تعريف الشعوبية ومراميهم
الشعوبية قوم متعصبون على العرب مفضلون
١ عليهم العجم، نشأت دعوتهم بُعَيْدَ عصر الخلفاء، بدخول أجيال كثيرة من
الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية، فنشأت العداوات بين العرب أصحاب الدولة،
وبين العجم الذين انتحلوا الإسلام، وكما حدثت هذه المفاضلة بين العرب والعجم، حدث أمر
المفاضلة بين العدنانية والقحطانية، وصيغت هذه العداوة بعد ذلك في صيغة أخرى وهي قيس
ويمن، هذا مع أن هدي الكتاب العزيز:
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ،
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ، وقد قال الرسول في حجة الوداع: «أيها الناس، إن الله قد أذهب
عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بالآباء، ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم
وآدم من تراب.»
ويُقال على الجملة: إن الإسلام الذي جاء لإسقاط الجنسية، حاول بعضهم للحرية التي
استمتعوا بها على عهد عز العرب أن يعيدوا نغمتها، وألَّف الشعوبيون رسائل وكتبًا،
وصنفوا المسامرات والخطب، وراجت أسواق الممادح والمقابح، ورد العرب على العجم برفق لئلا
ينفروهم، وكانوا يرمون إلى تأليف القلوب لا إلى تمزيقها، شأن الأمم العاقلة التي ترمي
أبدًا إلى تكثير سوادها، وجمع القلوب على حبها، تتحامى العبث بمقدَّسات الناس، وتحفظ
لهم حرمتهم وكرامتهم.
ونحن هنا نطلق لفظ الشعوبية على كل من ناهضوا العرب في القديم والحديث، وفي الشرق
والغرب، وقاموا ينقصون من قدر حضارتهم وتاريخهم، لأغراض في نفوسهم لا تخفى على أرباب
البصائر. ولهؤلاء الشعوبيين طرق غريبة في الحط من العرب، يتناولون فيها كل مسألة تؤدي
مباشرة أو غير مباشرة إلى العبث بمزايا لهم، تناصرت
٢ الأخبار على تفرُّدهم بها، ولو أنصف الشعوبيون لما ارتكبوا كبيرة إنكار
الثابت، وإثبات المنكر، وأنت كلما حججتهم بأقوال الأعلام من علمائهم أصروا معاندين، بل
اشتدوا في الغلو حتى وصموا المعتدلين من جماعتهم بقلة البضاعة في هذه الموضوعات التي
أصبحت لعهدنا على طرف الثمام
٣ لكثرة النقل والنشر، وأنت إذا ما أحلتهم على قوانين العقل الطبيعية، فروا
كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة.
٤
ومن أغرب ما قرأنا ونحن نكتب هذا، دعوى أحد هؤلاء الشعوبيين أن رينان لما لم يكن
متمكنًا من العربية، وأن تين ولامارتين ولبون لما لم يعرفوا كلمة منها كان بحثهم في
العرب غير صحيح، ذلك أنه شق على هذا الشعوبي المتعصب أن يذكر هؤلاء العلماء العرب بشيء
من الإنصاف، فما وسعه إلا أن ينسب إليهم الجهل بلغة العرب، وما عهدنا أن الحكم على
مدنية من المدنيات يُشترط فيه أن يكون المرء ماهرًا بلغة تلك المدنية، ولو صح هذا النظر
لاستلزم أن ندرس اللغة اليونانية لنحكم على مدنية اليونان، ونتلقف اللاتينية لنحكم على
الرومان، والهيروغليفية لندرس مدنية الفراعنة، وهكذا لو طمحت أنفسنا إلى أن ندرس الهند
والصين واليابان، وأجناس البشر من الأصفر والأحمر والأسود والأبيض، لاقتضى لنا أن نتقن
لغاتهم، حتى يسوغ لنا بزعم ذاك الشعوبي أن نحكم عليهم، وفاته أن لغات أوروبا، ولا سيما
الأمهات التي يتكلم بها عشرات الملايين من الخلائق، قد نُقلت إليها معظم النصوص
العربية، بحيث لا يكاد يفوت الباحثَ شيء يلزمه للبحث في حضارة العرب والإسلام.
