أمهات المسائل التي يرددها الشعوبيون
صدق الرسول في دعوته
ترد المسائل التي ضرب فيها متعصبة الشعوبية الإسلام إلى بضع مسائل أمهات: صدق الرسول
في دعوته، صحة الكتاب الذي حمله لأمته، الاعتقاد بالقضاء والقدر، تعدد الزوجات، الطلاق،
الحجاب، الاسترقاق، المسكرات، الربا، التصوير. ونبدأ الآن بالكلام على رسالة صاحب
الدعوة ثم نفيض في المسائل المتنازع فيها في فصول تلي، فنقول: تعسف المتعسفون في العبث
بسيرة الرسول، فقال قائلهم: إنه كان به صرع من إفراطه في الأكل، وقال آخر: إنه كان
مصابًا بالحمى الشديدة لطول صيامه، وزعم زاعم أنه كان مصابًا بداء عصبي، وتابع كل من
هؤلاء المشتطين هواه، وركب مركبًا خشنًا في حكمه على الرسول بما ارتآه، حتى جاء
ماسينيون من علماء المشرقيات في فرنسا، فأثبت أن محمدًا كان مالكًا لعقله ممتعًا بصحته،
١ ومن قبل أفحم كارلايل
٢ من أرادوا الحط من قدر الرسول قائلًا لهم: «لقد أصبح من أكبر العار على كل
فرد ممدَّن في هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خدَّاع
مزوِّر، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فإن الرسالة
التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدَّة اثني عشر قرنًا لنحو مائتي مليون
من
الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها
ومات عليها هذه الملايين الفائتة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن
أرى هذا الرأي أبدًا، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان
منهم ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث
وأضلولة، كان الأولى بها أن لا تُخلق.» وما نظن أكبر محب للرسول يقول فيه وفي دعوته عن
طريق المنطق أحسن من هذا.
وقال تولستوي الحكيم الروسي: «ومما لا ريب فيه أن النبي محمدًا كان من عظام الرجال
المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمته برمتها
إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء
وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا
شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام.»
وقال وليم موير في كتابه «سيرة محمد»: «امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم
من
الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التاريخ مصلحًا أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن
الفضيلة، في زمن قصير كما فعل محمد.» ويُؤخذ مما قاله لين بول: «أن محمدًا كان يتصف
بكثير من الصفات الحميدة كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن
يحكم عليه دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، ودون أن يكون هذا الحكم
صادرًا عن غير ميل أو هوى، كيف لا، وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته أعوامًا، فلم يهن
له عزم، ولا ضعفت له قوة، وبلغ من نبله أنه لم يكن في حياته البادئ بسحب يده من يد
مصافحه، حتى ولو كان المصافح طفلًا، وأنه لم يمر بجماعة يومًا، رجالًا كانوا أو
أطفالًا، دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وفي فيه نغمة جميلة كانت تكفي
وحدها لتسحر سامعها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذبًا.» ومما قاله أيضًا: «إن كثيرًا من
كتاب التراجم والسير من الأوروبيين الذين تناولوا الكلام على سيرة محمد لم يتعففوا عن
أن يشوِّهوا هذه السيرة بما أدخلوه عليها من افتراءات وادعاءات، كاتهامهم إياه بالقسوة
وارتكاب الموبقات والانهماك في الشهوات، وأنه كان دجالًا دعيًّا وطاغية متعطشًا لسفك
الدماء.»
وعلل مونتيه
٣ طعن بعض الغربيين على الرسول بقوله: «كثيرًا ما حُكمت عليه الأحكام
القاسية، وما ذلك إلا لأنه ندر بين المصلحين مَن عُرفت حياتهم بالتفصيل مثله، وإن ما
قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع، يمكن أن يُعد به من أعظم المحسنين للإنسانية.»
وقال: «ولا مجال للشك في إخلاص الرسول وحماسته الدينية التي تشبعت بها نفسه وفكره، فدعا
إلى إصلاحه بعواطفه.» وقالت كاتبة إيطالية:
٤ «لقد عمد علماء المشرقيات مثل موير وسبرنجير قديمًا، وجولدصهير ونولدكه
وكايتاني وغيرهم حديثًا، إلى استعمال أساليب في النقد خالفوا فيها علماء المسلمين كل
المخالفة، فتوصلوا إلى الاعتراف بأمانة محمد، وأثبتوا بصراحة تختلف درجتها أنه كان، ولا
مراء، يصدر عن وحي، اختلفوا في تأويله لما حاولوا بيانه على صور شتى لا يتأتى قبولها
حتى في رأي ناقد غير مسلم.»
وما أبدع ما قاله صديقنا خليل مطران في الرسول:
بدا وللشرك أشياع توطده
في كل مسرح بادٍ كلَّ توطيد
والجاهليون لا يرضون خالقهم
إلا كعبد لهم في شكل معبود
مؤلهون عليهم من نحائتهم
بعض المعادن أو بعض الجلاميد
مستكبرون أباة الضيم غر نُهَى
ثقال بطش لدان كالأماليد
لا ينزل الرأي منهم في تفرقهم
إلا منازل تشتيت وتبديد
ولا يضم دعاء من أوابدهم
إلا كما صيح في عفر عبابيد
ولا يطيقون حكمًا غير ما عقدوا
لذي لواءٍ على الأهواء معقود
بأي حلم مبيد الجهل عن كثب
وأي عزم مذل القادة الصيد
أعاد ذاك الفتى الأمي أمته
شملًا جميعًا من الغر الأماجيد
لتلك تالية الفرقان في عجب
بل آية الحق إذ يُبغَى بتأكيد
صعبان راضهما توحيد معشرهم
وأخذهم بعد إشراك بتوحيد
وزاد في الأرض تمهيدًا لدعوته
بعهده للمسيحيين والهود
وبدئه الحكم بالشورى يتم بها
ما شاءه الله عن عدل وعن جود
هذا هو الحق والإجماع أيده
فمن يُفَنِّده أولى بتفنيد
يقول ابن حزم:
٥ «إن العرب كانت أقوامًا لقاحًا لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة، أو
ملوكًا في بلادهم يتوارثون الملك كابرًا عن كابر فانقادوا كلهم لظهور الحق وآمنوا برسول
الله، وهم آلاف آلاف وصاروا أخوة كبني أب وأم، وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم
إلى رسله طوعًا بلا خلاف غزو ولا إعطاء مال ولا مطمع في عز، بل كلهم أقوى جيشًا من جيشه
وأكثر مالًا وسلاحًا منه وأوسع بلدًا من بلده، وهكذا كان إسلام جميع العرب أولهم كالأوس
والخزرج ثم سائرهم قبيلة قبيلة، لما ثبت عندهم من آياته وبهرهم به من معجزاته، وما
اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد طريد، قد نابذه قومه حسدًا له؛ إذ كان فقيرًا لا مال
له، يتيمًا لا أب له ولا أخ ولا ابن أخ ولا ولد، أميًّا لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد
الجهل، يرعى غنم قومه بأجرة يتقوَّت بها، فعلمه الله الحكمة دون معلم وعصمه من كل من
أراد قتله.»
ويقول ماكس
٦ مولر المستشرق الألماني: «سوف يعلم النصارى، والدهشة آخذة منهم، أن محمدًا
من أنصار المسيح، وأن الديانة المحمدية هي من فروع النصرانية، وإذ ذاك يدهش المسلمون
والنصارى على السواء بما جاء في تاريخهما من الخصام والشقاق والعداء بسبب الدين.» وقد
وافق كثير من علماء المشرقيات في أوروبا على رأي هذا العالم وعضدهم في ذلك كثير من
الروس العقلاء أرباب الأفكار السامية، أمثال فلاديمير سولوفيف وبيتروف وغيرهما، ويقول
برنارد شو من كبار كتَّاب الإنجليز المعاصرين: «لا يمضي مائة عام حتى تكون أوروبا ولا
سيما إنجلترا قد أيقنت بملاءمة الإسلام للحضارة الصحيحة.»
هذا، والأديان في جوهرها واحدة تأمر بالخير، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، وتدفع الناس
بعضهم عن بعض في هذه الحياة؛ ليقوم نظام اجتماعهم على ما ينزع من صدورهم الأحقاد
والتعادي، وحب القتل وسلب المال وهتك العرض، وتشعر قلوبهم الرحمة والعطف على الأسير
العاني والشيخ الفاني واليتيم والبائس، والابتعاد عن كل ظلم واعتداء، وتذكرهم بأن لهم
معادًا ثانيًا يُثاب فيه المؤمن المحسن ويُعاقب فيه من يجترح شيئًا من السيئات يكون
فيها تقويض أركان المجتمعات.
القرآن والإسلام
اشتد متعصبة الشعوبية في الحط من القرآن الكريم، وقالوا وهم الأعاجم الذين يصعب على
أكثرهم أن يتفهموه ويتدبروه: إنه غير منظم ولا مبوَّب وإنه محتذًى ومنقول، وإنه زيف
مدخول، وإنه غير بليغ ولا فصيح، وبلغت القحة ببعضهم أن قالوا: إن فيه أغلاطًا نحوية،
وركاكات بيانية. هذا والقرآن أبلغ كتاب للعرب، ولولاه لما كان لهم أدب ولا شريعة:
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، عجز
فصحاء العرب عن الإتيان بمثله مع أنهم خُصوا بالتحدي،
٧ وكان للفصاحة عندهم المقام الأرفع، فاعترفوا بعد جدال طويل: «أن
٨ نظم القرآن على تصرف وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع
كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه على أساليب
الكلام المعتاد»، جعله
٩ الله، كما قال علي بن أبي طالب، ريًّا لعطش العلماء، وربيعًا لقلوب
الفقهاء، ومحاجًا لطرق الصلحاء، وبرهانًا لمن تكلم به، وشاهدًا لمن خاصم به، وفلجًا لمن
حاجَّ به، وعلمًا لمن وعى، وحديثًا لمن روى، وحكمًا لمن قضى.
القرآن أكبر معجزة للرسول؛ هو المرجع
١٠ حين يجد الخلاف، وهو أيضًا المعجزة الصريحة التي يعتز بها العقل، ويصح
للمسلمين أن يواجهوا بها العالم غير مترددين، يحمل عدوه على الإيمان به والخشوع لديه،
ولو صحت — لا صحت أراجيف الملحدين — من أن القرآن من إنشاء محمد بن عبد الله، لكان محمد
هذا أعظم رجل شهد هذا الوجود:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ
مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ
هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ،
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا
الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ
وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ
إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا،
١١ وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن
رَّبِّهِ ۖ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ
* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
يُتْلَى عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ.
فالقرآن بإعجازه يضرب الأمثال للحاضرين بالغابرين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر،
ويشتمل على أنواع من الأعمال كلف بها العباد،
١٢ ومشروعات لتأمين الدعوة وهي الجهاد، ومشروعات لتكوين البيوت والأسرة، وهي
ما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث، ومشروعات لطريق المعاملة بين الناس،
ومشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهي القصاص والحدود. هذا هو الكتاب الذي أُخرج
للناس فيه هدى لهم وتطهير لنفوسهم، وقواعد لقيام مجتمعهم، وتذكير لهم أبدًا بالمعاد،
وليس القرآن كتابًا علميًّا يبحث في الكيمياء والفلك والطبيعيات وتقويم البلدان وتاريخ
الإنسان، وإذا جاء فيه عرضًا بعض إلماع إلى ذلك فلا يصح دليلًا على أنه حوى كل علم على
ما زعم بعضهم، وما القرآن إلا القانون الذي يحضِّر الناس للحضارة، ويذكرهم بحياة ثانية
إذا حسن التصرف في الأولى، تم ما وعد به المسلمون من الخير في الآخرة.
قال جان جاك روسو في القرن الثامن عشر: «من الناس من يتعلم قليلًا من العربية ثم يقرأ
القرآن ويضحك منه، ولو أنه سمع محمدًا يمليه على الناس بتلك اللغة الفصحى الرقيقة، وذاك
الصوت المقنع المطرب المؤثر في شغاف القلوب، ورآه يؤيد أحكامه بقوة البيان، لخرَّ
ساجدًا على الأرض وناداه أيها النبي رسول الله خذ بأيدينا إلى مواقف الشرف والفخار، أو
مواقع التهلكة والأخطار، فنحن من أجلك نود الموت أو الانتصار.»
وقال كارلايل في القرن التاسع عشر: «إن فرط إعجاب المسلمين بالقرآن وقولهم بإعجازه
أكبر دليل على تباين الأذواق في الأمم المختلفة، والترجمة تذهب بأكثر جمال الصنعة وحسن
الصياغة.» وجاهر كلود فارير في القرن العشرين بأن «آيات القرآن جميلة وتحسن تلاوتها،
فيها نفحة طاهرة عجيبة؛ لأنها تأمر بالشجاعة والصدق والأمانة، وتدعو إلى حماية الضعيف
وإلى عبادة إله واحد.»
