انتشار اللغة العربية وأسبابه
كثر المسلمون بمواليهم وبمن دان بالإسلام في كل بلد نزلوه وحكموه، وهاجرت من بلاد
العرب قبائل كثيرة نزلت الشام
١ والعراق ومصر وشمالي إفريقية والأندلس والجزيرة، فكانوا الدمنة
٢ التي قام عليها أساس تعريب هذه الأقطار العظيمة، وأنشأ أهل الذمة يتعلمون
اللغة العربية بحكم الطبيعة، وربما كان من أجمل السياسة في تعريب العناصر فتح العرب
للمجوس واليهود والصابئة والنصارى وغيرهم باب الخدمة في الدولة، فلم يكن العرب يأبون
استعمال القبطي والفارسي والرومي والإسباني والكاتالاني والبروفنسالي والبرتقالي
والإيطالي، فاتحدت مصلحة الموافق والمخالف تحت علم الحرية العربية، وأخلص أهل الذمة
القصد للمسلمين فعاشوا في ظل دولتهم الجديدة مغتبطين، وتعاون الكافة فكانت هذه المدنية
الباهرة.
بذت العربية في الإسلام
٣ اللغة الفارسية والسريانية في العراق وفارس، والرومية والسريانية في الشام،
والقبطية والرومية في مصر، واللاتينية في شمالي إفريقية، ولم يمضِ سبعون سنة حتى أصبحت
العربية اللغة العامة في هذه الأقطار، وكان العرب من الغسانيين والتنوخيين والنبطيين
والسبأيين واللخميين والتغلبيين مثل الضجاعمة وعاملة وقضاعة ينزلون البلاد المجاورة
للجزيرة العربية ويتمازجون بأهلها، حتى إن من قرى الشام ما كان اسمه عربيًّا صرفًا قبل
الإسلام، وقد علل ابن خلدون
٤ انتشار اللغة العربية بقوله: «لما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان
القائمين بالدولة الإسلامية عربيًّا، هجرت كلها في جميع ممالكها؛ لأن الناس تبع للسلطان
وعلى دينه، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم
لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة
في جميع أمصارهم، وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة.»
القبائل العربية في بلاد الأعاجم وتعريبهم
لا يُعرف على التحقيق عدد القبائل النازحة من جزيرة العرب إلى البلاد المفتتحة في
آسيا وإفريقية وأوروبا، وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك، آخر غزوات صاحب الرسالة، مائة
ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل، إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة،
ثم كثر المسلمون وتفرقوا في الأقطار، وليست كثرتهم مما يقضي أن يكونوا السواد الأعظم
في
البلاد التي نزلوها، بل كانوا في كل صقع حفنة صغيرة أشبه بفصوص الفسيفساء في الرقعة
العظيمة؛ ذلك لأن القبائل العربية التي هاجرت إلى البلاد المغلوبة لا يزيد عددها عن نصف
مليون نسمة في الخمسين السنة الأولى، فقد قدر بعضهم من نزلوا الشام بمائتين وخمسين
ألفًا، والشام أقرب الأقطار إلى الاختلاط بجزيرة العرب، ومع هذا كان عدد المسلمين في
الشام إلى قلة حتى أواخر القرن الأول من الهجرة.
ومما ساعد على انتشار العربية كون الصلاة بها فرضًا على كل أعجمي انتحل الإسلام،
فالأعجمي يسلم ويتعرَّب، وإذا لم يسلم تضطره الحال إلى تعلم لغة الدولة القائمة، فيقرب
من العواطف العربية، ثم إن هذا اللسان على سعته وسلاسته لم يقف ولم يجمد، فنقل ألفاظًا
من الفارسية والرومية والسريانية والعبرانية والحبشية والقبطية والهندية، وترك ألفاظًا
عربية كانت مألوفة له في عصر الجاهلية، واصطلح على كلمات عربية كانت تؤدي معاني أخرى
قبل الإسلام، وسعى العرب منذ كانت البلاد في طاعتهم، أن يجعلوا العربية لغة علم كما هي
لغة دين وأدب وسياسة، ولم يحارب العرب لغات البلاد الأصلية على رسوخها فيها، بل ساروا
في نشر لغتهم بتعقل، وراعى دعاتهم سنن الطبيعة والنشوء، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي
عملها في اللغة كما عملت في العناصر، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف
نحلهم ومللهم.
