نقض كلام المخالفين وكلام على العناصر
من خلق بعض الناس إذا حنقوا على إنسان أن يسلبوه كل صفاته، وقد يكون فيها الظاهر
الباهر، ومن طبيعة بعضهم إذا غضبوا على فرد أو أفراد عمَّ غضبهم كل من كان من قوم
المغضوب عليه، ومنهم من يغتاط من رجل فيطعن في جميع أهل المصر بل القطر، ومن عادة بعضهم
أن يصغروا من شأن ما لا يدخل في منهاج عملهم، أو ما لا تدرك سره قرائحهم، ولا توفق إلى
حله معارفهم، ويعدون ما هم بسبيله شيئًا، وما تعمل فيه عقول أخرى ليس بشيء، وقديمًا
قالوا: من جهل شيئًا عاداه، وحبك الشيء يعمي ويصم، وفي الواقع إن الناس يتشابهون في
الطباع، مهما اختلفت الأصقاع والبقاع، ولعلهم في مستقبل الأيام أيضًا لا يوفقون إلى
التجرد من الأهواء، اللهم إلا إذا خلقوا خلقًا آخر، وتغيرت تراكيب أجسامهم لتتغير
أرواحهم ومنافذ إراداتهم، كما يقول أناتول فرانس.
كتب أحدهم في العهد الأخير كتابًا في المفكرين في الإسلام،
١ عرض فيه لرجاله وعلومهم بحسب المادة القليلة التي وصلته، أو بقدر ما أراد
استثماره من المواد وإغفال ما لا يروقه منها، وجعل معظم الفضل في مدنية المسلمين لغيرهم
من الشعوب، أو لمن تظاهروا بالدخول في دينهم، أو كانوا من غير ملتهم، أو عرفوا بالإلحاد
والخروج على الجماعة، وختم كتابه بعبارة أثبتت فيها أن للعرب خصائص ولكنها انبعثت من
أرضهم، والإسلام لا حظَّ له من التأثير فيها، فقال: وعلى هذا يظهر أن بعض الخصائص
منبعثة من البلاد نفسها لا من الدين كمسألة القضاء والقدر، والميل إلى التبصر وتذوُّق
الشعر والفلسفة، ورقة الإحساس الفني، وبعض الرغبة في الراحة والسكون، والاستعداد لدراسة
الفقه، والذكاء في فصل الأحكام، كل هذا ليس فيه ما هو خاص بالإسلام، بل هو أثر
استعدادات عامة في كثير من الشرقيين، ولعلها نشأت من الإقليم، قال: ومعظم هذه
الاستعدادات تصادف اليوم قبولًا في الغرب، فإن الآلة وما يتبعها من الدوي والحركة وما
ينشأ عنهما من مزعجات الحياة ليست مما يرغب فيه كل الناس، وهكذا الحال في المذهب
المادي، وفي الجشع المتناهي في كسب المال في شعوب بلادنا، فإن كثيرين منا قد سئموا ذلك،
وقد ترغب الروح في صور من الحياة تكون إلى السذاجة، ليتيسر للمرء الاستمتاع بالطمأنينة
والأمل والسلام، فليس الاضطراب والجلاد الدائم من موجبات السعادة، وإذا كان لنا من
مضائنا وعلمنا العالي ما جعل لنا بعض الحق على الشرق، فعلينا أن لا نتعدى الحدود في
المطالبة بما يخولنا هذا الحق، وعلينا أن لا نقضي على خصائص هذه الشعوب ومثلها الأعلى،
ولندع لبلادهم جمالها وسكونها وقليلًا من بهائها الممزوج بالسويداء، وإذا عرفنا أن
نتغلب على الشرق بالقوة المادية وسلطان العلوم والفنون فما ضرنا لو زدنا على ذلك الحكمة
وجمال العهد. ا.ﻫ.
