غنى بعض الصحابة في الجاهلية والإسلام
لم يكن العرب كلهم بادية لا يذوقون طعم الحياة، ولا يحسنون شيئًا من مقوِّماتها،
بل
كان بعضهم على شيء من الثروة، والثروة أم الرفاهية والنعيم؛ كان عمرو بن لحي ذا مال
جزيل جدًّا، يقال: إنه فقأ
١ أعين عشرين بعيرًا إشارةً إلى أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب
أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها؛ لأنه يدفع بذلك العين عنها، وذكر السهيلي أن
عمرو بن لحي ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بَدَنَة، وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة
يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق.
وكان المخضرمون من العرب، أي الذين مضى نصف أعمارهم في الجاهلية ونصفها في الإسلام،
ولا سيما غطاريفهم وأهل البيوتات منهم، على جانب من السعة في الرزق، ينعمون به ويفضلون
من حرِّ مالهم على الناس بهذا السخاء الذي لم يعهد لأمة أن دانتهم فيه، ومنهم من صرف
ماله في الإسلام طائعًا مختارًا كأبي بكر الصديق،
٢ ولما بُعث النبي كان عنده أربعون ألف درهم، فكان ينفق منها ويقوي المسلمين،
وقد أنفق في تجهيز جيش العسرة سنة تسع من الهجرة مالًا كثيرًا، قالوا: إنه عشرة آلاف
دينار، وفي هذه الغزوة أنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة، وكان يُعد في الجاهلية من
الأغنياء، فجهز الجيش بتسعمائة وخمسين بعيرًا بأقتابها، وأتمها ألفًا بخمسين فرسًا،
وأعطى ألف دينار، وفي أيام خلافته كثرت الأموال بالمدينة، وكثر مال عثمان حتى كان له
ألف مملوك، ولم يخلط من أموال المسلمين وأخماس الغنائم في ماله شيئًا قط، واستغنى عمر
بن الخطاب في الجاهلية في مدينة غزة هاشم، وكان متجرًا لأهل الحجاز. وكانت خديجة زوجة
الرسول الأولى، ذات مال كثير وتجارة، تبعث إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت
تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة، وكان أبو سفيان بن حرب شيخ تجار مكة معدودًا في
الموسرين قبل الإسلام؛ يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم،
وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وله صلات مع بلاد الروم والعجم وله تجارات وأموال، وكانت له
في البلقاء من أرض الشام قرية اسمها نِقنس، وكان يوم بدر مقبلًا من الشام
٣ في عير لقريش عظيمة، فيها أموالهم وتجارة من تجاراتهم، وأبلى ذلك اليوم
بلاءً حسنًا ليحفظ أموال المكيين، وكان لأمية من هذه الأموال أربعة أخماس، وقُدِّرت
الأموال كلها بخمسين ألف دينار.
وكان عثمان بن مظعون من أغنى قريش، دخلت امرأته على نساء النبي فرأينها سيئة الهيئة
فقلن لها: ما لك؟ فما في قريش أغنى من بعلك، قالت: ما لنا منه شيء أما ليله فقائم، وأما
نهاره فصائم، فدخل النبي
٤ فذكرن ذلك فلقيه، فقال: يا عثمان بن مظعون أما لك بي أسوة؟ فقال: يا بأبي
وأمي، وما ذاك؟ قال: تصوم النهار وتقوم الليل، قال: إني لأفعل، قال: لا تفعل، إن لعينيك
عليك حقًّا، وإن لجسدك حقًّا، وإن لأهلك حقًّا، فصلِّ ونم وصم وأفطر، قال: فأتتهن بعد
ذلك عطرة كأنها عروس، فقلن لها: مه، قالت: أصابنا ما أصاب الناس.
«واتسعت الدنيا على الصحابة
٥ حتى كان الفَرس يُشترى بمائة ألف، وحتى كان البستان يُباع بالمدينة
بأربعمائة ألف، وكانت المدينة عامرة كثيرة الخيرات والأموال والناس، يُجبى إليها خراج
الممالك، وهي دار الإمارة، وقبة الملك، فبطر الناس بكثرة الأموال والخيل والنعم.» وكان
حكيم بن حزام باع دارًا له من معاوية بستين ألف دينار، فقيل له: غبنك معاوية، فقال:
والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزق خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، انظروا أينا
المغبون. وقيل: إن الزبير قال له: بعت مكرمة قريش، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى،
وتصدَّق بها، وحكيم بن حزام ابن أخي خديجة بنت خويلد وابن عم الزبير بن العوام من أشراف
قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وقد حج حكيم ومعه مائة بدنة
٦ قد جللها بالحبرة ووقف بمائة وصيف بعرفة في أعناقهم الفضة منقوش فيها
«عتقاء الله عن حكيم بن حزام»، وأهدى ألف شاة، وكان جوَّادًا تاجرًا يخرج إلى اليمن،
ويأتي الشام في الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، وربح أرباحًا كثيرة.