كمال العربية وطرق بثها
وقد عجب رنان
٥ من كمال اللغة العربية وسعة انتشارها، فقال: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر
وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية؛ فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة
على غاية الكمال، سلسة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد
إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة
مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض، قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار
مختلفة؟ قال: ما عهدت قط فتوح أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها؛ فإن العربية
ولا جدال، قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان
فكر ديني أو سياسي، أسمى من اختلاف العناصر إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال
هاتين اللغتين في السعة، من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ ا.ﻫ.
ظهرت العربية كاملة بالقرآن، وكانت سرعة انتشارها على نسبة سرعة فتوح أهلها، وهل أشد
شكيمة من أمة اجتمع لها الغرام بالدين والغرام بالدنيا، يخافها ويحترمها عدوها وصديقها
في القاصية والدانية، وما عُهد في أدوار اللغة العربية، أيام قوة الدولة العربية
وضعفها، بل أيام الأعاجم الذين استولوا على البلاد العربية، ما خلا دولة الترك
العثمانيين، أن صدرت عنهم عهود وعقود بغير العربية، تترًا كانوا أو فرسًا أو شركسًا أو
كردًا أو بربرًا، والغالب أنهم كانوا يضطرون الدول المجاورة لهم إلى أن يتخذوا لهم
منشئين حاذقين بالعربية؛ ليجيبوا الدولة الإسلامية على المكاتبات الرسمية بلغة العرب،
هكذا يُستدل من تواريخ الأندلس وتواريخ القرون الوسطى وتواريخ الشام ومصر وبغداد
والجزيرة وفارس والسند وسائر بلاد المشرق، ولم تشبه العربية في هذا الشأن إلا اللغة
اللاتينية في الغرب قديمًا، واللغة الفرنسية إلى عهد قريب، ثم اللغة الإنكليزية في
الأيام الأخيرة، فقد أصبحت هذه الألسن الثلاث كالعربية لغات السياسة والتجارة، بل لغات
دولية عامة في المعاملات، وكتب الشرف للعربية أن كانت لغة الدول ذوات العلاقة بالشرق
الإسلامي قرابة ألف سنة.
«وأصبحت
٦ العربية في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في
العالم المتمدن، وصارت حاملة علم التقدم الصحيح، وحافظت على تفوقها وتصدرها في المرتبة
الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى آخر القرن الحادي عشر على أقل تعديل، وبعد ذلك أخذ
التمدن الإسلامي واللغة العربية بفقدان منزلتهما تدريجيًّا، وقد نُقلت في القرن الثاني
عشر والقرن الذي بعده أكثر التآليف إلى اللغة اللاتينية واللغة العبرانية، وكان كل من
يريد أن يطلع في القرن الحادي عشر على آراء عصره مضطرًا أن يتعلم أولًا اللغة العربية،
وزال هذا الاضطرار قبل آخر القرن الثالث عشر؛ فأصبحت اللغة اللاتينية لازمة في الغرب
أكثر من اللغة العربية»؛ ولذلك اتُّهم المجددون في النهضة الأوربية أمثال روجر باكون
بالإسلام؛ لأنهم كانوا يعرفون العربية، وكيف لا تكون الأفضلية للعرب في تلك العصور،
وإرادة دولتهم هي التي تملي على الأمم، ولا تملي عليهم دولة، وما اتجهت قط هممهم إلى
قطر إلا فتحوه وأخضعوه ومدَّنوه. يقول ابن حزم في كتاب الإحكام: إن اللغة يسقط أكثرها
وتبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في أماكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم
بغيرهم، فإنما يفيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها، وأما من تلفت
دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واستقلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم
موت الخاطر، وربما كان ذلك لشتات لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيور علومهم، هذا
موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورةً. ا.ﻫ.
ثم إن المغلوب قد يعتقد في غالبه الكمال فيقلده في شعاره وزيه ولغته وسائر مناحيه،
فيرتضخ
٧ لسان غالبه بالعادة والإلف والمصلحة، هكذا كان الناس منذ عُرف تاريخهم، وما
خرجوا عن كونهم أبدًا بين غالب ومغلوب، يلذهم أن يزينوا أنفسهم بالتخاطب مع من نزل
عليهم أو نزلوا عليه، وهذا هو المشاهد اليوم في لغات الأمم الكبرى، فإنها تنتشر في
البلاد التي اتصلت بإحدى الصلات مع أمة غالبة أو دخيلة، رأينا ذلك في شمالي إفريقية مع
اللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وفي الهند ومصر مع اللغة الإنكليزية، وفي جزائر
جاوه وما إليها مع اللغة الهولاندية، فإذا لم تكن لأمة حاجة تجارية أو سياسية تدعوها
إلى تعلم لسان من نزلوا عليها، فإنها تحاول تعلمه كأنه أداة من أدوات الظرف
والزينة.