نقتصر على رأي هؤلاء الثلاثة الحكماء في القرآن، وهناك كثيرون ذهبوا مذهبهم وقالوا
بقولهم، وجاهروا غير مدلسين ولا موالسين، ويكفينا في بيان فضل الإسلام أن نعمد أيضًا
إلى نقل كلام بعض علماء الإفرنج فيه، فقد قال ولز المؤرِّخ الإنكليزي: «كان الإسلام في
أول أمره خاليًا من التعقيدات اللاهوتية التي طالما ارتبكت بها النصرانية، وأحدثت
شقاقًا قضى على الروح النصراني، وليس للإسلام كهنة بل له علماء ومعلمون ووعَّاظ، وهو
حافل بروح الرأفة والسخاء والإخاء، كما أنه ينطوي على عاطفة النجدة التي تنبت في
الصحراء؛ ولهذا جاز إلى قلوب عامة الناس دون أن يجد ما يصده في غرائزهم.» وقال مونتيه
١٣ السويسري: «لما كان الإسلام دينًا من الأديان أصبح قوة أدبية عظيمة جدًّا
جديرة بالاحترام من وراء الغاية، ولذا تقضي الحال بأن تقوم الصلات مع أهله على أساس
الإخاء والحب، وأهم الشروط في هذه الروابط الحسنة احترام الإسلام احترامًا مطلقًا، وإن
هذا الدين بفضل ما نشره بعض الباحثين من العلماء المجرَّدين عن الأغراض، وما وقف عليه
بعض أرباب الرحلات قد أصبح معروفًا في أوروبا معرفة تامة، وغدا يقدر قدره أكثر من قبل.»
ا.ﻫ.
ورأينا عظماء من الغربيين لا يذكرون الإسلام إلا بالتعظيم، وعهدنا ببعض كبار رجال
العقول من مؤلفيهم الذين اشتهروا بين العامة والخاصة كأناتول فرانس، أنهم لم يذكروا
الإسلام بأقل تعريض في كتبهم الكثيرة، واستعملوا حريتهم في الكلام على دينهم الخاص؛
وهذا لأن العقل لا يجوز أن يخوض المرء عباب مسألة عظيمة، إن لم يكن استعد الاستعداد
الكافي للنظر فيها بالدرس والتمحيص، ومن أعظم ما يُعاب به العالِم أن يقول جزافًا،
ويتكلم بلا وزن وروية، والعاقل من يحرص على أن لا تبدو مقاتله، ولا يستحي إن لم يكن
عارفًا من قول «لا أدري»، وقد قالوا: إن لا أدري نصف العلم.
وقال آرثر جلين ليونارد:
١٤ «يجب أن تكون حالة أوروبا مع الإسلام بعيدة من كل هذه الاعتبارات الثقيلة،
وأن تكون حالة شكر أبدي بدلًا من نكران الجميل الممقوت والازدراء المهين، فإن أوروبا
لم
تعترف إلى يومنا هذا بإخلاص طوية وقلب سليم بالدَّين العظيم، المدينة به للتربية
الإسلامية والمدنية العربية، فقد اعترفت به بفتور وعدم اكتراث عندما كان أهلها غارقين
في بحار الهمجية والجهل في العصور المظلمة فقط، ولقد وصلت المدنية الإسلامية عند العرب
إلى أعلى مستوى من عظمة العمران والعلم، فأحيت جذوة المجتمع الأوربي وحفظته من
الانحطاط، ولم نعترف، ونحن نرى أنفسنا في أعلى قمة من التهذيب والمدنية، بأنه لولا
التهذيب الإسلامي، ومدنية العرب وعلمهم وعظمتهم في مسائل العمران، وحسن نظام مدارسهم،
لكانت أوروبا إلى اليوم غارقة في ظلمات الجهل.»
قال: «هل نسينا أن التسامح الإسلامي كان يختلف اختلافًا شديدًا عن الحالة التي كانت
عليها أوروبا إذ ذاك، هل نسينا أن الخلافة نشطت في أعظم أيام الانحطاط الروماني
والفارسي، وأن السواد الأعظم من أوروبا كان في غشاوات الوحشية السوداء القاتمة، أتهمل
أوروبا، حقدًا منها وإنكارًا للجميل، تلك الأعمال التي قام بها العرب وتركوها وراءهم
في
كتبهم، ألم نكُ ممن فقد نشاط العالم الإسلامي في عصره الذهبي العجيب، وذلك في عصوره
الأولى ولا سيما في زمن العباسيين، وكيف ننسى الخسارة الفادحة التي جنيناها على آداب
العرب، بل الجناية التي جنيناها على العالم أجمع، بتدميرنا عن جهل وغرور ألوفًا من
كتبهم ساقنا إلى إبادتها التعصب النصراني، ألا يقال: إن أوروبا النصرانية بذلت كل ما
في
وسعها منذ قرون لتخفي يد العرب فيها، وسوف لا يطول الأمر حتى يعترف بهذه الصنيعة، دع
أوروبا بل القارة النصرانية تعترف بخطئها، دعها تعلن للعالم أجمع غباوتها الغزيرة؛ لقلة
إسداء الشكر الواجب عليها، إنها ستضطر بعد إلى الاعتراف بالدَّين الأبدي المدينة به
للإسلام.» وقال إدموند يورك: «القانون المحمدي قانون ضابط للجميع، من الملك إلى أقل
رعاياه، وهو قانون نسج بأحكم نظام حقوقي، وأعظم قضاء علمي، وأعظم تشريع منوَّر، لم يسبق
قط للعالم إيجاد مثله.»
وقال جان مليا:
١٥ «من الواجب أن يطرح بعد الآن ما ادعاه في القرآن بعض المتفلسفين من
الفرنسيس، فالقرآن تجب تلاوته بتؤدة وليس فيه ما يتهمه به الأعداء من أنه ملقن التعصب،
والإسلام دين سماوي، وهو دين حب وعاطفة وشرف، وأكثر الأديان تساهلًا.»
يقول لبون
١٦ خلال كلامه على أن وحدة الإسلام الخلقية واحدة من أساسها؛ لأن الإسلام قام
على كتاب واحد وهو القرآن: «إن هذا الكتاب قانون ديني وسياسي واجتماعي، وأحكامه نافذة
منذ عشرة قرون.» قال: «ولقد انحلت بالتدريج السلطات السياسية الإسلامية من عهد المملكة
العربية إلى دولة الأتراك الحديثة، وبقدر ما كان يتراجع سلطانها على البلاد كانت تفتح
أرواحًا ونفوسًا … إن سذاجة الدين الإسلامي وإيمان المؤمنين به، قد أورثاه قوة، فهو
يكتفي بقول لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، قام بالدعوة إلى هذه الحقيقة،
والمسلمون إخوة؛ لأنهم يعبدون إلهًا واحدًا وشريعتهم واحدة، يبغضون ما يبغضون، ويحبون
ما يحبون، ويجمع الحج كل سنة في مكة جماعات المؤمنين من كل صقع ولغة، وعلى ما عرف به
الشرع الإسلامي من الصلابة، قد أخذ يسير على قاعدة النشوء والارتقاء، وبعبارة أخرى على
الأسلوب الأوربي، وإذا كره العلماء فتح باب الاجتهاد، فإنهم يعدلون الأحكام القرآنية
في
المسائل المهمة، وقد تم الإصلاح بمصر في هذا المعنى.» ا.ﻫ.
وقال أيضًا: «إنه بفضل تجار من المسلمين يدخل في إفريقية ألوف من الوثنيين في الإسلام
حتى ليكاد هذا الدين يمدنهم، وإن المسلم حيث يمر يترك أثرًا من دينه، وإن من الممالك
ما
لم يطأه المسلمون فاتحين فوطئها أناس منهم متجرين، مثل بعض أنحاء الصين وإفريقية الوسطى
وروسيا، والمسلمون في هذه الأقطار التي نزلها تجارهم أصبحوا يعدون بالملايين.» وقال
نقلًا عن دوفال: «إن الفتيشية
١٧ وعبادة الأصنام تزول من الأرض بفضل الإسلام، وكذلك الضحايا البشرية وأكل
لحوم البشر، وبالإسلام تقدست حقوق النساء، وإن كان ذلك إلى حد أدنى بكثير من الحق
المطلق، وزواج ثنتين قد هذَّب من حواشيه، وخفف من انتشاره، وتوطدت روابط الأسرة وأصبح
العبد عضوًا فيها، وأخذت الزكاة تطهر الأخلاق العامة وترقيها، والشعور بالعدل والإحسان
يتخلل القلوب، وأنشأ سادة الشعوب يعرفون أن عليهم واجبات مثل ما على رعاياهم، واستقام
المجتمع على أسس ثابتة، فإذا كان هناك كثير من سوء الاستعمال كما هو الحال عند غيرهم،
فإن على العدل الإلهي عقابهم، والرجاء في حياة مستقبلة سعيدة هنيئة يرى منه تعزية كل
من
خانهم الدهر وظلمتهم الأيام، هذه بعض الحسنات التي تنتشر في كل مكان ينتشر فيه الإسلام
في وسط المجتمعات المتمدنة.»
وقال: «إن قليلًا من الأمم فاقوا العرب في المدنية، وما عُهد شعب نجح مثله هذا النجاح
الباهر، في مثل هذه الحقبة الصغيرة من الدهر، وقد أنشأوا في باب الأديان دينًا من أعظم
الأديان التي حكمت العالم، وكان تأثيره ولا يزال شديدًا؛ وأقاموا في باب السياسة مملكة
من أعظم الممالك التي عرفها التاريخ، ومن حيث التأثير العلمي والأخلاقي مدنت العرب
أوروبا، وقد قل في العناصر من بلغ مبلغهم، كما قل في العناصر من نزل إلى درجتهم في
السقوط.»
وقال فاليري: «فرضت الأديان على من يدينون بها معتقدات ثقيلة يصعب القيام بأعبائها؛
لبعدها عن مدى الأفهام، على حين كان الإسلام عجيبًا في سهولته، صريحًا في فروضه، وهذا
كان سببًا آخر في سرعة انتشاره بين الشعوب التي اضطربت أخلاقها كل الاضطراب، بما أصابها
من الشك المضني بعقائدها الدينية، وهذا أيضًا كان ولا يزال السبب في انتشاره المتوصل
بين الأمم المتوحشة في آسيا وإفريقية لنفوذه إلى أرواحهم، دون الحاجة إلى التطويل في
شرحه والتلطف في الدعاية له.» ا.ﻫ.
وقال جيبون: «جاءت الشريعة المحمدية عامة في أحكامها يخضع لها أعظم ملك وأقل صعلوك،
فهي شريعة حيكت بأحكم منوال شرعي وليس لها مثيل في العالمين.» وقال ليودوروش: «إن
الإسلام دين إنساني طبيعي اقتصادي أدبي، ولم أذكر شيئًا من قوانيننا الوضعية إلا وجدته
مشروعًا فيه، بل إنني عدت إلى الشريعة التي يسميها جول سيمون «الشريعة الطبيعية»،
فوجدتها كلها أخذت عن الإسلام، ثم بحثت عن تأثير هذا الدين في نفوس المسلمين، فوجدته
قد
ملأها شجاعة وشهامة ووداعة وجمالًا وكرمًا، بل وجدت هذه النفوس على مثال ما يحلم به
الفلاسفة من حب الخير والرحمة والمعروف، في عالم لا يعرف الشر واللهو والكذب، فالمسلم
ساذج لا يظن بأحد سوءًا، ولا يستحل محرَّمًا في طلب الرزق؛ ولذلك كان أقل مالًا من
اليهود ومن بعض النصارى.» قال: «ولقد وجدت فيه حل المسألتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان
العالم طرًّا: الأولى؛ في قول القرآن:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية، والثانية: فرض الزكاة على كل ذي مال،
وتخويل الفقراء حق أخذها غصبًا، إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا، وهذا دواء
الفوضوية.» وقال ماسينيون:
١٨ «يمتاز الإسلام بأنه يمثل فكرة مساواة صحيحة بمساهمة كل فرد من أفراد الشعب
بالعشر في موارد الجماعة، والإسلام يبذل التبادل غير المقيد، كما يناوئ بالعداء الأموال
المصرفية (الربا)، والقروض الحكومية والضرائب غير المباشرة على ضروريات الحياة، في حين
أنه شديد التمسك بحقوق الوالد والزوج والملكية ورءوس الأموال التجارية، فهو بذلك يقف
موقفًا وسطًا بين البورجوازية الرأسمالية والشيوعية البلشفية، وللإسلام ماضٍ بديع من
تعاون الشعوب وتفاهمها، وليس من مجتمع آخر له مثل ما للإسلام ماضٍ كله النجاح في جمع
كلمة مثل هذه الشعوب الكثيرة المتباينة على بساط المساواة في الحقوق والواجبات، ولقد
برهنت الطوائف الإسلامية الكبرى في إفريقية والهند والهند الشرقية، والجماعات الصغيرة
منهم في الصين واليابان على أن الإسلام يستطيع أن يوفق بين العناصر التي لا سبيل إلى
التوفيق بينها.» وقال أحدهم
١٩ في الزكاة: «وكانت هذه الضريبة فرضًا دينيًّا يتحتم على الجميع أداؤه،
وفضلًا عن هذه الصفة الدينية، فالزكاة نظام اجتماعي عام، ومصدر تدخر به الدولة المحمدية
ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة، لا استبدادية تحكمية ولا
عرضية طارئة، وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة»،
«فضريبة الزكاة التي كانت تجبر طبقات الملاك والتجار والأغنياء على دفعها لتصرفها
الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها، هدمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات
الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة، وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي
على أنه لا يقوم على أسس الأثرة البغيضة.»
