فأجابهم على ألَّا يسفك دم، ولا تكون حرب، فأخبروه أنَّ الأمر لا يسلم عفوًا، وأنَّ جميع من وراءهم قد رضوا به فبايعوه بالخلافة، وكان أحد رجال الدولة ممن يختلف إلى دار أبي جعفر الطبري المؤرخ، دخل عليه فسأله: ما الخبر وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: قد بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رُشِّح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذُكر للقضاء؟ فقال: الحسن بن المثنى، قال: فأطرق الطبري قليلًا، ثم قال: هذا الأمر لا يتم ولا ينتظم، قال: فقلت له وكيف، فقال: كل واحد من هؤلاء الذي سميت متقدم في معناه، عالي الرتبة في أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص، ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال: ولم يلِ ابن المعتز الخلافة إلا يومًا، وقُتل من الغد بقوة أشياع الخليفة قبله.
واستولى بنو بويه على بغداد، ورُوي١٨٧ أنَّ الوزير ابن مقلة قال: إنني أزلت دولة بني العباس وأسلمتها إلى الديلم؛ لأني كاتبت الديلم وقت إنفاذي إلى إصبهان، وأطمعتهم في سرير الملك ببغداد، فإن اجتنيت ثمرة ذلك في حياتي، وإلا فهي تُجتنى بعد موتي، فكان كما قال.
وأمر الطائع (سنة ٣٦٩ﻫ) خلفاءه على الصلاة في جوامع مدينة دار السلام، بأن يقيموا لعضد الدولة بن بويه الدعوة تالية لإقامتها له على منابرها، ونفذت به الكتب إليهم، ورسم أن يضرب على بابه بالدبادب في أوقات الصلوات. قال ابن مسكويه:١٨٨ وهذان الأمران من الأمور التي بلغها عضد الدولة، واختص بها دون من مضى من الملوك على قديم الأيام وحديثها، والخلفاء في هذا الدور يلقون إلى المتغلبين عليهم بمقاليد السلطنة إلا ما لا بال له،١٨٩ ويخلع الخليفة على الملك الخلع السبع والعمامة السوداء ويسوِّد بطوق، وكان أبدًا يخطب للملك أو الأمير المتغلب مقرونًا إلى اسم الخليفة.

•••

والحاصل أنَّ الخلافة انتقلت منذ أواخر القرن الثالث من دور الحكم، إلى طور أصبحت فيه محكومة، كانت لها القوة، فأصبحت لا حول لها ولا قوة. وكثر في هذا القرن خروج الروم إلى بلاد الإسلام، فغدوا يبلغون آمد ونصيبين وأنطاكية وحلب، وكان العباسيون في القرن الذي قبله يفتحون من بلادهم أنقرة وعمورية وهرقلية، وكأن بعض خلفائهم شعروا في هذه الحقبة بأن الخلافة مهدَّدة بالزوال إذا لم يتولَّها الأطايب من أبناء هذا البيت، فخلع المعتمد ابنه جعفر المفوض من ولاية العهد وجعل المعتضد ابن أخيه ولي العهد من بعده، وهذا عمل مجيد يُغبط عليه فاعله مهما كانت الدواعي إليه، فالمعتضد ثبت قواعد الخلافة العباسية بعقله وكفايته، وكان «المعتمد مستضعفًا»،١٩٠ وكان أخوه الموفق طلحة الناصر هو الغالب على أموره، وكانت دولة المعتمد دولة عجيبة الوضع، كان هو وأخوه الموفق كالشريكين في الخلافة، للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين، ولأخيه كلمة الأمر والنهي وقود العساكر، ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وترتيب الوزراء والأمراء. وفي أيام المعتمد قطع ابن طولون المتولي على مصر خطبة الموفق، وأسقط اسمه من الطراز، فأمر المعتمد بلعن ابن طولون على المنابر، وقيل: إن ابن طولون ادعى الخلافة لنفسه بمصر وبايعته الجند والموالي وسائر الناس، على أن يعادوا من عاداه ويوالوا من والاه، ويحاربوا من حاربه من الناس جميعًا، وقيل: إنه أمر بكتاب فيه خلع الموفق من ولاية العهد لمخالفته المعتمد فقط.
قلنا: إنَّ المعتضد ثبت أركان الخلافة، وكانت تريد أن تنقضَّ جملة، وهو الذي رد مصر إلى حظيرة الخلافة بعد أن كاد يذهب بها أحمد بن طولون وأولاده، وكتب إلى ابنه خمارويه بولايته عليها هو وولده ثلاثين سنة، وذلك من الفرات إلى برقة، وجعل إليه الصلاة والخراج والقضاء وجميع الأعمال، على أن يحمل في كل عام من المال١٩١ مائتي ألف دينار مما مضى، وثلاثمائة ألف عن كل عام للمستقبل، ولعل ما ساقه أيضًا إلى هذا التسامح بقطعة عظيمة من الملك العباسي، ما تناصرت الأخبار عليه من أنَّ الدولة العبيدية الفاطمية ظهرت أعلامها في المغرب، فأحب أن يضع الطولونيين بينه وبينها، وطلب المعتضد إلى ابن طولون أن يزوِّجه ابنة ابنه خمارويه، وقال: ما قصدت بهذا الزواج إلا إفقار ابن طولون؛ لأنه يضطر أن يجهزها بجهاز لم تُجهز به عروس من قبل، وجرى الأمر — كما قال — فإنها جُهزت بما استفرغ خزائن مصر والشام، وكثر هذا الضرب من الزواج السياسي في القرنين التاليين بين أمراء المسلمين، وبما أتاه المعتضد من الأعمال لفظ كيان الدولة صح ما قيل١٩٢ بعض الصحة من أنَّ بني العباس قوم منصورون، تعتل دولتهم مرة وتصح مرارًا؛ لأن أصلها ثابت وبنيانها راسخ.
وانحل١٩٣ في الربع الأول من القرن الخامس أمر الخلافة والسلطنة في بغداد، حتى خرج بعض الجند ونهب شيئًا من ثمرة قراح١٩٤ الخليفة القائم بأمر الله فعظم عليه، واشتد أذى العيارين، واختل الأمن في كل جهة، فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشهود بترك الشهادة، وإلى الفقهاء بترك الفتوى. وفي أيام القائم انتهى البساسيري الثائر إلى المستنصر الفاطمي صاحب مصر، فأمده بالأموال حتى أخذ بغداد، وقطع منها دعوة بني العباس وخطب للمستنصر بها نحو سنة والقائم محبوس، ثم قدم طغرلبك السلجوقي، وأعاد القائم إلى الخلافة، وقتل البساسيري.
وفي أيام الراضي زادت وطأة الأتراك على الخلافة، وقال الخليفة يومًا: وكأني بالناس يقولون كيف رضي هذا الخليفة بأن يدبر أمره عبد تركي (بجكم) حتى يتحكم في المال وينفرد بالتدبير، ولا يدرون أنَّ هذا الأمر أفسد مثلي، وأدخلني فيه قوم بغير شهوتي، فسلمت إلى ساجية وحجرية يتسحبون عليَّ ويجلسون في اليوم مرات، ويقصدونني ليلًا، ويريد كل واحد منهم أن أخصه دون صاحبه، وأن يكون له بيت مال، وكنت أتوقى الدماء في ترك الحبل عليهم إلى أن كفاني الله أمرهم. ثم دبر الأمر ابن رائق فدبره أشد تسحبًا في باب المال منهم، وانفرد بشربه ولهوه، قال: ويتعدى الواحد منهم أو من أصحابهم على بعض الرعية بل على أسبابي، وآمر فيه بأمر فلا يُمتثل ولا يُنفذ ولا يُستعمل، إلى أن قال: فرضيت ضرورة به، وكان أوفق لي وأحب إليَّ ممن قبله، وكان الأجود أن يكون الأمر كله لي، كما كان لمن مضى قبلي، ولكن لم يجرِ القضاء بهذا لي. ا.ﻫ. وهذا كلام الرجل الضعيف النفس والعزيمة والسياسة، وفي أيامه (٣٢٦ﻫ) جاء كتَّاب الروم من رومانس وقسطنطين من عظماء ملوك الروم يطلبون الصلح، قالوا فيه: لما بلغنا ما رزقته — أيها الأخ الشريف — من وفور العقل وتمام الأدب واجتماع الفضائل أكثر ممن تقدمك من الخلفاء حمدنا الله، ثم طلبوا الهدنة والفداء.١٩٥

وفي سنة ٣٣٢ﻫ خرج عسكر الروس إلى أذربيجان وقصدوا بردعة وملكوها، وفي أيام الراضي وثب في كل قطر من الأقطار قائم أو أمير تغلب على إقليمه، وانطلق في أحكامه يفعل ما يشاء، كأنه المالك الحقيقي للقطر أو الأقطار التي أصبح له السلطان الأعظم عليها، والخطبة لبني العباس ما عدا الغرب وإفريقية والأندلس، وفارس في يد علي بن بويه، والري وأصفهان في يد أخيه الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد محمد بن طغج، ثم في أيدي الفاطميين، وخراسان والبلاد الشرقية في يد بني سامان.