انتشار العربية في أقطار وتراجعها في أخرى
كانت العربية تتأصل على أيسر سبيل في البلاد، بحسب قربها وبعدها من جزيرة العرب،
وكان
من أول الأقطار التي دخلت فيها الشام فالعراق ثم فارس ومصر، انتشرت فيها بعد تصرم جيلين
من الناس، إلا فارس فإنها على ما يظهر قد أظهرت الخضوع وأضمرت غيره؛ فمنهم من دخلوا في
الإسلام رغبةً وطوعًا كأهل خراسان، ولكن المجوسية بقيت غالبة عليهم إلى القرن الرابع،
فلم تكن ناحية ولا مدينة تخلو من بيوت النيران، وظل المجوس أكثر الأمم بها،
٨ وإن غدت عواصم فارس كأصفهان ومرو ونيسابور والري وطبرستان وهمذان من
المغرمات بالعربية، ونشأت فيها طبقات مهمة من الأدباء والعلماء من القرن الثالث إلى
السابع، ولكن فارس وإن لم تعصِ العرب والعربية ظاهرًا فقد عصتها باطنًا، وكأن عمر بن
الخطاب شعر بهذا في أيامه فقال: «اللهم لا تدركني أبناء الهمذانيات والاصطخريات، وعدَّد
قرى من قرى فارس، الذين معهم قلوب العجم وألسنة العرب.» وفي الحق أن أهل فارس لما أتى
الإسلام كانوا كما قيل: كنار أُخمدت، وكرماد اشتدت به الريح فمُزقوا كل ممزق.
وعلى كثرة ما كان في بلاد الفرس أيام الدولة العباسية من مراكز العلم، كانت اللغة
العربية لا تُعرف إلا في أندية الخاصة، وهي اللغة الرسمية واللغة العلمية، أما البادية
فكانت بمعزل عنها على ما يظهر؛ ولذلك حُفظت فيها الفارسية كما حُفظت الكردية، وكانت
أحياء الأكراد
٩ في القرن الرابع في فارس تزيد على خمسمائة ألف بيت شعر، ولسان أهل أذربيجان
وإرمينية الفارسية والعربية وقل من يتكلم بهما، فمن يتكلم بالفارسية لا يفهم العربية،
ويفصح بها من التجار وأرباب الضياع، وهناك لغات لا تزال إلى اليوم كما كانت منذ تسعمائة
سنة ونيف.
وأصبحت دولة العرب مدة ثلاثمائة سنة الدولة الحية الوحيدة دون سائر الدول المعاصرة
لها في العالم، وكادت لغتها القومية تكون لغة دولية أيضًا، وانتشرت العربية في جنوبي
أوروبا وجزرها المشهورة، انبعثت جذوتها في تلك الأرجاء بعد استيلاء العرب على الأندلس؛
فانتشرت في شبه جزيرة إسبانيا، وفي جزر ميورقة ومنورقة ويابسة المعروفة اليوم بجزائر
الباليار، ولم يُكتب أن كانت للعربية سوق في جزيرة سردانية، وإن استولى عليها العرب سنة
٩٢ على نحو ما كان في جارتها صقلية؛ لأنه لم ينزلها العرب للاستيطان، ولا قامت بها دولة
لهم كصقلية، وقد دامت العربية معروفة بل رسمية فيها إلى ما بعد خروج العرب منها، ولم
يبقَ للعربية في الأندلس من أثر بعد جلاء العرب الأخير في سنة ١٠١٦ﻫ، وفي خلال ذلك مُنع
العرب من تكلم العربية، وأصبح من آثروا التنصر على الخروج من أرضهم يكتبون الإسبانية
بحروف عربية سموها الخميادو، أي الأعجمي.