ومتى كانت الإحاطة بلغة أمة شرطًا أعظم في صحة الحكم على مدنيتها؟ وهل في مقدور البشر
أن يدرس الفرد عشرات من اللغات، إذا صح عزمه على معرفة تواريخ الأمم؟ حقيقة العرب تُعرف
من القدر الذي ألِّف ونُقل إلى كل لغة من لغات المدنية الحديثة، وهو شيء كثير تتألف منه
خزانة في كل أمة من الأمم المتحضرة اليوم. سألنا مؤلف كتاب حاضر العالم الإسلامي
الأميركي، من أين له هذا الوقوف الجيد على تاريخ الإسلام وهو لا يعرف العربية؟ فقال:
إنه درس التاريخ الإسلامي عشر سنين عند أستاذه في التاريخ، وكان هذا يحسن العربية،
ويستخرج من كتبها كل ما يلزمه لدراسة تاريخ الإسلام؛ ولذلك أخذ لباب ما كان أستاذه
متمكنًا منه، ولم يحتج كثيرًا إلى تلقف العربية للحكم على الإسلام والعرب، ولكن ذاك
الشعوبي طلق المنطق فلذَّ لقلبه إسقاط أربعة من كبار علماء فرنسا المتأخرين، ليسقط
بإسقاطهم مدنية أمة عظيمة يرى من مصلحته أن يعمل على حربها حتى لا تقوم لها قائمة، ولا
تُنسب لها في قديم الدهر وحديثه صفة من الصفات الطيبة التي قلَّ أن تتجرد منها أمة
عظيمة مهما كان جنسها وهواؤها ودينها.
نقض علماء الغربيين مماحكات الشعوبيين
وكل ما رددنا عليه آنفًا هو رأي الشعوبي لامنس المؤرخ المحابي، كما لقَّبه بعض علماء
أوروبا، وما فتئ يُضعِف من شأن أكبر مؤرخي العرب أمثال الطبري، والبلاذري، وابن سعد،
والأصفهاني، وابن الأثير، وابن خلدون، وأبي الفداء، ويوثِّق بعض القصاص الوضاع. هؤلاء
المؤرخون يغمز قناتهم لامنس البلجيكي بينا هيس السويسري
٥ يأسف لتساهل المسلمين في دراسة هذه المدنية الإسلامية البديعة التي يُعجب
بها علماء المشرقيات، لما يقرءون من آياتها في كتب مشاهير المؤلفين أمثال ياقوت،
والبيروني، والخوارزمي، وابن خلدون إلخ، قائلًا: إن المسلمين يزهدون في مدنيتهم
ليتمثلوا نصف تربية أوربية في المدارس التي قلما تهتم بتعليمهم عظمة الآداب التاريخية
والجغرافية والعلمية التي خلفها أجدادهم. ا.ﻫ.
لامنس الشعوبي البلجيكي يُسقط من شأن مؤرخي العرب، كما يُسقط من شأن علماء الإفرنج،
وبراون
٦ الإنجليزي يقول: إن كتب العرب في التاريخ أوسع الكتب وأدقها، ويرى أن
التاريخ في بعض المؤلفات العربية لم يُكتب على نسقه في أوروبا، ويذكر بالإعجاب ابن خلدون،
وابن الأثير، والطبري، والفخري وغيرهم، قال: وفي باب العلم والفلسفة والأخلاق
نجد من المؤلفات ما لا يوجد له مثيل.