وكان من العادة في أيام تراجع الخلافة واستيلاء المتغلبين على بعض أقطارها أن يكتفي بعض الخلفاء بلعن من خالف عليهم، يأمرون بلعنه على المنابر حتى يكل اللاعنون ويملوا، والخارج يقوى ويستعلي، وربما قابلهم هو بالمثل، فيكون اللعن شفاء لصدر المقهور، وتقاصر اسم١٩٦ الخلافة في هذه الأزمان، وقنع الخلفاء من خلافتهم بالدعاء على المنابر، وضرب اسمهم على الدنانير والدراهم، فكان المتقي والمستكفي والمطيع١٩٧ كالمولَّى عليهم لا أمر يُنفذ لهم، أما ما نأى عنهم من البلدان فتغلب على أكثرها المتغلبون واستظهروا بكثرة الرجال والأموال، واقتصروا على مكاتبتهم بإمرة المؤمنين والدعاء لهم. وأما بالحضرة فتفرد بالأمور غيرهم فصاروا مقهورين خائفين، قنعوا باسم الخلافة ورضوا بالسلامة، وازداد في أيام المطيع أمر الخلافة إدبارًا، حتى لم يبقَ له من الأمر شيء قل أو جل، ولم يبقَ في يد الخليفة غير ما أقطعه إياه معز الدولة بن بويه مما يقوم ببعض حاجته.
بعث بختيار (٣٦١ﻫ) على مطالبة المطيع بما يوهمه١٩٨ أنه يحتاج إلى إحراجه في طريق الغزو، فأجابه المطيع: إنَّ الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وإليَّ تدبير الأموال والرجال، وأما الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفايتي، وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف، فما يلزمني غزو ولا حج، ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه، وإنما لكم مني هذا الاسم الذي يُخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت من هذا المقدار أيضًا، وتركتكم والأمر كله.

وكانت هذه الطبقة من الخلفاء منحطة لا تصلح للخلافة ولا لشيء غيرها من مهام الملك. قال ابن بهلول: كنا إذا كلمنا المستكفي وجدنا كلامه كلام العيارين، وكان الغالب على دولته امرأة يُقال لها علم الشيرازية، وكانت قهرمانة داره، وهي التي سعت في خلافته عند «توزون» حتى تمت، فعوتب على إطلاق يدها وتحكمها في الدولة، فقال: خفضوا عليكم، فإنما وجدتها في الشدة ووجدتكم في الرخاء، وهذه الدنيا التي بيدي هي التي سعت لي فيها حتى حصلت، أفأبخل عليها ببعضها؟

ولم يغنِ١٩٩ عن المقتدر ما بذل من المال للجند لما شغبوا حتى ضربوه بالسيف، وذلك بسبب جرأة الأعداء وطمعهم فيما لم تكن أنفسهم تحدثهم به من الغلبة على الحضرة، وانخرقت الهيبة، وضعف أمر الخلافة وتفاقم.
قال الطبري:٢٠٠ وحار الناس في أمر دولة المقتدر وطول أيامها على وهْي أصلها وضعف ابتنائها، ولم يرَ الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وأيامه وطول خلافته، وكان جيد العقل صحيح الرأي، ولكنه كان مؤثرًا للشهوات، قال التنوخي:٢٠١ «ولقد سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الوزير، يقول: وقد جرى ذكر المقتدر بحضرته في خلوة: ما هو إلا أن يترك هذا الرجل النبيذ خمسة أيام متتابعة حتى يصح ذهنه، فأخاطب منه رجلًا ما خاطبت أفضل منه، ولا أبصر بالرأي، وأعرف بالأمور، وأسد في التدبير، ولو قلت: إنه إذا ترك النبيذ هذه المدة يكون في أصالة الرأي، وصحة العقل، كالمعتضد والمأمون، ومن أشبههما من الخلفاء، ما حسبت أن أقع بعيدًا، وما يفسده غير متابعة الشرب ولا يخبله سواها.»
وفي أيام القادر٢٠٢ عاد إلى الدولة العباسية وقارها، ونما رونقها وأخذت أمورها في القوة، وكان من أفضل خلفائهم، قال ابن الأثير: إنَّ خلافته إحدى وأربعون سنة، وقد جدد ناموس الخلافة، ومن قبل كان طمع فيها الديلم والترك، وأطاعه الناس أحسن إطاعة؛ لأنه كان على صفات حسنة من الخير، وراح المقتدي وجاء المستظهر، ثم المسترشد وهو المتمم للثلاثين من خلفاء بني العباس، والمسترشد والراشد أخوان، كما كان السفاح والمنصور أخوين، والهادي والرشيد أخوين، والواثق والمتوكل أخوين، أما الثلاثة الأخوة الأمين والمأمون والمعتصم إخوة أولاد الرشيد، والمكتفي والمقتدي والقاهر إخوة أولاد المعتضد، والراضي والمتقي والمطيع إخوة أولاد المقتدر. ويقول أرباب السير: إنَّ المكتفي (٥٥٠ﻫ) كان حسن السيرة وهو أول من استبد بالعراق منفردًا عن سلطان يكون معه، وإنَّ حرمته كانت وافرة، بخلاف الخلفاء قبله.٢٠٣ وأظهر الظاهر (٦٢٣ﻫ) من العدل والإحسان ما أحيا به سنة العمرين.٢٠٤ ومع هؤلاء النابهين من الخلفاء أصبحت الخلافة العباسية أوائل القرن السابع شبحًا من الأشباح، وكان الضعف سرى إليها منذ انتقل الملك والدولة في آخر٢٠٥ أيام المتقي وأول أيام المستكفي إلى بني بويه الديلم، ولما عُزل المستكفي وبويع للمطيع ودخل معز الدولة إلى بغداد خلقت ديباجة الخلافة، وكادوا يبايعون للعلويين.
قال المقريزي: فلم يبقَ في يد بني العباس من الخلافة إلا اسمها فقط من غير تصرف في ملك، بحيث صار الخليفة منهم في مدة الدولة البويهية، ثم في الدولة السلجوقية إنما هو كأنه رئيس الإسلام، لا أنه ملك ولا حاكم، تحكم فيه الديلم، ثم السلجوقية كتحكم المالك في مملوكه، وما زالوا تحت الحكم منذ سنة ٣٣٤ﻫ إلى أن قُتلوا عن آخرهم، وسُبي حريمهم، وهُدمت قصورهم، وهلكت رعاياهم على يد هولاكو، وكانوا هم السبب في ذلك. قال: والعوامل في انقضاء الدولة العباسية التي دامت نيفًا على خمسمائة وعشرين سنة أنها صارت إليهم بعد ما ضعف أمر الدين وتخلخلت أركانه، وتداول الناس أمر الأمة بالغلبة، فأخذ حينئذ بنو العباس بأيدي العجم أهل خراسان، ونالوها بالقوة، ومناهضة الدول، ومساورة الملوك، حتى أزالوا بعجم خراسان دولة بني أمية، وتناولوا العز كيف كان، فما وصل أمر الأمة إلى أهل العدالة والطهارة، ولا وليهم ذوو الزهادة والعبادة، ولا ساسهم أهل الورع والأمانة، بل استحالت الخلافة كسروية وقيصرية. ا.ﻫ. وقال أيضًا في دولة٢٠٦ بني العباس: إنَّ فيها افترقت كلمة الإسلام، وسقط اسم العرب من الديوان، وأدخل الأتراك فيه، واستولت الديلم ثم الأتراك، وصارت لهم دول عظيمة جدًّا، وانقسمت ممالك الأرض عدة أقسام، وصار بكل قطر قائم، يأخذ الناس بالعسف ويملكهم بالقهر.

ولقد تجلى التفريط والإفراط في العهد العباسي الأخير والأوسط، وما كانت تأثيرات النكبات ظاهرة كل الظهور، لمكان القوة في جسم الأمة، وكان كلما ضعف سلطان الخلافة ضعفت الأمة على نسبتها، وربما كان من العوامل في ضعف سلطان العباسيين اتساع رقعة مملكتهم وترامي أطرافها، فصعب معه القضاء على دعوة كل من ينزع في القاصية إلى الاستقلال بجيشهم من الخراسانيين، ثم من غيرهم من العناصر غير العربية؛ ولأن من الخلفاء من ربما أعطوا الألوف لمن يجب ولمن لا يجب، وضنوا بالمئات على الجند والقواد، ومنهم من شُغل بشهواته ورفاهيته، وبلغ في ذلك مبلغًا عظيمًا، وخرجوا جملة عن هدي الراشدين، وخالفوا سيرة أعاظم الأمويين والعباسيين، وراحوا يتمتعون بالفتوح التي تمت لبني أمية في الخافقين، ووضع هؤلاء أساسها، فما بنى أخلافهم كما بنوا، واحتفظوا بهذا التراث العظيم الاحتفاظ الواجب، ولئن نقموا من الأمويين تغاليهم في رد الطالبيين وآل العباس عن الأمر، فما كان العباسيون أرفق بالطالبيين والأمويين والخوارج وكل من نازعهم السلطة يوم كان الأمر أمرهم.

