طبيعة بلاد العرب
لا نحسن تصور حالة العرب في الإسلام إبان عهد حضارتهم إلا إذا ألقينا نظرة عجلى على
الثابت من تاريخهم في الجاهلية، وعلى آثارهم وعلمهم وثروتهم؛ ولذلك يتقاضانا الوصول إلى
هذه النتيجة أن ندرس حالتهم في معظم مظاهرها، لنتدرج بهم من جزيرتهم إلى حيث درجوا من
البلاد التي حلوا فيها، وتمثلوا حضارة القدماء، وانقلب في الجزيرة بالإسلام طورهم
الديني والأخلاقي، كما انقلب في البلاد المفتتحة طورهم المدني والاجتماعي.
من الثابت أن طبيعة بلاد العرب تختلف باختلاف بعدها وقربها من البحر وانخفاضها
وارتفاعها عنه؛ فجبالها ليست كسهولها، وأواسطها تختلف عن أطرافها، فليست الجزيرة إذًا
نسقًا واحدًا بخصبها واعتدالها، وفي الجزيرة واحات فيها نخيل وأعناب وبقول وحبوب، وفي
جنوبها وهي اليمن بلاد عالية ومنخفضة فيها الحرارة والبرودة، وفيها المياه وإن قل
الجاري منها، وتكثر أمطارها وإمراعها، ويقل الخصب في الحجاز اللهم إلا في بعض أنحائه
كالطائف. واليمن أعمر الأقاليم العربية ولذلك دُعيت بالعربية السعيدة، وعُهدت لها مدنية
قديمة، وقامت فيها دول؛ لأن سهولها وجبالها ممرعة، وفيها من الحاصلات ما لا يوجد في
غيرها كالطيب والورس والكُندر والعصب والشب واللُّبان والعقيق وخشب البُنك والمعرق من
الجزع.
قال ابن الفقيه:
١ وباليمن من أنواع الخصب وغرائب الثمر وظرائف الشجر؛ ما يستصغر معه ما ينبت
في بلاد الأكاسرة والقياصرة، وقد تفاخرت الروم وفارس بالبنيان وتنافست فيه، فعجزوا عن
مثل غُمدان ومأرب وحضرموت وقصر مسعود وسد لقمان وسلمين وصرواح ومرواح وبينون وهندة
وهنيدة وفلثوم بريدة. ا.ﻫ.
وفي جبال بلاد العرب التي لا تكاد تنقطع سلسلتها من شمالها في أرض الشام حتى الطائف
وصنعاء وما وراءها من الاعتدال، ولطف الهواء وطيب الماء، ومثمر الشجر، ما يستغرب وجوده؛
لأن الطائف يعلو ١٦٠٠ متر عن سطح البحر، وأبها في اليمن ٢٢٧٥، وصنعاء ٢٣٤٢، وكوكبان
٢٠٠١؛ وفي اليمن والحجاز معادن كثيرة كالحديد والفضة والذهب، وهكذا يقال في عمان
وحضرموت وهجر «البحرين» واليمامة «نجد» والشحر والأحساء.
دول العرب القديمة
قامت في الأعصار القديمة عدة دول في هذه الجزيرة أو شبه الجزيرة ضاعت معظم أخبارها،
فمنها دولة العماليق نسبة لعمليق بن لاوذ بن سام، وكانت على حالة بداوة في الصحراء
ممتدة من العراق إلى العقبة، ثم لما قويت عصبيتهم، تغلبوا على بابل وأنشأوا دولة قبل
المسيح بخمسة وعشرين قرنًا دُعيت دولة الساموآبيين، ومنهم ظهر الملك حمورابي،
٢ ويرى بعض الباحثين أنه عربي، فتغلب على مملكة أشور، وكانت دولته دولة راقية
بآدابها ومادياتها، ويدل ما اكتُشف من شريعته على أن هناك أمة راقية ومدنية لا بأس بها،
ولما تغلب الأشوريون على تلك المملكة اضطهدوا العرب فهاجر قسم منهم إلى غرب الجزيرة
وجنوبها.
ومن دولتهم دولة الرعاة أو عرب الشرق أي الهيكسوس دخلوا مصر من أرجاء البحر الأحمر
قبل المسيح بثلاثة وعشرين قرنًا، واستولوا على الوجه البحري من بلاد مصر، وجعلوا
عاصمتهم «صان» حتى أجلاهم عنها تحوتمس ملك ثيبة في الوجه القبلي من صعيد مصر حوالي سنة
١٧٠٠ق.م. وأسس العرب النازحون من أشور دولة عاد الأولى في جنوب الجزيرة قبل الميلاد
بعشرين قرنًا، وكانت منازلهم في الأحقاف بين اليمن وعمان، وكان للعرب دولة في شرق بلاد
اليمن فوق حضرموت يُقال لها: دولة المعنيين، قال الباحثون فيهم: إنهم كانوا يقومون على
زراعة الأرض في سهول حضرموت وسفوح جبال اليمن، وقد أقاموا السدود وفتحوا الخلجان، وهناك
دولتان أو مجموعتان من القبائل يرد ذكرهما في التواريخ العربية وهما: طسم وجديس، كانتا
تنزلان اليمامة شرقي بلاد العرب التي يُطلق اليوم على أكثرها اسم نجد، وكانت الحجر أو
القرية عاصمة طسم، ونجد اليمن غير نجد الحجاز، غير أن جنوبي نجد الحجاز يتصل بشمالي نجد
اليمن، وبين النجدين وعمان برية ممتنعة كما يسميها ابن حوقل، وهي الربع الخالي الذي
اجتازه في العهد الأخير أحد أرباب الرحلات ووصفه أحسن وصف.