ولما أراد عمر أن يفرض العطاء شاور المهاجرين والأنصار فأشاروا عليه به، ثم شاور
مسلمة الفتح فأشاروا عليه بفرض العطاء إلا حكيمًا فإنه قال له: يا أمير المؤمنين إن
قريشًا أهل تجارة ومتى فرضت لهم عطاء تركوا تجارتهم فيأتى بعدك من يحبس عنهم العطاء
فتكون التجارة قد خرجت من أيديهم. وكان رأي حكيم، رأيَ حكيم؛ لأن معنى إطلاق العطاء
تعويد الفئة الراقية من العرب الكسل، بعد أن كانوا أهل جد وعمل، فأصاب جزيرة العرب ولا
سيما الحجاز ما أصاب إسبانيا في العصر الذي فُتحت فيه أميركا الجنوبية، أيام كانت تُرسل
من البلاد الجديدة إلى إسبانيا ألوف من سبائك الذهب والمعادن الغريبة، حتى كثرت فيها
الأموال، وفشت للناس ثروة ورفاهية، فمالوا إلى الدعة والترف، وآضت البلاد بعد مدة غير
طويلة أفقر الممالك الغربية، وهكذا كان من أمر هذا العطاء وسع على المهاجرين والأنصار
ومسلمة الفتح بعض الشيء أعوامًا قليلة، فكثر بهم سواد من يعيش من خزانة الأمة، بكثرة
ما
انهال على الحجاز من أموال الأنفال والغنائم والخراج والعشور والصدقات والجزى، ولما تمت
الفتوح كانت التجارة خرجت من أيدي قريش، وعادت الحجاز إلى فاقتها الطبيعية.
كان سعد بن أبي وقاص أكثر أهل المدينة مالًا، وأرسل إلى مروان بن الحكم بزكاة عين
ماله خمسة آلاف درهم، وترك يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم، وكانت عبيد الله بن
العباس ذا مال وهو جواد سخي، وكان العباس بن عبد المطلب أكثر بني هاشم مالًا في
الجاهلية. وكان أكثر الأسارى
٧ فداء يوم بدر العباسُ؛ وذلك لأنه كان رجلًا موسرًا فافتدى نفسه بمائة أوقية
من الذهب، وكان يعلى بن منية أكثر الناس غنًى، وكان عبد الله بن أبي ربيعة والد عمر بن
أبي ربيعة الشاعر غنيًّا، استقرض منه الرسول أربعين ألفًا فجاءه مال فدفعه إليه، وقال:
«بارك الله في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الأداء والحمد.» وكانت قريش
٨ تلقب عبد الله هذا «العدل»؛ لأن قريشًا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية
بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها هو من ماله سنة، فأرادوا بذلك أنه وحده عدل لهم جميعًا
في ذلك، وكان تاجرًا موسرًا ومتجره إلى اليمن. وأقرض حويطب بن عبد العزى النبي أربعين
ألف درهم، وباع دارًا من معاوية بخمسة وأربعين ألف دينار.
وكان عبد الرحمن بن عوف، أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام، تاجرًا كثير
الأموال، وكان محظوظًا
٩ في التجارة، قيل: إنه دخل على أم سلمة فقال: يا أمة خفت أن يهلكني كثرة
مالي، قالت: يا بني أنفق. باع مرة أرضًا له بأربعين ألف دينار فتصدَّق بها كلها، وتصدق
مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام، وأعتق ثلاثين ألف رقيق، وأوصى لأمهات
المؤمنين بحديقة بيعت بأربعمائة ألف، وأوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، وأوصى لمن
بقي ممن شهد بدرًا لكل رجل بأربعمائة دينار، وكانوا مائة فأخذوها، قالوا: وكان فيما ترك
ذهب قد قُطع بالفئوس حتى مجلت
١٠ أيدي الرجال منه، وكان على مربطه ألف فرس وله ألف بعير، وعشرة آلاف من
الغنم، وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفًا، وتصدَّق على عهد الرسول
بشطر من ماله أربعة آلاف ثم تصدق بأربعين ألفًا، ثم تصدق بأربعين ألف ألف درهم، ثم حمل
على خمسمائة راحلة في سبيل الله، وباع ضيعة له بخمسة عشر ألف درهم فقسمها في الأطباق،
١١ قال سعد بن الربيع الأنصاري وهو أكثر الأنصار مالًا، لعبد الرحمن بن عوف
لما آخى بينهما الرسول: أنا أكثر أهل المدينة مالًا فانظر شطر مالي فخذه، وتحتي امرأتان
فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك
ومالك، حتى إذا عمل عبد الرحمن في التجارة أتى عليه زمن فباع أرضًا من عثمان بأربعين
ألف دينار، فقسم ذلك في فقراء بني زهرة.