هذا كلام جميل، فيه ولا سيما في نهايته شيء من الإنصاف، ولكن المؤلف أخطأ في نسبة
الخصائص التي امتاز بها العرب للإقليم وحده، وشق عليه أن ينسبها للإسلام، وأخطأ أيضًا
في قوله: إن معظم مدنية المسلمين قامت بعناصر غير عربية،
٢ وفاته أن من دخلوا في الإسلام من الفرس والقبط والسريان والروم وغيرهم
درسوا في مدرسة العرب وأخذوا لغتهم وثقافتهم ودينهم وعاداتهم، وإذا كان ابن سينا
والغزالي والبيروني والرازي مثلًا أعاجم بأصولهم، فهم عرب بتربيتهم وثقافتهم، وإذا كان
الجاحظ وابن رشد وابن زهر وابن خلدون، عربًا بأصولهم وثقافتهم، فهم لا يزيدون شيئًا عمن
تقدم ذكرهم في الغناء والمنزلة ولا ينقصون، وما كان لجزيرة العرب وهي القليلة بسكانها
الذين قام منهم أعظم الفاتحين وحملة الشريعة، أن يخرج منها كل هؤلاء الرجال الذين فتحوا
فتوحًا تحتاج إدارتها فقط إلى عشرات الألوف من الناس، فما بالك بالعلوم اللازمة لها؛
ولذلك انصرف العرب وهم أهل الدولة إلى سياسة الملك، وعاونهم الأعاجم في نشر علمهم
وثقافتهم.
وليس في أهل الغرب اليوم أمة خالصة بعنصرها؛ فعند الفرنسيس من هم من أصل بولوني
وإيطالي وإنجليزي وألماني خلا ما هناك من عناصر أصلية والعكس بالعكس عند كل أمة،
والإنسان ابن تربيته ومحيطه على الدوام، قال أحد المفكرين من الفرنسيس: نحن مدينون بجزء
عظيم من تاريخنا وآدابنا وفنوننا لمن كانوا غرباء عنا، وليسوا في الأصل من عنصرنا، ألا
تعرفون أن شينه الشاعر هو رومي الأصل، وأن رونسار الشاعر مجري، وأن بول فاليري الشاعر
إيطالي مثل ميرابو وغاليني، وكذلك سائر رجال قرسقة من نابليون فنازلًا. وكذلك
الإسرائيليون أمثال برجسون الفيلسوف وتريستان برنار ليسوا في الأصل من الفرنسيس، وهنري
هين الشاعر هو ألماني يهودي، وإذا توسعنا قليلًا طالبنا بملك إيطاليا؛ لأنه من أسرة
سافوا الفرنسية. ا.ﻫ.
ويحمد صاحب كتاب المفكرين في الإسلام لتصوره، وإن بعد قليلًا عن الجادة، لا كالذي
عمم
ولم يخصص، وتجرد عن كل منطق يوم قال:
٣ «إن الإسلام لم يكن شعلة بل كان مطفأة نشأ من قلب بربري لشعب بربري، فكان
ولا يزال عاجزًا عن احتذاء التمدن، وأنه حال في كل مكان ارتفع فيه سلطانه دون السير نحو
الارتقاء، وخنق نشوء المجتمع الإنساني.» وأي غباء ممزوج بسماجة، وأي رفاعة معمولة بقحة،
أعظم من هذا الكلام، وما أدري كيف يستطيع هذا المتمدن أن ينكر أن عقل ذاك البربري قلب
كيان العالم، فعد بعمله العظيم أعظم رجل عرفه التاريخ، وأن شعبه البربري قام بحضارة
وفتوح حسدته عليها أمم كثيرة، وغبطه على ما صار إليه أوسع الباحثين عقلًا
وعلمًا.