يطعن الشعوبيون بكتب العرب، ويطعنون أيضًا بكتب الإفرنج المنصفين للعرب، وكلما أوقدوا
نارًا للفتنة أطفأها العلماء بوثائق كثيرة تصفع النافخين في أبواق الشقاق، وتقضي على
أماني الدجاجلة
٧ المشعوذين، ولقد كتب أحدهم مؤخرًا يقول: فُطر الإسلام على الفناء
٨ فهو يبني ولا يعرف الاحتفاظ بما بنى، وشعوره متحرك متحول، ومع هذا يحتفظ
على تعاقب القرون بتقاليده البدوية وينكر المدنية، لكنه يقبل الانتفاع من الآلات
والأدوات الجديدة، قال: وتنوعت المرادات التي أحدثها الإسلام في حواسنا الغربية،
ولطالما شعر لوتي «من أدباء فرنسا» نحو المسلمين بعاطفة شديدة، وشهد لهم في كتبه وفي
حياته العامة الشهادات الحسنة، فكان المدافع عن تركيا، وقام في حياته الخاصة على تعهد
مسجد له أقامه في داره في روشفور، وبلغ من تأثير الإسلام في إيبنهارد أن دان به
مختارًا، ثم تطرَّق إلى ما بدا في كتب الأخوين تارو
Tharaud وهما من أكبر كتَّاب فرنسا، من العطف على الإسلام، ولا سيما في
مؤلفاتهما «العيد العربي»، «الحرب في أشقودرة ألبانيا»، «طريق دمشق»، «رباط الفتح أو
ساعات في مراكش»، «رباط ومراكش»، «فاس وأهل المدن في الإسلام»، وقال: إنه ظهر تبدل في
عاطفتهما في هذا الكتاب الأخير، بالقياس إلى أول كتاب كتباه في الإسلام منذ عشرين سنة،
فأخذا يعمدان الآن إلى طرق النقد والسخرية أحيانًا بما يريان من مدنية إسلامية إلخ،
وختم بقوله: نشأ الإسلام في أصقاع مشمسة، فكان دين الشعر والخيال والبطالة، ولما كان
الحظر من أهم قواعده، قضى على أهله بالجمود بل بالموت، وقد عُرف الإسلام بتذوُّق الحاضر
والمعجل والزائل، وبالتجاهل المقصود من البقاء، وبعقيدة القضاء والقدر، فكان مخربًا
هائلًا، وقال: إن العربي يوحي إلى الذهن صورة الطفل الذي يبني على شاطئ البحر قصرًا من
الرمل، والرسام الذي يتلف عينيه بتزيين غرفة مظلمة، أو المطرِّز الذي ينسج بالذهب
والفضة قطعة لا قيمة لها. ا.ﻫ.
هذا الشعوبي يتحامل على الإسلام فيرميه بالتعصب وقلة المسامحة وعدم ائتلاف من يدين
به
مع من يخالفه في عقيدته، يزعم أنه عدو المدنية الأزرق، كلام من أنطقه الهوى، وأعوزته
الحجة لتأييد دعواه المزوَّرة، تقرأ في تضاعيفه المكر، وفساد الذمة، ومقاومة البديهة.
وليوتى
٩ من أعظم رجال فرنسا الذين عرفوا الشرق معرفة حقيقية، يقول من مقالة له
أخيرة: «وإذا كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية، يزعم أن الإسلام يبعث على التدمير
والفوضى والتعصب، فإني بصفتي رجلًا قضيت بين المسلمين مدة من الزمان في الشرق والغرب
ولم أكتفِ بما قرأته عن الإسلام في الكتب، أقول: إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من
الصحة.»