ومن دول العرب دولة ثمود، وأصلها من اليمن ونزلت مدائن صالح، وما تركته من العاديات
والنواويس شاهد بمدنيتها، ومنها دولة قحطان كانت شمال جزيرة العرب وأهلها من جملة من
نزح إلى اليمن بعد اضطهادهم في بابل، وأنشأوا دولة في اليمن سُميت دولة سبأ الأولى،
ودولة سبأ الثانية هي مملكة حمير، وهذه قامت على أنقاضها وكانت مقطعة الأوصال لم تجمع
شمل اليمانيين كالدولة الأولى. وللعرب من الدول دولة كندة، وكندة بطن من كهلان، كانت
نزحت من اليمامة وسكنت شمالي حضرموت؛ فجعل ملك حمير سيدهم حجر بن عمرو ملكًا على العرب،
فاتخذ عاصمته بطن عاقل،
٣ وأنشأت العرب دولة تنوخ في العراق وخلفهم اللخميون، ولما تغلب الرومان على
الشام وما إليها اعتمدوا على بني غسان، وأصلهم يمانيون نزحوا بعد سيل العرم، فجعلوهم
أقيالًا يرابطون في سيف البادية؛
٤ ليمنعوا عن المعمور اعتداء البوادي من الجنوب ويأمنوا غائلة ملوك الفرس من
الشرق، وكان هؤلاء يستخدمون ملوك الحيرة للغرض نفسه، أي لاتقاء عادية الأعراب وعادية
الرومان من غرب بلادهم.
هذا ما عُرف من نشأة الدول العربية، وربما تداخل بعضها في بعض، وقد قسم علماء التاريخ
سكان بلاد العرب إلى قحطانية وعدنانية، والقحطانية سكان بلاد اليمن، والعدنانية سكان
الحجاز، وقسموا العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة؛ كعاد وثمود وجُرْهم الأولى، وعاربة: وهم
عرب اليمن من ولد قحطان، ومستعربة: وهم أولاد إسماعيل سكان الحجاز، وقد سبق القحطانيون
العدنانيين في الحضارة؛ لقرب بلادهم من بحرين بحر القلزم والبحر الهندي، ولأن بلادهم
خصبة، وهم نقطة اتصال التجارة بين الشرق والغرب، وكان القحطانيون والعدنانيون يتكلمون
قبيل الإسلام لغة واحدة ذات فروق طفيفة.
ويقول بعض المؤرخين: إن تلك الدول التي أنشأتها العرب خارج أرضها، كدولة الرعاة في
مصر، ودولتهم في أشور، ودولة الأنباط في سلع هي دول عربية، ودولة أكسيوم «اليكسوم» التي
أنشأها اليمانيون في الشط المقابل لبلادهم هي عربية، ودولة تدمر وأصل القائمين بها عرب،
ودولة الإيتوريين التي استولت على اللبنانين الشرقي والغربي، وامتدت إلى فينيقية وجعلت
عين جر (عنجر) في البقاع عاصمتها الأولى، ثم طرابلس عاصمتها الثانية، كان أصل القائمين
بها عربًا من الجيدور وحوران؛ إن تلك الدول التي أنشأتها العرب كانت بفضل تفاهمهم
٥ بالعربية مع اليهود والحبش والكلدان والأشوريين والفينيقيين؛ إذ كان عهد
هذه اللغات قريبًا بالتشعب فلم يكونوا يحتاجون إلى لغة أخرى للتفاهم مع تلك الأمم، بل
كانت العربية تكفيهم في التخاطب، وليس بينها وبين اللغات الأخرى كبير فرق، وإن كان
فكالفرق بين اللغتين النروجية والسويدية، أو بين الصربية والبلغارية، أو بين البرتقالية
والإسبانية، أو بين العربية الفصحى وإحدى اللهجات المتعارفة اليوم.
وأهم ما حفظ بلاد العرب من اكتساح غيرها لها من الأمم في غابر الدهر، كون العرب أهل
شدة وبأس، وأباة ضيم لا ينامون على الثأر، ويصبرون على شظف العيش ويتبلغون بميسوره،
وليست الرفاهية من شأن أكثر المعمور من أرضهم؛ ولذلك خاب الفرس والرومان والفراعنة
والحبشة يوم حاولوا أن يستولوا على اليمن والحجاز وما إليهما، مقدِّرين أن جزيرة العرب
لا تساوي اكتساحها، وأن من الصعب إجراء الأحكام على أهلها؛ لبعد المسافات في فلوات لا
أول لها ولا آخر. قال جويدي:
٦ إن الرومان فتحوا جميع العالم المعروف، وحاولوا على عهد الإمبراطور أغسطس
أن يستولوا على بلاد العرب، ففتحوا مأرب عاصمة سبأ، ثم رُدوا عنها خائبين، وقال: إن
أدينة الذي كان معروفًا عند الرومان باسم أداناتوس
Adenatus ويُعد من أمبراطرتهم هو عربي الأصل وكذلك وهبة اللات، وقد
نشأ من بلاد أخرجت أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من قواد الإسلام العظام الذين
قضوا على مملكة الساسانيين، وعلى جزءٍ من مملكة بيزنطية.