ولم تتأصل العربية على الأغلب في جزائر البحر المتوسط؛ لأن قبائل العرب لم ترحل إليها
كما رحلت إلى مصر وشمالي إفريقية والأندلس، فمنها ما فتحه المسلمون ليجعلوه مركزًا
حربيًّا، ومنها ما رسخت أقدامهم فيه مدة معلومة، ولم تتأصل العربية إلا في جزيرة أرواد
على خطوات من أنطرطوس، على حين كانت قبرص بعيدة عنها، أما بقية جزائر البحر المتوسط
كأقريطش فكان منزل العربية فيها منزل قُلعة، وكذلك الحال في جزيرة مالطة، اختلطت
العربية فيها بالإيطالية وبغيرها من الألسن، وجاء منها هذا اللسان الغريب إلى اليوم،
وأصل أهل هذه الجزيرة أو بعضهم
١٠ من بلاد ساحل القدس، ولما جلا الفرنج من الساحل مع طوائف النصارى إلى بلاد
الفرنج عين لهم ملك النصارى جزيرة مالطة فقطنوا فيها؛ ولذلك كان لسانهم
١١ قريبًا من اللهجة الشامية، وفي لغتهم ألوف من
١٢ الألفاظ العربية وأصلها عربية، سطت عليها اللغات المجاورة فأفسدتها، يقول مليه:
١٣ «إن اللغة العربية لم تتراجع من أرض دخلتها؛ لتأثيرها الناشئ من كونها لغة
دين ولغة مدنية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المبشرون، ولمكانة الحضارة التي جاءت
بها الشعوب النصرانية، لم يخرج أحد من الإسلام إلى النصرانية.» وقوله هذا لا يصدق إلا
على آسيا وإفريقية، فقد عُرفت العربية في جنوبي فرنسا مدة مائتي سنة، وفي جزائر صقلية
وقرسقة وإقريطش وأصبح القسم المناوح لشمالي إفريقية عربيًّا أو يكاد، وصح أن يُقال في
الجملة: إن حوض البحر المتوسط غدا بحرًا للعرب كما كان البحر الأحمر وبحر فارس وقسم من
المحيط الهندي وبحر الظلمات من البحور العربية، ولو وفق معاوية بن أبي سفيان إلى فتح
القسطنطينية لكانت العربية تناولت أوروبا من جنوبها الشرقي، كما تناولتها من جنوبها
الغربي، وربما كانت مملكة القسطنطينية وما وراءها أقرب إلى أن يحتفظ بها العرب من شبه
جزيرة أيبريا؛ إذ لا فاصل من البر يفصل بين بلاد المسلمين وبلاد الروم.
لم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم
١٤ بالعربية ليفهمها النصارى؛ لأن هؤلاء زهدوا في اللغة اللاتينية ونشأ لهم
غرام بالعربية، فأخذوا يتقنون آدابها، ويتغنون بأشعارها، ويكتبون بها كأبنائها، ويعجبون
ببلاغتها إعجاب أهلها بها، وأصبح أهل البلاد يتكلمون بالإسبانية والبرتقالية والعربية
على السواء، ثم أخذوا لا يتعاقدون بينهم إلا باللغة العربية، وقد وجد من عقودهم نحو
ألفي صك كتبها المستعربة من الوطنيين الأصليين باللغة العربية، وكان كثير من أذكياء
الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد من النصارى،
يتكلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في أرضه، وفي مكتبة
الإسكوريال في إسبانيا لعهدنا معاجم يونانية عربية، ولاتينية عربية، وعربية إسبانية،
لمؤلفين من المسلمين.
سراية العربية إلى اللغات اللاتينية
وبعد هذا الاختلاط لا نستغرب أن نرى اليوم في الإسبانية كثيرًا من الألفاظ العربية
كأسماء البلاد والأنهار والنواحي وبعض المرافق والمصطلحات، وكل كلمة تبدأ عندهم بأل
التعريف العربية هي عربية لا محالة، ومن الأسماء ما يبدأ ببني، ومنها ما يبدأ بوادي،
فدخلت مئات من الألفاظ في اللغة الإسبانية وتأصلت فيها، كما دخلت العربية في البرتقالية
والإيطالية والفرنسية لغات الأمم اللاتينية، والعربية ظاهرة كل الظهور في اللغتين الإسبانية
١٥ والبرتقالية، بل ليس
١٦ في الأرض لغة تقرب بتعابيرها ومترادفاتها وجمالها وأمثالها من اللغة
العربية كاللسان الذي يتحدثون به اليوم في البرازيل والبرتقال، والبرتقاليون أجداد
البرازيليين، ودخلت اللغة البرتقالية ثلاثة آلاف كلمة عربية ومعظمها يبتدئ بأل التعريف،
ولا يزال على حاله باللفظ الإفرنجي، وقالوا: إن ربع الإسبانية مأخوذ من العربية.
وسراية العربية لم تقف عند حد اللغات اللاتينية، بل تعدتها إلى اللغات الجرمانية
والسكسونية؛ فتجد ألفاظًا عربية في الإنجليزية
١٧ والغالية القديمة والألمانية، واللغات الجرمانية الأصل كالهولاندية
والإسكندنافية في شمالي أوروبا، وفي الروسية والبولندية واللغات الصقلبية
الأخرى.