تسامح المسلمين ودولهم مع أبناء ذمتهم
لو كان الإسلام كما ادعى ذلك الشعوبي الأخرق متعصبًا جامدًا، يسيء إلى من يخالفه،
ولا
يأتلف مع أحد، هل كانت تتم أعماله المدنية التي تجلت للعيان بدون بيان؟ بل لو كان
الإسلام متعصبًا جامدًا، هل كان على الأقل يُبقي على أحد ممن يخالف معتقده؟ وقد شاهدنا
التعصب الديني في أوروبا لما اشتدت وطأته يقضي بجلاء جزء عظيم من أمة، حتى يسلم دين
السواد الأعظم، كما وقع للإسبان فلم يرضوا بعد أن خضع العرب لسلطانهم إلا بتنصيرهم أو
إجلائهم عن بلادهم، فخربت إسبانيا من أجل ذلك، وكذلك جلا البرتستانت من فرنسا إلى
إنجلترا وهولاندة وألمانيا يوم اشتداد الثورة الدينية، فكان من ذلك أن فقدت البلاد
عشرات الألوف من الأذكياء، وهاجر ألوف من الخلق من إنجلترا لأسباب دينية إلى أميركا
الشمالية، ولقد كان الإسلام على العكس من كل هذا في معظم أيام عظمته، يبر المخالفين
ويقرِّبهم، وينتفع بإحسان المحسن منهم، ويعدل فيهم عدلًا لم يُؤثر عن كسرى ولا قيصر،
وما قامت حرب دينية قط في ربوع الإسلام قُصد منها إبادة أعدائه، اللهم إلا حوادث عادية
تقوم بين متخالفين فتطفئها الولاة لساعتها، وترد على كل الرعايا حرياتهم. ذكر ابن عساكر
في سيرة ابن فاتك الذي شهد فتح دمشق أنه تولى قسمة الأماكن بين أهلها بعد الفتح، فكان
يترك الرومي في العلو ويترك المسلم في أسفل لئلا يضر بالذمي، أهذا عمل من يسيء إلى من
يخالفه، ولعل الشعوبيين يماحكون فيزعمون أن هذا من باب الضعف، وأين كانت قوة أهل
الإسلام يوم عملوا هذا من قوة غيرهم من أهل الأديان الأخرى في الشرق والغرب؟
مثال آخر: لما
١٠ جمع هرقل صاحب الروم جموعه للمسلمين ردوا على أهل حمص من الروم ما كانوا
أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم، فقال
أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن
المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن
نُغلب ونُجهد.
مثال ثالث: مرَّ عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب
عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى،
قال: أسأله الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فرضخ
١١ له بشيء مما في المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: أنظر هذا وضرباءه،
١٢ فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ،
والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن
ضربائه.
خذ لك مثلًا آخر من هذا التسامح الشريف: كتب الإمام الأوزاعي
١٣ إلى صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، لما قتل مقاتلة أهل لبنان، وأجلى
بعضهم لما خرجوا على الخليفة: «وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن
ممالئًا لمن خرج على خروجه، ممن قتلت بعضهم، ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف
تُؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى أن لا تزر وازرة
وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدى به، وأحق الوصايا أن تُحفظ وتُرعى وصية رسول الله
ﷺ فإنه قال: من ظلم معاهدًا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه.»
١٤
قال الجاحظ في معرض كلامه على أن المسلمين كانوا أعطف على النصارى من اليهود: إنهم
نافسوا المسلمين في لباسهم ومركوبهم وألعابهم، وتسموا بالحسن والحسين والعباس والفضل
وعلي واكتنوا بذلك أجمع … فرغب إليهم المسلمون وترك كثير منهم عقد الزنانير، وعقدها
آخرون دون ثيابهم، وامتنع كثير من كبرائهم من إعطاء الجزية، وأنفوا مع اقتدارهم من
دفعها، وسبوا من سبهم، وضربوا من ضربهم، وما لهم لا يفعلون ذلك وأكثر منه، وقضاتنا
وعامتهم يرون أن دم الجاثِلِيق
١٥ والمطران والأسقف وفاء
١٦ بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة، قال: وكان منهم كتَّاب السلاطين وفرَّاشو
الملوك وأطباء الأشراف، ولم يكن اليهودي إلا صباغًا أو دباغًا أو حجامًا أو قصابًا أو
شعابًا.
١٧
وإذا كان الشعوبيون يشكون متعنتين في هذه الأخبار الصحيحة من مسامحة المسلمين في
معظم
أدوار عزهم، مع أنه لم يعهد لأمة فيما نحسب أن دونت أيام سعادتها ما لها وما عليها،
بمثل هذا التدقيق الذي اشتهر به علماء العرب، فما قولهم فيما كتبه عالم معاصر
١٨ من جامعة الجزائر؟ قال: «لقد ثبت أن الفاتحين من العرب كانوا على غاية من
فضيلة المسامحة لم تكن تتوقع من أناس يحملون دينًا جديدًا … وما فكر العربي قط في أشد
أدوار تحمسه لدينه الجديد، أن يطفئ بالدماء دينًا منافسًا لدينه، وقد جاءنا العالم ميز
في باب التسامح الإسلامي بتفاصيل أشد غرابة من هذه قال: إن من أعظم بواعث الاستغراب
كثرة عدد غير المسلمين من رجال الأمر في الدول الإسلامية، وقد شوهد المسلم في بلاده
يحكم عليه النصارى، وحدث مرتين في القرن الثالث للهجرة، أن كان من النصارى وزراء حرب،
وكان على القواد حماة الدين أن يقبلوا أيدي الوزير، وينفذوا أمره، هذا والدواوين غاصة
بالكتَّاب من النصارى.»