هذا، وقد رأينا بعض السفسطائيين ممن لا شأن لهم إلا المغالطة يدعون أن الإسلام لم
يأتِ بجديد في الأديان، وأنه اقتبس من النصرانية واليهودية، وكيف يأتي دين الفطرة بجديد
وهو يبتعد عن التعقيد فيما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم، فإذا أمر بالعدل والإحسان
وأمرت بذلك الأديان الأخرى كيف يتأتى أن يقال: إنه اقتبس ذلك من غيره، وهل من سبيل إلى
أن يحدث الدين الجديد شيئًا يُقال له: عدل أو إحسان، ويكون عدلًا أو إحسانًا لا عهد به
للناس، وهل يؤوَّل العدل على معنيين: فيكون فيه العدل القديم والعدل الجديد، بل إن بعض
الشعوبيين من الغربيين يدعون أن الإسلام أخذ حتى فقهه عن قانون يوستنيانوس الروماني،
ومعلوم أن الفقه الإسلامي مأخوذ من الكتاب والسنة والإجماع والقياس بما لا يقبل الرد،
وممن قال بهذا الرأي جولدصهير المجري
٢٠ قال: إن العرب أخذوا من الفقه الروماني، وبنى قوله على الحدس والتخمين؛ ذلك
لأن العرب كانوا في الفتح، كما زعم، على حالة ابتدائية وكلهم أميون، فوجدوا في العراق
والشام فقهًا، وفي إدارتها الخاصة فقهًا فأخذوه وتمثلوه، هذا رأي جولدصهير ولم يأتِ
عليه بدليل، بل دليله الاستنتاج العقلي الخاص، وقد قابل سعيد الخوري
٢١ الشرتوني الفقيه اللغوي اللبناني بين القانون الروماني والفقه الإسلامي،
وبيَّن الأصول التي استند إليها المسلمون في فقههم، فأسقط دعوى المدعين على الشرع
المحمدي في مقالات له جودها، وردَّ بها كيد من كادوا للإسلام منذ أول ظهوره، وما زالوا
على كيدهم إلى هذا القرن، وبعد أن وضح الحق في هذه المسألة لا ندري إن كان المتفيهقون
يعودون بعد إلى إثارة هذه الدعوى الباطلة، شأنهم في كثير مثلها، يقولون ما يعتقدون وما
لا يعتقدون بالرأي المجرَّد عن البرهان، ويثيرونها فتنة شعواء مجاراة لحظوظ
النفس.
عقيدة القضاء والقدر
تعدُّ عقيدة القضاء والقدر من أصول العقائد في الإسلام، وكان منها قوة المسلمين لأول
أمرهم، علمتهم الجرأة والإقدام، وبعثتهم
٢٢ على اقتحام الممالك ففتحوها: «هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات واحتمال
المكاره ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز
عليها، بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة»، و«الذي يعتقد بأن الأجل
محدود، والرزق مكفول والأشياء بيد الله يصرفها، كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء
كلمة أمته أو ملته، والقيام بما فرض الله عليه من ذلك، وكيف يخشى الفقر مما ينفق من
ماله في تعزيز الحق وتشيد المجد»، «هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام الأعداد القليلة
منهم (أي العرب) أمام جيوش يغص بها الفضاء، ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن
مواقفهم، وردوهم على أعقابهم، بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق وانقضت شهبها على
الحيارى في هبوات
٢٣ الحروب من أهل المغرب»، «وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون
من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة، هذا الاعتقاد هو الذي
سهَّل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى ساحات القتال في أقصى العالم،
يتولون سقاية جيوشهم وخدمتها فيما تحتاج إليه، لا يفترق النساء والأولاد عن الرجال
والكهول إلا بحمل السلاح»، «وليس في الطوائف المسلمة من يعتقد مذهب الجبر المحض القائل
بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله، مسلوب الاختيار عن نفسه بالمرة، وكلهم يعتقدون
بأن لهم جزءًا اختياريًّا في أعمالهم ويُسمى بالكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند
جميعهم، وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري، ومطالبون بامتثال جميع
الأوامر الإلهية. وطائفة الجبرية التي انقرضت أواخر القرن الرابع من الهجرة كانت تذهب
إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبه اختيار، ولا يقول به أحد من أهل
الإسلام اليوم، ويزعم الإفرنج أن هذه العقيدة ما تمكنت من نفوس قوم إلا سلبتهم الهمة
والقوة، وحكمت فيهم الضعف والضعة، وأن المسلمين بسبب هذه العقيدة التي كان بها تجلدهم
وإقدامهم لن يبرحوا عرضة للفاقة والفقر، والتأخر في القوى الحربية والسياسية، وقد فشا
فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض، وقنعوا بحياة يأكلون
فيها ويشربون وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة.»
هذا غاية ما يُقال في حقيقة هذا الاعتقاد، ولطالما حمل شعوبية الغرب على الإسلام
بسببه، وهو اعتقاد كان من دواعي فلاح أهله في القرون الأولى وما فسدوا إلا يوم: «ابتلوا
بمن فسد
٢٤ من المتصوفة من عدة قرون، فبثوا فيهم أوهامًا لا نسبة بينها وبين أصول
دينهم، فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس، قد تملك الجاهل وتربك العاقل،
فنشأ الكسل بين المسلمين، وعاونهم على الاسترسال فيه ملوكهم، وهذا الضرب من المتصوفة
جاءهم من الآريين، أي من الفرس والهنود.»
وإنا لنرى الاعتقاد بالقضاء والقدر في مذاهب الغربيين أشد ظهورًا في كتابهم منه في
الإسلام، وآيات القدر في الكتاب المقدس تربو على ما ورد في القرآن الكريم من نوعها، وما
نجح أهل النصرانية والإسلام في الحقيقة إلا يوم اعتدلوا في اعتقاد ما اعتقدوه، وأخذوا
مختارين بالأسباب والمسببات. ومن الإنصاف أن لا نحكم على الغربيين بما نشاهد من سخافات
عامتهم، وما انغمسوا فيه من اعتقاد الخرافات، ومقاومة البديهة في كل ما يرده العقل
السليم، ومن حسن الذوق أن لا يحمل الغربيون علينا بعمل العوام منا، وما كان العامة
يومًا المعيار الذي يُحكم به على أمة، ذلك أن الخاصة كانوا في كل عصر لا إلى إفراط ولا
تفريط في هذه المسائل؛ لأنهم حكَّموا العقل وأوَّلوا النصوص، وساروا في مسائل الدين
والدنيا بروح عصورهم، ولم يخرجوا عن حدود المعقول في المنقول، وأنت ترى أن هذه العقيدة
التي كانت من محسنات الإسلام، أصبحت للجهل الطارئ من مضعفاته؛ ذلك لأن أهل المجتمع
الإسلامي لم يعملوا بهذه العقيدة قلبًا وقالبًا كما كان أجدادهم في الدهر الخالي، ولا
نبذوها من أصلها فاتكلوا على عملهم فقط، والضعف يعرض لأرقى المجتمعات فيفسد الصالح،
والعوارض تهجم على الأمم، ولا تزال تتوالى عليهم ما توالى الليل والنهار.
هذا، ومن تدبر الآيات الكثيرة الواردة في الكتاب العزيز في الحث على العمل، ومن ألم
إلمامة خفيفة بسيرة الرسول والصحابة، يعرف أن عقيدة القضاء والقدر ما منعت المسلم يومًا
من تعاطي الأسباب، فقد قال تعالى:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ،
وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل
لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ،
وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ،
وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ،
وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ،
٢٥ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم
مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا،
٢٦ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ
فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ،
وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا
لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ،
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ،
أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم،
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ،
لِمِثْلِ
هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ،
إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ،
وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ،
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ،
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا،
وَوُفِّيَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ،
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا،
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا،
لِيُذِيقَهُم
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا،
إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا،
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ،
فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ،
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ،
جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ،
وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ،
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ،
أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا ۖ
قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ.
تعدد الزوجات والطلاق
أصبحت بعض المشكلات التي نال بها شعوبية الغرب من الإسلام قرونًا طويلة، مما لا
يُستنكر أمره عند الغربيين اليوم، ومن ذلك ما كان بعض مؤلفي الغرب يعدونه من جملة
العوامل في انحطاط المسلمين، كالطلاق وتعدد الزوجات.
أخذ أهل المدنيات الحديثة بالطلاق في مجتمعاتهم على العهد الأخير، ولا يبعد أن يدخل
عليهم بعد قليل بمقياس أوسع مما كان عند المسلمين، فإنه يتم في الولايات المتحدة
الأميركية كل سنة أكثر من مائتي ألف طلاق، وفي أوروبا يبت في عشرات الألوف من هذه
القضايا ولا سيما في فرنسا، وقد كان الطلاق مألوفًا معروفًا عند الأمم القديمة
كالعبرانيين واليونان والرومان، وكان للروماني الحق أن يقتل زوجته، وكثر الطلاق في عهد
الجمهورية الرومانية، ولو لم تعدل النصرانية من شرة الطلاق عند الأمم التي دانت بها؛
لظل الطلاق يقضي على المرأة إلى القرون الأخيرة.
ومن الغريب أن يصبح الطلاق اليوم عند المسلمين إلى جانب القلة، ويكثر عند من كانوا
إلى أمس ينكرونه أشد الإنكار، وما فتئ يزيد مع الأيام انتشارًا، أُبيح الطلاق للضرورة
وهو محظور في نفسه، وفي الحديث: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، إن الله لا يحب
الذوَّاقين ولا الذوَّاقات.» وفيه أيضًا: «أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وورد في آيات
الطلاق ضروب من الرفق بالمرأة وأساليب في إقصاء الرجل عن الإقدام على الطلاق ما أمكن،
قال تعالى:
فَإِن كَرهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا،
وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ
أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا،
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ
خَيْرٌ،
٢٧ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا،
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا
اللهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا
أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ ۚ وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِّنكُمْ،
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا.
أما تعدد الزوجات للضرورة التي أباحها الشرع بقيود، كما هو منطوق الذكر الحكيم فهو
أيضًا مما أخذ يخف بين المسلمين، ولا يُلجأ إليه إلا للضرورة الحافزة في البوادي والقرى
على الأكثر، أُبيح تعدد الزوجات بشرط العدل بين الزوجات وإلا مُنع، قال تعالى:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً والمراد
بالعدل هنا: العدل في القسم، أي المبيت والنفقة لا العدل في ميل القلب، وهو المنفي في
قوله:
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ، قال سريو وهو من
المشهود لهم بحل الأحكام الإسلامية: «أُجيز
٢٨ الطلاق، ولكن وضعت له قواعد تفضل إلغاء طلاق مستعجل لم يتروَّ فيه، ولكي
يكون الطلاق مما لا يقبل الرجعة تلزم ثلاث طلقات يفصل بين كل منها قروء
٢٩ معينة.» وقد رد لبون على الاقتصادي «لوروا
٣٠ بوليو» يوم زعم هذا أن نظام تعدد الزوجات عند المسلمين كان من موجبات
جمودهم، فقال: «إن تعدد الزوجات المشروع عند الشرقيين أحسن من تعدد الزوجات الريائي عند
الأوروبيين، وما يتبعه من مواكب أولاد غير شرعيين.» وقال: «إن النساء المسلمات قد أخرجن
في الدهر الغابر من المشهورات العالمات بقدر ما تخرج مدارس الإناث في الغرب
اليوم.»