أديان العرب
وكانت أديانهم متشعبة، بحسب البلاد التي يجاورونها والأرض التي ينتجعونها، وهم في
أديانهم
١١ على صنفين: الحمس
١٢ والحلة، فأما الحمس: فقريش كلها، وأما الحلة: فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها
قريشًا، وكانوا يشددون على أنفسهم في دينهم، فإذا نسكوا لم يسلئوا سمنًا، ولا يجزُّون
شعرًا ولا ظفرًا، ولا يمسون النساء ولا الطيب، ولا يأكلون لحمًا، أما الحلة فكانوا على
العكس من ذلك، ينعمون بالطيبات كلها لا يبالون ما صنعوا، ثم دخل قوم في دين اليهود
وفارقوا هذا الدين، ودخل آخرون في النصرانية، وتزندق منهم قوم فقالوا بالثنوية. وزعم
اليعقوبي أن اليمن تهوَّدت بأسرها، وتهود قوم من الأوس والخزرج، بعد خروجهم من اليمن
لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، وتهوَّد قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم
من
جذام، «وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل أهل فضل واستقامة.» وكان من
العرب من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى
لا يتحرك إلا بنوءٍ من الأنواء، ويقول: مطرنا بنوءِ كذا، ومنهم من أنكر الخالق والبعث
وقالوا: وما يهلكنا إلا الدهر، وهم الدهريون، وقال بعضهم: كانت المجوسية في تميم،
والزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة، ويقول ابن الأثير:
١٣ إن ديار تميم كانت تجاور بلاد الفرس وهم تحت أيديهم، والمجوسية في الفرس،
على أن العرب قبل الإسلام كان كثير منهم قد تنصر، كتغلب وبعض شيبان وغسان، وكان منهم
من
صار مجوسيًّا وهم قليل، وأما اليهودية فكانت باليمن، وكان من العرب صنف اعترفوا بالخالق
وأنكروا البعث، وصنف عبدوا الأصنام، وأصنامهم مختصة بالقبائل، ومنهم من يعبد الجن،
ومنهم من يعبد الملائكة وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويسعون
١٤ ويقفون المواقف كلها ويرمون الحجارة. وللعرب أصنام؛
١٥ فكان سواع لهذيل، وود لكلب، ويغوث لمذحج وقبائل من اليمن، وكان بُدومة
الجندل، والنَّسر لذي كلَاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزَّى
لقريش وجميع بني كنانة، ومناة للأوس والخزرج وغسان، وهُبَل كان في الكعبة وكان أعظم
أصنامهم، وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة، وسعد لبني مِلكان بن كنانة، وكان عدد
الأصنام في الحرم لما فتح الرسول مكة بضع مئات كسرها وأصحابه. قال أبو عثمان النهدي:
١٦ كنا في الجاهلية نعبد صنمًا يُقال له: يغوث، وكان صنمًا من رصاص لقضاعة
تمثال امرأة، وعبدت ذا الخَلَصَة، وكنا نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه
ألقيناه وعبدنا الثاني، وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا: سقط إلهكم فالتمسوا
حجرًا.
ويؤخذ من هذا أنه كان للعرب في الجاهلية المصور والمثال؛ فصوروا جدران الكعبة وملأوها
بتماثيل أربابهم، ومن جملة ما كان فيها صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيتا حتى رآهما
من أسلم من نصارى غسان، وكان على أحد عمد الكعبة تمثال مريم وفي حجرها ابنها مزوقًا،
١٧ وقال ابن الكلبي: إنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف
الشام يُقال له: الأقيصر، كانوا يحجونه ويحلقون رءوسهم عنده، فكان كلما حلق رجل منهم
رأسه ألقى مع كل شعرة قُرَّة،
١٨ وكان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين ماتوا في شهر فجزع عليهم ذوو
قرابتهم، فعملوا لهم خمسة أصنام على صورهم، فمضت قرون ثلاثة وهم يعظمون، وفي القرن
الثالث أخذوا يعبدونهم. وكان ود تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد زبر عليه حلتان
متزرًا بحلة مرتديًا بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها
لواء ووفضة.
١٩
المدنية اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب
أثرت المدنية النصرانية في الجاهلية بعض أثر — والجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن
الذي كان قبل البعثة النبوية — وكانت مملكة الحيرة
٢٠ ومملكة غسان نصرانيتين، والنصرانية شائعة في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، واليهودية
٢١ في حمير وبني كنانة وبني الحرث بن كعب بن كندة، ولم يكن لليهود الخارجين
إلى خيبر ووادي القرى ويثرب من الحجاز مدنية مهمة، بل كانوا زرَّاعًا حملوا معهم — على
الأرجح من فلسطين بعد قتل دولة الرومان لهم — أصول زراعتهم وأنواعًا جديدة من الأشجار
وأقاموا حصونًا وآطامًا؛ لاتقاء غارات البادية من الأعراب، وقالوا: إن اليهود أدخلوا
إلى جزيرة العرب هذه الآطام وكان عددها نحو سبعين جاء النهي عن هدمها. ومن الحصون التي
أقاموها حصن الأبلق للسموءَل وحصن القمومي لبني أبي الحُقَيق وحصون السلالم والوطيح
وناعم وسعد بن المعاذ.
وتعرَّب اليهود في الجزيرة وأخذوا يتكلمون العربية، وامتزجت عاداتهم بعادات العرب،
وتخلقوا بأخلاقهم، ونزلوا عن كثير من مصطلحاتهم ومواضعاتهم، وأصبحوا يفاخرون كالعرب
بالشجاعة وعلو الهمة وإكرام الضيف؛ يوقدون النار في الليل ليرشدوا السائرين، ويدعوهم
إلى الضيافة على عادة العرب، وينظمون الشعر في هذه الأغراض الكثيرة، ومن شعرائهم
السموءل بن عادياء وكعب بن الأشرف والربيع بن أبي الحُقَيق وشريح بن عمران وشعبة بن
غريض، كما كان من شعراء النصارى أمية بن أبي الصلت وقُس بن ساعدة وعدي بن زيد. عن مروان
بن الحكم
٢٢ عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي
تجارًا إلى الشام فكلما نزلنا منزلًا أخذ أمية سفرًا له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى
نزلنا قرية من قرى النصارى.