هكذا عامل المسلمون أهل ذمتهم وهكذا عاملهم الخلفاء من الراشدين والأمويين
والعباسيين، بل الخلفاء والأمراء في كل أرض انتصب عليها علم التوحيد، وكان الخلفاء بل
من اشتهر منهم بتعصبه الديني يبوحون لأبناء الذمة بأسرارهم، ويطلعونهم على خويصة
أنفسهم، ويوسدون إليهم مهمات أمورهم، ويأتمنونهم على حرمهم وأرواحهم، ويرفعون منازلهم،
ويغدقون
١٩ عليهم إحسانهم، وهل عهدت مثل هذه المسامحة في بعض ممالك الغرب إلا بعد حروب
طويلة وثورات مستديمة، ومجازر بشرية فظيعة؟ وذلك في العصر الأخير فقط.
لما أراد المأمون تدوين العلوم في بغداد استدعى ثلاثمائة عالم من أهل كل دين وجنس،
وحظر عليهم في اجتماعهم مسلمهم وغير مسلمهم أن لا يستشهدوا بآي القرآن والإنجيل
والتوراة وأن لا يتعرضوا للأديان في مباحثهم، وقد وضع أبوه هرون الرشيد من قبله جميع
المدارس تحت مراقبة يوحنا بن ماسويه، وكانت إدارة المدارس في بلاد العباسيين مفوضة إلى
النسطوريين تارة وإلى اليهود أخرى، وجامعات قرطبة وغرناطة وغيرهما من المدن الكبرى في
الأندلس كانت تدار في الغالب بأيدي اليهود على ما قال درابر، ولما خربت بغداد في القرن
الرابع أمر عضد الدولة ابن بويه وزيره نصر بن هرون وكان نصرانيًّا بعمارة البيع والديرة
وإطلاق الأموال لفقرائهم، فماذا يقول الشعوبيون بعد هذا من الباطل ليدحضوا به الحق؟ وهل
من العدل في شيء أن يعتز الشعوبيون بقوة الغرب المادية؟ فيحطوا من قدر مدنية استغربوا
كيف حملها الأجداد على ما يظهر.
نشرت في العهد الأخير عدة كتب بلغات الأمم الكبرى في الغرب في موضوع الأديان البشرية،
فغمز أكثرها الإسلام من طرف خفي أو جلي، فعجبنا كيف لم يرقَ البشر بمدنية القرن
العشرين، ومن الغريب أن يكتب أبو الريحان البيروني في أديان الهند في القرن الخامس من
الهجرة، ولا يمس عاطفة أحد من أهلها، كأنه إذا كتب في نِحلة يوهمك أنه هو أحد أبناء تلك
النحلة لتلطفه في وصف شعائرها، ويكتب علماء اليوم وينحون على من لا يدين بدينهم،
ويمجدون دين السواد الأعظم وحده، إن مدنية هذا القرن لم تصف النفوس من الشوائب، فإذا
ذكر حتى العظيم من المسلمين ذكر على الأغلب بتقزز ممقوت، وكراهية بادية، أما إذا كان
الكلام في مجموع الأمة الإسلامية فإن تصويرهم لها يصدر من تصوراتهم وأوهامهم.
رأينا كتاب العرب أيام قوتهم يذكرون جميع المخالفين لهم بكل حرمة، وفي كتاب طبقات
الأطباء لابن أبي أصيبعة، وفي طبقات الحكماء لابن القفطي، وفي طبقات الأدباء لياقوت،
وفي الوافي بالوفيات للصفدي، وفي تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي، وفي الجامع المختصر لابن
الساعي مثال ظاهر من هذه المسامحة المحمودة، فقد ترجم هؤلاء المؤلفون للمسلم كما ترجموا
للصابي واليهودي والسامري والمجوسي واليعقوبي وغيرهم كأنهم أبناء ملة واحدة، ونحن في
هذا القرن وهو سيد القرون بتسامحه نرى الكاثوليكي إذا ترجم للبرتستانتي، أنحى عليه
وثلمه والعكس بالعكس، وهما في الحقيقة أبناء نبعة واحدة، وكتاب واحد.