وكان طلحة بن عبيد الله أحد العشرة من الأغنياء الأجواد، وقيل له: طلحة الفياض وطلحة
الجود وطلحة الخير وطلحة الطلحات، ويُقال: إنه فرَّق في يوم سبعمائة ألف، باع أرضًا له
من عثمان بن عفان بسبعمائة ألف فحملها إليه فبات ورسله تختلف بها في سكك المدينة حتى
أسحر وما عنده منها درهم، ويُروى أن طلحة وصل أعرابيًّا من أقاربه بثمانمائة ألف درهم،
ويقال:
١٢ إنه خلف من المال ألفي ألف درهم ومائتي ألف دينار، وقُوِّمت أصول طلحة
وعقاره بثلاثين ألف ألف درهم وكانت غلته ألفًا وافيًا،
١٣ وفي رواية أخرى
١٤ أن قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال شيء عظيم؛ ترك من الناض ثلاثين ألف
ألف درهم، وترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف دينار والباقي عروض،
١٥ وكان يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالشراة عشرة
آلاف دينار أو أكثر، وكان لا يدع أحدًا من بني تيم عائلًا إلا كفاه مؤونته ومؤونة
عياله، وزوَّج أياماهم وأخدم عائلهم، وقضى دين غارمهم، ويرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته
كل سنة بعشرة آلاف، وأعان يعلى بن منية الزبير بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلًا من قريش،
وحمل عائشة على الجمل الذي شهدت القتال عليه، وكان جوادًا معروفًا بالكرم.
وكان خَباب بن الأرت من الأغنياء، قال: لقد رأيتني مع رسول الله ما أملك دينارًا،
وإن
في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف وافٍ، ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في
حياتنا الدنيا، وذكروا أن زيد بن ثابت
١٦ خلف من الفضة والذهب ما كان يُكسر بالفئوس، غير ما خلف من الأموال والضياع
بمائة ألف دينار، وخلف يعلى بن منية خمسين ألف دينار وعقارًا وغير ذلك ما قيمته
ثلاثمائة ألف درهم.
وأعظم من ثروة طلحة وحكيم بن حزام ثروة أحد حواري الرسول وابن عمته الزبير بن العوام
وأحد العشرة المبشرة، كان كثير المتاجر والأموال، قيل: إنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه
الخراج، فربما تصدق بذلك في مجلسه،
١٧ وخلف ألف فرس وألف أمة،
١٨ ولم يدع يوم قُتل دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين فيها الغابة قرب المدينة،
وإحدى عشرة دارًا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارًا بالكوفة ودارًا بمصر، وإنما كان دينه
الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال ليستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكن هو سلف،
إني أخشى عليه الضيعة، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجًا ولا شيئًا إلا أن يكون
في
غزو مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر وعثمان، وكان دينه ألفي ألف ومائتي ألف، فلقي حكيم
بن حزام عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن أخي، كم على أخي من الدين، قال: فكتمه، وقال:
مائة ألف، فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تتسع لهذه، فقال له عبد الله: أفرأيتك أن
كانت ألفي ألف ومائتي ألف قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا
بي.
وكان الزبير اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بن الزبير بألف ألف
وستمائة ألف، ثم قام فقال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا بالغابة، قال: فأتاه عبد
الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله بن الزبير: إن شئتم
تركتها لكم، وإن شئتم فأخروها فيما تؤخرون إن أخرتم شيئًا، وقال عبد الله بن الزبير:
لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال له عبد الله: من هاهنا إلى هاهنا، قال: فباعه منه بقضاء
دينه فأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف، قال: فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان
والمنذر بن الزبير وابن زمعة، قال: وقال له معاوية: كم قوَّمت الغابة، قال: كل سهم مائة
ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، قال: فقال المنذر بن الزبير: قد أخذت سهمًا
بمائة ألف، فقال معاوية: فكم بقي؟ قال: سهم ونصف، قال: أخذته بخمسين ومائة ألف، قال:
وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بستمائة ألف، فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه
قال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أنادي في الموسم
أربع سنين، ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، قال: فجعل كل سنة ينادي
بالموسم، فلما مضت أربع سنين قسم بينهم، قال: وكان للزبير أربع نسوة، قال: وربع
الثُّمن، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائة ألف،
١٩ قال: فجميع ماله خمسة وثلاثون ألف ألف ومائتا ألف، وقيل: إن قيمة
٢٠ ما ترك خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
ومن أغنياء الصحابة المقداد بن الأسود كان عنده غرائر من المال، ومنهم عروة بن الجعد
وأنس بن مالك وعمرو بن حريث القرشي المخزومي، ومن تجار الصحابة سعيد بن عائد وأبو معلق
الأنصاري وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب وحاطب بن بلتعة وسويد بن قيس
العبدي.