ومعلوم أن العرب استولوا على إقليم سبتمانيا في الجنوب الغربي من فرنسا على ساحل
البحر المتوسط، وعلى مدينة ناربون وجعلوها قاعدة أعمالهم البحرية، واستولوا أيضًا على
مدينة قرقشونة ونيم وأتون وبون وسانس وأفينيون وبوردو، ثم استولوا على مرسيليا وأرل
وعلى إقليم بروفنسيا ووصلوا إلى بواتيه على ٣٣٢ كيلو مترًا من جنوبي غربي باريز، ووقف
العرب في إقليم سبتمانيا حيث أقاموا مراكز دائمة، وعقدوا عهودًا مع أهل البلاد، وأدخلوا
كثيرًا من ألفاظهم في الاصطلاحات اليومية.
قالوا: وبينا كان التوحش ضاربًا أطنابه
١٨ على غاليا، أي فرنسا، وعلى جرمانيا، كان العرب قابضين على زمام الأحكام في
جنوبي فرنسا من جبال البرينات إلى جبال الألب، يحملون من مستعمراتهم إلى برغونيا
وسويسرا في الشمال، وإلى التيرول ولمبارديا في الجنوب، ما تعلموه من العلوم في مدارسهم،
وفي ذاك العهد انتقلت إلى الغرب عادة استعمال الأرقام العربية والكسور العشرية، وبقيت
أسماؤها مع ما لحقها من التعديل عربية صرفة، وجاءت التعابير النادرة إلى اللغة الفرنسية
من اللغة العربية أكثر من اللاتينية، وإن كان في الفرنسية على عهد أول نهضتها لفظة
واحدة يونانية مقابل خمسمائة لفظة لاتينية، فمن العدل أن يُقال: إنه كان مثل ذلك من
اللغة العربية، فأخذ الفرنسيس
١٩ نحو تسعمائة كلمة من العربية وأدخلوها في معاجمهم واستعمالهم، ومنها ما دخل
لغتهم في الحروب الصليبية.
وقد حدث للغة الفرنسية وآدابها
٢٠ في عهد الصليبيين ما يحدث في مثل هذه الأحوال على قاعدة مطردة، وهو أن لغة
الأمة التي استفاضت مدنيتها يؤثر أهلها في غيرهم، وكان الشرقيون ولا سيما العرب
واليونان أكثر الأمم تمدُّنًا بلا مراء على ذاك العهد، وقد تعلم قليل من العرب والترك
والكرد لغة الفرنج، وهذا عدا بعض التراجمة الرسميين، وتعلم على العكس كثير من الصليبيين
لغة الوطنيين عقبى وصولهم إلى فلسطين، ولا ريب أن مجاورة المدنية الإسلامية قد ساعدت
على زيادة النفوذ الذي كانت العلوم العربية والفنون العربية تؤثرها في الإفرنج منذ زمن
طويل، وجاء في تاريخ اللغة الفرنسية وآدابها بعد إيراد ما تقدم: ومعلوم ما تدين به لهذا
التأثير علوم الفلسفة والرياضيات والفلك والملاحة وتركيب النيران الصناعية والطب
والكيمياء حتى فن الطبخ، فقد أخذنا عن العرب أشياء كثيرة من مثل طريقة الأرقام وشروح
أرسطو حتى حمام الزاجل والرنوك وأدوات الموسيقى والأزياء والألبسة والأزهار والبقول،
وإذا حدث أن ما نُقل لم يسمَّ باسم المدينة الشرقية المأخوذ عنها، مثل ثوم عسقلان وكساء
دمشق، فإن غيرها قد احتفظت بأسمائها العربية مع بعض التحريف، وهي كثيرة ويتألف منها في
الفرنسية مجموع كبير في الجملة. ا.ﻫ.
وقال يهودا من جامعة مجريط:
٢١ أخذ الناس يدركون الآن أن أوروبا في القرون الوسطى مدينة للحضارة العربية
التي اغترف من مناهلها المسلمون واليهود والنصارى على السواء، أخذ الناس الآن يفهمون
أن
العلوم الطبيعية والقوانين الأساسية في الفلسفة والرياضيات وعلوم العمران كانت تستمد
روحها في زمن النهضة والإصلاح من ذلك المنهل العذب ألا وهو الحضارة العربية، وصار علماء
العصر كلما تعمقوا في دراسة هذه الحضارة أدركوا أثرها البليغ في حضارة اليوم، وكشفوا
مئات الكلمات الداخلة في اللغات الأوربية من أيام تلك الحضارة إلخ.