وراجت اليهودية في حمير في اليمن على أثر جلاء اليهود من فلسطين إلى الحجاز، وكان
اليهود في جزيرة العرب تجارًا، ويعانون صنع الأمتعة والصياغة والسيوف والدروع وسائر
الآلات الحديدية، ويقول ولفنسون: إن اليهود كانوا أساتذة العرب في تعلم الكتابة العربية
والفلاحة بالآلات، وقد بلغت عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم والتبابعة والأذواء
الغاية من الحضارة، ورسخت فيهم الصنائع أيما رسوخ. ويقول بعض علماء الآثار: إن اليمن
سبقت بتمدنها بابل ومصر، ومنها هاجر أجداد الفراعنة، ومنها كان أجداد البابليين
والأشوريين، وإلى مصر وبابل وأشور حمل اليمانيون الصناعات والعلوم والتجارة. وقال آخر:
إن اليمانيين أو الحميريين هم الذين مدَّنوا شواطئ آسيا وإفريقية وأوروبا، وكانوا في
القديم أميل في مدنيتهم إلى التجارة، لا إلى الغزو والغارة؛ ولذلك كان معظم الأذواء
يتجرون، فإذا كانت لرجل منهم مطامع في السيادة تغلب على البلاد.
ولقد كانت الأمية غالبة على العرب ما خلا حمير في اليمن وسكان الحيرة في العراق،
وقد
تعلموا الخط من إياد، وأصل إياد من تهامة، ونزلوا العراق فكانوا يشتون فيها ويصيفون في
الجزيرة، وكان منهم لقيط بن معبد الإيادي كاتب كسرى بالعربية وترجمانه،
٢٣ وهو صاحب القصيدة المشهورة التي حذَّر فيها قومه من غزوة كسرى لهم، يوم عرض
رجلان من إياد لعروس اسمها شيرين من أشراف العجم ومعها جواريها فعبثا بهن، وكان عدي بن
زيد من أهل الحيرة من تراجمة أبرويز ملك الفرس، وكان أول من كتب بالعربية في ديوان
كسرى، وكان أبوه شاعرًا خطيبًا وقارئًا كتاب العرب والفرس،
٢٤ وابنه زيد بن عدي كان يلي الكتابة عند كسرى إلى ملوك العرب في خاص أمور الملك،
٢٥ ومن إياد نقل أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة وقيل: حرب بن أمية، الكتابة إلى
قريش بمكة، وتعلم بشر بن عبد الملك الكندي
٢٦ الخط العربي وهو الجزم في الأنبار من مرامر وأسلم الطائيين، وخرج إلى مكة
فعلم الخط سفيان بن حرب وتعلمه معاوية من عمه سفيان، وكثر من يكتب بمكة من قريش، وقيل:
إن أول من كتب في جزيرة العرب بالعربية مرارة بن مرة من أهل الأنبار، وقالوا: إن ورقة
بن نوفل كان يكتب وأجاد العربية وكتب بحروفها،
٢٧ وكان سعد بن الربيع يكتب في الجاهلية،
٢٨ قال الأصمعي: زعموا أن قريشًا سئلوا من أين لكم الكتابة، فقالوا: من
الحيرة، وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتابة، فقالوا: من الأنبار.
ويُستدل من ذلك أن إيادًا كانت على جانب من الحضارة، وأن العرب استفادت منهم وهم
استفادوا من اختلاطهم بالفرس والروم، ودام ذلك لإياد حتى كانت وقعة سابور، وقد أوقع
بإياد وعمهم القتل، وما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم وتنصروا ودانوا لغسان، ولما
فتح المسلمون الأنبار رأوا أهلها يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسئلوا من هم، فقالوا:
قوم من العرب نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، وقيل: إن نفرًا من أهل العرب من إياد
القديمة هم وضعوا حروف ألف ب ت ث، وعنه أخذت العرب. وذكروا أن أهل
٢٩ القرى ألطف نظرًا من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب.
ويرى صاحب فجر الإسلام
٣٠ أن عرب الحيرة تسرب إليهم شيء من علوم اليونان وآدابهم، ذلك أن الحكومة
الفارسية في عهد هرمز الأول أنشأت مستعمرات كونتها من أسرى الحرب الرومانيين، وكان من
بين هؤلاء الأسرى من ثُقف بالثقافة اليونانية، ومنهم من كان يفوق الفرس في الفن
والهندسة والطب فاستخدموه في مهام شئونهم، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة، ويظن
بعضهم أنهم هم منبع النصرانية فيها، وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية
داعون إليها، ولبى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس، وقد أنشأت ديرًا سُمي بدير هند
كان إلى عهد الطبري، وهند هذه هي التي خطبها في الإسلام المغيرة بن شعبة وهي مترهبة في
ديرها فأبت، وسألها عن حال دولة أهلها فقالت: «أمسينا مساءً وليس في الأرض عربي إلا وهو
يرغب إلينا ويرهبنا، ثم أصبحنا وليس في الأرض عربي إلا ونحن نرغب إليه ونرهبه.»
٣١ قال: وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي
والحياة العقلية للعرب عامةً؛ فأحاديث جذيمة الأبرش وأساطير الزباء (وهي من الحيرة قبل
إنشاء الإمارة) والخورنق والسدير والتغني بهما وبعِظمهما، والأقاصيص حول سنمار باني
الخورنق، والأمثال التي ضُربت فيه، ويوما النعمان يوم نعيمه ويوم بؤسه، كل هذه وأمثالها
شغلت جزءًا كبيرًا من الأدب العربي، وكلها تتعلق بعرب الحيرة وحياتهم، أضف إلى ذلك ما
ذكره ابن رسته في الأعلاق النفيسة من أن أهل الحيرة علموا قريشًا الزندقة في الجاهلية
والكتابة في صدر الإسلام، وكان أمراء الحيرة مقصدًا لشعراء عرب الجزيرة ينفحونهم بالمال
الكثير، ليبشروا بهم بين البدو في أنحاء الجزيرة، وديوان النابغة الذبياني مملوء
بالقصائد التي قيلت في مدح النعمان والاعتذار إليه ونحو ذلك. ا.ﻫ.