صناعات بعض الصحابة وزهد الرسول وأصحابه
ومن هذه الأمثلة القليلة يتمثل للنظر ما وصل إليه القوم من الثروة، مع الأمانة
والإيثار وحب الخير والزهد بما في أيديهم، فقد رأينا عبد الله بن الزبير لم يشأ أن يقسم
تركة أبيه حتى نادى في الحج أربع سنين ليوفي دينه، وليس يغلو من يدعي أن تركة الزبير
بن
العوام تعد ثروة غني من أغنياء الغرب اليوم، وما ندري ما تعادل لو حسبناها بسكة زماننا،
وما هي أقل من بضعة ملايين من الجنيهات، وبعض هذه الثروات كانت لأكثرهم قبل الإسلام أو
كان لهم أكثرها فزادت في العهد الجديد، ولا شك أنهم جهزوا منها جيوشهم وغزاتهم، واستعان
الرسول بها على الفتوح الأولى، وكلهم سواء في الإنفاق منها على مصالح المسلمين
وفقرائهم، واجتمعت لهم معظم هذه الأموال من التجارة، وقليل منها من الزراعة والصناعة؛
فقد كان أبو طالب
٢١ يبيع العطر والبز، وأبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمن بن عوف كانوا بزازين،
٢٢ وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل (وفي رواية يعذق النخل)، وكان أخوه عتبة
نجارًا، والعوام أبو الزبير خياطًا، والزبير جزارًا، وعمرو بن العاص جزارًا ثم يبيع
الأدم والطيب، وأبو سفيان بن حرب يبيع الزيت (الزبيب؟) والأدم، وعبد الله بن جدعان
نخاسًا، وعثمان بن طلحة خياطًا، ولبعضهم موارد يعيشون منها وتزيد عن حاجته.
وغلب التقشف على أكثر هؤلاء العظماء عملًا بسيرة الرسول، فقد ذكروا أنه كان عند رسول
الله لما مرض مرضته التي مات فيها سبعة أو تسعة دنانير فقسمها في الأنصار، وقال: «ما
ظن
محمد لو لقي الله وهذه عنده؟» ولم يخلف عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمةً
ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضًا تركها صدقة، وترك درعه رهنًا عند يهودي
بثلاثين صاعًا من شعير، وكان يأخذ من الأنفال خمسها ويردها على المسلمين عملًا بقوله
تعالى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلهِ
وَالرَّسُولِ، ثم بين توزيعها بقوله:
وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. وكانت العرب
٢٣ في الجاهلية تغنم وتوزع الغنيمة على المحاربين وتجعل للرئيس قسطًا كبيرًا
منها، أشار إليه أحد شعرائهم، فقال:
وقال الصديق لعائشة وهو يحتضر: «إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا
ولا
درهمًا، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا،
وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح،
وجرد هذه القطيفة،
٢٥ فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وابرئي منهن ففعلت.» وسيرة ابن الخطاب في الزهد
مشهورة مأثورة حتى إنه لما قدم الشام لقيته الجنود وعليه إزار في وسطه وعمامة، وقد خلع
نعليه وهو يخوض الماء آخذًا بزمام راحلته، وخفاه تحت إبطه، فقالوا: يا أمير المؤمنين
الآن يلقاك الأمراء بطارقة الروم وأنت هكذا، فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن
نلتمس العز بغيره، وهكذا كانت خلافة الأربعة الراشدين أشبه بالرتب الدينية من الرتب الدنيوية
٢٦ في جميع الأشياء؛ كان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس
٢٧ الغليظ، وفي رجله نعلان من ليف وحمائل سيف ليف، ويمشي في الأسواق كبعض
الرعية، وإذا كلم أدنى الرعية أسمعه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون هذا من الدين الذي
بُعث به النبي.