شعوبيان مخرِّفان شامي ومصري
ومن هؤلاء الشعوبيين في الشام هزاء خيالي، دعا الشاميين في جملة الآراء التي جاهر
بها
إلى أن تصفوا نياتهم فينسوا الأجداد الذين يشيدون أبدًا بمفاخرهم، وينسوا الدول
الإسلامية التي يتغنون على الدوام بمجدها، وما عهدنا عاقلًا يدعو أمة إلى تناسي
تاريخها، بل رأينا كل أمة تدرس تاريخها، مهما كان من اسوداد صفحاته؛ لأنه مهمازها إلى
العمل، وتتمة ما بدأ به أجدادها: تتوقى شرهم وتقتبس خيرهم، ورأينا من الأمم كبعض
جمهوريات أميركا الجنوبية من يصطنع لأمته تاريخًا تتغنى به فيعينها على نهوضها، وأنت
لو
أردت هذا المتفلسف أن يأتيك برجل يصح لنا أن ننسج على منواله لعجز واكتفى بأن قال لك:
إن الإسلام لم يأت فيه رجل يذكر، ولاختلق الأكاذيب على من أجمعت الأمة بل الأمم على
صلاحه أمثال صلاح الدين يوسف، ولشوقي في هذا المعنى:
مثل القوم نسوا تاريخهم
كلقيط عي في الناس انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة
يشتكي من صلة الماضي انقضابا
ومن هؤلاء الشعوبيين في مصر رجل، يزعم أن الإسلام دين بدوي يتسم بكراهة الترف، وبشدة
الإيمان بالوحدانية، وأن الوهابيين اليوم يمثلون روحه أصدق تمثيل، وأن العرب تقيدوا
لأول أمرهم بالقرآن، فلم ينقلوا شيئًا من الأدب الإغريقي، ثم كان الروح البدوي سائدًا
أيضًا، فقوطعت الفنون الجميلة؛ لأن البدوي يكره بطبيعته جميع ضروب الترف والحضارة، وهو
نفسه يعيش في صحراء لا يحتاج معها إلى فنون الحضارة من عمارة وتصوير ونقش؛ ولذلك حرم
التصوير كما حرم صناعة التماثيل، وصار الغناء والموسيقى يتلهى بهما السكارى، وأن من
الرسم تستفيد الأمة رأيها وذوقها في الجمال، ومن الدرامة تكتسب سليقة النقد الاجتماعي،
فتبقى جذوة الإصلاح حية متقدة، وتنزع الأمة نزعة رقي وتقدم، وأن تعصبنا للشرق تعصب
للقديم أكثر مما هو للشرق، نستمسك بالشرق لكي نتعلل به في كراهة الغرب، ونستمسك بالقديم
كبرياء وأنفةً من أن يقال: إن حضارتنا قد أفلست أمام حضارة أوروبا.