ولما كثر الأعاجم في دولتهم، وهجم عليهم الروح الفارسي من كل جانب، وأضعفوا بأيديهم عصبيتهم العربية، وجعلوا من الفرس والترك عصبية محدثة لهم، صار اسم العرب في أكثر أيام هذه الدولة كأنه تاريخ أمة بائدة، يُقرأ للتسلية والاطلاع، لا للقدوة والاتباع، ولو لم تكن العربية لسان الدولة لما قال القائل في وصف الدولة العباسية، إلا أنها دولة الفرس دخلها تعديل بالإسلام. على أنَّ الدولة يتعذر عليها أن تسير على غير هذه الطريق ما دام الجيش — وهو أول عامل في قيام الدولة — من الأعاجم، وما دام سلطان الدولة يمتد على مملكة تسعة أعشارها من غير العرب.

ولولا أن نبغ في صدر هذه الدولة بضعة خلفاء عظماء، كالمنصور والرشيد والمأمون من بين سبعة وثلاثين خليفة، لصح أن يُقال: إنَّ الدولة العباسية الفارسية كانت دون الدولة الأموية العربية بمراحل، وأي ضعف أعظم من أن يُقتل الخليفة بأيدي المتغلبين، أو يبقى آلة في أيديهم وهو ساكت لا يتحرك، راضٍ بما قُسم له من حظ، خصوصًا لما انتقل الملك إلى آل بويه،٢٠٧ وأصبح ما كان بقي في أيدي العباسيين أمرًا دينيًّا اعتقاديًّا لا ملكًا دنياويًّا، فكان القائم بالدولة منذ فجر القرن الرابع إنما هو رئيس الإسلام لا ملك يستجمع صفات الملك والخلافة. وإذا دوَّن المؤرخون شيئًا من أخبار القوة فهو صادر عن ملوك الطوائف الذين اتخذوا شعار العباسيين اسمًا، وعملوا تحته كالبويهين والسلجوقيين والسامانيين والغزنويين والطولونيين والإخشيديين والحمدانيين والآغالبة، وهذا مما لم يُعهد مثله في دولة بني أمية في دمشق وقرطبة، هؤلاء كان فيهم شمم العرب وعز الملك والسلطان، والتشبع بروح الدين، وكان لخلفائهم صبغة خاصة يهتمون بملكهم قبل كل شيء.

أفسد العباسيون دمهم العربي بما أدخلوه عليه من الدم الغريب، وأفسدوا عصبيتهم بما كان من زهدهم في عنصرهم، والاستنامة إلى غيره لقيام دولتهم، فغدا الدخيل بعد حين أصيلًا، وسقطت الأصول وقامت بدلها الفروع، وآض المصطنع سيدًا مسودًا، ورجع العظيم يتعثر في أذيال الذل، أصبح العباسيون إلا قليلًا خلاسيين وهجناء لا بالعرب ولا بالعجم، وتركتهم الشعوب للتبرك بهم لشرفهم، ولا تزيد مكانتهم عن بعض السلاطين الذين انتزعوا أقطارًا من الأرض العباسية وحكموها بالجبرية حكمًا دينيًّا ومدنيًّا.

ومن أهم العوامل في ضعف بني العباس عدم العناية بتربية أولياء العهد تربية حرة عملية، وكان من عادة أكثر الخلفاء أن يحبسوا أولادهم وأقاربهم، وبذلك جرت سنتهم إلى آخر أيام المستنصر، فلما ولي المستعصم آخر خلفائهم ببغداد أطلق أولاده الثلاثة ولم يحبسهم، وبحبس أولاد الخلفاء ضعفت ملكاتهم، وربما انصرف أكثرهم في دور احتباسهم إلى اللهو والشهوات، فإذا جاءوا يتربعون في دست الخلافة عجزوا عن سياستها؛ لأنهم عاجزون عن سياسة أنفسهم، ولقد كان الرسم في عهد الخلفاء الأول من آل العباس أن يراقب الوالد ابنه والابن أباه والأخ أخاه على طريقة مكتومة عن الأنظار، وتوسد إلى أبناء الخلفاء وإخوتهم قيادة الجيوش وإدارة الولايات يشتركون في السلطان، وتؤخذ آراؤهم في النوازل، ويدخلون في مجالس المشورة، فيكون لهم بذلك شيء من الوقوف يدركون به أنهم شركاء في الملك، وعليهم أن يستعدوا لتولي زمامه. وبحجب أبناء الخلفاء في عصر الانحطاط أمسى بعضهم كالمغفلين لعدم اختلاطهم بأحد، يدرسون سياسة الملك في الكتب، وربما لا يُرخص لهم أن ينظروا في كل الكتب، ويهيئهم المؤدبون تهيئة نظرية، ولا يعلمون شيئًا كثيرًا يصح أن يكون مادة لحياتهم وحياة الخلافة، إذا أتت نوبتهم لتولي هذا المنصب الجليل.

ثم قد يترفع الخليفة عن المجتمع حتى يجهل حقيقة أحوال الناس، وما يدور في بلاده من المسائل المهمة، اللهم إلا ما يكتب به إليه أصحاب الأخبار، وعُد من مزايا الظاهر (٦٢٢ﻫ)، ولم يلِ الخلافة العباسية أتقى منه بعد عمر بن عبد العزيز الأموي، أنه ظهر للناس وكان الخلفاء قبله لا يظهرون إلا نادرًا،٢٠٨ ولم ينظر في الرقاع التي تُكتب إلى الخليفة في العادة في موضوع أخبار الناس، إلا أنَّ أيامه لم تطل، ولم يدم الملك العباسي بعده كثيرًا.
وأهم مسألة في انهيار بنيان الدولة هذا الجيش الغريب، فقد كان الجيش لأول أمره من أبناء خراسان، واشترى المنصور المماليك واستخدمهم وتابعه من خلفوه، وما جاء المعتصم حتى وضع من العرب٢٠٩ وأخرجهم من الديوان، وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء من العاصمة والولايات، وأصبح جند٢١٠ الخلافة على عهده خمسة أقسام: الخراساني والتركي والمولي والعربي والبنوي،٢١١ وهذه الجيوش التي سلبت قرار الحضرة — أي العاصمة — كانت تثور في أيام العظماء من ملوكهم وتتطلب عطاء السنة والسنتين، ولها هيجة كلما راح خليفة وجاء خليفة، إذا لم يكن المال مهيئًا لإرضائهم ولوا وجوههم عنه، ويا ويل من يولي الجيش عنه وجهه.
ولقد أنكر الجند٢١٢ والقواد على المقتدر استيلاء النساء والخدم على الأمور، وكثرة ما أخذوا من الأموال والضياع، فقتلوه فانخرقت الهيبة، وضعف أمر الخلافة منذ ذلك العهد، وطمع أصحاب الأطراف والنواب وخرجوا عن الطاعة. يقول حمزة الأصفهاني:٢١٣ إنَّ الملك تنقل من بني العباس في ثمانية عشر نفرًا، والمقتدر ثامن عشرهم وكان في مدة مائة وسبع وسبعين سنة على جملة من الاستقامة؛ إذ كانت العوارض التي تعرض في سلطانهم قصيرة المدة سريعة الزوال، فانساق ملكهم على هذا المنهاج إلى أن مضى من ملك المقتدر ثلاث عشرة سنة إلا أيامًا، وذلك في آخر سنة ثمانٍ وثلاثمائة، فعندها بدأت الأحداث والفتن في دار ملكهم، فأزالت عن الجند والرعية هيبتهم، وأخلت من الأموال خزائنهم.

وإذا استثنينا عهد المعتضد لم نشاهد بعد المأمون من كان ذا عبقرية في إدارة الملك، وقد لا ينتظم الأمر حتى بوجود الوزراء المحنكين؛ لأن للرئيس تأثيره ما دام مرجع الأعمال إلى الخليفة، فإن كان هذا على اتزان تخفى العيوب في الجملة، في هذه السلطنة الاستبدادية الطويلة العريضة، وإلا فالملك في تزلزل، وهناك خليفة يدبره أخوه، وآخر تدبره أمه وقهرمانتها وقهرمانته، وغيره يدبره وزيره، وفي كثير منهم كانت سلطة النساء بادية في الخلافة، وقل خليفة كالمأمون والمعتضد من يصدر عن رأي نضيج، ويُعنى بملكه كما يُعنى بنفسه.

يقول صاحب النشوار:٢١٤ «كان أول ما انحل من نظام سياسة الملك أيام بني العباس القضاء، فإن ابن الفرات وضع منه وأدخل فيه قومًا بالزمانات،٢١٥ لا علم لها ولا أبوة، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت الوزارة تتضع، ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة إلى أن تقلد وزارة المتقي ابن العباس الأصفهاني الكاتب، وكان غاية في سقوط المروءة والرقاعة. وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ صيورها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء. ا.ﻫ.»

ولما ولَّى معز الدولة بن بويه القاضي عبد الله بن أبي الشوارب (سنة ٣٥٠ﻫ) قضاء القضاء، شرط على نفسه أن يحمل في السنة إلى خزانة ابن بويه مائتي ألف دينار، فتألم المطيع لله وامتنع من تقليده. وبلغ من سقوط منصب الوزارة أنَّ بعضهم كان يستعمل ضروب الرشى ويرتكب كل صغار ليصل إليها، ومنهم من أنفق في هذه السبيل فقط خمسمائة ألف دينار، ومنهم من رشا المنجمين حتى يشيعوا أخبارًا يجعلها سلمًا إلى أغراضه.