كلام لعلماء إفرنسيين وإيطاليين وبريطانيين وروسيين
يقول لبون: «قد يكون من الأوروبيين مستعمرون
٤ ماهرون، ولكن منذ عهد رومية كان المسلمون من الشعوب الوحيدة التي كانت
حاملة علم التمدن حقيقة، وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية من المدنية، وأعني
بها الدين والمصانع والصنائع بين ظهري عناصر جديدة من غير عنصرهم.» وتساءل لبون أيضًا
قائلًا: «هل من الواجب أن نذكر أن العرب، والعرب وحدهم، هم الذين هدونا إلى العالم
اليوناني واللاتيني، وأن الجامعات الأوربية، ومنها جامعة باريز، عاشت مدة ستمائة سنة
من
مترجمات كتبهم، وجرت على أساليبهم في البحث، وكانت المدنية العربية من أدهش ما عرف
التاريخ؟» وقال لبون أيضًا: «كلما تعمق المرء في دراسة المدنية العربية، تجلت له أمور
جديدة، واتسعت الآفاق أمامه، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا
بواسطة العرب، وأن جامعات الغرب عاشت خمسمائة سنة بكتب العرب خاصة، وأن العرب هم الذين
مدنوا أوروبا في المادة والعقل والخلق، ومتى درس المرء ما عمل العرب وما كشفوه في العلم
يثبت له أنه ما من أمة أنتجت مثل ما أنتجوا، في هذه المدة القصيرة التي كتب لملكهم
قضاؤها، وإذا نظر المرء في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إلا الاعتراف بأنه كان لهم ميزة
خاصة لم تبلغها أمة، ولئن كان تأثير العرب في الغرب عظيمًا فإن تأثيرهم في الشرق أعظم،
وما من عنصر أثر مثل تأثيره قط، فإن الشعوب التي دانت الأرض لسلطانهم كالأشوريين والفرس
والمصريين واليونان والرومان قد عفت القرون آثارهم، ولم يخلفوا سوى آثار ضئيلة، بحيث
لم
يبق سوى ذكريات أديانهم وألسنتهم وفنونهم، وقد اضمحل أمر العرب أيضًا، ولكن أهم عناصر
مدنيتهم وهي الدين واللسان والصنائع لا تزال حية.» وقال أيضًا: «إن العرب أول من علَّم
العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.» وقال كارلايل في العرب: «قوم يضربون في
الصحراء كانوا نكرة عدة قرون، فلما جاء النبي العربي أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم
والمعارف، وكثروا به وعزوا، ولم يأت عليهم قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم
وعلومهم.»
هذا هو الإسلام الذي خنق المجتمع البشري، وفلج المدنية في كل مكان، وخلقه قلب متوحش
لشعب متوحش، وهذا ما عمله، وقد نصح بوترولون
٥ لفرنسا أن تصبغ التونسيين لتعيدهم سيرتهم الأولى قبل حكم العرب؛ لأن هؤلاء
أتوهم بقانون سنَّه رعاة لرعيان، فصعب تطبيق هذه الشريعة على مجتمعات ممدنة كالمجتمع
القرطاجني، قال: وإن بقايا التنظيم الذي بقيت آثاره إلى اليوم في تونس من مثل البلديات
والصناعات والبناء والهندسة ليست من اختراع العرب كما يُقال، بل هي بقايا من المدنية
القديمة السابقة للإسلام فسدت على عهد الفاتحين وأعمالهم العقيمة، ا.ﻫ، ومثل هذه
السخافات من السخفاء كثيرة لا نطيل بها ولا نتكلف الرد على قائليها، وقد قال كلود فارير
٦ من مؤرخي فرنسا وأدبائها: «إن هزيمة العرب في بواتيه قد أخرت المدنية
الغربية ثمانية قرون إلى الوراء، فلو ظفرت العرب يوم بواتيه لحملوا مدنيتهم إلى الغرب،
ولما طالت أيامه في الجهل المطبق.» وقال سمنوف:
٧ «كان من الميسور تجنب الحروب الصليبية، ولكن الجهل والأوهام الدينية
والسياسية ومصلحة الباباوية قد ساعدت على ظهورها.» وإذا قال «لافيس»: ليس من المحقق أن
سعادتنا كانت في تغلب قيصر على «فرسنجتوريس»القائد الغالي، ألا نقدر أن نقول: كم من
الأحزان والآلام والجنايات الجديدة كان يمكن إنقاذ الإنسانية منها، لو لم يوقف «شارل
مارتل» العرب عن السير في فتوحهم سنة ١١٠ﻫ، فإن الثقافة العالية التي امتاز بها من كان
يدعوهم الصليبيون في حالة الغضب بالحشاشين والكفار والوثنيين احتقارًا لهم، كانت أثرت
قبل الوقت في أوروبا الغربية، وفي المدنية الفرنجية والرومانية، ا.ﻫ.