قال: وليس علينا للعرب أي ولاء وإدمان الدرس لثقافتهم مضعف للشباب ومبعثر لقواهم،
فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث، لا بالأسلوب العربي القديم، ويجب أن
يعرفوا أننا أرقى من العرب، وأن ندرس العربية الفصحى كما ندرس الأشورية والبابلية، وأن
ننظر إلى لغة النابغة والمتنبي كما ننظر إلى اللغة الروسية أو الإيطالية، وأن العربية
ليست لغتنا ولا نستفيد منها، وأن لنا من العرب ألفاظهم فقط لا لغتهم بل بعض ألفاظهم،
قال: وكل من اختبر هذه اللغة يعرف أن قاسم أمين ولطفي السيد كانا على حق عندما نصحا
باستعمال العامية المصرية بدلًا منها، وقال: إن الرابطة الشرقية سخافة والرابطة الدينية
وقاحة، وأن الرابطة الحقيقية أن نفنى في مدنية أوروبا، ونتطور بأطوارها، ونتزوج من
بناتها، ونزوجهم بناتنا، ونأخذ عنهم كل شيء، وأن الأصلح لمصر إذا أرادت التخلص من آسيا
والشرق والتاريخ العربي، أن تعود إلى وطنية فرعونية مقصورة على مصر وتاريخ مصر، ودرس
مدنية الفراعنة أفيد من درس العرب، وأن تدرس آثار العرب والفراعنة كما تدرس الفينيقية،
وقال: إن من تأمل أحوال الأمم الناهضة يعرف أنه ليست أمة تنهض في العالم الآن إلا
وتنسلخ من قديمها سواء أكان هذا القديم آسيويًا أم غير آسيوي، هذه خلاصة آراء المتفلسف
الشعوبي ولو أردناه وصاحبه معًا أن ينزل عن مشخصاته ومقدساته التي يتظاهر بالبعد عنها
وهي أعلق بقلبه من شعرات قصه
٢٠ لاستكبر وأبى.
يتقدم الشعوبي المصري إلى السواد الأعظم باسم الناصح، أن ينزل عن دينه؛ لأنه دين لا
يقبل الرفاهية، ويتجاهل ما تم للعرب من هذا القبيل، مما ملئت به بطون الأسفار، وينكر
عناية العرب بالفنون الجميلة؛ لأن العرب في صحرائهم لا يحتاجون إليها، وفاته أن العرب
ليسوا كلهم سكان بادية، والفرق ظاهر بين العرب والأعراب، وأن العرب في أقصى جاهليتهم
كانوا قسمين بادية وحضرًا، وأن البوادي لم تعمل الحضارة العربية في دمشق وبغداد
والفسطاط وقرطبة وغرناطة والقيروان، بل عملها أهل الحضر من العرب، وما قصروا في كل
فنونها بحسب ما ساعدهم عصرهم ومعتقدهم، وإذا خلت مدنية العرب من «الدرامة» لبث روح
النقد في اجتماعها، فما خلت كل عصر من كتَّاب مجوِّدين نقدوا كل شيءٍ فيها بدون عصبية
ولا عنجهية.
أما قوله أن يرجع العرب عن تاريخهم، ويتركوا آسيا ويلتحقوا بأهل أوروبا في كل مظاهرهم
فهو السخف بعينه، وما عهدت أمة تسير على هذا الطريق حتى ولا اليابان التي استشهد
بتلقفها الحضارة الأوربية، فإنها بقيت على وثنيتها، محتفظة بتقاليدها، وأخذت عن أوروبا
أصولها في مادياتها فقط، وكذلك يقال في دعوة العرب إلى ترك لغتهم والاعتماد على اللغة
العامية، كأن ما حفظه هو لم يحفظه العرب: هو يريد أن يمزق شمل العرب، ويأتي على رابطتهم
اللسانية فيحلها جملة واحدة كما انحلت رابطتهم السياسية، ولغة القرآن هي التي حمتهم كل
هذه المدة على كثرة ما لاقوا من عنت الدول الشرقية الإسلامية، ومن عنت الدول الغربية
النصرانية، هو يستشهد برجلين يقولان بزعمه هذا القول في إحلال العامية بدل الفصحى، وهما
قد كتبا تآليفهما بالعربية الفصحى، ولو كتباها بلغة العوام لكان مصيرها الدفن ساعة
تولد، وهذا مثل ما ادعاه أحد فضلائنا
٢١ من أن جمال الدين الأفغاني قال له: إن العرب لو وفقوا إلى نقل الإلياذة
لهوميروس إلى لغتهم لكانوا أحسنوا أكثر من كل ما نقلوه من كتب العلم والفلسفة والصنائع،
وما نخال ذلك القول إلا مدسوسًا عليه.