ما انقضت الدولة العباسية٢١٦ حتى كانت مصر والشام في أيدي المماليك، واليمن بأيدي الزيدية والدولة الرسولية، والحجاز لبني حسن، ومراكش لبني مرين، وإفريقية للحفصيين، والأندلس لبني الأحمر وملكهم غربًا من جزائر بني مزغنان — الجزائر اليوم — إلى عقبة برقة، والتكرور لرجل ينتسب إلى عمر بن الخطاب، وصاحب البرنو وصاحب الكانم من بيت قديم في الإسلام، وماردين لبني أرتق، وحصن كيفا بيد رجل من بقايا الأيوبيين، وصاحب أرزن من ملوك آل سلجوق، وصاحب بدليس شرف الدين، وهراة غياث الدين، والأكراد يتأمر عليهم صاحب جولمرك وصاحب عقرشوش، وأمراء الترك في بلاد الروم أو بلاد الدروب؛ أي البلاد المنحصرة بين بحري القرم والخليج القسطنطيني، ومملكة إيران بأيدي بيت هولاكو ويدخل فيها الهياطلة وهي بلاد مازندران، وما يليها إلى آخر كيلان، وتوران مملكة الخاقانية بيد أفراسياب ملك الترك، وبقية ديار بكر بيد إبراهيم شاه، ومملكة أذربيجان بيد سليمان شاه من أولاد جوبان، وخراسان بيد الخاقان طغتمر. ومملكة توران منقسمة ثلاثة أقسام، منها سلطانان مسلمان وأكبر الثلاثة القان الكبير هو صاحب الصين والخطا، وقد دان دين الإسلام، والملكان الآخران صاحب السراي٢١٧ وخوارزم والقرم ودست القبجاق، والثاني صاحب غزنة وبخارى وسمرقند وعامة ما وراء النهر، وهناك أمراء البادية من العرب وهم بديار مصر وبرقة واليمن والحجاز والشام والعراق والبحرين.

•••

علل بعض مؤرخي الإفرنج لسقوط المملكة العباسية بأن الثورة التي عجلت بسقوط الأمويين وأدالت منهم للعباسية، كانت عمل حزب ديني ثار علنًا ودعا سرًّا مدة قرن كامل، وكانت أيضًا حركة قومية، ومقاومة من الشرق، وأثرًا من آثار نقمة الفرس على الفتح العربي، وأنَّ بعض عظماء ملوكهم كالسفاح والمنصور والمهدي والرشيد والمأمون والمعتصم أسرع الانحطاط إلى العباسيين، وتقسم البلاد ملوك وأمراء، وتعاقبت عليها دول حربية أو وطنية استأثروا بجزء من المملكة وراحوا بها يؤسسون ملكًا ويقيمون حكومات، وأنَّ الوحدة السياسية فُقدت في المملكة العربية عقب انحلال دولة بني أمية في دمشق. قال: وبينا كان يظهر في الفاطميين والأمويين في الأندلس زعماء وفاتحون، لم يكن يظهر في العباسيين الكسالى غير أناس أمسوا ألعوبة في أيدي مستخدميهم من الجنود ورجال البلاط، ومع ذلك عاشت دولتهم بعد تينك الدولتين. قال: إنَّ العصر الذهبي لخلافة بغداد كان في أواخر القرن الثامن ومبدأ القرن التاسع، ثبتت قواعد تلك المملكة في الشرق، وقمعت الثورات التي قام بها أبناء علي، وسكنت نغمة الخزر في تخوم إرمينية والروم في آسيا الصغرى، ومنهم من كُبح جماحه ومنهم من رُد على أعقابه. وعقد العباسيون مع الإمبراطورة إيرين، ثم مع خليفتها نقفور الأول معاهدات حملت في مطاويها ذلًّا للإمبراطورية. وكانت بلاد الخلافة عبارة عن ثماني وعشرين ولاية تمتد من نهر الأندوس إلى الأطلنطي، ومن جبال القوقاز إلى الصحراء، أما أقصى حدود المملكة من الغرب — أي إسبانيا والمغرب — فقد نزعت طاعة الخلافة العباسية عنها، وظلت سائر البلاد مجموعة الشمل متماسكة الأجزاء، وكانت عوامل الاضمحلال واحدة في الخلافات الثلاث (العباسية والفاطمية والأموية الأندلسية)؛ ذلك لأن السلطات كلها كانت مجموعة في أيد الخليفة، ولكي يقوم بعمله يجب أن يكون عظيمًا في ذاته، أو يحسن اختيار وزراء عارفين يحسنون خدمته ولا يتسلطون عليه، وقد أثبت الخلفاء الأولون من العباسيين ومؤسسو الدولة الفاطمية، وكثير من الأمويين في الأندلس، ومنهم عبد الرحمن الثالث أنهم من الطراز الأول من الرجال، بيد أنَّ عيش القصور والحرم، على ما كان عليه في قرطبة والقاهرة وبغداد، لا ينشأ منه غير فساد الذرية مهما كان من قوتها؛ ولذلك لم تلبث هذه الممالك أن تولاها أمراء جهلاء ليسوا على شيء من النبوغ ولا الأخلاق، وعلى قدر الملك يكون قدر الحكومة، والاستقرار يكون عادة في الممالك المطلقة، ولئن أصبحت الوراثة في تولي الملك عادة متبعة، فما عين القانون لانتقال الملك بالإرث خطة مقررة، وحاول بعض أرباب المدارك من رجال الأمر أن يصلحوا هذا الخلل فما وفقوا.

كان العباسيون ينصبون ولي العهد مقدمًا، وهو يقسم الأيمان كما يقسم الملك المتولي، وفي الأندلس عمد الحكم الثاني إلى عظماء المملكة ودعاهم إلى التوقيع على ما يشبه البراءة؛ لتقليد ابنه الخلافة وأُرسلت نسخة منها إلى الولايات، وكان الأعيان وأرباب الطبقات الدنيا يوقعون عليها، ولم تنجع كلتا الطريقتين. وفي بغداد لم يهدأ بال المنصور إلا بخلع ابن عمه عيسى من ولاية العهد لنصب ابنه مكانه، وفي قرطبة لم يكد الحكم الثاني يلقى حتفه حتى دُبرت في القصر مكيدة، جُعل بها بدل هشام أموي آخر اسمه المغيرة، إلا أنَّ الوزير المصحفي وابن أبي عامر تقدما بقتل هذا الدعي، ومن حظ هشام أنَّ أطماع هذين الرجلين وقفت عند حد إعادة الحق إلى صاحبه. وعلى هذا رأينا نظام ولاية العهد عرضة للأخطار، وكانت شهوة كل من كانوا على صلة بالعرش، أن يتولوا الأمر إذا كانوا من الأمراء، وأن ينصبوا الملك الذي يختارونه، إذا كانوا من الوزراء أو من رجال الدولة وقواد الجيش، وهناك الدسائس والأحزاب والمنافسات والفتن، والسلطة العليا تضعف إذا كانت مختلة باضطرابات دائمة، والدولة أبدًا قلقة بأطماع الوزراء، ومكايد الموالي والعبيد ونفوذ الأمراء.

إنَّ سادة العرب بفتحهم الشرق والغرب، لم يتخلوا عن طبيعتهم الجامحة التي تقضي على النظام، وكان من غرائزهم المتأصلة في جوانحهم ألا ترضى بإقامة حكومة منظمة، وكان من القوة للخلفاء أن يختاروا عمالهم وجندهم من فريق آخر، يؤثرون الاعتصام بالعرب أو الركون إلى غيرهم، أي من العناصر الوطنية من فرس وبربر وقبط وإسبان، وما خلت هذه السياسة من أخطار، وما عُرف مدى ضرر هذه الرعاية للغريب؛ ذلك لأنها كانت مدعاة لتيقظ الفكرة الوطنية في البلاد المغلوبة على أمرها، ومن شأن القوميين أن يعادوا وحدة المملكة، بل هم لا يرون قيامها بحال.

يدين العباسيون في الشرق بخلافتهم للنقمة الفارسية، وهم أنفسهم أدنى إلى أن يكونوا فرسًا منهم إلى أن يكونوا عربًا، ومتى ضعفت الخلافة وثار القواد في أصقاع الولايات، وجعل رؤساء العصابات ملوكًا، يقوم هؤلاء الغاصبون ويهيجون النعرة القومية، ويوهمون الناس أنهم على حق بما يمتون إليه من أصولهم القديمة، وبحرصهم على إعادة ذكرى ما كان لهم من ذلك قبل الإسلام، فقد ادعى السامانيون، وهم من عنصر تتري، أنهم من نسل الملك بهرام بن جوبين الفارسي، وزعم البويهيون من الديلم أنهم من نسل الساسانيين ملوك فارس، وهكذا الحال في إفريقية وفيها أنشأ الفاطميون مملكتهم بأيدي البربر، كما أُنشئت خلافة بغداد بأيدي الفرس.