وقال لويجي رينالدي من علماء إيطاليا،
٨ بعد أن أفاض في عمل المسلمين في إيطاليا وإسبانيا: «فأمة هذه مدنيتها، وتلك
آثارها ومفاخرها، جدير بنا بل واجب علينا أن نحفظ لها تلك اليد التي قدمتها إلينا
وأسلفتها لنا، ولست أدري لماذا لا نسمع كلمة إعجاب بالشعب العربي العظيم الذي ترك في
طريق المدنية آثارًا عديدة؟ والذي حمل معه أعظم المعاونات وأجل الخدم للنوع الإنساني
ولا يبخل على العرب بإعطائهم المقام اللائق بهم، وبإنزالهم المنزلة التي استحقوها
بجدارة إلا كل جاهل التاريخ، وقد خطت أيديهم صحائف بيضاء فاخرة يجب على كل إنسان أن
يُعجب بهم من أجلها، ويحزنني لعمر الحق كما يحزن غيري ممن ينصفون، أن يكون بيننا نحن
الأوروبيين نفر يقودهم سوء الظن والجهل إلى احتقار العرب، وحسبانهم من أمة أدنى من
أمتهم، وأن نرى كلمة عربي عندنا تدل على معنى غير معنى المتمدن، وهذا بلا شك افتراء
ونكران للجميل، فإن هذا الشعب وإن سقط من شاهق مجده، ونزل عن المنزلة العظيمة التي كان
فيها، لا يزال يحفظ صفاته العجيبة وذكاءه النادر، مما يتحلى به كل متعلم راقٍ، وإنا لا
نزال نذكر للعرب حسن فراستهم، وقوة ملاحظتهم للطبيعة، وسرعة خاطرهم، وها نحن أولاء لم
نصل إلى ما وصلنا إليه من المعرفة إلا بفضلهم؛ فلذلك نشعر بعطف عظيم على أبناء الصحراء،
ولا نزال نذكر لهم بالشكر والامتنان أياديهم البيضاء علينا في الماضي، ولا يسعنا في
الحاضر إلا أن نمد إليهم أيدينا كي ينهضوا ويتبوءوا المكان اللائق بهم تحت الشمس، حتى
يشتركوا معنا في استثمار تلك المدنية التي كانوا لها يومًا موجدين، وعلى إعلاء شأنها
عاملين.» ثم نقل عن بريس دافن في كتابه الفن العربي قوله: «إنه بعد سقوط الدولة
الرومانية لم يكن هناك شعب يستحق أن يعرف غير الشعب العربي، وذلك أولا: لكثرة فحول
الرجال الذين أخرجهم هذا الشعب العظيم، وثانيًا: لما أحدثته فنونه وعلومه من التقدم
العجيب في العالم مدة قرون عديدة.» ا.ﻫ.
كلام في المدنيات العربية
وكثيرًا ما يكتب الكاتبون في الإسلام والعرب عبارات قد لا يُفهم منها في الظاهر ما
يمس الكرامة ويعبث بالحقيقة، مثل قول من قال من أدعياء التاريخ من الأميركان: «إن
المتطرفين في الديار الإسلامية يميلون إلى حسبان كل ما سبق بعثة محمد كأنه مختص بعالم
آخر غير عالمنا الحاضر لا يستحق أن يُؤبه له كثيرًا.» وهذا في الحقيقة رأي أناس تشبعوا
بتاريخ العرب لثبوت قضاياه من طرق مختلفة لا نزاع فيها، وهم ممن أيقنوا أن الآثار لم
تكشف تاريخ الأمم القديمة كلها على ما يجب حتى الآن، ولا يزال البحث اليوم يوصل إلى
أشياء لم تُعرف بالأمس، وإذا أولع العرب بتاريخهم فليس معنى ذلك أنهم يدعون أنهم كانوا
أول من ورَّخ لهم من الأمم، أو أنهم كانوا البادئين بأسس المدنية، وما ادعى المسلمون
قط
أنهم نزلوا بحضارتهم من السماء، بل ادعوا وأثبتوا دعواهم أنهم أخذوا حضارات الأمم
القديمة وزادوا عليها ما وسعتهم الزيادة، فأوصلوها بأمانة إلى أهل المدنيات
الحديثة.