وما كان تعدد الزوجات في الإسلام من موجبات انحطاط أهله على ما صوَّره الشعوبيون،
بل
دعا لأول أمره إلى تكثير سواد المسلمين يوم كانوا في حاجة إليه، وكان الرجال أقل من
النساء بتواتر الحروب والفتوح، وبه حُفظ كيان المسلمين، ولولاه لدثرت عدة بيوت لقلة
النسل فيها، فلما رقي الزمن وكثرت مطالبه خف تعدد الزوجات بطبيعة الحال، وما كان
الإسلام مبتدعًا في هذا التعدد، فإن ذلك كان من المألوف عند الأمم، حتى إن موسى وداود
أكثرا من الأزواج، قال لبون: «إن شيعة المورمون الأميركية القائلة بتعدد الزوجات لم
يمنعها اعتقادها هذا من الارتقاء، ومن منتحليها من يتزوج عشر نساء، وقد كان البرتستانت
هناك حاربوها إبان ظهورها حرب إبادة وتدمير، فهرب من دانوا بالمورمونية إلى ولايات
أخرى، ونشأت لهم في خمسين سنة مدنية زاهرة، وأسسوا بكدهم في أرض كانت قفراء ممحلة ما
يُغبطون عليه من الصناعات الراقية، والزراعات المتقنة، والمعامل والمصانع، والمدن
الزاهرة.» ولقد سُئلت إحدى نساء المورمون عن رأيها في تعدد الزوجات، فقالت: «أفضل أن
أكون المرأة العاشرة لرجل سامٍ بمداركه على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل متوسط.»
وقال لبون
٣١ أيضًا: «ما جاءت العرب في تعدد الزوجات بأمر بدع؛ فقد كان هذا الزواج
شائعًا قبل الإسلام عند العرب واليهود وغيرهم من أمم الشرق، دعت إليه ضرورة الحياة
عندهم، وضرورة الهواء والعنصر، وأمور أخرى في حياة الشرقيين، فإن تركيب جسم المرأة،
وضرورة الولادة والأمراض وغيرها تضطرها أحيانًا أن تبتعد عن زوجها، وأصبح من المتعذر
تحت سماء الشرق وفي هواء مثل هوائه، ولمزاج المشارقة الخاص، الصبر على هذا البعاد، فغدا
زواج اثنتين ضربة لازب،
٣٢ وفي الغرب يتطلب المناخ من أهله أقل من ذلك. والزواج من واحدة مذكور في
قوانين الغرب فقط، وقلَّ أن كان محتفظًا به في الأخلاق، ولماذا كان الضر الشرعي عند
الشرقيين دون الزواج بواحدة عند الأوروبيين، على ما فيه عند هؤلاء من النفاق والرياء؟
ونحن نعرف مكانة الزوجين وأهواءهما، ثم إن الشرقيين يرون الاستكثار من النسل ويحبون عيش
الأسرة والبيوت، وما عُرف عنهم من الشعور بالعدل لا يسمح لهم أن يتخلوا عن المرأة
الشرعية التي لم ترقهم، كما هو الشأن في الغرب؛ ولذلك وافقت الشريعة على ما كان راسخًا
من هذا القبيل في الأخلاق، ولا يبعد أن تقر قوانين أوروبا الضرَّ ذات يوم كما هو في
الشرق لسرايته إلى الأخلاق. ثم إن من البيوت القائمة على الزرع والضرع في الشرق ما يضطر
صاحبها إلى التزوُّج من ثنتين، وقد يكون ذلك بإلحاح من الزوجة الأولى لضعفها وحدها عن
تعهد شئون البيت والزراعة، يضاف إلى هذا غرام الشرقيين بالإكثار من النسل، وعدهم من
الشقاء أن لا يولد لهم أولاد، ومنهم من يتزوَّج لهذا الغرض.
إلى أن قال: إن المنافسة والحسد لا شأن لهما في هذا الزواج من ثنتين، فأكثر أوهامنا
الأوربية تقنعنا، ولا شك، بأنه من المتعذر أن تكون الحال كذلك، ولا نستحسن هذا؛ لأننا
نراه من المستحيل، وما ذلك إلا لأننا نعقل أبدًا بعواطفنا، ولا نحاول أن نتمثل عواطف
غيرنا، وفي بضعة أجيال تزول أو تقوم بعض الأوهام، فعلينا أن ندرك كم تغير رأينا في هذا
الموضوع، عندما رجعنا إلى العصور الابتدائية للمجتمعات، وقد كانت فيها النساء مشتركات
بين أفراد القبيلة الواحدة، أو إلى العصور الأقرب منها وإلى أيامنا، حيث نجد هذه
الأخلاق محفوظة في بعض أنحاء الهند، يكون للمرأة الواحدة عدة أزواج من أسرة واحدة، قال:
ولم يقتصر الإسلام على الاحتفاظ بالضر الذي كان شائعًا عند العرب، بل أثَّر تأثيرًا
حسنًا في حالة المرأة ورفع من شأنها، وحسَّن من حالتها الاجتماعية، فقد رأينا القرآن
رفع مقام المرأة أكثر من كثير من قوانيننا الأوربية، وخير طريقة لنقدر قدر التأثير الذي
أحدثه الإسلام في تحسين حالة المرأة في الشرق، أن نبحث عما كانت عليه حالها قبل
القرآن.»
ثم أورد من الكتاب العزيز الآيات الآمرة بالتوصية بالمرأة وتوسع في بحث أخلاق
المسلمين، وفي أن تعدد الزوجات والاعتقاد بالقضاء والقدر لم يكونا السبب في تأخرهم،
فقال: إذا أُريد البحث في أخلاق أمة لا يُكتفى بالبحث في دينها فقط؛ لأن تعاليم الأديان
كلها طيبة من حيث الأخلاق، ولو طُبقت بحذافيرها لانبسط على الأرض ظل العصر الذهبي،
والطريقة المتبعة في مبادئ الأديان تختلف بحسب المحيط والعصر والعنصر وبأسباب أخرى
كثيرة؛ ولذلك كانت الشعوب المختلفة وهي تدين بدين واحد، ذات أخلاق متغايرة على الغالب،
وهذا ما ينطبق على جميع الأديان المعروفة، ومنها دين المسلمين، فإن قواعد القرآن في
الأخلاق تامة، ولكن تأثيرها مختلف بحسب العناصر والبيئات والأجيال. ولقد كانت أخلاق
العرب في أوائل الإسلام أرقى من جميع الشعوب التي كانت تعيش لذاك العهد ولا سيما
النصارى؛ وما ذلك إلا لأن عدلهم واعتدالهم ورفقهم وسماحتهم مع الأمم المغلوبة، وحرصهم
على مراعاة عهودهم، وما امتازوا به من الأخلاق العالية، كل ذلك كان مما يتجلى في صورة
مدهشة تناقض سيرة الأمم الأخرى، ولا سيما الأوروبيون على عهد الحروب الصليبية.
قال: وإذا أردنا أن ننسب إلى الدين التأثير الذي ينسبونه إليه في العادة، وجب علينا
أن نقول: إن أدب القرآن كان أرقى من أدب الإنجيل؛ لأن من دانوا بالإسلام من الشعوب
كانوا أعلى أدبًا من النصارى، وأدب المسلمين مختلف اختلاف أدب النصارى بحسب العوامل
الكثيرة التي عددناها: كان عاليًا كثيرًا في بعض العصور، ومنحطًّا للغاية في الأخرى،
إن
طول عهد الأتراك وما حملوه إلى الناس من أحكامهم السياسية قد حط من أخلاق الشرقيين
الذين خضعوا لهم، وكانت أهواء الرؤساء والمرءوسين القانون الوحيد في كل بلد حلوه،
والمرء عرضة لجور صغار الظالمين ممن لا يطمعون إلا بأن يغتنوا باستلاب الناس، لا عدل
يُرجى، ولا شيء يُنال بغير الرشوة والمال، فالأخلاق الحاضرة في الشرقيين، ممن قدر لهم
أن يخضعوا لحكم تركيا هي بالضرورة منحطة، والقرآن بعيد عن هذا الانحطاط، كما أن الإنجيل
غير مسئول عن الانحطاط المماثل له الذي صارت إليه الشعوب النصرانية العائشة في ظل ذاك
الحكم أيضًا، ومما تقدم يتجلى فساد الرأي الشائع في أوروبا من أن دين محمد أدى ببعض
الشعوب الشرقية إلى هذه الدرجة من الانحطاط في الأخلاق التي تحلوا بها، ومثل هذا الرأي
هو نتيجة تلك السلسلة من الأوهام، ومنها أن القرآن قال بتعدُّد الزوجات، وأن الاعتقاد
بالقضاء والقدر الذي هو من أحكامه يؤدِّي بالناس إلى الخمول، وأن محمدًا لم يطلب ممن
يدينون بدينه إلا القيام بفروض سهلة على الاستعمال، وهذا من الأغلاط التي تسقط
بالبداهة، فقد رأينا تعدُّد الزوجات شائعًا في جميع الشرق قبل بعثة محمد بقرون، وأن
القرآن لا يدعو إلى الاعتقاد بالقضاء والقدر أكثر من الكتب الدينية الأخرى، واعتقاد
العرب بهذا لم ينزع من نفوسهم حب العمل، فقد رأيناهم أنشأوا مملكة عظمى، وأحكام القرآن
في الأخلاق هي في الذروة العليا كسائر الكتب الدينية.
قال: وإذا ثبت أن القرآن هو الذي أخَّر المسلمين في الشرق، فعلينا أن نثبت أنه كان
على الشرقيين الذين لا يقولون بتعدُّد الزوجات، ولا بالقضاء والقدر كالنصارى في سورية
مثلًا أن ينجوا من هذا الانحطاط، على أنني لا أعرف مؤلفًا درس الشرق قليلًا، إلا وهو
مضطر إلى الاعتراف بأن النصارى في الشام هم أحط أخلاقًا من المسلمين. وبعد، فقد آن لنا
أن نقول: إن أدب القرآن هو مثل أدب غيره من الأديان، وإن الشعوب الخاضعة لسلطانه قد
اختلفت أخلاقهم كل الاختلاف، مثل الشعوب الخاضعة لشريعة المسيح، بحسب العصور والعناصر،
وكانوا عرضة لعوامل ما كانت فيها قواعد الدين هي العامل الأكبر، وأهم ما يُستنتج مما
تقدَّم أن التأثير العظيم الذي أثَّره القرآن في الشعوب الخاضعة لأوامره، قلما أثره دين
في نفوس منتحليه، وربما لم يكن لدين من تأثير دائم كما كان للقرآن، وما القرآن إلا
القطب الحقيقي الذي تدور عليه الحياة في الشرق، ونرى تأثيره في عامة أعمال الحياة.
ا.ﻫ.
الحجاب
ربما كانت أهم مسألة يُحمل بها اليوم على الإسلام شيوع الحجاب في المسلمات عند سكان
بعض المدن الإسلامية، ويدعي الشعوبيون المحدثون أن الضعف المستولي على بعض الممالك أتى
من تحجب المسلمات؛ لصده لهن عن مشاركة الرجال في مضمار الحياة العقلية والمادية، وأن
الحجاب أهاب بهن إلى حياة الكسل، وحبب إليهن البهيمية، فانحطت البيوت، وفقدت العناية
بتربية البنين والبنات، وهكذا تسلسل الانحطاط في أهل الإسلام بهذا السبب الذي جعل
المرأة أداة عبث ولهو للرجل، على حين خوَّلتها الطبيعة حقوقًا حال الحجاب دون التمتع
بها، وضيقت الشريعة خناقها فتعطل نصف الأمة عن الجهاد في المجتمع.
هذه خلاصة دعواهم، وقد وضع القرآن قانونًا للنساء في الآداب والحشمة والابتعاد عن
التبذل والتبرج إلى غير ذلك مما فيه سعادة البيوت وهناؤها، والبعد بالمؤمنين والمؤمنات
عن عادات الجاهلية الأولى، وسنَّ لنساء الرسول خاصةً سنة التستر حتى لا يؤذين، ولا
يُدخل عليهن وعلى الرسول بدون استئذان، على ما كانت عادة العرب بل الأعراب يأتون ذلك
بخشونة يأباها العقل السليم، وتقضي بخلافها قواعد حسن العشرة في المجتمع الجديد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ۚ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا
فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ۚ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
* لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ۚ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
تَكْتُمُونَ،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ
نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي
النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ
وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ
ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن
تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ
إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا.