ويقول جويدي:
٣٢ إن شمالي بلاد العرب تأثر بمدنية البلاد المجاورة، أي بالمدنية الفارسية
والبيزنطية بمعنى أنهم أخذوا من الساسانيين في الشرق والبيزنطيين في الغرب، ثم تأثرت
بعد ذلك اليمن، فاستفادت العرب إذًا من المدنيات اليونانية والرومانية والفارسية،
وكانوا مدينين لهؤلاء بكثير من ترقيهم الذي تقدم حوادث الإسلام العظيمة، وكانوا قبل
الإسلام بقرنين أو ثلاثة أنشأوا ممالك وتمرنوا على فنون الحرب، وارتقوا في حياتهم
المدنية، ونشأ شعرهم وأدبهم، وقد وردت في أشعار العرب العرباء ألفاظ آرامية مثل «دمية»،
ولما كان العرب يحتقرون العمل في الزراعة اعتمدوا على الآراميين، فدخلت لغتهم ألفاظ
آرامية كثيرة، منها الأكار والحرث والنير والناطور والفدان، وكثير من أسماء النبات
والرياحين جاءتهم قبل الإسلام من لغات غير عربية، ومنها «الزيتون»، وأسماء المصابيح من
مثل «قنديل»، «سراج»، «نبراس»، ومثل «أتون»، «تنور»، «فرن»، وكذلك «القميص»، «السربال»،
«البرنس»، «المرجان»، «الجمان»، «الزبرجد»، «الدرة» انتهى قوله. وكما دخلت اللغة ألفاظ
آرامية دخلت ألفاظ رومية وحبشية
٣٣ فاستعاروا من اليونانية ألفاظ «أسطول» و«أنجر» و«نوتي»، ومن السريانية أو
الآرامية «سفينة»، «قارب»، «قرقور»، «دقل»، «ربان»، «ملاح»، «سكان»، «قلع»، «مجذاف»،
«صاري»، ومن الحبشية «بحر»، «شراع»، «مرسى».
ونحن إذا نظرنا مليًّا في لغة العرب نفسها قبل الإسلام نجدها تحوي كثيرًا من الألفاظ
التي تدل على أن هناك أسماء لم توضع لو لم يكن لها مسميات عندهم معروفة، مثل قولهم برد
«مرجل» فيه صور الرجال، و«مطير» إذا كانت فيه صور الطير، و«مخيل» إذا كانت فيه صور
الخيل، و«مهلل» إذا كانت فيه نقوش وصور كالأهلة، و«المُعَيَّن» إذا كانت ترى في وشيه
ترابيع صغار تشبه عيون الوحش، وهل للغة أن يكون فيها اسم بلا مسمى؟ وما كثرت الأسماء
إلا بكثرة القبائل وهي تختلف بحضارتها ورفاهيتها، والحضارة كانت في معظم العصور، ولا
سيما في جزيرة العرب أشبه بواحات وسط البوادي، ليس لها هذا التسلسل الذي عُرفت به في
الأمم المتحضرة في الغرب، لاختلاف الأهوية وطبائع تلك الأصقاع.
ومع غلبة الأمية على العرب فإن علومهم كانت ابتدائية وأكثرها تجارب وأشعار تُحمل
في
الصدور، فمن علومهم علم النجوم وكان لهم يد فيه، وعلم الأنواء والرياح والكهانة
والعرافة أو معرفة المستقبل والغيب، والأساطير والطب والنسب والتاريخ، ومن هذه العلوم
ما كانوا يتوارثونه
٣٤ آخر عن أول على قول ابن قتيبة كالنجوم ومناظرها وأنوائها والاهتداء بها
والبروق والسحاب والرياح والعلم بالخيل والإبل والنبات، هذا إلى ما خُصوا به من القيافة
والطرق والزجر، وإنما يكون ذلك في الواحد منهم والاثنين في القبيلة وسائر من فيها لا
يعرف من ذلك إلا النبذ اليسيرة، ودخل الإسلام وليس في قريش سوى سبعة عشر رجلًا يكتبون،
وكان منهم جلة الصحابة، وبضع نساء، وليس في جميع اليمن من يقرأ ويكتب، وأهم علومهم
الشعر كانوا يقيمونه مقام الحكمة وكثير العلم،
٣٥ فإذا كان في القبيلة الشاعر الماهر، المصيب المعاني، المخير الكلام، أحضروه
في أسواقهم التي كانت تقوم لهم في السنة، ومواسمهم عند حج البيت، حتى تقف وتجتمع
القبائل والعشائر فتسمع شعره، ويجعلون ذلك فخرًا من فخرهم، وشرفًا من شرفهم، ولم يكن
لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر، فيه كانوا يختصمون، وبه يتمثلون،
وبه يتفاضلون، وبه يتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون. قال ابن سلام: إن أشعر
شعراء القرى العربية — وهي خمس: المدينة ومكة والطائف واليمامة والبحرين — شعراء قرية
المدينة، وعُرفت للعرب ذاكرة قوية في حفظ الشعر بحيث يروي العربي عشرات القصائد ومئات
الأبيات على أيسر وجه، وذلك لاعتمادهم أبدًا على حافظتهم، وقلما حفظوا شيئًا من خطبهم؛
ولذلك كان المنقول عن الجاهلية من الشعر العربي أوفر كثيرًا من المنقول من
خطبهم.
