تمهيد
الوعي بتاريخ العلوم … وعند العرب
لعل أبرز معالم فلسفة العلم في الهزيع الأخير من القرن العشرين هو أنها باتت معنِيَّة بتاريخ العلم، ولا تنفصل البتة عنه إن رامت تفهُّمًا حقيقيًّا لظاهرة العلم الحديث الذي يواصل نماءه وتطوُّرَه وتعمْلُقه إلى غير نهاية، وبالنظر إلى الحقبة السابقة من فلسفة العلم التي سادتها الوضعية المنطقية، واستَغْرَقَها السؤال عن المنهج، يمكن اعتبار هذا الاهتمام بتاريخ العلم بمثابة تَطَوُّر ونماء مَعْرِفِيٍّ لفلسفته …
إن فلسفة العلم قد سيطر عليها هاجِس الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته، واعتبارُ تاريخه مسألة ثانوية، وتوطَّد هذا بفعْل هيلمان الوضعية المنطقية على أجواء فلسفة العلم، وحتى منتصف القرن العشرين، وليس فينا من يُنْكِر دور الوضعية المنطقية العظيم في توطيد أُسُس النظرة الفلسفية العلمية، وتعبيد الطرق الاحترافية لفلسفة العلم، بخلاف الأفضال الجليلة في مجال المنطق الرياضي. لكن الوضعية كانت فلسفة علمية تجريبية متطرفة، قَصَرَتْ فلسفة العلم — بل والفلسفة بأَسْرِها — على مَحْض تحليلات منطقية للقضايا العلمية، مُجَرِّدِين الفلسفة من آفاقها الرحيبة وأبعادها المترامية، وشنُّوا حَمْلَتَهُم الشعواء على ربيبة الفلسفة المدلَّلة — الميتافيزيقا. فقد نَزَعَتْ الوضعية إلى تجريبية مُطْلَقة لا ترتبط بسواها، ونسق علمي فوق هامات كل الأبنية الحضارية الأخرى، بل وعلى أشلائها سيما أشلاء الميتافيزيقا، وأمعنت في تنزيه العلم من توجهات التفسيرات الاجتماعية والتاريخية، فأنكرت الدور الذي يلعبه تاريخ العلم في تمكيننا مِنْ فَهْم ظاهرة العلم فهمًا أعمق وأشمل، وأكَّدَت أن المعايير المنطقية، وليست التاريخية هي التي تحدد فلسفة العلم. هكذا جعلت الوضعية المنطقية من فلسفة العلم فلسفة لا تاريخية، تُوَلِّي ظَهْرَها لتاريخ العلم اكتفاءً بالمعطى الراهن منه، ورأوا أن التجربة قادرة على تفسير كل شيء حتى أنها بمثابة المعطى النهائي والبديهي، وحين ترتفع التجريبية إلى مستوى بديهيات المنطق، فإنها تكاد تلامس حدود المطلق الذي يعلو على الزمان والمكان ودَعْ عنك التاريخ. كانت الوضعية المنطقية فلسفة علمية متعصبة متطرفة، مارَسَتْ نوعًا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم، فمن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلف الغارق في سدم الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية.
هكذا نجد كارل بوبر، وتوماس كون، وإمري لاكاتوش، وبول فيير آبند فريقَ عمل متكاملًا، يُعْرَف باسم: الرباعي الأبستمولوجي، شَكَّل معالم فلسفة العلم في المرحلة التالية على الوضعية المنطقية؛ أي في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، وقد أصبحت فلسفة العلم فلسفةً إنسانية حية خفاقة، وليست مُجَرَّد تحليلات منطقية، لا تستغني طبعًا عن رصانة المنطق، لكن تتجاوزه لتصبح فلسفةً أبستمولوجية «معرفية» لا تنفصل البتة عن تاريخ العلم.
فتاريخ العلم — وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات — هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصُلب قصة الحضارة في تَطَوُّرها الصاعدِ دوْمًا، بل إن فلسفة العلم الآن تسير إلى أبْعَدَ مما أنْجَزَه هذا الرباعي العظيم في التأكيد على أهمية تاريخ العلم. فقد تعاظَمَ شأن العلم وتشابَكَتْ علاقاتُهُ، وأصبح أكثرَ شموليةً للموقف الإنساني أكثر من أي منشط آخر … ولا يَتَكَشَّف كل هذا إلا في ضوء تطوُّره التاريخي عبر تفاعُله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والمعرفية.
•••
ولئن تعلَّمْنا من فلسفة العلم أهميةَ تاريخ العلوم على العموم، فباقٍ أن نَتَّفِق على أهمية تاريخ العلوم عند العرب على الخصوص. ليس فقط من أجل العوامل الذاتية القومية التي تملي علينا العمل على تجذير الظاهرة العلمية وتوطينها في تُرْبَتنا، بل أيضًا من أجل العوامل الموضوعية الأعم، والتي تَهُمُّ المعنِيِّين بأصول ظاهرة العلم الحديث شرقًا وغربًا. تاريخ العلوم عند العرب يشغل كل الفضاء الحضاري الممتد منذ أفول عهد العلم البطلمي السكندري الذي توهَّج على شواطئ مصر، وحتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة، وبِغَضِّ النظر عن الطول الزمني لهذا الفضاء الذي تشغله العلوم عند العرب، فإن أهمِّيَّتها الخاصة تأتي من أنها المرحلة المفضية تاريخيًّا ومنطقيًّا إلى مرحلة العلم الغربي الحديث.