٣٣ والآية الأولى ظاهرة المعنى، ومعنى الثانية: الحظر على المؤمنين أن يدخلوا
بيوت النبي وعلى أزواجه للطعام والتحدث أو غير ذلك إلا إذا أُذن لهم ودعاهم إلى طعام
حاضر ناضج لئلا يطول مقامهم بحضرته، وأُمِروا إذا طعموا أن يخرجوا وإذا سألوا شيئًا أن
يسألوه من وراء الستر؛ لأن الرسول كان يتأذى بمن كان يطعم ولا يستأذن في الخروج، وأنه
لا يجوز نكاح نساء الرسول من بعده؛ لأنهنَّ أمهات المؤمنين.
كان نساء النبي يخرجن بالليل
٣٤ لحاجتهنَّ، وكان أناس من المنافقين يتعرَّضون لهنَّ فيؤذين، فشكون أمرهن
فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه الآية:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ
فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا، فأُمرن أن يخالفن زي
الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمر المرأة وجهها إلا إحدى عينيها، وجاء في آية
أخرى:
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا
ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ
نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي
الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ
مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،
٣٥ وفي هذه الآية إشارة إلى التستر وإلى من يسوغ له أن يرى المرأة بزينتها من
أهلها، وفسر المفسرون وليضربن بخمرهن على جيوبهن أن يسترن الرءوس والأعناق والصدور بالمقانع،
٣٦ وقالوا: إن الشريعة أباحت للمرأة أن تظهِر وجهها وكفها بل وذراعيها
وقدميها، وبكشف الوجه لا يجوز أن نقول: إن هناك حجابًا بالمعنى الذي فهمه المتأخرون،
ومعنى ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن، أي لا يُظهرن حركات من شأنها أن
تشعر الرجل بأن هذه المرأة متحلية بحلي وخلاخيل وغيرها.
ومن آيات الحجاب:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ
مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ
الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا *
وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ
الْأُولَى،
٣٧ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا
يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ
مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ۗ وَاللهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
٣٨
هذا هو الحجاب في الإسلام، أما في الأمم القديمة السالفة فقد كان شائعًا منذ أقدم
العصور في بابل وأشور وفي فارس والروم والهند، وعند بعض أهل الجاهلية من العرب، فاحتفظ
الإسلام بالقسم المفيد منه، وقد شعر المسلمون بالحاجة إلى حجب النساء بعد أن استحكمت
عوائد الحضارة والترف؛ وذلك خوف الفتنة وصيانةً للمرأة ممن يؤذيها فيؤدي ذلك إلى خلل
في
نظام البيوت، فاشتدت مع الزمن وطأة الحجاب في الشام والعراق وفارس لتأصله فيها منذ
القديم، ثم سرى إلى معظم الأقطار الإسلامية، وهذا في المدن خاصة، واختلف الحجاب باختلاف
البلاد؛ فمنها ما كان فيه متأصلًا قبل الإسلام، ومنها ما لا عهد لها به فكان خفيفًا كما
هو الحال في بلاد القوقاز، والبنت فيها لا تحجب إلى اليوم ما دامت عانسًا غير متزوجة،
وقد وصف ابن بطوطة في رحلته زيارته للسلطان محمد أوزيبك في مدينة استرخان، وذكر كيف كان
النساء سافرات في قصره،
٣٩ مما دل على أن التتر أقل من العرب أو الذين دخلوا في العرب المستعربة في
الأخذ بمذاهب الحجاب، والسبب فيه أن التتر أو جنس الترك أقرب إلى البداوة منهم إلى عيش
الحضارة، وتحجب التتر إلى اليوم لا يعد شيئًا؛ ولذلك كان نساء الأتراك العثمانيين أقل
نساء السلطنة تحجبًا؛ لأن التركيات منذ الدهر الغابر لا يعرفن الحجاب، فكان استعدادهنَّ
ظاهرًا منذ القديم لقبول الأتراك مبادئ الكماليين اليوم؛ القائلة برفع الحجاب بالمرة
على صورة أشد مما هو عند الفرنج.
«والواقع أن الحجاب هو وليد العادات أكثر مما هو محصول الدين، والحجاب
٤٠ حادث في بدء تأخر الأمم الإسلامية، ثم تأكد وثبت منذ أصدر المتوكل والقادر
بالله العباسي أوامرهما بمنع النساء من الصلاة في المسجد ومخالطة الرجال في الحفلات
والاجتماعات.»
ولو كان الحجاب معروفًا أوائل الإسلام على نحو ما صار إليه في العصر الأخير والذي
قبله، لما تيسر للصحابيات والتابعيات وغيرهن من نساء العرب أن يصحبن أزواجهن في الحروب،
وكان من نساء المسلمات الممرضات يسلمون إليهن الرثيث أو المرتث، ولطالما غزا الرسول
بالنساء يداوين الجرحى ويُحْذَين
٤١ من الغنيمة، ومنهن الداعيات المحمسات والمعاونات للمحاربين على تخفيف شظف
العيش، ومنهن من كن يبرزن سافرات كسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وغيرهما على ما
اشتهر من جمالهن، يجتمعن إلى الرجال من غير نكير،
٤٢ وعائشة زوج الرسول هل كان يتأتى الأخذ عنها وعن غيرها من نساء الرسول
وغيرهن لو كان النساء محجبات بغير الحجاب الشرعي، أي ظاهرات الوجه والكف وربما الذراعين
والقدمين.
وفي تاريخ الإسلام عشرات من الأمثال والحجج يمت بها السفوريون المتعدلون وهم لم ينسوا
أن من النساء من كن يحاربن بالفعل أو يجلسن وراء الجيش يحمسن الرجال، فإذا ولى أحدهم
من
الزحف ينهلن عليه بالضرب والتقريع، وما فات القائلين بالحجاب أن تستر المرأة في القديم
كان على حالة يرضاها الشرع ولا يأباها المجتمع، فما منع نساء المسلمات من أخذ العلم
والسعي للرزق والرحلة والتنقل والعمل على ما فيه السعادة الزوجية والبيتية بما لم يُخرج
المرأة عن طبيعتها إلى طبيعة أخرى لم تُخلق لها وليس لها الاستعداد الكافي للقيام
بها.
وبهذا عرفنا أنه كان للحجاب صورة أخرى مثل التي نراها اليوم في القرى والبوادي، وفي
الحقيقة أن الشريعة حظرت الخلوة بالأجنبي والتبرج أمام غير المحارم، وأي عقل سليم لا
يستحسن هذا منها، وهل أعظم في باب المغريات من تبذل المرأة في خلوتها بالغريب وظهورها
بمظهر من الزينة نابٍ عن المعقول وقانون الحياء؟ ولو كان الحجاب غليظًا كما يصوره بعضهم
بحيث كان مانعًا للمرأة عن العمل، هل كنا نرى هذا العدد الدثر في التاريخ من النساء
المتعلمات والمحدثات والواعظات والأديبات وغيرهن منذ عهد الصحابيات إلى اليوم؟ وهل كنا
نرى نساء كثيرات ساهمن الرجال في إدارة الممالك؟ أو ساعدن أزواجهن على أعمالهم العظيمة،
فكان شطر من توفيق الرجال يحسب لأزواجهن المتعلمات.
روى الجاحظ قال: لم يزل الرجال يتحدثون مع النساء
٤٣ في الجاهلية والإسلام حتى ضُرب الحجاب على نساء النبي خاصة، وأن النساء إلى
عهده من بنات الخلفاء وأمهاتهم فمن دونهم يطفن بالبيت مكشفات الوجوه، ونحو ذلك لا يكمل
حج إلا به.
قال: ولا يكون محادثة إلا ومعها ما لا يحصى عدده من النظر، إلا أن يكون عني بالنظرة
المحرَّمة النظر إلى الشعر والمجاسد
٤٤ وما تخفيه الجلابيب مما يحل للزوج والولي ويحرم على غيرهما، ثم لم يزل
للملوك والأشراف إماء يختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساء يجلسن للناس، وذكر
أسماء كثيرات منهن، وقال: كن يبرزن للناس أحسن ما كنَّ وأشبه ما يتزينَّ به، فما أنكر
ذلك منكر ولا عابه عائب.
لا جرم أن عادة الحجاب قد نفعت وأضرت في بعض الأقطار في العهد الأخير لخروج الحجاب
عن
حقيقته؛ فارتُكبت باسمه موبقات مؤلمة وأخَّر سير المرأة في مضمار الترقي فضاعت الحكمة
منه أو كادت، وقد عالج هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة بعض علماء الأمة في أوائل هذا
القرن وفي مقدمتهم قاسم أمين فأخذته الألسن، ولغطت بما كتب وتعاورت الأقلام ما كتبه
بالجرح والتعديل، ونجح الفريق الذي قال بقوله إلى حد لم يكن يتصوره؛ وذلك لإثبات قضيته
بالحجج المستعارة من الشرع وتاريخ الملة، على أن تيار القائلين بكشف الحجاب قد فاض بفعل
المدنية الحديثة، بل بفعل الطبيعة التي لا تبقي إلا على الأنسب، وقد أزال الأتراك حجاب
نسائهم بقانون سنُّوه وعملوا به، وكاد الحجاب عن المصريات يزول، بدون أن تعمد مصر إلى
تشريع جديد، أو تلجأ إلى الشدة والضغط، ونشأ ذلك من اختلاط الشرق بالغرب، وأهل مصر من
أكثر الأقطار الإسلامية اختلاطًا بأهل الغرب، وقد رأى المستنيرون منهم بقبس الحضارة
الحديثة، أن مضار السفور أقل من مضار الحجاب، فاختاروا طوعًا أو كرهًا أخف الشرين،
وهكذا تعمل بلاد إيران اليوم فيغضي القائمون بالأمر فيها عن السافرات في المدن ولا يمضي
زمن طويل حتى يزول الحجاب أو يدخله تعديل كثير في معظم البلاد الإسلامية، فيصبح النساء
في تحجبهن إلى حالة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط.
وقد رأى قاسم أمين نفسه، وحقًّا ما رأى، أن الغربيين
٤٥ قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من
التعرُّض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجب
والتحرُّج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيرنا المرأة أداة من الأدوات أو متاعًا من
المقتنيات، وحرمناها كل المزايا العقلية والأدبية التي أُعدت لها بمقتضى الفطرة
الإنسانية، وبين هذين الطرفين حجاب وسط وهو الحجاب الشرعي. ا.ﻫ.
قال هملتن من علماء الإنجليز: «إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في وفرة العناية
بوقايتها من كل ما يؤذيها ويشين سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض
الكتَّاب، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة.»
وبعد، فليس من المعقول ما وصلت إليه أكثر نساء الغرب من التبذل في السفور، وحالتهن
في
المجتمعات والسمر والشوارع مما لا ينطبق كثيرًا على المعقول ويُخشى منه الفتنة، والرجل
رجل مهما تهذب، والمرأة امرأة مهما ارتقت، بيد أن عادة ألفها الغرب قرونًا وأدخلها في
مجتمعه مختارًا، ليس للشرق الإسلامي ما يوجب عليه السير فيها على أثره، فما يلائم الغرب
قد لا يلائم الشرق، وما كان لأمة أن تتحدى أمة أخرى لها مميزاتها وعاداتها، لتحملها على
قبول ما اصطلحت هي عليه، والحجاب نفسه قد كان مألوفًا في الغرب إلى القرن الثالث عشر،
ثم أخذ يرق حتى وصل إلى ما وصل إليه.
وما نخال عقلاء الغرب وعلماء الأخلاق في أوروبا وأميركا إلا مقبِّحين عادة التبذل
التي صار إليها بعض النساء عندهم، لما ينبعث عنها من المفاسد الاجتماعية التي لا يسع
مكابرًا إنكارها، وأي عقل سليم تجرَّد من المؤثرات يقول مثلًا بالرقص الغربي، وما يتبعه
من مخاصرة وضم وشم، وإذا كان الرقص فنًّا من الفنون كما يقولون، ليس فيه ما يدعو إلى
مواقف التهم، فلمَ لا يرقص الرجل مع الرجل والمرأة مع المرأة، على حين جعلوا من أمهات
قواعده أن يرقص الرجل مع المرأة إلا ما ندر، ولولا ابتذال الحجاب والتفلت من التصون
المحمود، هل كانت تبلغ الفتنة إلى هذا الحد؟ ومن أجل هذا رأينا بعض المدن الأوربية ثابت
إلى رشدها فكبحت بعض الشيء من جماح الجامحات في هوى السفور، ومن الأمم من كثر فيها مذهب
العري، وتناغى في فائدته الجنسان على صورة لا يجوِّزها عقل إنسان؛ لأنها تقرِّب
الآدميين من جنس الأعجم من الحيوان.