مبدأ الحضارة والتوسع في الإنفاق وثروة الأمويين
على أن الخليفة الثالث بدأ بإخراج البلاد من خشونة البداوة إلى حظيرة الحضارة، وبنى
سبع دور فخمة لبناته وزوجاته في المدينة، وغير عمارة مسجد الرسول وكان سقفه
٢٨ على عهد صاحب الرسالة من الجريد، وعمده من خشب النخل، وأرضه مفروشة بالحصا،
فبناه عثمان بالحجارة المنقوشة والفضة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجًا وزاد
فيه، وكان ذلك في المحرم سنة ثلاثين. أما الخليفة الثاني فإنه بكى لما قدم عليه خمس
الأسلاب من فارس وقد نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره، فقيل له: ما يبكيك يا أمير
المؤمنين، فوالله إن هذا لموطن شكر؟ فقال عمر: والله ما ذلك يبكيني، وبالله ما أعطى هذا
قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم.
ولقد كثر الخراج على عهد عثمان وأتاه المال من النواحي، فاتخذ له الخزائن العظيمة
في
المدينة، وكان يقسم بين الناس فيأمر للرجل بمائة ألف درهم، وقالوا: إنه كان لعثمان بن
عفان عند خازنه يوم قُتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف
دينار، وترك ألف بعير بالرَّبدة، وترك صدقات كان تصدق بها قيمة مائتي ألف دينار.
هذه صورة من ثروة العرب قبيل الإسلام وبعيده، إلى العهد الذي أخذوا فيه يتذوقون مباهج
الحياة، وكان من معاوية رأس الأمويين منذ فتحت له خزائن الأرض أن أنفق كثيرًا في مصالح
المسلمين، ووصل الناشزين على الملك وغيرهم، وأدرَّ كثيرًا على أعمال العمران، وجرى
أخلافه على طريقته، ومن أهمهم الوليد بن عبد الملك؛ فقد توسع في إقامة المصانع والجوامع
فزين مسجد الرسول، وكاتب ملك القسطنطينية، فبعث إليه أربعين رجلًا من الروم وأربعين من
القبط، ووجه إليه أربعين ألف مثقال ذهبًا، وأحمالًا من الفسيفساء، وحلى المسجد بالفضة
والذهب وفرشه بالمرمر وفرغ منه لانسلاخ سنة تسع وثمانين،
٢٩ وكذلك فعل الوليد في الحرم المكي والجامع الأموي؛ فقد أنفق على جامع دمشق
خمسة ملايين وستمائة ألف دينار، وجلب له مائتي عامل من الروم، ولما قيل له: إنه محق
بيوت الأموال في نقش الخشب وتزويق الحيطان، خطب فقال: قد بلغتني مقالتكم وليس الأمر على
ما ظننتم، ألا وإني أمرت بإحصاء ما في بيوت أموالكم فأصبت فيه عطاءكم ست عشرة سنة. وكان
سبق الوليد أبوه عبد الملك بن مروان؛ فأنشأ المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ورصد لذلك خراج
مصر سبع سنين، وفرغ منه سنة ثنتين وسبعين. هكذا توسع الأمويون في البناء بعد أن كثرت
أسباب الثروة، وكان من خلفائهم في الأندلس في باب العمران ما هو عجيبة الأيام والدهور،
أما الثروة في عهد العباسيين فما كان الإنسان يعتقد صحة ما روي عنها لولا أنه ورد على
لسان ثقات المدوِّنين لها، ولولا أنها أتت أخبارها من عدة طرق جلها موثقة.
خروج العرب من الأمية وعناية بني أمية بالعلم
بُعث الرسول «وليس أحد من العرب يقرأ كتابًا»، ولم يجد الرسول لإفشاء العلم في الناس
إلا أن يكثر فيهم سواد من يقرأ ويكتب، وأن يحملهم على تعلم الكتابة، فكان إذا أسر جماعة
من العرب وصادف فيهم أناسًا يقرءون ويكتبون، ولم يكن لأحدهم مال يفتدي به نفسه يأمره
أن
يعلم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة، وبهذه الطريقة فشت الكتابة في قريش
وغيرها، وكان يقول: قيدوا العلم بالكتابة، وفي رواية بالكتاب. هذا وهو النبي الأمي،
والأمية فيه فضيلة؛ «لأنها أدل على صدق ما جاء به أنه من عند الله لا من عنده، وكيف
يكون من عنده وهو لا يكتب ولا يقرأ ولا يقول الشعر ولا ينشده.»
٣٠
وأمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم لسان اليهود، وتعلم
٣١ زيد هذا بالفارسية من رسول كسرى، وبالرومية من حاجب النبي، وبالحبشية من
خادم النبي، وبالقبطية من خادمه، وهذا كان مبدأ تعلم العرب لغات غير لغتهم، ويُروى، وهي
رواية غريبة، أنه كان لعبد الله بن الزبير
٣٢ مائة غلام يتكلم كل واحد منهم بلغة غير لغة الآخر فكان يكلم كل واحد منهم
بلغته، وكانوا يسمون القرَّاء
٣٣ من يقرءون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية صفة عامة في الصحابة، فقيل
لحملة القرآن يومئذ: قراء إشارة إلى هذا، فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن
رسوله، وهؤلاء بدءوا عقبى الفتوح ينتشرون في الأمصار.