يقول المازني:
٢٢ إن العامية ينقصها الضبط والإحكام وهي ليست لغة واحدة حتى في مصر، بل لهجات
شتى تختلف وتتقارب وتتباعد، تبعًا للإقليم وسكانه وأحوالهم حاضرها وباديها، وليس لها
ثبات واستقرار على حال، وأراها مع انتشار التعليم واتساع العلم بالفصحى ترتفع إليها
وتدنو منها، وقد صار المتعلمون يتكلمون عامية هي أقرب إلى العربية وأشبه بها، ولا يكاد
ينقصها إلا حركات الإعراب، ومن الحمق، ولا شك، أن يؤثر أحدنا عامية لا قواعد لها ولا
أصول ولا أحكام ولا تاريخ ولا ثبات، وأحمق الحمق أن تجري وراء لغة تفر منك إلى ما تفر
أنت منه. ا.ﻫ.
وقول ذاك الشعوبي: إن الرابطة الحقيقية — بعد أن أرادنا على ترك جميع روابطنا الشرقية
والدينية — هي أن نفنى في أوروبا، ونقول بالمدنية الفرعونية، وندرسها أكثر من المدنية
العربية، ونجعل المدنية العربية واللغة العربية كالمدنية الأشورية واللغة الإيطالية
والروسية، قوله هذا أشبه بسرسام لو تطال إلى أن يمليه على طفل في مدرسة ابتدائية لضحك
من قوله أي ضحك، وعده يهذي ويعبث، وما نخاله إلا عابثًا يهذي ويخرف هو وأمثاله من
الفرعونيين المصريين الذين سقطت دعوتهم بعد ظهورها، وقالوا بالتجديد في كل شيء أو نزع
كل مفيد، فدلوا على ضعف في معرفة طبائع الأمم، وتاريخ نهضتها فضلوا وأضلوا، وكذلك حالة
المتفلسف اللبناني في دعواه المضحكة، وله أمثال يكتبون ليغربوا لا ليعربوا، وينقدون
ليقال عنهم: إنهم نقَّاد ويأتون بالجديد، وهم لو حاسبوا أنفسهم وحكَّموا العقل لضحكوا
مما يختلفون من البهت والمقت، وكلامهم مهما كان ظاهره معسولًا مقبولًا فهو هو الصاب
والعلقم ولبئس ما يأفكون.
يقول الغمراوي:
٢٣ إن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم لا يمكن إلا على أساس تعاون الحاضر
والماضي، يبني العقل في حاضره على ما أسس العقل في ماضيه، فإن الحق وحدة قائمة لا يقوم
جزء منها إلا على جزء، فلن يقوم حق جديد، إلا على أساس من حق قديم، بل الحضور والمضي
والحدوث والقدم إن هي إلا ألوان يبدو بها الحق — أو الباطل — لعين الإنسان، وما هي من
لون الحق في شيء، وإنما هي من لون المنظار الذي ينظر منه الإنسان، وإلا فالحقائق في
نفسها متكافئة في الثبوت، تكافؤ نقط سطح الكرة، غير أن حياة الفرد أخصر وحقائق الكون
أعظم وأكثر من أن يستوعب الفرد منها إلا جزءًا متضائلًا، كما أن العين لا تحيط من الأرض
في آن إلا بجزء من الأرض صغير، وقد يستطيع الجنس البشري إذا اتصلت به الحياة إلى الأبد،
أن يحيط من الحقائق بمقدار يزداد إلى ما لا نهاية، من غير أن يستنفد الحقائق، أو يشرف
على أقصاها، ومهما يكن من شروط تحقق هذا التقدم المطرد في استيعاب الحقائق، فإن شرطًا
أساسيًّا له أن تتجرد حركة العقل — عقل الفرد وعقل الجنس — تجرُّدًا تامًّا عن التذبذب
فإن الذي يمحق الأعمار، أعمار الأفراد والشعوب، هو التذبذب بين غايتين، قرب المدى
بينهما أم بعد، فلو ظل «البندول»
٢٤ يضرب إلى سرمد الدهر ما قطع أكثر من تلك القوس المحدودة، ولو ظل الإنسان
تتعارض جهوده وتتلاغى أعماله، ينقض اليوم من غير دليل ما أبرم بالأمس، ويبرم غدًا من
غير دليل ما نقض اليوم، لظل «البندول» يتحرك ولا يتقدم، وليس أعدى للفرد ولا للمجموع
من
قوم يزينون له هذا التذبذب باسم التقدم، وهذا التعطيل باسم التجديد. ا.ﻫ.