وفي الغرب اليوم كثير من العلماء ينادون بالويل والثبور لترك النساء البيوت واختلاطهن
بالرجال في المعامل والمصانع، ولا سيما بعد الحرب العامة، فقد قال برتراند
٤٦ رسل: إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وقد أخذ النساء
في الحرب يكتسبن رزقهن فاستقللن استقلالًا اقتصاديًّا، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد
على تقاليد الأخلاق المألوفة، وتأبى أن تظل أمينة لرجل واحد إذا تحررت اقتصاديًّا. وقال
صموئيل
٤٧ سميلز: إن البنات العاملات في المعامل حرمن التبصر وسلامة الرأي، فهن
سريعات الشعور بالاستقلال، ينبذن ما لآبائهن من النفوذ عليهن، ثم يغادرن بيوتهن وينهمكن
فيما ينهمك فيه إخوانهن من الرذائل، وتساعد البيئة التي يعشن فيها على تحريك شهواتهن
البهيمية فيكنَّ سببًا في نشر الفساد والشر، وقال أحد علماء البلجيك:
٤٨ ولقد شوهد في كل زمن أن النساء عندما تتهيأ لهن الأسباب للانتفاع بمواهبهن
ولإحراز الشهرة، لا يلبثن أن يصبحن مستخفات — كالرجل نفسه — بمزية الطهارة والشرف
القائلة بالعفة التي اختص بها النساء قديمًا وحديثًا، وإن من الملِكات والممثلات
والمؤلفات وذوات الأعمال في القديم من عبثن بالعفاف.
الاسترقاق
لشدَّ ما أنحى أرباب الأهواء على الإسلام لتجويزه الاسترقاق، مع أنه كان شائعًا كل
الشيوع عند الأمم الغربية
٤٩ وعند جميع الأمم القديمة، بل إن الرق نشأ مع حياة الإنسان،
٥٠ وكان معروفًا في كل العصور وعند كل الأمم إلى يومنا هذا. قالت فاليري:
وحاول أعداء الإسلام أن يحطوا من قدره لإقراره الرق، ولكن حالة الرقيق عند المسلمين
باديهم وحاضرهم هي أكثر سماحة مما يُظن في أوروبا، على ما أجمعت عليه كلمة السياح
الغربيين، وليس من العدل أن يقابل بين الرق في الشرق وما هو عليه في أميركا، قالت: وإذا
نظرنا إلى هذا الأمر نظرًا تاريخيًّا نرى رسول الله قد تفوق أيضًا في هذا الباب بصورة
عجيبة، واستشهدت بحديث: «لا يقل أحدكم عبدي أمَتي وليقل فتاي فتاتي وغلامي.» قالت: وأي
إنسانية أحسن من هذه.
كان الرق معروفًا في شريعة موسى، وكان يُسترق العبد سبع سنين، ثم يُعتق ويُعامل
بالحسنى، وأعطى الرومان للمسترِق حرية مطلقة على عبده، يميته ويحييه إن أحب، وربما بلغ
عدد الرقيق في بعض أدوار الرومان ثلاثة أرباع الأحرار، ولا يُسترق العربي وما المسترق
إلا من كان غير عربي، أو أُخذ بالشراء أو في الحرب، وقد حبب الإسلام العتق للمالك، أي
فك رقبته، ووعده العفو إذا هو أطلق سراح عبده وأمته. وفي الكتاب والسنة آيات وأحاديث
كثيرة في الاسترقاق والعطف على الرقيق وحسن معاملته، حتى كاد الرقيق يعد نفسه من
الأحرار، وأهم جزء في البيت الذي استرقه، والمسلمون يعاملون الرقيق كما يعاملون أنفسهم،
يوسعون عليه، ويعلمونه ويثقفونه، ويرفعون منزلته، ويزوِّجون الرجل، ويتزوجون الأمة،
تعجيلًا لإنقاذهما من الرق، وعدَّ الكتاب العزيز من القربات العظمى تحرير رقبة، وما
ملكت الأيمان؛ ذلك لأن البلية كانت قد عمت وطمت العالم بالرقيق، ففتح الإسلام مخرجًا
لمن قضى عليه سوء طالعه أن يقع في يد من يبيعه، وكان للنخاسة في الشرق والغرب ولا سيما
في بلاد اليونان والرومان سوق وأي سوق، وكان النخاسون في رومية يصاحبون الجيش الروماني
يسترقون أولاد المغلوبين لاستعبادهم، وتعريض نسائهم للجند يقضون أوطارهم منهن.
يقول وستر مارك: «إن المؤرخين في الغرب بالغوا كثيرًا في زعمهم أن الكنيسة عاملت
الرقيق برفق، فقد جاء القرن الثالث عشر وللسيد على عبده الحق المطلق في إحيائه وإهلاكه،
وكان يُباع في جميع بلاد النصارى، كما تُباع السلع، قال: وكانوا يمنعونه من تعلم
القراءة والكتابة ويُعاقب من يخالف ذلك عقابًا شديدًا؛ لأن الناس يستفيدون من جهله؛
لأنه لا يعمل ما يراد به إذا تعلم.»
كثر الرقيق أوائل الإسلام بكثرة الفتوح، ومن الإماء من استولدهن كبار العرب فجاء
منهن
أولاد نجباء خدموا الإسلام وأدخلوا في العرب دمًا جديدًا بتمازج عنصرين مختلفين،
٥١ وبعد، فإذا أعتق المالك عبده يبقى له الولاء عليه أو عليها، وهذا ما نفع
المعتِق والمعتَق، حتى قال الرسول: «إن الولاء لحمة كلحمة النسب.» ويكون الرقيق غالبًا
من الروم والفرس والحبشة والسودان وغيرهم من الأمم المجاورة لجزيرة العرب والتي حاربت
العرب، ومن هؤلاء الموالي من دان بالإسلام، أو من ضُرب عليه الرق، ثم أصبح مولى، وكثير
من أبناء الأسرى الذين رباهم المسلمون وعلموهم القرآن والسنة شاركوا الصحابة وكبار
التابعين من العرب في العلم والتعليم، ولم يوجد مصر إلا وفيه من الموالي المتعلمين عدد
وافر، ومن الأمصار ما كانت الغلبة فيه للموالي أكثر من فقهاء العرب.
كان المولى عند العرب في المنزلة دون الحر الصريح، وفوق العبد الرقيق، والمولى مولى
عتاقة ومولى تباعة، فمولى العتاقة هو الذي يكون عبدًا أو أسيرًا فيعتقه صاحبه، فيصبح
المعتَق للمعتِق مولى، ومولى التباعة هو من يصطنع ويحالف أي يستتبع، وفي كتب الفقه فصول
ضافية قلما تقرأ اليوم إلا للاطلاع على أحكام الرقيق قبل أن تقوم إنجلترا في القرن
الماضي فتنفق عشرين مليونًا من الجنيهات لتعتق في مدة قصيرة سبعمائة وخمسين ألفًا من
هذا الصنف المظلوم من البشر، هذا غاية ما يُقال في الرقيق في الإسلام، وهي مسألة كان
لها شأن عظيم في كل مجتمع وحشي ومتمدين، وفي بعض البلاد في إفريقية وآسيا التي قضى
عليها أن ينزلها الغرباء مستعمرين اليوم شيء يشبه هذا الرقيق ولكن بأسلوب آخر، كأن
يتملك الأبيض الأسودَ أو الأحمرَ امتلاك السيد عبده، ليشغله في أرضه ومعمله، ويصرفه على
هواه، ولكنهم يسمون هذا استعمارًا لا استرقاقًا.
ولا يسعنا ونحن في موقف المؤرخ إلا أن نشير إلى ما ينزله الجنس الأبيض من الإنجليز
والألمان والفرنسيس والإيطاليين والبرتقاليين من أنواع العذاب في الجنس الأسود في
إفريقية؛ فقد جرَّد الإنجليز جنسًا من الرعاة اسمهم الماتبليون من قواهم المادية، بما
أرادوهم عليه من التوقيع على معاهدات راغ فيها الذين أملوها كما تروغ الثعالب، أملوها
على شعب فُطر على السذاجة وسلامة القلوب، ومن هؤلاء البيض من يغالون في تدخلهم ببلاد
شعوب لا تستطيع الدفاع عن نفسها؛ وذلك للرغبة في تملك الثروات الطبيعية والأخذ بكل حيلة
للتسلط والتوسع، وتاريخ الكونغو البلجيكية والكونغو الفرنسية يذكِّر بأبشع ضروب
الاستثمار وأفجع أساليب الاستعباد، فقد اعتاد الأوروبيون بعد أن يصادروا الوطنيين في
أملاكهم أن يطالبوهم على صورة ضرائب بتسليم عصارة المطاط (الكاوتشوك)، وكان الوطنيون
يقايضون عليه من قبل بالسلع الأوربية، فعمد الغربيون لأجل استخراج كمية أوفر من هذا
العصير الثمين إلى أساليب من إرهاق الزنوج البائسين هي العذاب بعينه.
يستحلون ضربهم وتعذيبهم وحجر أموالهم واستباحة نسائهم وإجاعتهم، فنتج من ذلك أن ركن
السكان إلى الهجرة، فخلت البلاد من أهلها — قاله أدمون دي موريل الإنجليزي في كتابه
«ألم الجنس
الأسود The black man’s burden».
ولقد قال أحد المبشرين الإنجيليين:
٥٢ «إن الأوروبيين قد جنوا على السلالة السوداء جنايات كثيرة لا مندوحة لهم عن
التكفير عنها، فانقرضت أكثر أمم المونغوي والفالوة والنكومي وغيرها بما أتاه من الحيف
فيهم النخاسون البيض، وكانوا يصطادون أبناءهم ويستعبدونهم ويبيعونهم، وكان أكثر أرباح
التجار البيض من تجارة السلاح والبارود والمسكرات، فانقرض سكان البلاد بذلك بما فشا
فيهم بواسطة الأوروبيين من الفجور.» ا.ﻫ.
وما أرحم الرقيق القديم بالقياس إلى هذا الرق الفظيع في القرن العشرين.
المسكرات
تدرَّج الشارع في النهي عن الخمر، وقد سُئل عن الخمر والميسر، فأجاب بلسان القرآن:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا، ثم نهى المؤمنين عن الصلاة وهم سكارى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، ثم جاءت آية النهي المؤكد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ، وعن أنس: لقد أنزل الله تحريم الخمر وما بالمدينة شراب يُشرب
إلا من تمر.
وكان تعاطي الخمر من عادات الجاهلية التي لم يقرها الإسلام، وهناك عادات كانت مألوفة
أبقاها بحالها، وحرَّم أشياء من المأكولات لثبوت ضررها، فقال تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ،
٥٣ وفي الحق إن القول بصلاح المسكرات وعدمه لا يحتاج إلى مناقشة بعد أن ثبت
لأمم الغرب أنها ضارة، وأخذت تقاومها بكل حيلة لما عُرف من إضرارها بالعقول والأجسام
والمجتمعات، حتى قال كليمانسو من كبار ساسة فرنسا: «إن الغَوْل (الألكحول) بالكمية التي
يتناولها كثير من معاصرينا هو سم زعاف يخرب النشاط البشري بل يقضي على كل مجتمع.» وقال
هريو:
٥٤ «إن معظم مَن في ملاجئ المجانين — بسبب الغول — يكلفون الحكومة نفقات باهظة
كان الأولى بها أن تنفقها على المعوزين البائسين، والأمة التي تبقي على هذه السخافات
تحكم على نفسها بالفناء.»
ومن غريب الآراء التي قال بها أحد علماء الأميركان قوله: «إن المسلمين
٥٥ كانوا أيام تعاطيهم الخمور تزهر مدنيتهم، وتأتي بأعمال جليلة في الفتوح
والأفكار، والمسلمون أبناء شعوب تشرب الخمور، وقد اشتهرت بالفاتحين منهم في إسبانيا
خمور ملقة وشريش، ولما استبدل المسلمون القهوة بالخمور في القرن الخامس عشر، سقطت
الحضارة الإسلامية من شاهق مجدها، بعد ثلاثة قرون مضت على إبدالهم الغول
بالقهوة.»