ومثل هذه النعومة، وهي الخشونة بعينها، بدرت من غودفروا دمومبين
٩ فخالف بها التاريخ الصحيح في قوله: «إن الغارة الإسلامية الكبرى التي بلغت
إلى حد كان أقصى مما قدر لها، قد أسكرت العرب بما أحرزوا من المغانم، فاضطربوا في
فتوحهم بعض الشيء، وأدرك الأمويون وهم تجار مكة، بما فطروا عليه من لطف المأتى في
الأعمال المالية، أن الواجب عليهم أن يتركوا الشعوب تحكم نفسها بنفسها على أصول الأحكام
البيزنطية والفارسية، وأن لا يشغلوا أنفسهم بغير المغانم والجباية.» يريد أن يقول: إن
الأمويين تجار فتحوا البلاد لترويج تجارتهم، وقصارى التاجر جمع المال، فهو بطبيعته بعيد
عن إدارة الممالك؛ ولذلك كان غرام الفاتحين من الأمويين بتجارتهم، فأطلقوا لأهل البلاد
حريتهم في الحكم الذي يختارونه، وفات الكاتب أن هؤلاء التجار كانوا أمراء في الجاهلية،
تسلسل فيهم المجد والحكم كابرًا عن كابر، وأنهم في الإسلام رفعوا راية الدين في الصين
شرقًا، وفي الأندلس غربًا، ونشروا مدنيتهم ولغتهم على صورة مهما قال القائلون فيها فهي
أدهش حدث حدث في العالم، وفي الحديث: «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في
الإسلام إذا فقهوا.» وفي معلمة
١٠ الإسلام إن القيادة في قريش كانت لأمية بن عبد شمس في الجاهلية، وما خلا
أخلاف الأمويين في كل زمن من المعرفة الواسعة بالتنظيم العسكري والتنظيم السياسي.
ا.ﻫ.
ولا يلام العرب لجعلهم البلاد التي نزلوها بادئ بدء أشبه بالماية ليتعرفوا أخلاق
أهلها وما يصلحهم ثم يحيلونها ملكًا صرفًا، فهذا مما يسجل في باب اقتدارهم السياسي، وقد
قال لبون: «إن العرب كانوا أكثر حكمة من كثير من رجال السياسة الحديثة، عرفوا حق
المعرفة أن أوضاع شعب لا تتناسب مع أوضاع شعب آخر، فكان من قواعدهم أن يطلقوا
للأمم.
قال لوثرب ستودارد
١١ العالم الأميركي: «ما كان العرب قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب
والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليل الأخلاق والسجايا، توَّاقة إلى
ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها من
الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط
بعضهم ببعض سريعًا، وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة — الحضارة العربية — وهي جماع
متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي، وذلك المجموع هو الذي نفخ فيه العرب روحًا
جديدًا فنضر وأزهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامي، فاتحد
وتماسك بعضه ببعض؛ فأشرق وعلا علوًّا كبيرًا، وقد سارت الممالك الإسلامية في القرون
الثلاثة الأولى من تاريخها ٦٥٠–١٠٠٠م أحسن سير، فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارةً
ورقيًّا وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة،
والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء ومختزن علومهم
يشعان إشعاعًا باهرًا، وما انفك الشرق الإسلامي خلال هذه القرون الثلاثة يرسل على الغرب
النصراني نورًا، ثم غابت كواكبه وأفلت أنجمه، حتى أدركته لياليه السود وأجياله
المظلمة.» ا.ﻫ.
