الخاتمة
سيقول من تابعونا إلى هذه المرحلة فيما كتبنا، إنك يا هذا ذكَّرتنا بما تيسر من حاضرنا وغابرنا، وذاكرتنا في حكمة الصعود والتدلي في تاريخنا، وأوردت ما تم من الحسنات على أيدي أجدادنا، وشفعتها بما وقع عليهم وعلينا وعلى غيرنا من التبعات، فما السبيل بعد هذا إلى استعادة مجدٍ ضاع أكثره، في زمنٍ غلًّ فيه الغريب أيدينا عن عمل ما يصلحنا؟
السبيل أن نعوِّد أبناءنا الصدق في القول والعمل، وندربهم على إعمال الروية والتفكير الصحيح، وننشئهم على قوة الإرادة والاعتماد على الذات، ونؤدبهم بأدب النفس وأدب الدرس، ونعلمهم أنَّ إتقان لغتهم الفصحى هو الأصل الأول في نهضتهم، وأنَّ تجويد كل ما تصنعه اليد ويهيئه العقل هو السر الأعظم في قيام مجتمعهم، وأنَّ كل عملٍ نافع بقدر ما ينتج من فائدة، وكل صناعةٍ شريفة إذا لم تكن مما يثلم الشرف والمروءة. نخرِّج أطفالنا في صناعات يقتصدون من ربحها؛ ليوقر في نفوسهم أنَّ عليهم تبعة في الحياة، ولا يجمل بهم الاتكال حتى على آبائهم إلا في سن معينة، نعوِّد البنين والبنات أن يفكروا في مصلحة الجماعة تفكيرهم في مصالحهم الخاصة، وأن يؤمنوا أنَّ المرء لا يعيش إلا بالتكافل مع أخيه الإنسان.
نلقِّن أولادنا المُجمع عليه من الأصول الدينية والمدنية، وندعوهم إلى أن يمتنعوا من تقليد الغربيين إلا في الأمور المادية النافعة، التي لا تضر بمشخصاتهم ومقدساتهم. نحملهم على ألا يبتعدوا عن الغريب كل البعد، ولا يفنوا في تقليده كل الفناء، ونأخذ كل فردٍ بالجد في كل شأن، ونعني بتهذيب المرأة عنايتنا بتعذيب الرجل، ونقتصر في حجب نساء المدن الحجاب الشرعي، على مثال نساء القرى والبوادي من دون تبرج ولا تبذل، ونلتمس من الحكومات أن تسن قانونًا لإكراه الشبان على الزواج وتخفيف المهور إلى حدٍّ يتلاءم مع اقتصاديات كل بلد، ونقتصر ما أمكن على تثمير ما تنتج أرضنا وتصنع أيدينا من حاصلات وصناعات، ونحذف كل زائد من الرفاهية والبذخ، ونعاون الحكومات على تربية ناشئتنا، فننشئ من أموالنا بالاكتتاب كتاتيب في كل حي ومنزلة وضيعة، ومدارس عملية للصناعة والزراعة والتجارة، ودروسًا ليلية نقضي بها على الأمية، ونربي في الناشئة الذوق والحس والشعور بالجمال، ونحبب إليهم التمثيل والموسيقى والغناء والإنشاد؛ لتطيب الحياة ويدخل السرور إلى البيوت، ونتوخى أن تدور معاني الآغاني والأناشيد على تقوية العزائم، وتنشيطه الآمال، والدعوة إلى الواجبات البشرية والاجتماعية. ونبذل الجهد في كل صقع ألا يتولى الأعمال الدينية والمدنية إلا من ثبتت كفايتهم، وسلمت من الضعف والنقص أخلاقهم، فيخرج الجهلة من بيوت العبادة ودُور الحكم والقضاء والإدارة، ويُطلب إلى كل حكومة أن تصرف ربع دخلها وأوقافها على التعليم والصحة، وتوزع ما تملكه من الأرضين على الفلاحين والعاملين، ويُعنى أهل كل حيٍ وقرية ومزرعة أن ينشئوا لهم كتابًا وجامعًا وحمامًا وملعبًا وخزانة كتب صغيرة تلائم حاجتهم ومحيطهم.
ينقب أهل كل حرفة النقباء، وينزلون على رأي المحنكين من الشيوخ في نقاباتهم، وتتألف جمعيات لمكافحة المخدرات والمسكرات والتدخين والفحش والإسراف، وجمعيات للرياضات البدينة والسياحات العلمية، وجمعيات ينشر فيها الخاصة بين العامة رسائل دورية واضحة مشكولة تُكتب بلغةٍ معربة مفهومة، في موضوعات أدبية واقتصادية واجتماعية، فيها لهوٌ ولعب وفيها تعليمٌ وتهذيب وجد، ويطوف المتعلمون في أيام مخصوصة يحاضرون قومهم ويسامرونهم في مسائل تطبعهم بطابع الوطنية وحب العرب والعربية، وتعرفهم إلى المشهورين من رجال الإسلام وغيرهم في الدهر الغابر والحاضر، وتذكرهم بما لهم وعليهم من الحقوق والواجبات.
وتُحول ما أمكن الزكوات والصدقات إلى ملاجئ يأوي إليها اليتامى والعجزة، ومن قعدت بهم الأيام عن الكسب، حتى تبطل الكدية ويقل الشقاء والبؤس، ويضطر كل صحيح الجسم إلى ممارسة عملٍ يعيش منه بكده، ويكون من أولى القواعد ألا يبدأ بعملٍ قبل التفكير فيه طويلًا، وألا يستهان بمالٍ قليل يُجمع لهذه الأغراض من أول الأمر، ثم تُترك سياسة كل بلدٍ للصالحين من أهله، لا يشاركهم فيها جمهور الناس إلا عند الحاجة القصوى، وبقدرٍ معلوم إلى حدٍّ معين. والزمان كفيل مع اتخاذ الأسباب بحل كل معضل، والأمة الصحيحة العقل والجسم، المجهزة بالأجهزة اللازمة في كفاح الحياة، مضمونٌ لها البقاء، وميسورٌ لها أن تعيش حرة، إذا صمدت وصبرت وعملت واغتنت، والله ولي التوفيق.