تأثر اللغات الشرقية بالعربية
هذا ما تأثرت به اللغات الأوربية المجاورة للعربية أيام بهائها، وذلك بقوى دولها
والروح الساري من حضارتها، بقي الكلام على تأثر اللغات الشرقية بها؛ فمن أهم اللغات
التي تأثرت بها اللغة الفارسية،
٢٢ مع أنها كانت لغة حضارة راقية، وربما كان نحو نصف ألفاظها اليوم عربيًّا،
ومثل ذلك يُقال في اللغة العثمانية أو التركية على اختلاف لهجاتها كالقرقز وايغر وقفجاق
وبشغرت وجغطاي. وتأثرت بالعربية اللغة الأوردية ولغة الملايو، أي الجاوية، واللهجة
الأفغانية ولغات السودان المصري واللغات البربرية في إفريقية.
واللغة العربية اليوم في السنيغال هي لغة المسلمين، وتعتمد بقية اللغات الوطنية على
الحروف العربية في كتابة لغتها،
٢٣ وهي شائعة في السودان الفرنسي وفي شاطئ العاج، ويعتمدون في النيجر على
الحروف العربية، وذلك في التجارة وكتابة اللغات المحلية، ويعتمد غير المسلمين في ليبريا
على الحروف العربية في تدوين لغاتهم، وهكذا في نيجيريا الشمالية تدرس العربية في
المدارس الابتدائية، واللغات الوطنية تُكتب بحروف عربية، والعربية منتشرة في أقاليم
الشاد وجيبوتي والحبشة، وأهل هذه الديار من المسلمين يتكلمون في العادة لغتين، ويعتمد
معلمو يوجوسلافيا على الحروف العربية في كتابة اللغة الصربية والتركية، وجميع علماء
قازان والقريم يتكلمون العربية، وكذلك علماء كرجستان وطاغستان وشركسستان، واللهجات
المحلية في أفغانستان تُكتب بحروف عربية، وتُستعمل العربية في سيام قليلًا، ويستخدم
مسلمو الفيليبين العربية لتدوين لغتهم. والعربية تدرس في جميع مدارس المسلمين في الهند،
ولها سوق رائجة في جامعة عليكرة في شمالي الهند، وفي مملكة حيدر آباد الدكن، وكذلك
الحال في بلاد إيران.
وفي كتاب لغات العالم أن العربية كانت لغة الكتابة عند الشعوب القليلة التمدن، كما
كانت لغة شعوب إسلامية كتبوا بها لغتهم، وقد حملت العربية من الألفاظ الدينية والعلمية
ما لا يُحصى عدده، دخلت في التركية والفارسية وغيرهما، وإذا أراد الزنوج المسلمون في
إفريقية ممن خرجوا عن الأمية أن يدونوا شيئًا فيكتبونه بالعربية، وهم لا يتكلمونها في
كل مكان، ولكنهم اتخذوا من العربية المكتوبة لغة علمية ولغة تراسل، يقول داربر: من
الخطأ والخطل أن يُنسب تقدم الإسلام إلى السيف وحده، وقد يستطيع السيف أن يغير عقيدة
قوم، ولكنه لا يملك التأثير في ضمائر الأفراد وأفئدتهم، وإن عاملًا أقوى من السيف،
وسببًا أشد تأثيرًا من الخوف، صحبا الإسلام فأخذ يتغلب على الحياة الخاصة والعامة في
آسيا وإفريقية، وساعد ذلك على انتشار اللغة العربية في أمم شتى تكاد لا تُحصى.
ا.ﻫ.
الشعوب التي تتكلم العربية
ويتكلم اليوم باللغة العربية،
٢٤ أو بها وبلغة أخرى، في جزيرة العرب والعراق والشام إلى تخوم آسيا الصغرى
وفي إفريقية الشمالية «طرابلس وبرقة وتونس والجزائر والغرب الأقصى» إلى حدود الصحراء
ومالطة ومصر إلى أقصى الجنوب، حيث الأنهار التي تتألف منها منابع النيل الغربية،
وانتشرت في كردوفان ودارفور وواداي وبورنو وفي النيجر والسنيغال والصحراء الغربية
الواقعة بين السنيغال والغرب الأقصى، ولم يستعمر سكان بلاد العرب الجنوبية جزيرة زنجبار
فقط، بل استعمروا الأرض الإفريقية المناوحة لها، وبعثوا المستعمرين إلى أرخبيل ماليزيا،
وقديمًا كانوا يتكلمون بالعربية، وتكلموا العربية حتى القرن الثامن عشر في جزيرة قوصرة
«بنتيلاريا» بين تونس وصقلية.