الإسلام في الأقطار والنظر بين الإسلام والنصرانية
هذه آراء بعض كبار العلماء من الغربيين في الحضارة العربية، وتلك سخافات متعصبي
الشعوبية، ونحن أميل إلى حسن الظن ببعض المؤلفين من الإفرنج، وقد نلتمس لهم أعذارًا في
بعض أحكامهم على حضارتنا وحكمهم الظالم عليها، بمظاهر قليلة رأوها في بعض الشعوب
الإسلامية، رأوهم متدنين في المدنية عن مستوى أرباب المدنيات الكبرى لعهدنا، فحكموا على
الإسلام في أوله، والإسلام في آخره، والإسلام في الشرق، والإسلام في الغرب، حكمًا
واحدًا، ومعلوم أن الإسلام في أواسط إفريقية غيره في شمالها، وفي أكثر أصقاع أوروبا
وآسيا، والإسلام في قرونه الأولى غيره في القرون الوسطى والقرون الحديثة، والإسلام في
الحكومات العربية غيره في الحكومات الأعجمية، وأن الإسلام تختلف مظاهره من عنصر إلى
عنصر ومن قطر إلى قطر، فإن بدا اليوم ضعف قد لا يحتمل في بعض منتحليه، فليس السبب فيه
أنهم انتحلوا الإسلام، بل الذنب ذنب العنصر والبيئة، وقانون الرجعة والعوامل الاجتماعية
العظيمة الطارئة على من دانوا به، وعلى هذا يكون المشاهد من النصرانية، فإنها في عهد
الباباوات غيرها في عهد الإصلاح الديني، ورأيناها في أولها على غير ما ظهرت به في
العصور الأخيرة، ورأيناها في شرقي أوروبا غيرها في غربها، وفي شمالها غيرها في جنوبها،
وفي أميركا الشمالية غيرها في أميركا الجنوبية؛ ذلك لأن كل ما في العالم عرضة للنشوء
والارتقاء تفعل فيه الأرجاء والأجواء.
وبعد، فإذا كان ما صارت إليه بعض الشعوب الإسلامية من الانحطاط في القرون الأخيرة
مما
دعا بعض علماء الاجتماع من الغربيين إلى أن يسيئوا ظنهم بدين القوم ومدنيتهم وتاريخهم،
فإن للانحطاط أسبابًا وعوامل معروفة سنعرض لها في الفصول المقبلة، ومسائل الدين
والمدنية محررة مدونة يمكن الناظر المنصف أن يضعها كل ساعة تحت منظار النقد وفي بوتقة
الحل، وإنما الذي يؤلم أن بعض أولئك الباحثين قد يحترمون مدنية وثنية ويبالغون في
عظمتها؛ لأنها قامت بأرضهم وعلى أيدي بعض أجدادهم بزعمهم، ثم بارت واضمحلت بعوالم
كثيرة، وظل المتشبعون بحب الأجداد يتناغون بها، كأن الوثنية أنفع من التوحيد، وكأن
عبادة الأصنام تبعث على الارتقاء أكثر من عبادة إله واحد، وكأن من أهانوا الإنسان أحسن
ممن كرموه، وكأن من حسنوا الأخلاق أوقع أثرًا ممن عبثوا بها بما لا يقبل به عقل
سليم.
شق على بعض الشعوبية أن تنسب مزية للعرب، فسلبوهم كل فضائلهم المحسوسة الثابتة في
الإسلام والجاهلية، وشق على آخرين وهم معترفون ضمنًا بفضل العرب، أن يقوم العرب بقسطهم
من خدمة الحضارة، ومنهم شارل ريشه، وهو من العلماء لكنه لم يتمحض لدراسة تاريخ العرب
١٢ فقال: «ثم ما لبثت ليالي القرون الوسطى الداجية أن غطت كل شيء بظلامها
المشؤم، فاضطر العلم المسكين أن يلجأ إلى العرب.» واضطرار العلم إلى الالتجاء إلى العرب
الذي قد يُفهم منه الاستخفاف بهم، لا يفيد في معرض تقرير الحقائق، ما دام ما عمله العرب
لم يبرح الدهر ماثلًا للعيان كالشمس في رائعة النهار، وبعد أن درست مؤلفات ابن سينا
والرازي في مدارس أوروبا قرونًا، ولم يبطل تدريس قانون ابن سينا من جامعات الغرب إلا
في
القرن الثامن عشر، أي غضاضة على العلم إذا لجأ إلى حمى العرب، فآووه وأكرموا وفادته،
وانتفعوا بفوائده ونفعوا به غيرهم.