وتزداد الأهمية الموضوعية والمنهجية لدراسة تاريخ العلوم عند العرب؛ لأنه حظيَ بنصيب الأسد من التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وبفعل عوامل لا موضوعية ولا منهجية البتة سادت ردحًا من الزمن خرافة مُغْرِضة تؤكد أن العلم ظاهرة غربية بدأت من الصفر المُطْلَق مع الإغريق، وعَبْر فجوة باهتة مُظْلِمة — هي العصور الوسطى — انتقل إلى أحفادهم ووَرَثَتِهم الشرعيِّين في مراكز العلم الحديث في أوروبا.
لقد كان الإغريق أوَّلَ قوم في أوروبا يَخْرُجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية قبل الميلاد بستة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية، التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري. فلم يَتَوَانَ مفكرونَ غربيون في تسويغه، حتى شَكَّلُوا فيلقًا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداءً وأبدًا. فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نَصِيب الغَرْب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه «المعجزة» الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مُستعمَرَة.
وبينما الحضارة اختراع مصري، أنجزه الفراعنة — قبل الإغريق بألفي عام — ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط. فالعلم بدأ مع الإغريق كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضيات مع فيثاغورث، والميثولوجيا — الأساطير — مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وإسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا … إلخ … إلخ. فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فِعْل حضاري، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقًا لمَصَالِحِه، إذَنْ الاستعمار والهيمنة نصيب الغرب المشروع.
ونعود إلى العلم بمفهومه الحديث، لنجد العلوم التجريبية جذْعَه وجسدَه وإنجازَه الأعظمَ، وفي هذه العكسُ تمامًا هو الصحيح. فقد بلغَتْ مدًّا مبهرًا في الحضارات الشرقية القديمة، انحسر مع الإغريق. لقد تمرْكَزَت إنجازاتهم في العقل النظري والعلوم الاستنباطية؛ أي في المنطق والرياضيات؛ لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرِّغِين لممارسَة فضيلتَي التأمل والصداقة، ثم انطفأت الجذوة التي توهَّجَتْ للعلم والتقانة في الإسكندرية، واستمر أثر أرسطو متكاتفًا مع كهنوت رجال الكنيسة، كسدٍّ أمام العلم التجريبي طوال العصور الوسطى، يَئِن ويستجير منه الأوروبيون لا سواهم. حتى تحرروا في القرن السادس عشر من هيمنة أرسطو، وبدءوا انطلاقة العلم الحديث.
هذه المرة الإهدار من نصيب دور الحضارة العربية الإسلامية التي احتلت قَصَبَ السَّبْق في العصور الوسطى. لقد انفتحت على كل الحضارات الأسبق منها، وشَكَّلَتْ أمة تضم قوميات ومِلَلًا شَتَّى ساهموا جميعًا في إنجازاتها العلمية الهامة، فكان العرب — كما يقول مؤرخ العلم كروثر — هم المؤسِّسون لمفهومِ عالميةِ المعرفة، وهي إحدى السمات البالغة الأهمية للعلم الحديث.
ولأنه لا يصح إلا الصحيح فقد حَلَّ الوعي التاريخي بفلسفة العلم — بعد طول غياب — وانحسرت — إلى حَدٍّ ما — دعاوي التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وتنامى الاهتمام الأكاديمي به في العالم أَجْمَعَ، وتجري الآن مُحَاوَلاتٌ منهجية دءوبة لِتَتَبُّع كل مراحله وَصَلَتْ إلى الأصول الأنثربولوجية للعلم — كما أَشَرْنَا — مع اهتمامٍ خاصٍّ بتاريخ العلوم عند العرب، للعوامل المذكورة فيما سَبَقَ.
•••
في هذا الإطار تجتمع البحوث الأربعة التي تُشَكِّل مَتْن الكتاب على الرغم من أنها أُجْرِيَتْ في أزْمِنَة متفاوتة. المبحث الأول: عن أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة، يحاول أن يُلْقِيَ ضوءًا على مَعْبَرٍ من معابر انتقال العلم العربي إلى العلم الحديث في أوروبا. لم يوضع في المبتدأ كمصادرة على المطلوب، لكن لأن الرياضيات لها منزلتها المنطقية المعروفة التي تجعلها مُسَبَّقة وفوق كل المباحث الإخبارية، فضلًا عن أن البحث يحوي بين طَيَّاتِه خطوطًا عامة لمنهجية تأريخ العلوم من منظور مستقبلي، ولأن تاريخ العلم يجري عبر تفاعله مع البِنْيَات الحضارية والمعرفية كما ذَكَرْنَا، كان البحث التالي عن الأصول الفلسفية لِتصوُّر الطبيعة في تراثنا، على اعتبار أن هذا هو القاعدة المعرفية التي انطلقت منها العلوم عند العرب. حاول البحث أن يُلقي ضوءًا على عوامل تَدَفُّقها في العصر الوسيط، وأيضًا لماذا انحسرَتْ وتوقَّفَتْ ولم تُواصِل النماء والسيرورة في العصر الحديث؟ وكان لا بد من لقاء حي مع علمائنا القدامى، وتخيرنا اثنين: جابر والبيروني، لا جدال في تصدرهما العلم في عصرهما، وكلاهما تمثيل للطابع العالمي للعِلْم وحوار الحضارات وتفاعُلها في رَسْم فصوله، جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري بعقليته التي تداخَلَتْ فيها العناصر الإغريقية مع السكندرية والغنوصية والهرمسية والحرانية والإسلامية …
وبالله قَصْد السبيل.