قال الجاحظ: لم يكن العرب تجارًا ولا صناعًا ولا أطباء ولا حسابًا، ولا أصحاب فلاحة
فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع لخوفهم من صغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا
أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين
ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن
المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث البلادة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا
ذلًّا قط فيميت قلوبهم، أو تصغر عنده نفوسهم، وكانوا سكان فيافٍ وتربية عراء لا يعرفون
الغمق ولا اللثق،
٣٦ ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن ولا التخم: أذهان حداد، ونفوس مفكرة، فحين
جلوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة وتصاريف الكلام،
وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار وتعرف
الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس،
وإحكام شأن المناقب والمثالب بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل
صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر، ولأيامهم أذكر. ا.ﻫ.
الزواج عند العرب وبعض عاداتهم
جاء الإسلام وبعض العرب يئدون بناتهم، أي يقبرونها ويهيلون عليها التراب مخافة العار
والحاجة، وفي التنزيل:
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ
إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ،
وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا.
٣٧
وكانوا يجمعون بين الأختين ويخلف الرجل على امرأة أبيه إذا مات، ويطلقون النساء حتى
إذا قرب انقضاء عدتهن راجعوهن لا عن حاجة ولا لمحبة، ولكن تطويلًا للعدة ولتوسيع مدة
الانتظار ضرارًا، وكان الرجل يطلق امرأته أو يتزوج أو يعتق ويقول: كنت لاعبًا، ويمنعون
النساء أن يتزوجن من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن حمية جاهلية، وإذا مات الرجل
منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء أن يتزوجها بعضهم، وإن شاء زوجوها أو عضلوها فهم
أحق بها من أهلها، وإذا مات الرجل قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث
نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض إخوته بمهر جديد، وهذا نكاح المقت، فأنزل
تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن
تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ،
٣٨ وكان الرجل يقول لزوجته إذا طهرت من طمثها:
٣٩ أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه لتحمل ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدًا حتى
يتبين حملها، يفعل ذلك رغبةً في نجابة الأولاد، وهذا نكاح الاستبضاع، وكان يجتمع الرهط
ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبونها عن رضا منها، فإذا حملت ووضعت أرسلت
إليهم وخاطبتهم فيما كان من أمرهم معها، وألحقت الولد بمن أحبت لا يمتنع من قبوله.
وينصب البغايا على أبوابهن رايات ليُعرف محلهن، ومنه نكاح الخدن وهو المشار إليه بقوله
تعالى:
مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ
أَخْدَانٍ، وكانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به وما ظهر فهو لوم. ومنه نكاح
المتعة وهو التزوج إلى أجل، ومنه نكاح البدل وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن
امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، ومنه نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو ابنة
أخيه من رجل آخر على أن يزوجه هذا الرجل ابنته أو أخته ليس بينهما صداق.
ومنهم من كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به سبحانه، وإلى هؤلاء
القوم يشير تعالى:
وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ
وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ
الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ
فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
٤٠ وقد كانت للعرب أوابد أي؛ دواهٍ تجافى الإسلام عنها وأبطلها، حرصًا على
حقوق المرأة وسلامة البيوت من العهر، على أن قريشًا كانت أنكحتها قبل الإسلام مستقيمة
إلا ما ندر، وقريش أصح العرب أخلاقًا وأنسابًا وعفةً وأنفةً، تجردت نفوس أكثرهم عن
لوثات القبائل المجاورة، وكانوا لا يحجبون نساءهم لما يعرفون من أنفسهم من العفة
والحشمة، وكان شعراؤهم يعشقون ويعفون، وربما هلكوا بعشقهم وما باحوا به، حتى لا يفتضحوا
ويفضحوا غيرهم، وأكثر حبهم عذري لا ريبة فيه.
وكانوا يؤخرون شهر المحرم إلى صفر لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، ويؤخرون الحج
عن وقته تحريًا منهم للسنة الشمسية وهو ما يسمونه بالنسيء، وفي التنزيل:
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا
عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ،
٤١ وقد كانت قريش وأكثر العرب يطوفون بالبيت عراة، ويحرمون على أنفسهم اللحم والودك،
٤٢ فنزل قوله تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ،
٤٣ ونهت السنة عن أربعة وهي: لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر. والعدوى
معروفة، والطيرة: التطير أو التشاؤم، والهامة: ما كانت العرب تعتقده من أن القتيل إذا
طل دمه فلم يدرك بثأره صاحت هامته بالقبر اسقوني، وأما الصفر: فهو كالحبة يكون في الجوف
يصيب الماشية والناس، وهو أعدى عندهم من الجرب، وقيل: شهر صفر وكان العرب يعدونه
شؤمًا.
«كان العرب يأكلون
٤٤ الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، ويلبسون ما غزلوا من أوبار الإبل
وأشعار الغنم»، «وكان الناس طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار
فقدمت ضافطة
٤٥ من الشام من الدرمك ابتاع منها فخص بها نفسه، فأما العيال فإنما طعامهم
التمر والشعير.» بل كانوا قبل الإسلام يأكلون ما دب ودرج
٤٦ إلا أم حُبَيْن وهي أشبه بالحرباء، ولم يكن إلا لبعض قبائلهم القريبة من
الحيرة والشام «شيء طريف، ولقمة كريمة، ومضغة شهية»، وقلما يعرفون «رفاغة العيش والناعم
من الطعام»، والإبل عندهم أفضل الذبائح، ولأهل البدو اللباء والسلاء والجراد والكمأة
والخبزة في الرائب والتمر بالزُّبد والخلاصة والحيس والوطيئة.