ثم كيف يلام العربي في نقل هذه الحضارة وأوروبا قد قضت قرونًا، كما قال توفنر، حتى
بلغت الغاية التي وصل إليها مسلمو إسبانيا في قرن واحد. وإن
١٣ إسبانيا نفسها ما لبثت أن أدركت أن هؤلاء البرابرة كانوا أرقى في العلم من
كثير من شعوب أوروبا النصرانية، وقد تمتعت إسبانيا على عهد المسلمين بنجاح لم تصل إليه
بعد ذلك، واقتضى طوعًا أو كرهًا أن يعترف الغربيون أن العرب يعرفون صناعات السلم كما
يعرفون صناعة الحرب.
هذا، وإن دعوى من يدعي من الشعوبيين الغربيين أن الإسلام مانع من الترقي ما دانت
به
أمة إلا انحطت، مردود بشواهد التاريخ الصادق، وها هي أوروبا بقيت
١٤ «ملفوفة في حنادس الهمجية من بعد ما تنصرت بألف سنة، وبلغ من جهلها
وانحطاطها أن مائة عربي افتتحوا قسمًا من إيطاليا وقسمًا من سويسرا في أوائل القرن العاشر،
١٥ واستولوا على أكثر الجبال والمضايق وبنوا القلاع والأبراج وجاذبوا الحبل
جميع ملوك تلك الأطراف، ولبثوا مالكين هاتيك الحصون والقلاع، ضاربين على أهالي تلك
البلاد الذلة والمسكنة نحو قرن تام، ولم يكن عددهم أنمى ما نموا، وأكثر ما كثروا ليزيد
على ألف رجل … فكما أن همجية أوروبا لذلك العهد لم يكن السبب فيها الدين المسيحي،
فانحطاط الإسلام اليوم ليس السبب فيه الشرع المحمدي.»
المسلمون والمدنية ورأي علماء الغرب فيهم
وليت شعري ألا تشفع تلك الحسنات التي تمت بأيدي العرب في العالم بما بدا في المسلمين
والعرب اليوم من هنات وضعف، خصوصًا إذا أنصف متعصبة الشعوبية وقابلوا بين حال المسلمين
اليوم وحالهم منذ مائة سنة مثلًا، فالشرق الإسلامي أخذ في عهده الأخير ينهض من سباته
الذي دام قرونًا: «وهو الآن في طريقه
١٦ إلى المسامحة والفهم والنور والارتقاء والإخاء، يأخذ أيضًا بأساليب
الإنسانية العظمى.» وأمة هذه حالتها الحاضرة ومكانتها الغابرة، تستحق أن تنتصف ويُعرف
لها حقها في الحياة، نعم، أصبح كثير من أهل الإسلام يتمثلون مدنية الغرب الحديثة من غير
حرج ولا نكير، ويأخذون من حضارته ما طاب لهم وقضت به بيئتهم، وهل هم إلا بقايا أمة أتت
بمدنية باهرة، مهما قال خصومها فيها، لا يسعهم أن ينكروا أنها كانت الصلة بين مدنية
الرومان القديمة وأهل المدنية الحديثة.