كان الأمويون في الأندلس عرضة للانحلال منذ القرن العاشر؛ لأنهم كانوا على خطر من الممالك النصرانية من الشمال، وانتقاض رعاياهم من الإسبان المهتدين أو النصارى، لولا أن حال دون ذلك نبوغ عبد الرحمن الثالث. ولما لم يستطع الخلفاء أن يعتمدوا على مواطنيهم من العرب، أو على رعاياهم من أهل البلاد، حاولوا أن يقيموا سلطانهم بعناصر أخرى، فأنشأوا لهم جندًا مهمًّا يتفانى في خدمتهم، فوقع اعتمادهم على جند غريب وسلموا حامياتهم للعبيد وللمماليك، فكان للعباسيين حامية تركية، وللفاطميين حامية من البربر والزنوج والأتراك، واتخذ الأمويون في الأندلس الصقالبة والبربر والقشتاليين، فغلط الخلفاء في تقديرهم هذا؛ لأن أدوات الحكم خرجت عنهم أو انقلبت عليهم، وعملت المكايد في هؤلاء الصعاليك، وتقرب منهم أرباب الأحزاب، وعصفت فيهم الأطماع، وعبثت بهم الأهواء، فما لبثوا أن دخلوا في العراك ينصبون الخلفاء ويخفضونهم، ويعسفونهم ويذلونهم، ويوقعون بهم ويقتلونهم، إنَّ مصير خلافة الأمويين في قرطبة مصيرها في العباسيين والفاطميين، انحلت بالفوضى العسكرية. ا.ﻫ.

وقال لبون: إنَّ أول ما نشأ من فساد الأسلوب السياسي عند العرب تمزيق مملكتهم، فقد كان الخلفاء ينيبون عنهم نوابًا في الولايات يجمعون مثلهم بين السلطة الحربية والدينية والمدنية، فلا يعتمون أن يحاولوا حكم البلد لحسابهم الخاص، ولما كان من المتعذر كبح جماحهم، أصبح من الميسور عليهم أن يملكوا البلاد، وكان من نجاح بعض الحكام في التغلب على الولاية التي انتُدبوا لإدارتها، داعٍ إلى حمل غيرهم على احتذاء مثالهم، وبلغت الحال أن أصبحت الولايات القاصية في المملكة ممالك مستقلة، ونتجت من هذا التمزيق نتائج مضرة ونافعة، والضرر في كون التقسيم يضعف السلطة العسكرية في العرب، والنفع في كون هذه التجزئة تسهل ارتقاء المدنية، وما كان لمصر ولا لإسبانيا أن تبلغا هذه الدرجة من النجاح الذي كُتب لهما لو لم تنفصلا عن الحضرة. ا.ﻫ.

وفي الحق إنَّ الأندلس ومصر ما كان يتم فيهما ما تم من الحضارة لو ظلتا مقطورتين مع الدولة العباسية إلى آخر أيامها، وكيف تبقيان لها والعباسيون بعد القرن الثالث عجزوا عن إدارة العراق دعِ القاصية، وقد كانت الأندلس حتى في العهد الأموي الأول ميدانًا للفوضى لبعدها عن مقر الخلافة، وكانت مصر في هذا المعنى أحسن حالًا لقربها من دار الملك في الجملة، فمن سعادة الأندلس أن عاد أبناء الأمويين فحكموها، ومن سعادة مصر أن تولاها ابن طولون عن العباسيين فاستقل بها، ومن سعادة تونس أن تولاها الآغالبة زمنًا، وكان هذا البعد الباعد بين هذه الممالك الثلاث وبين دار الخلافة العباسية من العوامل الكبيرة في استقلالها.

ويرى لبون أيضًا أنَّ من جملة العوامل في انحطاط دولة العرب اختلاف العناصر الخاضعة لهم، وقد ظهر تأثير هذا العامل الأخير من طريقتين مختلفتين كلاهما ضار، ونشأ من اختلاط عناصر مختلفة تمازج، ثم تنافس بين شعوب متباينة كل التباين، وكان من جهة أخرى اختلاط كثير في الدم لم يلبث أن كان منه تغير دم الفاتحين، ولطالما كان هذا التمازج بين شعوب مختلفة في مملكة واحدة من عوامل الانحلال الفعالة، ويعلمنا التاريخ أنَّ من المتعذر استبقاء عناصر مختلفة في يد واحدة إلا إذا رُوعي في ذلك شرطان أساسيان، أحدهما أن تكون سلطة الفاتح قوية إلى الغاية بحيث يوقن كل إنسان أنَّ كل مقاومة باطلة، والثاني ألا يختلط الغالب بالمغلوب ولا يفنى فيه، وهذا الشرط الثاني لم يحققه العرب بتاتًا وكذلك كان شأن الرومان … ومن المتعذر حياة شعوب منوعة الأصول بقانون واحد، إذا تباينوا في المصالح والأجناس، وقد لا يتأتى إسلاس قيادهم إلا بضغط شديد، وما قامت العرب بمثل هذا الضغط مع شتى العناصر التي خضعت لهم؛ لأن الشعوب المغلوبة قبلت الدين والأوضاع التي حملها العرب على غاية من السهولة. وهكذا كان قانون القرآن، وما أراد الفاتحون أن يناقضوه، فألَّف الغالبون والمغلوبون لأول الأمر شعبًا واحدًا، كانت معتقداته وعواطفه ومصالحه مشتركة، وما دام سلطان العرب من القوة بحيث يُحترم في كل مكان، كان الاتفاق تامًّا في جميع أجزاء الدولة، ولئن سكنت المنافسات بين هذه الشعوب المختلفة فما خمدت كل الخمود، وبدت تظهر عادات الاختلاف المتأصلة في العرب، وعادت فكرة الأحزاب في جميع البلاد الإسلامية فأخذت تتناحر وتتقاتل.

وقال أيضًا: قد ينبعث النجاح من الأخلاق والذكاء في زمن، ويكونان أداة للإخفاق في زمن آخر، عرفنا كيف كان ميل العرب للحرب والشقاق بادئ بدء، وكيف كان هذا الخلق من دواعي ارتقائهم في عصر فتوحهم، وقد أصبح مضرًّا لهم لما تم الفتح، ولم يبقَ أمامهم عدو يكتسحونه. وعاد فتجلى طول اعتيادهم الانقسام، وكان منه تمزيق ملكهم وانتهى بسقوطه. أضاعوا باختلافاتهم الداخلية إسبانيا وصقلية، وكان من تنافسهم الدائم أن قوي النصارى على طردهم، وقد يكون من أوضاعهم السياسية الاجتماعية عوامل في نجاحهم السريع، ودوافع إلى انحطاطهم المريع، وما استطاع العرب أن يفتحوا العالم إلا يوم خضعوا لقانون مقرر ثقفوه من الدين الجديد الذي جاءهم به محمد. قال: وعرف المسلمون في عصور الخلفاء الزاهرة في بغداد وقرطبة أن يوفقوا بين الشريعة وحاجة الشعوب التي دانت بها، وصعب إدخال تعديل في الأوضاع السياسية في الإسلام، ومن أحكامه أن يكون على رأس المملكة ملك يجمع في يديه جميع السلطات العسكرية والدينية والمدنية، وبهذا فقط تيسر قيام دولة عظمى، وربما كان من هذه الأوضاع عامل من عوامل خراب المملكة، فقد تكون الدول الملكية الكبرى التي تجمع عامة السلطات في يد واحدة من التماسك بحيث لا تقاوم في فتوحها، وقل أن يكتب لها النجاح إلا إذا كان على رأسها أبدًا رجال ممتازون، فإذا خلت البلاد منهم يتداعى كل شيء فيها. ا.ﻫ.