٤٧
والفالوزق أو الفالوذج أشرف ما عرفوا من طعام، ولم يطعم الناسَ أحدٌ منهم ذلك الطعام
إلا عبد الله بن جُدعان من أجواد قريش، ذهب مرة إلى كسرى فأطعمه إياه فاستطابه، وسأل
كيف يُصنع فقيل له: إنه لباب البريلبك بالعسل، فابتاع غلامًا يصنعه له، ورجع إلى مكة
وصنع الفالوذج، ودعا إليه أصحابه، وكان له منادٍ ينادي «هلم إلى الفالوذ»، وكانت له
جفنة يطعم فيها في الجاهلية، ويأكل منها القائم والراكب لعظمها، وربما حضر النبي طعامه
قبل النبوة، وكان يُسمى بحاسي الذهب؛ لأنه كان يشرب في إناء من ذهب، وقالوا في المثل:
«أقرى من حاسى الذهب.» وزعموا أن ابن جدعان هذا كان في بدء أمره فقيرًا مملقًا وكان
شريرًا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، فخرج ذات يوم في شعاب
مكة حائرًا بائرًا فرأى في غار قبور الرجال من ملوك جرهم، ووجد عند رءوسهم لوحًا من ذهب
فيه تاريخ وفاتهم وعدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيء كثير،
فأخذ منه حاجته وانصرف إلى قومه فأعطاهم وحباهم وسادهم، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك
الغار فأخذ حاجته، روى ذلك ابن كثير.
٤٨
وإذا عرفنا أن من شعراء الجاهلية كالنابغة الذبياني وحسان بن ثابت من كانوا مرفهين
في
معاشهم بل فوق المرفهين، صح لنا أن نستأنس بحسن حالة العرب قبل الإسلام بعض الشيء؛ فقد
ذكر صاحب الآغاني أن النابغة كان يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان
وأبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك، وعلى الجملة فقد كانت مضر
٤٩ من قريش وكنانة وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة أهل شظف ومواطن غير ذات
زرع ولا ضرع، بعيدين من أرياف الشام والعراق، ومعادن الأُدم والحبوب، أما العرب الذين
كانوا بالتلول وفي معادن الخصب للمراعي والعيش، فهم حِمير وكهلان من مثل لخم وجذام
وغسان وطي وقضاعة وإياد. قال ابن خلدون: ولم تكن أمة من الأمم أسغب عيشًا من مضر لما
كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع، وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها
واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن، فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها، ولقد كانوا
كثيرًا ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز، وهو وبر الإبل، يمهونه
بالحجارة في الدم ويطبخونه، وقريبًا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم.
وكانت للعرب قبيل الإسلام مجالس أدب وطرب فيها شيء من حياة المدن ورفاهية البشر؛
ولا
سيما في مدنهم الكبرى كمكة ويثرب، وكان الحكم بن العاص أبو مروان بن الحكم، وقيس الفهري
أبو الضحاك بن قيس، ومعمر بن عثمان جد عمر بن عبيد الله بن معمر يضربون بالعود، وكان
النضر بن الحرث بن كلدة يضرب بالعود، وتعلم العلوم القديمة واطلع على علوم الفلسفة
والطب وهو ابن خالة النبي، وكان والده الحرث بن كلدة يضرب بالعود، تعلم ذلك بفارس واليمن،
٥٠ قال المسعودي: إنه تعلم الغناء من الحيرة وكذلك ضرب العود، فقدم مكة وعلم
أهلها فاتخذوا القينات، وتعلم الطب بفارس في الجاهلية وقبل الإسلام. وكان النبي يأمر
من
كانت به علة أن يأتيه فيسأله عن علته، وكيف يضرب هؤلاء بالعود إن لم تكن لقومهم رفاهية
أو شبهها، والموسيقى لا تكون إلا في أمة استكملت الحاجيات فتطلعت إلى الكماليات، وكان
عبد الله بن سعيد بن العاص يكتب في الجاهلية وأمره الرسول أن يعلم الكتَّاب بالمدينة،
وروى ابن أبي الدنيا أنه كان يُعَلِّم الحكمة بالمدينة، واشتهرت العرب بسيوفها المشرفية
ورماحها السمهرية، وسهامها التي تصيب فتصمي، وعرفوا كثيرًا من آلة القتال كالدبابات والضبور
٥١ ونحوها، وعرفوا البرود اليمانية المشهورة وتطريق المعادن وصنع الحديد وما
إلى ذلك من الصنائع، وكانت اليمن في هذا المعنى أعلى كعبًا من الحجاز، وأسباب المدنية
في الأولى موفورة أكثر من الثانية، فكانت الطبقة الممتازة من الحجازيين تجارًا ومثلها
من اليمانيين تجارًا وصناعًا.
حكومات العرب في الجاهلية
كان من دأب العرب «أن يقتل
٥٢ بعضهم بعضًا ويغير بعضهم على بعض»، ويرجعون مع هذا في حكومتهم إلى رؤساء
قبائلهم وعشائرهم في كثير من تراتيبهم، وكلهم يحكِّمون في أمورهم ومنافراتهم ومواشيهم
ومياههم أهل الشرف والصدق والأمانة والرياسة والسن والمجد والتجربة منهم، وكان عمرو بن
لحي ذا سلطان على عرب الجاهلية وكان قوله وفعله
٥٣ فيهم كالشرع المتبع؛ لشرفه فيهم ومحلته عندهم وكرمه عليهم، وإذ كانت قريش
ترى أن من مصلحة بلادها أن ينصفوا الناس؛ لأنهم في حاجة إلى جلبهم لزيارة البيت وترويج
التجارة، كانوا يعنون برفع الظلم عن الغريب عنهم و«حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت
الرياسات وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفَّهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفًا
على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم.» واجتمعت بطون قريش في بيت عبد الله بن جدعان
على رد المظالم بمكة، وكان الرسول معهم وهو ابن خمس وعشرين سنة فعقدوا حلف الفضول، فقال
الرسول ذاكرًا للحال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دُعيت
إليه في الإسلام لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته، وما يزيده الإسلام إلا
شدة.»