وفي كلام أهل هذه الجزيرة وأهل جزائر الباليار كثير من المفردات العربية، ويتكلم
العربية بعض أهل مدغسكر، ولا يُعرف بالتحقيق إذا كانت العربية لسان شعب الموبال في
الجنوب الغربي من الهند، وقد نشر الحضارمة من سكان اليمن اللغة العربية حيث حلوا من
بلاد الهند الإنجليزية والمستعمرات الهولاندية، وصدروا بها جرائد وأنشأوا لتعليمها
مدارس ابتدائية، ولا يقل عدد من يتكلمون العربية اليوم في البلاد العربية عن ستين
مليونًا على أقل تعديل، هذا عدا من يتكلمها ويكتبها من المسلمين في الصين والهند وجاوة
وتركستان وإيران وأفغانستان والسودان، ولئن أصاب هذه اللغة في القرون الأخيرة بعض وهن
لانقطاعها عن أن تكون لغة علم، وبقي حكمها باقيًا في الدين والخطب والشعر، وضعفت
آدابها، والآداب تبع لتقدم الأمة في سلم الحضارة، وهي صورتها الناطقة وأثر قوتها
وانبعاثها، لئن أصاب اللغة ذلك فليس معناه أنها بليت ولم تعد تصلح لشيء كما يدعي بعض
شعوبية الغرب، ويتابعهم بعض البلهاء أو المتفاصحين في الشرق.
العربية في عهدها الأخير واللهجات العامية
كانت اللغة الفصحى هي واسطة التفاهم بين عامة الشعوب الإسلامية في القارات الثلاث،
منذ قيام دولة الراشدين إلى اليوم، وهيهات أن يكون حظها حظ اللغة اللاتينية من أكثر
الأمم الغربية، فإن العربية رسخت قواعدها لمكان الدين منها، ثم لجعلها لغة مدنية راقية،
ومن قارن بين حالتها اليوم وحالتها منذ مائة سنة، وما أصابته من الترقي بإدخال المدنية
الجديدة على أهلها، لا يلبث أن يعرف بالبداهة أن العربية وسع صدرها لقبول جميع الأفكار
الجديدة قديمًا وحديثًا، وما عاق هذه اللغة كون لغة التخاطب في أكثر الأقطار العربية
غير لغة التكاتب؛ لأن شروط البقاء فيها متوفرة بوفرة مادتها الأصلية، ولأن نفس كل مسلم
تهوى إلى الاحتفاظ بها، وما أضر باللغة إلا انتشار الأمية زمنًا طويلًا بين أهلها، ولما
أخذ أهل كل قطر بأساليب التعليم الجديدة في العهد الأخير، قربت لغة العوام بالضرورة من
لغة الخواص، وكان ذلك بفضل المدارس والصحف والكتب والخطب والمحاضرات، وكم من لفظ فصيح
شاع بالاستعمال اليوم بين الجمهور، بواسطة هذه العوامل في بث الفصيح، وكلما خفت الأمية
بين الشعوب العربية، ورُبي الأولاد على الفصيح، يسمعونه في الجامع والمعبد والبيت
والمدرسة والسوق، يتقارب عامي اللغة من فصيحها، وتمشي لغة الكتابة مع الطبع، مثل الكلام
الدارج على الاستعمال.
وبأدنى نظرة في اللغة العامية اليوم، واللغة العامية في مصر والشام مثلًا، قبل ثمانين
سنة، يتجلى لنا ما كان يبدو على لسان المدرِّسين والخطباء والمعلمين والتلاميذ من اللفظ
المبتذل، وما سرى إلى أقلامهم وكلامهم اليوم بل إلى العامة والأميين من الفصيح الجميل،
وهناك ندرك الدرجات التي صعدتها اللغة في هذه الحقبة من الزمن، وسيكون الترقي بهذا
النظر على مقياس أوسع في مستقبل الأيام، ومبادئ الترقي تبطئ سيرها لأول انبعاثها، ثم
تتسع خطاها بعد حين فتعدوا عدوًا، ودور التأسيس أصعب من دور الاستثمار، وليس من السهل
إعادة الحياة إلى لغة كادت تفقد نضرة ملكتها، بفعل قرون الجهالة وطول أيام الأعاجم
الذين دانت لهم بلاد العرب قرونًا، فقد رأينا من هذه الدول من كانوا ولا يزالون يسرون
إذا رأوا العربية تهوي إلى الحضيض، مع أنها لسان دينهم، وهم جماعات أخذوا بحب قوميتهم
إلى الغاية، فظنوا تلقف ما عاداها مما يقدح في وطنيتهم، وحاولوا بزعمهم «تطهير» لغتهم
من العربية، وما ندري إذا تم تطهيرهم المزعوم، ماذا يبقى لهم من لغتهم الضئيلة
بمفرداتها.