١  الفَرق بين الفِرق للبغدادي، والإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والملل والنحل لابن حزم.
٢  الملل والنحل لابن حزم.
٣  يقول ابن تيمية: من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير أنَّ أبا بكر لم يطلب الخلافة لا برغبة ولا برهبة، ولا بذل فيها ما يرغب الناس به، ولا شهر عليهم سيفًا يرهبهم به، ولا كانت له قبيلة ولا أموال تنصره وتقيمه في ذلك، كما جرى من عادة الملوك أنَّ أقاربهم ومواليهم يعاونونهم، ولا طلبها أيضًا بلسانه، ولا قال بايعوني؛ بل أمر بمبايعة عمر أو أبي عبيدة، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه، ولا أكرهه على المبايعة، ولا منعه حقًّا له، ولا حرك عليه ساكنًا، وهذه غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة، ثم إنَّ المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة، وأما علي وسائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه لكن مخلفة؛ لأنه كان يريد الأمر لنفسه رضي الله عنهم أجمعين، ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين، ولم يقاتل المسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحًا، وشرع في قتال فارس والروم، ومات والمسلمون محاصرون دمشق، وخرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يستأثر دونهم بشيء ولا أمر له قرابة، ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار، وقهر الكفار، وأعز أهل الإيمان، وأذل أهل النفاق والعدوان، ونشر الدين، وبسط العدل في العالمين، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يتلوث لهم بمال ولا ولَّى أحدًا من أقاربه ولاية.
٤  رسالة أبي بكر الصديق إلى علي بن أبي طالب في شرح نهج البلاغة، ونهاية الأرب للنويري.
٥  جاحش حامى ودافع، يُقال: «جاحش عن خيط رقبته»؛ أي نفسه وهو مثل.
٦  ميعة الشباب: أوله.
٧  الحوجاء الحاجة، ومنه وما كان في نفسه حوجاء ولا لوجاء ولا حويجاء ولا لويجاء؛ أي حاجة.
٨  تيسير الوصول لابن الديبع.
٩  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١٠  النزاع والتخاصم للمقريزي.
١١  منهاج السنة لابن تيمية.
١٢  مروج الذهب للمسعودي.
١٣  طبقات ابن سعد.
١٤  تيسير الوصول لابن الديبع.
١٥  أي خوف تغرة أن يقتلا؛ أي خوف إيقاعهما في القتل، والتغرة مصدر أغررته إذا ألقيته في الغرر، وهي من التغرير.
١٦  تاريخ أبي الفداء.
١٧  مروج الذهب للمسعودي.
١٨  الكامل للمبرد.
١٩  الزاهق الهالك والزهوق ذهاب الروح، ونقذف نغلب «بتشديد اللام» فيدمغه فيمحقه، والدمغ كسر الدماغ، بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح.
٢٠  أعذر: قدم إليه عذرًا.
٢١  المراغم: المذهب والمهرب والمضطرب.
٢٢  بيت العدو: أوقع بهم ليلًا من دون أن يعلموا، والغرة: الغفلة.
٢٣  ملك عضوض: فيه استبداد وعنف، وأمة شعاع: متفرقة، ودم مفاح: مسفوح.
٢٤  الأتاوي الغريب عن القوم.
٢٥  مروج الذهب للمسعودي.
٢٦  الموافقة بين أهل البيت والصحابة لابن زنجويه باختصار الزمخشري (مخطوط)، وإعجاز القرآن للباقلاني.
٢٧  في الصحاح أنَّ الرسول قال: لقد هممت أن أبعث رجالًا يدعونهم إلى الإسلام، ويرغبونهم في الدين، فأبعث أبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل كما فعل عيسى بن مريم، فقالوا يا رسول الله: أفلا تبعث أبا بكر وعمر فقال: هما لا بدَّ لي منهما، هما مني بمنزلة السمع والبصر.
٢٨  اليعسوب: أمير النحل وذكرها، والرئيس الكبير، والسيد المقدم.
٢٩  تاريخ الطبري.
٣٠  رمقته أطلت النظر فيه.
٣١  تهذيب الأسماء للنووي.
٣٢  الكامل للمبرد.
٣٣  ورم أنفه: امتلأ غضبًا.
٣٤  النضائد: الوسائد، واحدتها نضيدة.
٣٥  الأذربي: نسبة إلى أذربيجان، ويُقال أيضًا الأذري.
٣٦  السعدان: بوزن مرجان نبت، وهو من أفضل مرعى الإبل، وفي المثل مرعى ولا كالسعدان.
٣٧  طبقات ابن سعد.
٣٨  الظبة بالتخفيف حد السيف، والجمع ظبات.
٣٩  مروج الذهب للمسعودي.
٤٠  الكامل للمبرد.
٤١  العلج: الرجل من كفار العجم، والقوي الضخم منهم، جمع علوج وأعلاج.
٤٢  كنفه حاطه وصانه وبابه نصر، وكانفة واقية.
٤٣  المحرب صاحب الحروب.
٤٤  نهج البلاغة للرضي.
٤٥  يقول البلاذري في فتوح البلدان: إنَّ الذي أشار على عمر بن الخطاب بالعدول عن قتال الفرس بنفسه، هو العباس بن عبد المطلب وجماعة من أصحاب رسول الله، وأشار عليه علي بن أبي طالب بالمسير، وعرض عمر على علي الشخوص إلى فارس فأباه.
٤٦  أي ينقلونها عنك إلى كل أحد من غير أن يعرفوا معناها.
٤٧  تتصل.
٤٨  السيادة العربية لفان فلوتن، تعريب حسن إبراهيم حسن، ومحمد زكي إبراهيم.
٤٩  تاريخ الطبري.
٥٠  الأحقاد واحدتها سخيمة.
٥١  تاريخ الطبري.
٥٢  شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
٥٣  تكنفوه واكتنفوه وكنفوه تكنيفًا أحاطوا به.
٥٤  سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزي.
٥٥  مسند أحمد.
٥٦  يقول ابن تيمية في المنهاج: إنَّ عثمان ولَّى أقاربه من بني أمية، وعليًّا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه، كعبد الله وعبيد الله ابني العباس، فولى عبد الله بن العباس على البصرة، وعبيد الله بن العباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وقيل: إنه ولى على المدينة ثمامة بن العباس، وعلى مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، وعلى خراسان جعدة بن هبيرة وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب، وقال: إنَّ نواب عثمان كانوا أطوع من نواب علي وأبعد عن الشر، وإنَّ بني أمية كان رسول الله يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق وعمر، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل أيضًا على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضًا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج، وعلى صنعاء اليمن، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على السرايا، ثم استعمله على البحرين، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فاستعمل عثمان من استعملهم النبي ومن جنسهم ومن قبيلتهم. ا.ﻫ. ومعلوم أنَّ أبا بكر وعمر لم يعهدا لأحد من أقاربهما بالولاية حتى إنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر، وهما هما بالفضل والصحبة، لم يرَ الخليفتان الأولان أن يُعهد إليهما بشيء من أمر الأمة.
٥٧  منهاج السنة لابن تيمية.
٥٨  الولاة والقضاة للكندي.
٥٩  تاريخ الطبري.
٦٠  العيلة: بالكسر الفقر.
٦١  الرغيبة: العطاء الكثير والجمع الرغائب.
٦٢  الثاغية: الشاة، والراغية البعير.
٦٣  نكث وانتكث: انتقض.
٦٤  غب ومغبة: عاقبة.
٦٥  طبقات ابن سعد.
٦٦  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
٦٧  نهج البلاغة للرضي.
٦٨  غامت السماء وآغامت وتغيمت كله بمعنى؛ أي تلبدت بالغيم؛ أي السحاب.
٦٩  تاريخ أبي الفداء، وتاريخ الطبري.
٧٠  الملل والنحل لابن حزم.
٧١  الأخبار الطوال للدينوري.
٧٢  الملل والنحل لابن حزم.
٧٣  الموافقة بين الصحابة وآل البيت لابن زنجويه.
٧٤  وليجة الرجل خاصته وبطانته.
٧٥  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
٧٦  طبقات ابن سعد.
٧٧  أذرح: بلدة في أطراف الشام من أعمال الشراة مجاورة لمعان، وهي اليوم خراب.
٧٨  حروراء قرية بظاهر الكوفة، وقيل موضع على ميلين منها (ياقوت).
٧٩  ذو الثدية لقب عمرو بن ود العامري، كان فارس قريش يوم الخندق، وقُتل وهو ابن مائة وأربعين سنة (التاج للزبيدي).
٨٠  تاريخ الإسلام للذهبي.
٨١  طبقات ابن سعد.
٨٢  أخبار الخوارج مفصلة في الكامل للمبرد، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
٨٣  قواعد الحديث لابن الصلاح.
٨٤  مروج الذهب للمسعودي.
٨٥  روضة العقلاء لابن حبان البستي.
٨٦  أعتبه: سره بعد ما ساءه.
٨٧  نهج البلاغة للرضي.
٨٨  المحاسن والأضداد للجاحظ.
٨٩  الملل والنحل لابن حزم.
٩٠  السرب بكسر السين: النفس، والسرب: الجماعة من النساء والبقر والشاء والقطا والوحش.
٩١  منهاج السنة لابن تيمية.
٩٢  الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب.
٩٣  تاريخ الطبري.
٩٤  الموافقة بين الصحابة وأهل البيت لابن زنجويه، وتفليس إبليس لابن الجوزي.