كانت أوَّل بعثة علمية أُرسلت من الحجاز إلى الشام في إمارة يزيد بن أبي سفيان، كتب
هذا إلى عمر بن الخطاب أن أهل الشام قد كثروا وربلوا
٣٤ وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني يا أمير
المؤمنين برجال يعلمونهم، فأرسل إليه معاذًا
٣٥ وعبادة وأبا الدرداء، فصار الأول والثاني إلى فلسطين، وصار الثالث إلى
دمشق، وكان الفضل الأوَّل في اقتراح إنفاذ هذا المشروع العظيم لأحد أبناء أبي سفيان
النجباء، كما كان الفضل الأعظم لعثمان بنسخ صحف القرآن في المصاحف، فأُرسلت المصاحف
التي كُتبت منه إلى الكوفة والبصرة ودمشق ومكة والمدينة، وضعت في جوامع الأمصار يقرأ
فيها القراء ويرجع إليها الحفاظ، وأبقى عثمان لنفسه مصحفًا عُرف بالمصحف الإمام، وغبر
الناس يقرءون في مصحف عثمان نيفًا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر
التصحيف في العراق ففزع الحجاج ابن يوسف إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف
المشتبهة علامات فوضعوا النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالفوا بين أماكنها فأصبح الناس لا
يكتبون إلا منقوطًا ثم أحدثوا الإعجام، وكان عثمان كسائر بني أمية وبني عبد شمس في
الغاية من الغيرة على بث الفضائل في الناس، يكرم صاحبها أيًّا كان، وذكروا وهو من
البراهين على حبه للعلم، أن حرملة بن المنذر
٣٦ الطائي كان شاعرًا نصرانيًّا أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من وزراء الملوك
ولملوك العجم خاصة، وكان عالمًا بسيرهم، فكان عثمان يقربه على ذلك ويدني مجلسه.
وتوسع معاوية في طلب العلم فقال يومًا: وددت أن عندنا من يحدثنا عما مضى من الزمن،
هل
يشبه ما نحن فيه اليوم، فقيل له: إن بحضرموت رجلًا معمرًا اسمه أمد بن أبد الحضرمي فأتى
به، وورد عليه من اليمن عبيد بن شرية من المعمرين، وكان آية باهرة في معرفة تاريخ اليمن
وملوك العرب والعجم، يرويها مشفوعة بالقصائد الرنانة، فأمر معاوية كتَّابه
٣٧ أن يدوِّنوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر فيه معاوية، وكان
يعجب بما يلقيه عليه عبيد، ويستزيده من إيراد الشعر؛ لأن الشعر كما قال معاوية: ديوان
العرب والدليل على أحاديثها وأفعالها والحاكم بينهم في الجاهلية، فكان بدء تدوين
التاريخ على يد معاوية، واستصفى معاوية أيضًا كعب الأحبار وهو من حمير من آل ذي رعين،
أسلم وجاء الشام مع عمر بن الخطاب في فتح القدس، فجعله معاوية من مستشاريه لكثرة علمه،
وكان يروي أشياء عن الجاهلية والإسلام، وبعض ما نُسب إليه معدود في الإسرائيليات. وكان
سعيد بن عريض بن عادياء ابن أخي السموءل
٣٨ بن عادياء من يهود الحجاز شاعرًا يفد على معاوية فيدخل عليه وهو على طنفسة
ونعلاه في رجله، وهو متوشح بملحفة،
٣٩ فيكثر معاوية الترحيب به ويدني مجلسه ويأخذ بيده. وإذا كان هذا النبوغ يظهر
من معاوية ويزيد من أبناء أبي سفيان، فإن أباهما أبا سفيان وجدَّهما حربًا نقلا الخط
العربي إلى الحجاز، وهذا من أعظم مآثر بني أمية على العرب، بل إن السنة، أي أحاديث
الرسول لم تدوَّن آخر المائة الأولى إلا بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الأموي؛
فقد كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث
رسول الله أو سنَّته فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء.