يريد بعض الغربيين الذين يخوضون في شئون المسلمين، أن يقلب العرب أوضاعهم ومشخصاتهم،
كأن الأمم ترتجل ارتجالًا، ومنهم من يزعم أن اللغة العربية لم تعد تصلح لغة علم ومدنية،
وأن العرب يجب أن يغيروا كل شيء في أساليبهم، وأن يكتفي أهل كل قطر باللغة العامية التي
اصطلحوا على التخاطب بها، يقولون هذا وهم يعرفون أن لكل أمة مصطلحًا، وأن الأمة تعيش
بماضيها، وما هي إلا تتمه، وقولهم: إن لغة العرب لا تتسع للمصطلحات الفنية، هو من
الدعاوي الساقطة بالبداهة، يكذبه ما يصدر اليوم من التآليف العلمية بالعربية في مصر
والشام والعراق وتونس وغيرها، وفي كتاب لغات العالم أن اللغة العربية الفصحى، أي
العربية القديمة والأدبية والعلمية لغة القرآن هي من أهم اللغات التي عرفها التاريخ،
وكان مؤلفوها لا يحصون كثرة، قالوا الشعر قبل الإسلام وبعده، وخلفوا من تفاسير القرآن
وكتب الحديث والعبادات، وألفوا في كل موضوع من التاريخ والمعاجم والكتب العلمية الصرفة
والقصص والرحلات وكتب المغامرات، وفي كل جنس من أجناس التأليف ما لا يقع عليه الإحصاء.
ا.ﻫ.
وقد نشأ تكاثر اللهجات العربية من تنائي أقطارها، وانقصام عرى وحدتها، «وأهل الأمصار
٢٥ إنما يتكلمون على لغة النازلة فيهم من العرب»؛ ولذلك كان هذا الاختلاف في
ألفاظ أهل الأمصار، وليست كثرة اللهجات بضارة كثيرًا ما دام المعول على الفصحى،
والعامية تقرب كل يوم خطوة منها، والضار شيوع الأمية في الأمة العربية، واللغة كما قال
ابن حزم: تتبدل بتبدل مساكن أهلها؛ فإنه بمجاورة أهل البلدة الأخرى تتبدل لغتها تبدلًا
لا يخفى على من تأمله، فتتبدل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة
الأمم، وإن كانوا يتكلمون في الأصل لغة واحدة. ومثل هذا رأي الثعالبي
٢٦ في أن شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها
في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريز الشاميين قديمًا وحديثًا على من سواهم في الشعر،
قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز؛ وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من
الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم، قال: إن شعراء
الشام جمعوا بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة.
ونحن اليوم لا نعلم الزمن الذي اضمحلت فيه اللغة الفصحى من الأفواه، ولكننا على يقين
من أن هذا اللسان بقي محروسًا
٢٧ لم يتداخله الخلل إلى أن فُتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم والفرس
والحبش والنبط وغيرهم من الأمم، فاختلطت الفِرَق وامتزجت الألسن وتداخلت اللغات، وما
انقضى عصر التابعين إلا واللسان العربي قد استحال أعجميًّا أو كاد، وقد قال عمارة اليمني
٢٨ من أهل المائة السادسة: إن الزراب، وهي الناحية الشرقية من المخلاف
السليماني في اليمن، ما زال أهلها إلى عصره باقين على اللغة العربية من الجاهلية لم
تتغير لغتهم؛ وذلك لأنهم لم يختلطوا قط بأحد من أهل الحاضرة في مناكحة ولا مساكنة، وهم
أهل قرار لا يظعنون منه. وقال ياقوت: إن جبلي عكاد فوق مدينة الزرائب باليمن كان سكانه
إلى القرن السابع باقين على اللغة العربية من الجاهلية لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم
يختلطوا بغيرهم من الحاضرة. ويقول الرحالة بروكهارت: إن في اللغة العربية المحكية عدة
لهجات مختلفة كل الاختلاف، وربما كان هذا الاختلاف مما يوجد من نوعه في لغات أخرى، وعلى
الرغم من سعة البلاد التي يتخاطبون بها، أي من موغادور إلى مسقط، فإن كل من حذق لهجة
واحدة يتيسر له أن يفهم جميع اللهجات، وقد يمكن أن يكون عرا التلفظ شيء من التأثير نشأ
من طبيعة البلاد المختلفة، واحتفظت العربية بعذوبتها في أودية مصر والعراق، وغدت قاسية
في البلاد الباردة من أرض البربر والشام، قال: وبقدر ما يصل إليه علمي، فإن الاختلاف
شديد بين اللهجة المغربية في مراكش والبدوية في الحجاز على مقربة من مكة ولكن لهجاتهم
الخاصة لا تخالف بينها، إلا كما تتخالف الألمانية التي يتكلمها فلاح من بلاد سواب وآخر
من سكسونيا.