وكان الداعي إلى عقد حلف الفضول أن هاشمًا
٥٤ وزهرة وتيمًا دخلوا على عبد الله بن جدعان فتحالفوا بينهم على دفع الظلم
وأخذ الحق من الظالم، سُمي بذلك؛ لأنهم تحالفوا أن لا يتركوا عند أحد فضلًا يظلمه أحد
إلا أخذوه له منه. وقيل: سُمي به تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم على التناصف
والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن، وسُمي حلف الفضول؛ لأنه قام به رجال من جرهم
كلهم يُسمى الفضل: الفضل بن الحرث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، فقيل: حلف الفضول
جمعًا لأسماء هؤلاء، كما يقال: سعد وسعود، وقيل: إنه سُمي بذلك؛
٥٥ لأنه لما تداعت له قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم وسموه
حلف الفضول عيبًا له وقالوا: هذا من فضول القوم على اختلاف في أصل الاسم. وهذا الحلف
كان عقده المطيبون وهم خمس قبائل، وقيل ست قبائل، وهم: عبد الدار وكعب وجمح وسهم ومخزوم
وعدي سموا الأحلاف؛ لأنهم لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من
الحجابة والرفادة واللواء والسقاية وأبت بنو عبد الدار، عقد كل قوم على أمرهم حلفًا
مؤكدًا على أن لا يتخاذلوا فأخرجت عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا فوضعتها لأحلافهم وهم:
أسد وزهرة وتيم في المسجد عند الكعبة، فغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة
بأيديهم توكيدًا فسموا المطيبين، وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤهم حلفًا آخر مؤكدًا على
أن لا يتخاذلوا فسموا الأحلاف.
ولم تكن العرب تُملك عليها في الجاهلية أحدًا، فإن كان حرب اقترعوا بين أهل الرياسة،
فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا، فلما كان يوم الفِجار
٥٦ اقترعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس وهو صغير فأجلسوه على المجن ويسمى
ذلك حلوان النفر، ولم يكونوا يسودون عليهم في الجاهلية
٥٧ أحدًا لشجاعة ولا سخاء، وإنما يسودون من إذا شُتم حلم، وإذا سُئل حاجة
قضاها أو قام معهم فيها، ولسان حالهم:
وقد يبغض الحيات أولاد آدم
وأبغض ما فيها إليهم رءوسها
وما ابتليت يومًا بشرٍّ قبيلة
أضر عليها من سفيه يسوسها
وانتهى الشرف في قريش أيام الجاهلية إلى عشرة رهط من عشرة أبطن وهم: هاشم وأمية ونوفل
وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، وتسلسل هذا الشرف فيهم في الإسلام، فكانت
هاشم تسقي الحجيج، وبقي لها ذلك في الإسلام، ومثلها أمية كانت عندها الراية واسمها
العقاب، وكانت لنوفل الرفادة وهي أن تخرج مالًا ترفد به منقطع الحاج، وكان لبني عبد الدار
اللواء والسدانة والحجابة والندوة، ولأسد المشورة، ولتيم الأشناق وهي الديات
والمغرم، ولبني مخزوم القبة والأعنة، ولعدي السفارة، ولجمح الأيسار وهي الأزلام، ولسهم
الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم.
قال أبو عثمان الجاحظ:
٥٨ وأنشدت سهل بن هارون قول سلمة بن خُرْشب وشعره الذي أرسل به إلى سبيع
التغلبي في شأن الرُّهن التي وضعت بين يديه في قتال عبس وذبيان، فقال سهل بن هارون:
والله لكأنه سمع رسالة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، إلى أبي موسى الأشعري في
سياسة القضاء وتدبير الحكم. والقصيدة قوله:
أبلغ سبيعًا وأنت سيدنا
قِدمًا وأوفى رجالنا ذمما
أن بغيضًا وأن إخوتها
ذبيان قد ضرَّموا الذي اضطرما
نُبئت أن حكموك بينهم
فلا يقولن بئس ما حكما
وتنزل الأمر في منازله
حكمًا
٦٠ وعلمًا وتحضر الفُهَما
ولا تبالي من المحق ولا الـ
ـمبطل لا إلة ولا ذمما
فاحكم وأنت الحكيم بينهم
لن تعدموا الحكم ثابتًا صمَّا
٦١
واصدع أديم السواء بينهم
على رضا من رضي ومن رُغما
إن كان مالًا ففض عدته
مالًا بمال وإن دمًا فدما
حتى ترى ظاهر الحكومة مثـ
ـل الصبح جلي نهاره ظلما
هذا وإن لم تطق حكومتهم
فانبذ إليهم أمورهم سَلَما
وقد خُصت قريش من بين العرب بمزايا جليلة وصفها الجاحظ بقوله: قد علم الناس كيف كرم
قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها، وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها، وكيف
إيجازها وتحبيرها،
٦٢ وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كلَّ الحديد، وكيف
صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأْواء، وكيف وفاؤها إذا استُحسن الغدر، وكيف جودها إذا
حب المال، وكيف ذكرها لأحاديث نجد، وقلة صدودها عن جهة القصد، وكيف إقرارها بالحق
وصبرها عليه، وكيف وصفها له ودعاؤها إليه، وكيف سماحة أخلاقها، وصونها لأعراقها، وكيف
وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم، وكيف أشبه علانيتهم سرهم، وقولهم فعلهم، وهل
سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غديره، وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه، وهل ظنه إلا
كيقين غيره.