دخول العلوم المادية
وعمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بنقل كتاب أهرن بن أعين في الطب إلى اللغة العربية،
وهو الذي أمر عاصم
٤٠ بن عمر الأنصاري وكان ثقة كثير الحديث عالمًا، أن يجلس في دمشق فيحدث الناس
بالمغازي ومناقب الصحابة، وقال: إن بني مروان كانوا يكرهون هذا وينهون عنه، فاجلس فحدث
الناس بذلك، وسبق حكيم آل مروان وعالم قريش، خالد
٤١ بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، المتوفى سنة ٨٥ إلى ترجمة كتب الفلاسفة
والنجوم والكيمياء والطب والحروب والآلات والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي
والسرياني، «وكانت الترجمة — أحيانًا — من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى
السريانية، ومن السريانية إلى العربية.» وخالد بن يزيد هذا أوَّل من جمعت له الكتب
وجعلها في خزانة في الإسلام، والأرجح أنها كانت في دمشق.
وبعد، فالشام، بل بلاد الإسلام، مدينة لأمية بأمور كثيرة لإخراجها من غضاضة البداوة
إلى غضارة الحضارة. والعلوم تسربت إلى العرب من بقايا علوم القبط واليونان والسريان،
بعد أن توطد أمر الخلافة، وأخذت الجيوش تتقدم في إفريقية إلى الأندلس وفي الشرق إلى ما
وراء السند وسمرقند، وكانت في أنطاكية والرُّها ونصيبين وحران أول الفتح مدارس
٤٢ عامرة تشبع أساتذتها بالثقافة اليونانية وفلسفة أرسطو والعلوم والطب
المعروفة عند القدماء. قال دييل: وراجع خلفاء الأمويين هؤلاء الأساتيذ لينقلوا إلى
السريانية وإلى العربية أهم كتب العلم والأدب عند اليونان وبيزنطية. وجاء العباسيون بعد
الأمويين فكان همهم أن يجمعوا المخطوطات اليونانية وأن ينقلوا إلى العربية أشهر كتب
العلم والطب والفلسفة اليونانية، ومضى القرن التاسع برمته وبغداد تترجم أقليدس وأرخميدس
وبطلميوس وديسقوريدس وأبقراط وجالينوس وأرسطو وتاوفرسطس، قال وبحق ما قيل: إن العرب
لولا بيزنطية والتقاليد البيزنطية التي نقلتها إليها مدارس الشام لظلوا على الرغم من
استعدادهم الباهر، على ما كانوا عليه في عهد محمد، شعبًا نصف متوحش، فبواسطة تراجمة
شاميين عرف العرب العلم والفلسفة اليونانية، وبفضلهم نشأت في الإسلام من إسبانيا إلى
الهند حركة عقلية عظيمة أتت بأينع الثمرات، وبفضل المدارس العربية في قرطبة عرف الغرب
النصراني نفسه فلسفة أرسطو. ا.ﻫ.
وقال لبون: إن حماسة المسلمين في دراسة المدنية اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقةً،
وقد ضاهت العرب شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذه السبيل. وقال
لكرك: كان كل ما في أيدي العرب من العلوم في آخر القرن الثامن للميلاد ترجمة مؤلف في
الطب وبضعة كتب في علم الكيمياء، وما كاد القرن التاسع يوشك أن ينصرم حتى كان العرب قد
امتلكوا ناصية جميع علوم اليونان وثقافة الأقدمين، ونبغ فيهم عدد عظيم من المؤلفين،
وقال نوبرجر: فاقت المدنية العربية في أوج إمبراطورية الإسلام مدنية رومية القديمة في
حيويتها وتنوعها، على حين كان لحضارة الإسلام في الأندلس مركز يشابه من عدة وجوه حضارة
اليونان القديمة، وقال دوسن: إن المدنية الأوربية، بل المدنية الغربية كلها، مدينة
للمسلمين بميراث حكمة الأقدمين، وإن فتوحات العرب في إمبراطورية الإسلام من القرن
السابع إلى الخامس عشر، لتعد إحدى عجائب التاريخ، ومن المدهش أن يصبح العرب — وكانوا
أول أمرهم على الفطرة — عنصرًا فاتحًا، ويغدوا سادة نصف العالم في مائة عام، ومن أشد
العجب حماستهم العظيمة، وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم، وتكوين الثقافة اللازمة
لعظمتهم، حتى وصلوا إلى مستوى عالٍ في مائة سنة، بينا نرى الجرمانيين لما فتحوا
الإمبراطورية الرومانية قضوا ألف عام، قبل أن يقضوا على التوحش وينهضوا لإحياء العلوم.
ا.ﻫ.