وفي الشرق اليوم حركة علمية طيبة وهبة نحو العلى، ولا ينقصه إلا التنظيم والوحدة،
وهذا ما ذهب إليه موريس برنو،
١٧ قال وقد طاف معظم أقطار الشرق الإسلامي: «ظهر لي أن معظم الضعف في الشرق
منبعث عن تخلفه في مضمار تنظيم نفسه وتوحيد كلمته، فقد لقيت في كل صقع نزلته إلا قليلًا
إلى جانب صفات طيبة من الذكاء وحسن الخلق، نقصًا في الأساليب وضعفًا في التوازن يقرب
من
الفوضى.» وهو كلام سديد ووصف مجيد، فقد رأينا العبر أهابت بأبناء هذه المدنية الممجدة،
فأدركوا نقصهم وحاولوا اللحاق بمن تقدموهم، لا جرم أن العهد لا يطول حتى يكون المسلمون
كالأوروبيين، فإن خمسين سنة تكفي لأمة منحطة حتى تأخذ ما عند أمة راقية، وما تعبت به
أمم كثيرة قرونًا يمكن استصفاء زبدته في سنين قليلة، ونهضة اليابان شاهدة على ذلك، أما
المظاهر الأخرى فتحتاج إلى زمن طويل، فقد حدث مرات أن بعض أبناء الهنود أخذوا العلم عن
الغرب فثبت أن بين أفكارهم وأفكار الغربيين ومنطقهم ومنطقهم وعواطفهم وعواطفهم فروقًا
بعيدة المدى، وليس معنى ذلك أنه يستحيل على الشرقي أن يصبح كالأوربي حذو القذة بالقذة،
كلا، بل يكون الشرقي كالغربي بعد تعاقب الدهور والعصور، كما وقع لأجداد الغربيين أن
ظلوا نحو ألف سنة يتخبطون في حالة تذبذب وتوحش حتى تأصل فيهم حب المدنية القديمة والأخذ
منها.
هذا رأي لبون في المسلمين، وقد وقف حياته الطويلة على درس تاريخهم ومجتمعهم، وقال
في
كتابه نشوء العالم الحديث:
١٨ «إن المسلمين عامة وأهل تركيا خاصة هم أسرع إلى الترقي من الروس ومن معظم
الشعوب البلقانية، وما برح بعض المؤلفين يرونهم على جانب من الجهل في السياسة والتاريخ،
شأن الشعوب نصف المتوحشة التي عريت نفوسها من الثقافة. وهذا الرأي في المسلمين قد أوجزه
القائلون به ببيان لهم أصدروه باسم بحث إفرنسي يوناني جاء فيه: «مهما قال القائلون فإن
الإسلام كان ولا يزال أبدًا مخرِّبًا عظيمًا؛ وذلك لأنه لا يقبل علمًا غير الذي تضمنه
القرآن، فالإسلام وحشي متعصب وهو من أعظم البلايا التي ابتُلي بها العالم».» قال لبون:
«لا جرم أن كاتب مثل هذه المطاعن لم يرَ قط المصانع الإسلامية البديعة في إسبانيا ومصر
والهند، وهو يجهل العمل العظيم الذي تم على أيدي الجامعات الإسلامية في بعث المدنية
الأوربية، ومع هذا نرى الكتب التي هي أدلة رجال السياسة المحدثين تكتب بمثل هذه
الجهالات، وربما لم يكن رئيس الحكومة البريطانية يحسن غيرها يوم تخيل طرد المسلمين من
أوروبا.»
وقال أوجين يونغ:
١٩ العرب على ما يظهر جد محقوقين أن كانوا كلهم مسلمين فاضطهدوا بهذا السبب
ظاهرًا وباطنًا، على حين كان لهم ماضٍ يحق لهم أن يعجبوا به: ماضٍ حربي ثم ماضٍ في
العلم العالي والصنائع والرفاهية، مما اتخذته أوروبا في القرون الوسطى أيام كانت نصف
متوحشة دعامة لقيام النهضة الحديثة، ولعله يُقال: إن الأوروبيين لا يقدرون أن يغفروا
لأساتذتنا ما لقنوهم من المعارف، وقال: ليت شعري هل القوة الاجتماعية في الإسلام هي
التي تقلق أوروبا أو دولها العظمى؟ ربما كان ذلك؛ لأن تعاليم الإسلام حرة فهو لا يقول
بالطبقات ولا بالامتيازات ولا يدعو إلى التسلط على نحو ما تدعو الكنائس النصرانية، وليس
في مطاويه شيء من الرياء السياسي الذي تنقاد إليه بعض الحكومات، إن شعار المسلمين
الجميل هو تقريب القلوب والأرواح وهذه خطوة انتقال إلى السلام العام، وهذا ما يراد، ولا
شك، القضاء عليه، وما مصير من يعمل ذلك إلا الخيبة.