٩٥  هذا الكلام، راويه معتزلي يرى الكذب كبيرة، بل من أعظم الكبائر التي تكاد تُخْرِج عن الدين، لا ينطبق على ما نسبه الرضي إلى علي في نهج البلاغة، وسماه الخطبة الشقشقية، وفيما زعم أنَّ عليًّا قال: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه يعلم أنَّ محلي منها محل القطب من الرحى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجًّا، أرى تراثي نهبًا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده، فيا عجبًا! بينما هو يستقبلها في حياته؛ إذ عقدها لآخر بعد وفاته، إلى أن قال: حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله ويا للشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أُقرن إلى هذه النظائر! وأغرب من هذا أن يأتي الرضي في هذه الخطبة بكلام في الخليفة الثالث نعوذ أمير المؤمنين — عليه السلام — أن يقوله أو ما يشبهه، ومعنى هذا الكلام أنَّ هم عثمان كان الأكل والرجيع إلخ. ومن حاول أن يخدم الخليفة الرابع بأمثال هذه الخطب، فينحله ما لم يقله، يسيء إليه أكثر ممن خرجوا عليه في سلطانه، وبعد هذا ألا تسقط دعوى من يعزون كل ما في نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب، وإن قال ابن أبي الحديد شارح النهج في معرض الدفاع عن هذا الكتاب ليرد قول من قال: إنه كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة: «إنك إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كلامًا واحدًا ونفسًا واحدًا، وأسلوبًا واحدًا، وإنَّ المحدثين كلهم أو جلهم والمؤرخين نقلوا كثيرًا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.» وقوله: إنَّ نهج البلاغة نسق واحد، كلام لا يوافق عليه العارفون بأساليب البلاغة؛ لأن فيه ألفاظًا لم تعرفها العرب إلا بعد القرن الثاني للهجرة، أما احتجاجه بأن بعض المحدِّثين، أو جلهم، أو بعض المؤرخين نقلوا هذا الكلام فلا يقوم حجة يُعتد بها على صحته، فما كل من نقل حرر وصحح السند، ولا كل من اقتبس كلامًا اعتقد صحته، وإنَّ من وضعوا على الرسول أحاديث ملفقة يستحلون أن ينحلوا غيره كلامًا لم يتكلم به؛ لتأييد دعوتهم وسياستهم. يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس: إنَّ من غلوا في حب علي وضعوا أحاديث في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه.
٩٦  دول الإسلام للذهبي.
٩٧  الأخبار الطوال للدينوري.
٩٨  تاريخ الطبري.
٩٩  تاريخ الطبري.
١٠٠  الجراجمة أهل مدينة كانت على جبل اللكام بالثغر الشامي قرب أنطاكية، يُقال لها الجرجومة (بضم الجيمين)، صولحوا أول الفتح على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وألا يؤخذوا بالجزية، وأن ينقلوا أسلاب من يقتلونه من أعداء المسلمين إذا حضروا معهم حربًا، فكانوا يستقيمون للولاة مرة ويعوجون أخرى، فيكاتبون الروم ويمالئونهم على المسلمين، ولما شُغل عبد الملك بن مروان بمحاربة مصعب بن الزبير خرج قوم منهم إلى الشام مع ملك الروم، فتفرقوا في نواحي الشام، وقد استعان المسلمون بالجراجمة في مواطن كثيرة أيام بني أمية وبني العباس، وأجروا عليهم الجرايات وعرفوا منهم المناصحة. هذه خلاصة ما قاله ياقوت في معجم البلدان أخذًا من البلاذري. ويقول ابن عساكر في تاريخ دمشق: إنَّ طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين من منعة مدائن الساحل، كاتب أنباط — الأنباط هم السريانيون — جبل لبنان واللكام، فخرج الجراجمة وعسكروا بالجبل، فغلبت الجراجمة على جبال الشام كلها من لبنان وسنير، وجبل الثلج (حرمون)، وجبال الجولان، وسُمي الجراجمة بالمردة؛ أي العصاة لعصيانهم أمر ملك الروم في عدم التعرض للعرب.
١٠١  الوصية الكبرى لابن تيمية.
١٠٢  الأخبار الطوال للدينوري.
١٠٣  تاريخ أبي الفداء.
١٠٤  الإمامة والسياسة المنسوبة لابن قتيبة.
١٠٥  الملك عقيم: أي لا ينفع فيه نسب؛ لأنه يقتل في طلبه الأب والولد والأخ والعم، سُمي به لقطع صلة الرحم بالتزاحم عليه.
١٠٦  التنبيه والإشراف للمسعودي.
١٠٧  معلمة الإسلام، عبد الملك.
١٠٨  معلمة الإسلام، الأمويون.
١٠٩  الأمور الشديدة الشنيعة.
١١٠  العقد الفريد لابن عبد ربه.
١١١  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١١٢  أرقلت الناقة إرقالًا أسرعت في سيرها، والوعل بكسر العين الأروى وجمعه وعول وأوعال، والأروية بالضم والكسر الأنثى من الوعول، وثلاث أراوي على أفاعيل، فإذا كثرت فهي الأروى على أفعل بغير قياس.
١١٣  المعارف لابن قتيبة.
١١٤  مروج الذهب للمسعودي.
١١٥  الولاة والقضاة للكندي.
١١٦  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١١٧  دول الإسلام للذهبي.
١١٨  باب الأبواب على بحر طبرستان، وهو بحر الخزر أحد الثغور الجليلة العظيمة؛ لأنها كثيرة الأعداء الذين حفوا بها من أمم شتى وألسنة مختلفة وعدد كثير.
١١٩  تاريخ اليعقوبي.
١٢٠  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١٢١  معلمة الإسلام، هشام.
١٢٢  السيادة العربية لفان فلوتن، تعريب حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم.
١٢٣  تاريخ محبوب بن قسطنطين المنبجي.
١٢٤  العقد الفريد لابن عبد ربه.
١٢٥  الأخبار الطوال للدينوري.
١٢٦  تاريخ أبي الفداء.
١٢٧  تاريخ دمشق لابن عساكر.
١٢٨  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١٢٩  مروج الذهب للمسعودي.
١٣٠  الأخبار الطوال للدينوري.
١٣١  التنبيه والإشراف للمسعودي.
١٣٢  مقدمة ابن خلدون.
١٣٣  النزاع والتخاصم للمقريزي.
١٣٤  الحضارة الإسلامية لأحمد زكي.
١٣٥  حماة الإسلام لمصطفى نجيب.
١٣٦  مقدمة ابن خلدون.
١٣٧  عالج ابن خلدون في فصل ضافٍ عقده في مقدمته حل مسألة المهدي، وقال فيها بعد إيراد أقوال المحدثين: فهذه جملة الأحاديث التي أخرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه، قال: إنَّ الإسماعيلية من الشيعة جاءوا يدعون ألوهية الإمام بنوع من الحلول، وآخرون يدعون رجعة من مات من الأئمة بنوع من التناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم، وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلين بأحاديث المهدي، وأنَّ هذه المعتقدات انبعثت من قول الإمامية والرافضة من الشيعة في تفضيل علي، والقول بإمامته، وادعاء الوصية له بذلك من النبي، والتبرؤ من الشيخين، ثم القول بالإمام المعصوم. قال: وحمل بعض المتصوفة حديث «لا مهدي إلا عيسى»، أن لا يكون مهدي إلا المهدي الذي نسبته إلى الشريعة المحمدية نسبة عيسى إلى الشريعة الموسوية في الاتباع وعدم النسخ، إلى كلام من أمثال هذا يعينون فيه الوقت والرجل والمكان، بأدلة واهية، وتحكمات مختلقة، فينقضي الزمان ولا أثر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل، كما تراه من مفهومات لغوية، وأشياء تخيلية، وأحكام نجومية، في هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر.
١٣٨  الردب الطريق الذي لا ينفذ.
١٣٩  التاريخ العام للافيس ورامبو.
١٤٠  معلمة الإسلام، الأمويون.
١٤١  الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة.
١٤٢  مقالات الإسلاميين للأشعري.
١٤٣  التقية مشتقة من اتقاه؛ أي خافه، وهي ضد العلانية جائزة باتفاق العلماء إذا خشي المرء على نفسه التلف، وكانت شائعة في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين؛ ولذلك أجمع رأي الصحابة على عهد عمر بن الخطاب لما أرادوا التاريخ أن يبدءوا من سنة الهجرة؛ لأنه الوقت الذي حكم فيه الرسول على غير تقية، وعمد إلى التقية كثير من فرق الخوارج والشيعة فنجوا من أيدي أعدائهم، واتقى كثير من آل البيت فتابعوا من لم يشايعوهم على آرائهم، ومن الخوارج كالصفرية والزيادية من يقولون: إنَّ التقية جائزة في القول والعمل، والردي عند الخوارج هو الذي يعلم الحق من قولهم ويكتمه (مبحث في التقية للمؤلف، مجلة المقتبس م٢).
١٤٤  معجم البلدان لياقوت.
١٤٥  عيون الأخبار لابن قتيبة.
١٤٦  الأخبار الطوال للدينوري.
١٤٧  مقدمة ابن خلدون.
١٤٨  السيادة العربية لفان فلوتن، تعريب حسن إبراهيم حسن ومحمد زكي إبراهيم.
١٤٩  خطط الشام للمؤلف.
١٥٠  أخبار البيوتات العلوية لابن زهرة.
١٥١  السلوك للمقريزي.
١٥٢  الفخري لابن الطقطقي.
١٥٣  دول الإسلام للذهبي.
١٥٤  مقالات الإسلاميين للأشعري.
١٥٥  تاريخ دمشق لابن عساكر.
١٥٦  تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط لشكيب أرسلان.
١٥٧  تاريخ العصور الوسطى في الشرق والغرب لحسن إبراهيم حسن وأحمد صادق الطنطاوي.
١٥٨  خطط الشام للمؤلف.
١٥٩  التنبيه والإشراف للمسعودي.
١٦٠  السلوك للمقريزي.
١٦١  المكافأة لأحمد بن يوسف الكاتب.
١٦٢  المؤنس في أخبار إفريقية، وتونس لابن أبي دينار.
١٦٣  فتوح البلدان للبلاذري.
١٦٤  المضاف والمنسوب للثعالبي.
١٦٥  معجم لاروس الجديد، ومعلمة الإسلام، مادة هرون الرشيد.
١٦٦  تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان.