وفي الواقع أن العرب في صدر الإسلام لم تعن كما قال صاعد
٤٣ بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب فإنها
كانت موجودة عند أفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرًّا إليها، وتولى
النقل إلى العربية اليعاقبة والسريان والفرس وغيرهم، وكان المسلمون يصلحون المترجمات
على الأكثر ويضعون المسميات للمصطلحات العلمية كالطب ونحوه، فينحتون ويشتقون ويضعون،
٤٤ حتى صار منهم التراجمة الحاذقون الذين ينقلون مباشرةً إلى العربية، وساعدهم
دخول كثير من الفرس والروم في الإسلام، والمسلمون يعنون بعلوم الدين واللغة، وما يخدم
الدين من علوم اللسان. وأي فضل أعظم من فضل العرب على العلوم التي لم يعرفوها أن يقدم
مثل خالد بن يزيد الأموي وينفق النفقات العظيمة على ترجمة كتب العلم، ثم يجيء بعده عمر
بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ويأتي بعدهم عدة خلفاء من العباسيين ينفقون عن سعة على
ترجمة الكتب، ولا سيما المنصور والرشيد والمأمون، بل إن أفرادًا منهم مثل أولاد موسى
بن شاكر
٤٥ كانوا ينفقون من مالهم الخاص على ترجمة الكتب، ما لا تكاد دولة من دول
الغرب اليوم تنفقه على جميع فروع معارفها.
عناية العرب بالشعر والنثر
هذا ما كان من أمر النقل في العلوم، أما الآداب فكان العرب فيها سادة البلاغة في
الجاهلية والإسلام، وشعرهم الجاهلي والإسلامي سواء في بلاغته وفصاحته، لا ينظم إلا
بالمناسبات ويكفي في بيان تأثير الشعر في العقول أن الرسول كان «ينصب لحسان بن ثابت
منبرًا في المسجد يقوم عليه ينافح عن الرسول.» ومئات من الصحابة كانوا شعراء مجيدين،
وكان لهم في الجاهلية من الدقة في الموضوعات التي خاضوا عبابها ما كان، وزاد شعرهم في
الإسلام رقة خصوصًا بعد تمام الفتوح، وغشيان شعراء العرب الأمراء والخلفاء في مصر
والشام والعراق وغيرها، وكان الأمويون يفضلون كثيرًا على الشعراء، ومنهم النصارى أمثال
الأخطل ونابغة بني شيبان، قال عمر بن الخطاب:
٤٦ «كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه»، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه
العرب وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام
وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا
٤٧ إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك
بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه أكثره، وقد كان عند النعمان بن المنذر منه
ديوان فيه أشعار الفحول، وما مُدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار
منه. ا.ﻫ.
هذا ما كان من الشعر، أما النثر فأخذ يرتقي في الإسلام، ونبغ في العرب خطباء عظماء
أمثال زياد والحجاج وعتبة بن أبي سفيان وتلك الطبقة العالية من خطباء الخوارج،
٤٨ والمظنون أنه لم يأتِ بعد علي بن أبي طالب أفصح ولا أخطب من زياد والحجاج،
وعدَّ الجاحظ
٤٩ من الخطباء في خلفاء بني أمية معاوية ويزيد وعبد الملك ومعاوية بن يزيد
ومروان وسليمان ويزيد بن الوليد والوليد بن يزيد والوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
وكثر التدوين منذ أوائل عهد الصحابة، وقوي في أيام التابعين، وألَّف زيد بن ثابت
كتابًا في علم الفرائض، وعبد الله بن عمر كتب الحديث، وأُلف كتاب في قضاء عليٍّ على عهد
ابن عباس، وعن هشام بن عروة قال: حرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول
بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي، ووقعة الحرة كانت سنة
ثلاث وستين فأكد ذلك أن التدوين وقع من قبل حتى كانت لعروة هذه الكتب في الفقه، وتقدم
معنا أن عبد الحكم الجمحي فتح ناديًا في مكة جعل فيه دفاتر من كل علم في النصف الأول
من
القرن الأول، وهذا من البراهين الساطعة أيضًا على أن التدوين وكتابة الصحف والكتب بدأت
في الإسلام على عهد الراشدين على الأكثر، فلم يكن الاعتماد من ثم على الحفظ فقط كما
كانت الحال في الجاهلية، بل كان يعمد إلى الصحف، وبقدر ما كان يسهل تناول القراطيس أي
الطوامير المعمولة بمصر من لب البردي، كانت كتب العلم تزيد انتشارًا وكانوا أوائل
الإسلام يكتبون على الأدم كعهد الخيبريين
٥٠ وككتاب النبي إلى كسرى، وكتبت المصاحف في جلود الظباء إلى أن استُعمل
الورق، وكلما زادت أدوات التدوين كثر عدد القراء والحفاظ والأدباء والرواة واللغويين،
وهكذا تنافست المدن في سبيل العلم وتلقف الثقافة العربية.