ولا شك أن هذا الرأي صادر عن رجل أولع بحب الخمرة، وشق عليه أن يرى أمته تحظر في
بلادها تعاطيها لما ثبت لها من إضرارها بالناس، وأي إيغال في الخيال، وتضليل للعقول،
وإفساد للتاريخ، أعظم من أن يدَّعي هذا المؤلف أن كل حضارة قامت في الأرض تمت على أيدي
شعوب تشرب الخمور ومنهم المسلمون، وأن يزعم أن هؤلاء كانوا أرقى كعبًا في الحضارة لما
كانوا يعاقرون الخمرة، مع أن الثابت في القرون الأولى للإسلام أن أهله كانوا أقل شربًا
للمسكرات، بل إن من أهل الجاهلية من صانوا أنفسهم عن تعاطيها حفظًا لمروءتهم؛ ولذلك
اشتدَّ العرب يوم قيام دولتهم بالإسلام في إقامة الحدود على الشاربين، وما نتلوه من
أخبار مجالس الشراب في قصور بعض الأمراء والخلفاء والعظماء مبالغ فيه، بل منه الموضوع
بلا جدال، وقد لا يقصد منه إلا النادرة، أو الحط من قدر ملك أو خليفة أو أمير أو كبير؛
لأنه كان من أهم المطاعن في إنسان كونه يتعاطى شيئًا من مذهبات العقول، والظاهر من
مضامين التاريخ الإسلامي أن من ابتلوا من الأمراء والسلاطين بشرب الخمور، واسترسلوا في
بلائهم، كان منها زوال دولتهم، وانقضاء أيام سلطانهم، بما نال أعداؤهم منهم لكونهم ما
قدروا وهم شِريبون خِميرون أن يجعلوا لأعمالهم وأقوالهم وزنًا، وشغلوا بأنفسهم أي
بسكرهم، وألقوا الأعمال على عاتق من ائتمنوهم فخانوهم.
وإذا كان تعاطي أقداح الراح يؤدي كما قال المؤرخ الأميركي إلى تأصل الحضارة في الأمة،
وقيام أمرها على أمتن الدعائم، فما بالنا لا ندعو إلى الخمور نشربها حتى نستعيد حضارتنا
السالفة، ولا نأتي ما أتته أميركا اليوم من هذا الترتيب الجاف كما يدعونه، أي الذي يدعو
إلى الامتناع عن الغول مهما كان نوعه، وننجو بذلك من العار في احتساء القهوة السوداء،
مستعيضين عنها بالقهوة الحمراء والبيضاء والدكناء والصفراء!
هذا الأميركي يشتط هذا الشطط في التغني بتأثير الخمور في إنهاض الأمم من كبوتها،
وهو
من جلالة القدر على ما ظهر لنا من كتابه بحيث يستغرب بروز مثل هذه الآراء من مثله،
وبنتام الإنجليزي
٥٦ يقول في القرن الماضي: «النبيذ في الأقاليم الشمالية يجعل الرجل كالأبله،
وفي الأقاليم الجنوبية يصيره كالمجنون؛ ففي الأولى يُكتفى بالمعاقبة على السكر على أنه
عمل سيئ، وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد؛ لأنه شبيه بالتشرد، ولقد حرمت ديانة محمد جميع
المشروبات المسكرة، وهذا من محاسنها.»
وقال القس إسحق طيلر الإنجليزي خلال كلامه على انتشار الإسلام في إفريقية: «إن
الإسلام حيث سار تسير معه الفضائل؛ فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام
من جنوده وأنصاره.» وقال: إنه يأسف لانتشار السكر والفحش والقمار بين السكان بانتشار
دعوة المبشرين بينهم، ثم صرح بأنه يختار إسلامًا لا سكر فيه على نصرانية فيها سكر. وقال
مونتيه: «الواجب على المسلمين أن يحتفظوا بما حظرته الشريعة عليهم من تناول المسكرات،
فإن في هذا المنع قوتهم وتماسكهم.»
الربا
بقيت مسألة الربا الذي ادَّعى بعض الغيورين على مصلحة المسلمين أن امتناع المسلمين
من
تعاطيه كان فيه ضعفهم وفقرهم، والحقيقة أن المسلمين لما غالطوا أنفسهم في مسائل الربا،
وتحيلوا لأخذه، ونسوا الآيات الصريحة الواردة في كتابهم بتحريمه، أصيبت ثرواتهم بالنقص،
بل حالفتهم الفاقة والمذلة، والثروة بالعمل لا بالنقد وحده، وما النقد إلا أداة من
أدوات التعامل وتنقل النقد في الأيدي، لا بجمود النقدين الذهب والفضة.
وأشد ما حاربه الإسلام ربا الأضعاف المضاعفة:
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا
اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ
وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن
رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ۖ وَمَنْ عَادَ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ،
٥٧ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ
وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ،
٥٨ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ
وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن
تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِن
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ.
٥٩
وهذه الآيات في التحريم صريحة لا تحتاج إلى شرح، وفسر المفسرون آية:
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، بأن الآخذين للربا لا
يقومون إذا بعثوا من قبورهم إلا قيامًا كقيام المصروع فلا يقومون من المس، أي الجنون
الذي بهم بسبب أكل الربا، ويكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لاختلال عقولهم؛ لأن الله
أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم،
٦٠ أما نحن الدنياويين فقد رأينا في الربا بلاءً عظيمًا غير ما عرفه منه
الأخرويون؛ رأينا كثيرين من أكلة الربا يصابون وأولادهم بالجنون أو بشيء يقرب من
الجنون، والأمثلة كثيرة في أيامنا، ونعلل هذا السر في جنون آكل الربا؛ أنه يكون غير
مطرد في توازنه لا يملك اعتداله أبدًا؛ فهو يفرح كثيرًا ويكتئب كثيرًا، ويحصر وكده ويكد
ذهنه في دائرة معينة أقلُّ ما يُقال فيها: إنها حساب الأرقام على الدوام، والتخوُّف مما
تخبؤه الأيام، ومن ضيق المجال على عقله ضعف تفكيره، ومن قل تفكيره كثرت هواجسه وكانت
البلاهة فما بعدها أقرب إليه من فكه، ومن كان هذا حاله جاء منه الأبناء المغفلون
يحاولون أن يعيشوا من بقايا ما ورثوه من ثراء، وقد يكون تبعثر في حياة جامعه، وهناك
ضيعة الأمل، وخيبة العمل، إلى انقضاء الأجل.
ولقد عد الشارع الربا من السبع الموبقات أي المهلكات وهي: الشرك بالله، والسحر، وقتل
النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف،
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وقال: «لعن الله آكل الربا ومؤكله.» وأثبتت الأيام
أن
التوغل في الربا في الغرب أدَّى ولا يزال يؤدي إلى محو الثروات؛ وذلك لأن الربا الفاحش،
وأكثره فاحش، يربح أكثر من ربح الصناعة والزراعة والتجارة، فاعتماد الناس عليه وحده غبن
عظيم على المجتمع، وتعطيل للأعمال المثمرة؛ لأنه قد يزهد الناس في التجارة وعمران الأرض
واستثمار موادها، فيعمدون إلى الانتفاع بأموالهم بطريقة الربا لما فيه من ربح لا تعب
فيه، وريع مضمون مؤمن، قد تكون الخسارة فيه أقل من الخسائر في سائر ضروب المعاش، على
أن
الربا ينافي سنة الكون؛ لأن من يأتيه ربحه بدون عناء، يبسط يده في إنفاقه كثيرًا،
كالمقامر لا يُرى إلا سمحًا على الأغلب؛ لأن ماله أتاه هيِّنًا ليِّنًا وإذا خسر تكون
خسارته من أصل رأس ماله، ولقد رأينا بيوتًا عظيمة في مصر والشام كانت في هناء وسعادة،
فلما تطوَّحت في الربا دائنة ومدينة، انقرضت على بكرة أبيها، سواء في ذلك أهل الأديان
السماوية الثلاثة، وكان لهذه المصافق المالية (البورصات) وهي أشبه بالميسر دخل كبير في
محق الثروات.
على أن الإسلام رخَّص في استثمار الأموال إذا لم يشترط في الأول ربح معين كأموال
المقتصدين في صناديق التوفير، وحظر الاسترسال في الربا الفاحش؛ فالمحرَّم هو ربا
النسيئة، أي إنساء
٦١ أجل الدين المستحق، وهو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه،
ويكون من شأنه أن يتضاعف، ويخرب البيوت ويفسد العمران، ويبطل فضائل التراحم والتعاون
بين الناس،
٦٢ أما ربا الفضل فلا ضرر فيه؛ ولذلك اضطرَّ الفقهاء إلى القول بأن تحريمه
تعبدي لا يعقل معناه، وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى:
وَمَا
آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ
اللهِ، يعني به دفع الإنسان النسيء ليعوض أكثر منه فذلك في أكثر التفسير
ليس بحرام، ولكن لا ثواب لمن زاد على ما أخذه. والربا ربوان: فالحرام؛ كل قرض يؤخذ به
أكثر منه أو تجر به منفعة، وما ليس بحرام: أن يهب ما يستدعي به أكثر منه أو يهدي ليهدى
له أكثر منها، والربا محرم في الشرائع الثلاث؛ حُرم في التوراة والإنجيل والقرآن،
واليهود تحرِّمه تحريمًا قطعيًّا شبيهًا بتحريم الإسلام، إلا أن التحريم مقصور على
معاملات اليهود بعضهم مع بعض، والإسلام جامع شامل عام، وحكم النصرانية قابل للتأويل،
٦٣ وأجازت القوانين العقلية القرض بدون ربح ولا فائدة، وأجازت التعاقد على
الربح والفائدة إلى حد معين، منعًا للربا الفاحش، وحرَّمت ربا الربا إلا في معاملات
تجارية مخصوصة ضيقت فيها بقدر الإمكان، وأجازت للدائن المطالبة بربح المال الذي يتأخر
المدين في أدائه، ولو لم يتفق معه على ربح.
«كان
٦٤ القرض من جملة التبرعات التي تُعد من أعمال البر والإحسان، كما كان حسن
القضاء وإيفاء الدين من جملة المعاملات الحسنة؛ فكان المدين يمشي إلى صاحب الحق لأداء
الدين بلا تقاضٍ ولا مطالبة ويسلمه أجود مما عليه، ويزيد عليه زيادة فضل، لكنه غير
مشروط ولا ملاحظ، فحث عليه الشارع وحبَّذه، وجعل ثوابه أعظم من ثواب الصدقة، فقال عليه
الصلاة والسلام: «الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر»؛ لأن الصدقة تقع بيد
المحتاج وغير المحتاج، والقرض لا يقع إلا بيد المحتاج، كما حبَّذ حسن القضاء وحث عليه،
فقال: «خيركم أحسنكم قضاءً»، فكان الأقدمون يتسابقون لذلك قرضًا واستقراضًا كما
يتسابقون لأعمال البر والمعروف، فما لبثت زمنًا حتى انقلب هذا الإحسان وعمل المعروف إلى
متجر لتنمية المال بأسوأ الطرق، وأقبح السبل المؤدية إلى الإضرار بالناس وإتلاف مالهم
وإخراجه من أيديهم مجانًا بلا رعاية جانبه أصلًا، وهو الربا الذي عرفه الشرع الأقدس أنه
فضل مال خالٍ عن عوض بالكيل والوزن مشروط لأحد المتعاقدين، فكان الدائن إذا بلغ الدين
محله زاد في الأجل فيستغرق بالشيء الطفيف مال المدين بلا مسامحة ولا حط، وهو الأضعاف
المضاعفة التي حُرمت بالنص، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، فلم يدرك الغرب مضرته، بل رآه سهل المأخذ، كثير
المغنم، ينمو بسرعة فاتخذه وسيلة للثروة، وسببًا للعمران، وندَّد على الإسلام بتحريمه،
وجعل تركه سببًا للانحطاط، ولم يدرك أن هذه الثروة التي بُنيت على أساس الجور والعسف
تضمحل بسرعة كما تحصلت بسرعة، وهذا النمو السريع يعقبه اضمحلال سريع ويدهمه المحق
المشاهد:
يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ.
ولما ظهرت الإفلاسات بكثرة وتتابعت ممن يتخذونه متجرًا، وبحث الباحثون في الأسباب
تبين لهم أن أغلبها من الربا، وبتجارب الأيام وتوالي الحوادث، ظهر سر الشرائع التي حرمت
الربا، وحسبك حجة عليهم أنه جلب منفعة بخراب بيت أو بيوت فهو شبيه بالاحتيال والإغراء،
ليتوصل به آخذه إلى اقتناص مال غيره بلا عوض كالميسر، وقد شاهدنا منه خراب بعض القرى
واستملاكها ونزعها من أهلها؛ بسبب الربا لما وقعت في مخالبه، ولا يسعنا هذا المقام
لنطيل بالأدلة العقلية والبراهين النظرية، على أنه لا يُعد من أسباب العمران ولا من
وسائط الثروة؛ إذ ليس من حسن النظر إغناء رجل بخراب آخر، ولا إثراء جماعة بسلب مال
الآخرين، بل هو المِعول في تخريب الثروة والفتك بالتاجر والزارع الذي ندر أن يفلس بسبب
آخر غير الربا؛ فلذا حرمه الله تعالى، وشدد على تعاطيه، وأعلن بالحرب عليه، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ
رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُون. ا. ﻫ.»