١٦٧  معلمة الإسلام، هرون الرشيد.
١٦٨  الخلاصة النقية في أمراء إفريقية للباجي.
١٦٩  كان اليعقوبي والمسعودي وابن الطقطقي وحمزة الأصفهاني على مكانتهم في العلم، من المؤرخين الذين تجلى فيما دونوا مبلغ هواهم مع الطالبيين، فهم منحرفون عن بني أمية وبني العباس يسجلون لهم العيوب والهنات التي تسقطهم في أنظار أرباب المدارك، خلافًا للطبري والدينوري وابن قتيبة وابن الأثير وابن عساكر وابن كثير والذهبي وابن خلدون وابن الخطيب والمقريزي وأضرابهم ممن دونوا الوقائع على علاتها، وغلبت عليهم الأمانة والصدق؛ إذ لم تكن لهم دعوة خاصة يدعون إليها، فوجب من أجل هذا أن تؤخذ روايات مؤرخي الشيعة باحتياط تام.
١٧٠  مروج الذهب للمسعودي.
١٧١  تاريخ الطبري.
١٧٢  هرون الرشيد لعبد الحميد العبادي (ملحق جريدة السياسة).
١٧٣  اليمن وسكانها للمؤلف (مجلس المقتبس م٧).
١٧٤  رأينا اختلافًا في اسم هذا العلوي فمنهم من يقول: إنه أبو جعفر إبراهيم بن موسى، والطبري يقول: عبد الرحمن بن أحمد إلخ.
١٧٥  مقالات الإسلاميين للأشعري.
١٧٦  تاريخ الطبري.
١٧٧  تاربخ البلدان للبلاذري، كتاب البلدان لليعقوبي.
١٧٨  قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي: دعاني المعتصم يومًا فدخلت عليه فقال: أحببت أن أضرب معك بالصوالجة، فلعبنا بها ساعة، ثم نزل وأخذ بيدي نمشي، إلى أن صار إلى حجرة الحمام فقال: خذ ثيابي فأخذتها، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت، ودخلت وليس معنا غلام، فقمت إليه فخدمته ودلكته، وتولى المعتصم مني مثل ذلك فاستعفيته، فأبى عليَّ، ثم خرجنا ومشى وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فنام، وأمرني فنمت حذاءه بعد الامتناع، ثم قال لي: إنَّ في قلبي أمرًا أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: يا أمير المؤمنين فإني أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة فأفلحوا، واصطنعت أربعة فلم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم المأمون، قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت، وابنه عبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم يُرَ مثله، وأنت ما أنت والله الرجل الذي لا يتعاصى السلطان عنك أبدًا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد، وأنا اصطنعت «الأفشين» فقد رأيت ما صار إليه أمره، و«أشناس» ففشل و«إيتاخ» فلا شيء و«وصيف» فلا معنى فيه، فقلت: أجيب على أمان من غضبك، قال: نعم، قلت: يا أمير المؤمنين، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت، واستعمل أمير المؤمنين فروعًا فلم تنجب؛ إذ لا أصول لها، فقال يا أبا إسحاق: لمقاساة ما مر بي طول هذه المدة أيسر عليَّ من هذا الجواب. ا.ﻫ.
وحوى هذا الجواب معاني كثيرة، وأهمها أنَّ الخليفة لم يصطنع العرب، بل اصطنع العجم، فقد كان طاهر ابن الحسين وابنه من خزاعة وكذلك المصعبي وأخوه كانا من أصول عربية.
١٧٩  الفخري لابن الطقطقي.
١٨٠  مقالات الإسلاميين للأشعري.
١٨١  تلبيس إبليس لابن الجوزي.
١٨٢  تاريخ بغداد لابن الخطيب.
١٨٣  مروج الذهب للمسعودي.
١٨٤  مقالات الإسلاميين للأشعري.
١٨٥  لما سأل العباس بن الحسن من وزراء العباسيين الوزير الحسن بن الفرات فيمن يصلح للخلافة، وقد مات المكتفي بالله والناس يميلون إلى بيعة عبد الله بن المعتز، قال له: وأي شيء تعمل برجل فاضل متأدب، قد تحنَّك وتدرَّب، وعرف الأعمال ومعاملات السواد، ومواقع الرعية في الأموال، وخبر المكاييل والأوزان وأسعار المأكولات والمستعملات، ومجاري الأمور والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما تولوه، وضايقهم وناقشهم، وعرف من خياناتهم وإقطاعاتهم أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم، فكيف يتم لنا معه أمر، إن حمل كبيرًا على صغير، وقاس جليلًا على دقيق. هذا لو كان ما بيننا وبينه عامرًا، وكان صدره علينا من الغيظ خاليًا، فكيف وأنت تعرف رأيه؟ قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت أنه منذ ثلاثين سنة يكاتبك في حوائجه فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل إلى الوصول إليك ليلًا فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر فلم تعبأ بها، ولا أجبته إلى مراده فيها، وكم جاءني منه ما هذه سبيله، فلم أراعِ فيه وصولًا إلى ما يريد إيصاله إليَّ، وهل كان له شغل مدة مقامه في منزله وخلوته بنفسه، إلا معرفة أحوالنا، والمسألة عن ضياعنا وارتفاعنا، وحسدنا على نعمتنا، هذا وهو يعتقد أنَّ الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم مهضوم مضغوط منذ قُتل أبوه، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا فنحترس فضلًا عن أموالنا؟ فقال العباس: صدقت والله يا أبا الحسن، فمن يقلد وليس ههنا أحد؟ قال: نقلد جعفر بن المعتضد، فإنه صبي لا يدري أين هو، وعامة سروره أن يصرف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة، ويملك الأعمال والأموال، وتدبير النواحي والرجال، ويكون خليفة بالاسم وأنت هو على الحقيقة، وإلى أن يكبر تكون قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في نفسه، قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبيًّا أو يقيموه إمامًا؟ فقال له: أما الجواز فمتى اعتقدت أنت أو نحن إمامة البالغين من هؤلاء القوم (يعني بني العباس)، وأما إجابة الناس فمتى فعل السلطان شيئًا فعورض فيه، أو أراد أمرًا فوقف، وأكثر من ترى من صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك مراعاة حقه، وإقرار الأمر في ولده، وفرقت المال وأطلقت البيعة، وقع الرضا وسقط الخلاف، وطريق ما تريده أن تواقف بعض أكابر القواد وعقلاء الخدم على المضي إلى دار ابن طاهر وحمله إلى دار الخلافة، وأن تستر الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص مد بالعطاء والإحسان، فقال العباس: هذا هو الرأي (تاريخ الوزراء للصابي).
١٨٦  تاريخ بغداد لابن الخطيب.
١٨٧  السلوك للمقريزي.
١٨٨  تجارب الأمم لابن مسكويه.
١٨٩  معلمة الإسلام: «المقتدر».
١٩٠  تاريخ ابن الأثير.
١٩١  الولاة والقضاة للكندي.
١٩٢  تجارب الأمم لابن مسكويه.
١٩٣  تاريخ ابن الأثير.
١٩٤  القراح بالفتح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر، والجمع أقرحة.
١٩٥  تجارب الأمم لابن مسكويه.
١٩٦  صبح الأعشى للقلقشندي.
١٩٧  التنبيه والإشراف للمسعودي.
١٩٨  تجارب الأمم لابن مسكويه.
١٩٩  يقول الشعراني: إنَّ الأمين بن الرشيد قُتِل صبرًا وقطعوا رأسه، ومات المتوكل مقتولًا، وقتلوا المستعين بالله وقطعوا رأسه بعد أن خلعوه وحبسوه، وقتلوا المعتز بالله في الحمام غطسوه في الماء الحميم حتى مات بعد أن ضربوه على رأسه ووجهه بالدبابيس وأوقفوه في الشمس أيامًا، وقتلوا المهتدي؛ لأنه منع حاشيته من المظالم، وقتلوا ابن المعتز بعد أن حبسوه أيامًا وخنقوه وقاسى من الأهوال ما لا يُعبر عنه، وقتلوا المقتدر بالله بمواطأة وزيره فضربوه على رأسه بسيف، وشالوا رأسه على رمح وسلبوا ما عليه من الثياب، وقتلوا القاهر بالله فكحلوا عينيه بمرود من نار، فلم يزل كذلك إلى أن مات، وسملوا عيني المتقي بالله وأحلوه الحبس فلم يزل كذلك إلى أن مات في الحبس بعد أربع وعشرين سنة، وهجموا على الخليفة المستكفي بالله وهو على سريره فجروه على الأرض برجله، ثم سملوا عينيه حتى مات، فعل ذلك به الديلم، وقتلوا الخليفة المسترشد بالله دخل عليه سبعة عشر رجلًا من الباطنية فضربوه بالسكاكين حتى مزقوا جسده وقطعوا أنفه وأذنيه ثم أحرقوه، وقتلوا الراشد بالله بعد أن عاقبوه في الحبس إلى أن مات وولده، وقتلوا المستعصم بالله آخر خلفاء بغداد بموالسة وزيره، ووضعوه وولده في تليس وصاروا يرفسونهما إلى أن ماتا. ا.ﻫ.
٢٠٠  تاريخ الطبري.
٢٠١  نشوار المحاضرة للتنوخي.
٢٠٢  الفخري لابن الطقطقي.
٢٠٣  دول الإسلام للذهبي.
٢٠٤  تاريخ ابن الأثير.
٢٠٥  التنازع والتخاصم للمقريزي.
٢٠٦  السلوك للمقريزي.
٢٠٧  الآثار الباقية للبيروني.
٢٠٨  مختصر تاريخ الخلفاء لابن الساعي.
٢٠٩  خطط المقريزي.
٢١٠  مناقب الترك وعامة جند الخلافة للجاحظ.
٢١١  الأبناء قوم من العجم سكنوا اليمن، والنسبة إليهم أبناوي وبنوي.
٢١٢  صلة تاريخ الطبري لعريب.
٢١٣  تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني.
٢١٤  نشوار المحاضرة للتنوخي.
٢١٥  الضمانات.
٢١٦  مختصر تاريخ الخلفاء لابن الساعي.
٢١٧  التاريخ العام للافيس ورامبو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