وبعد، فهل مضرة محسوسة أكثر ظهورًا في هذا العصر من تأثير الربا في مجموع الهيئة
البشرية؟ وقد رأينا من أهم العلل في تقلقل الحالة الاقتصادية في العالم التطوح في
الاستدانة والإدانة على طريقة توسعت حتى ظن بعض قصار النظر أن هذه الثروات هي حقيقة
ملموسة، مع أن الأيام أثبتت أنها كانت ثروات موهومة أو سرابًا بقيعة
٦٥ حسبها الظمآن ماء، وما وقع بعد الحرب العالمية من ضروب الإفلاس في المصارف
عند كبار الأمم المتمدنة يقوم أقوى دليل على تخريب العمران بهذه الذريعة
الكاذبة.
التصوير والنقش
يقولون: إن حظر الشريعة الإسلامية استعمال الصور المجسمة كان من دواعي تقهقر المسلمين
أيضًا، ويعاب ذلك على الإسلام؛ لأن التصوير من أهم أدوات الثقافة، وهذه من المسائل
الدقيقة في المدنية الإسلامية تحتاج إلى بسط طويل لا تتسع لها هذه الصفحات القليلة،
ولعل نكتة النكات في هذه المغالطة كون بعضهم يكتفون من الأمور بظواهرها، دون التعمق في
أسرارها وأصولها، فيرسلون أحكامهم عفو الساعة، ويستنتجون استنتاجات ضعيفة، ناسين أن
الإسلام الداعي إلى التوحيد، والعمل على إقصاء العرب عن عبادة الأوثان قد منع التماثيل،
وقضى على الأوثان لأول عهده؛ مخافة أن يُساق المسلمون بالتقليد إلى عبادتها، على ما كان
العرب في الجاهلية، فالسبب كان دينيًّا محضًا لأول الأمر، وبولغ في الحظر سدًّا
للذريعة، والدين غض، وعهد العرب بالأصنام قريب.
لم تهتم الشعوب السامية كثيرًا بالتصوير والنقش؛ لبعد ذلك عن طبيعتها وطبيعة أديانها؛
وهذا دين موسى قد حرَّم التصوير ونحت التماثيل في التوراة، وفن التصوير
٦٦ والنحت عند اليهود عبارة عن نحت الحجر وتطريق المعادن والنقش على الخشب،
وقد جاء في سفر الخروج (الإصحاح العشرون) «لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما مما
في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض.» ما يقضي بالحيلولة
دون كل ارتقاءٍ في هذا الباب؛ ولذلك كان التصوير عند أبناء إسرائيل في حالة ابتدائية
ساذجة.
وليس التصوير والنقش مما أولع به العرب كثيرًا؛ لبعدهما عن طبيعة عنصرهم، اللهم إلا
إذا صح ما نُقل عن عرب اليمن على عهد ملوك حمير والتبابعة، وما كان من التماثيل في
الكعبة، وما رُوي من أنه كان لهم في الحجاز أصنام جميلة كأجمل التماثيل،
٦٧ وأفادنا التاريخ مع هذا أن التصوير ونحت التماثيل والنقش كانت معروفة في كل
دور من أدوار الدول الإسلامية
٦٨ السالفة، ولكن بقيود قليلة غير ثقيلة. وقد عُهد التصوير والنقش عند
الأمويين في الشرق، والأمويين في الغرب، وعند العباسيين في العراق وفارس، والفاطميين
في
مصر، وفي كثير من الدول الخالفة من غير حرج ولا نكير، وكلما كانوا يأمنون غائلة السجود
للأصنام، ويبتعدون عن عادات الجاهلية الأولى، كانوا يتسامحون بوضع الصور والتماثيل في
القصور والدور والحدائق، بيد أن التصوير والنحت لم يكونا على حصة موفورة عندهم، كما هو
الحال في الدول الغربية الحديثة.
وإن ما ظهر في العهد الأخير في الجدار الداخلي الغربي من الجامع الأموي بدمشق من
الفسيفساء العربية التي صورت فيها الأشجار والأمصار مثالًا من ولوع القوم منذ القرن
الأول بهذه التزاويق، وعثروا
٦٩ في «سر من رأى» وهي من بناء المعتصم العباسي على غرف وأبهاءٍ زُينت جدرانها
بتصاوير شرقية بين بارزة وغائرة في الجص، وصور ملونة للآدميين وغيرهم، وصور المتوكل في
قصره في سامرة بيعة فيها رهبان وأحسنها صورة شهار
٧٠ البيعة، أما القصور المصورة في الأندلس فيطول ذكرها، ومنها الزهراء أو
مدينة الزهراء التي بناها عبد الرحمن الناصر على اسم جاريته، ونقش صورتها على بابها،
وكان في كل دور من المألوف تصوير جدران الحمامات في بغداد ودمشق، وعمل خمارويه في القرن
الثالث مجلسًا في القاهرة
٧١ برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد المعمول
في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورًا في حيطانه بارزة من خشب
معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه، بأحسن تصوير وأبهج تزويق،
وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين، والكوادن
٧٢ المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن المحكمة الصنعة
وهي مسمرة في الحيطان ولوِّنت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
ثم إننا لو رجعنا إلى تاريخ التصوير والنقش عند الغربيين أنفسهم لما رأيناهما بلغا
في
عصر من عصور الغرب الدرجة التي وصلا إليها الآن بعد أن ارتقى كل فرع من فروع الحضارة،
ويعذر العقل الغربي إذا تعذر عليه أن يقبل كيف تقوم مدنية بغير تماثيل وتصاوير وتهاويل،
وقد قبلت النصرانية بعض ما كان في الوثنية من العادات والأوضاع على نحو ما فعل الإسلام؛
فأقر أمورًا بل أحكامًا كانت من مألوف الجاهلية، لم ير فيها كبير ضرر فسكت عنها،
٧٣ ولكن شدد الإسلام في القضاء على الأصنام؛ لأن التوحيد أول شرط في الهداية
الإسلامية، ولا توحيد مع أصنام وأوثان، خصوصًا في الصدر الأول.
ومن الإنصاف أن يعتبر القائلون بقصور العرب في هذا الشأن بارتقاء أصناف العلوم
والفنون مع الزمن، وأن العقل البشري يرقى الجيل بعد الجيل، ويُكتب له في آخر الأمر
الإبداع، وهل من العدل أن نتطلب من مدنية قامت قبل ثلاثة عشر قرنًا ما نتطلبه من حضارة
قامت منذ أربعة قرون، تحمل معها مدنيات الأمم الغابرة بأسرها؟ ولعمري هل يضر المدنية
العربية أن لا يعهد فيها الكهرباء والبخار، ولا التمثيل والسينما؟ وهل يسقط قدرها
قصورها بعض الشيء في إقامة التماثيل واصطناع التصاوير والتزاويق؟ وهذه أمم الغرب على
كثرتها نجد بينها لعهدنا تفاوتًا في الغرام بالنحت والنقش والتصوير، مع أن كل واحدة
منها تسير على ما سارت عليه جارتها، ولا تفتأ تقتبس مما عندها كل جديد؛ لاتحادهما
كثيرًا في الدين والبيئة.
إن العلم كما يقول ريشه:
٧٤ يسير إلى الأمام بسرعة تحير العقول، ومع هذا لم يبرح فتيًّا غض الإهاب،
وعلى ما كُتب لطاليس وأرخميدس من النبوغ لم يعرفا شيئًا مما يُعلم اليوم في المدرسة
الابتدائية، وأجهل شاب حاز الشهادة الثانوية يحسن أمورًا كثيرة كان جاليله يجهلها
بالمرة، ولم يمضِ من عهد فرنكلين إلى إنشتين مائة وخمسون سنة كاملة، ولكم تقدم العلم
في
هذه الحقبة، ولكم تبدلت التصورات والأفكار، ولم يكن يُعرف علم مطمورات الأرض من النبات
وغيره (باليونتولوجيا)، ولا علم الجراثيم ولا الحاكي ولا الطيران ولا السكك الحديدية
ولا الحل الطيفي؛ فعمر الإنسانية العلمي لا يقدر له أكثر من مائة وخمسين سنة، وهي أربعة
أجيال، نرى وأنت ترى، أن هذا العمر غير طويل. ا.ﻫ.
وقال سنيوبوس:
٧٥ لم يأتِ زمن في تاريخ البشر تبدلت فيه الأسباب المادية في الحياة بسرعة
تبدلها في القرن التاسع عشر في أوروبا، وهذا الانقلاب هو نتيجة الاختراعات التي قامت
بالتجربة فقط، أو بتطبيق أساليب العلوم العملية، وكثير منها ينتهي إلى الثلث الأخير من
القرن الثامن عشر، بيد أن نتائجها العملية لم يشعر بها في جمهور الشعوب في أوروبا قبل
أواخر حرب الإمبراطورية الفرنسية، فتغير الحياة المادية لم يبدأ إلا بعد سنة ١٨١٤، فهو
أعظم حادث عصري بل هو حادث دولي؛ لأن تلك الاختراعات أوجدتها عقول العلماء والمخترعين
من جميع الأمم، فهي مشتركة بينهم بحيث يتعذر كل حين تمييز من له الحظ الأوفر من الأمم
من هذه الخدمة؛ لانتقالها من أمة إلى أخرى مفيدة لها كلها على السواء. ا.ﻫ.
وعلى هذا فليعذرنا الذين طالما أوجعوا رءوسنا، وحاولوا إذلال نفوسنا، لقصور أجدادنا
في التصوير، وما القصور في الحقيقة إلا قصور الزمن، وربما كنا فقنا فيه، لو ظللنا على
تعهد مدنيتنا المسكينة، ولقد ذكر سيديليو أن فني النقش والحفر كانا راقيين عند عرب
الجاهلية، وقد صنعوا تصاوير البشر وتماثيل الأرباب، حتى جاء القرآن بمنعهما فوقفا عن
التقدم، وجاء العباسيون فاشتغلوا بهما وتقدموا فيهما اشتغالهم بفني الموسيقى والبناء،
وقال جوتيه: إن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية
اليونانية كثيرًا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما فيما يتعلق بالفنون
والآداب فإن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير، فقد كان قدماء المصريين نقاشين
مبدعين، وترك سكان بين النهرين صورًا نصفية جميلة، أما خلفاؤهم فليس لهم تصاوير ولا
تماثيل، ما خلا تزييناتهم الهندسية وهذا نقص غريب، فقد رأوا أمام أعينهم نحو ألف سنة
النحت اليوناني والنقش والتصوير البيزنطي فتخلوا عن كل ذلك دفعة واحدة.
قال: وينبغي أن نقدِّر في التصوير والنحت اليوناني والبيزنطي أن تمثيل الصورة البشرية
كانت تمثيل الصورة الإلهية، سواء كانت صورة المسيح أو أبولون أو غيرها من تماثيل
الوثنيين، ولا يفوتنا ذكر من قاموا بإنكار تكريم الصور البيزنطية، وأن فكرة المولى لم
تنشأ في مصر ولا في كلدة بل نشأت في اليهودية، ثم غُرست في الإسلام أي غرس، وما فكر
اليهود قط أن يصوِّروا يهوه، ولم يجوز المسلمون أيضًا تصوير الله، وصوَّر النصارى
المولى فقط، ومثلوه في لحية بيضاء وأجلسوه في السحاب، والمظنون أن الهندسة العربية
البديعة كانت غريبة عن الماضي لا صلة بينها وبين القبور والمعابد المصرية، ولا بين قصور
الأخمانيين، ولا مع الهندسة البيزنطية التي نشأت منها بل هي إبداع جديد. ا.ﻫ.
هذا، وقد ثبت أن الرسول
٧٦ أقرَّ نقود العرب في الجاهلية، وكانت ترد من الممالك الأخرى وهي مصورة،
وضرب عمر الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها، وضرب معاوية دنانير عليها تمثال
متقلد سيفًا، واستعمل زيد بن خالد الصحابي الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله،
وكانت تأتيهم من اليمن ثياب وستور وحجال فيها تصاوير، واستعمل يسار بن نمير مولى عمر
بن
الخطاب وخازنه الصور في داره، وصنعت الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وهما
من التابعين، فلم يحرِّم الإسلام إذًا صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال، ويحتاج
إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وكان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر
والحيوان في المصنوعات، وقد أبقت الأيام في دور الكتب والآثار كتبًا كثيرة مصورة من عهد
العباسيين وبعدهم، ويقول محمد عبده: «ويغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن
تحرِّم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة
العقيدة ولا من جهة العمل.» وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية،
ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل، ومع هذا لم يخلف
العرب في النقش ولا في التصوير آثارًا خارقة للعادة. ا.ﻫ.