المبحث الرابع
المنهج العلمي عند العالِم النابغة أبي الريحان البيروني
٣ من ذي الحجة ٣٦٢ﻫ–٢ من رجب ٤٤٠ﻫ
سبتمبر ٩٧٣م–١٣ من ديسمبر ١٠٤٨م
١
أولًا: مدخل إلى رحاب أبي الريحان
إن المنهج العلمي
٢ بخطوطه وشرائعه ونواميسه ومُثُله وقِيَمِه، ما هو إلا البلورة المستصفاة
والتمثيل العيني للعقلية التي تُوصَف بأنها عقلية علمية، وقد أتى أبو الريحان محمد بن
أحمد البيروني الخوارزمي
٣ في أَوْج العصر الذهبي للحضارة الإسلامية ليُمَثِّل أعلى مَدٍّ بَلَغَتْه
العقلية العلمية، فقد كانت عقلية البيروني مصبوبة في أُطُر المنهجية العلمية ومدموغة
بسيماء العلم، ومتمثلة لقيم العلم، ومتكرسة لأهداف العلم … بالمفهوم الحديث لمصطلح
العلم؛ أي المفهوم الإخباري المنهجي المُقَنَّن المُنْصَب على العالم الواقعي المتعين.
على الإجمال عقلية البيروني عقلية علمية
Scientific
إلى درجة لا نَحْسَب أنْ بَلَغَهَا عَلَم آخر من أعلام تاريخ العلوم عند العرب، مما
يُعَدُّ بحصادٍ جيد إن رُمْنَا استكشاف أبعادها المنهجية.
فقد كان المنطلَق الأساسي لهذا المبحث أن البيروني لم يَبْلُغ مَكَانَتَه التي
جَعَلَتْه الوحيدَ في الحضارة العربية الذي يُلَقَّب بلقب «الأستاذ»، وجعلَت المستشرق
الألماني العلامة إدوارد ساخاو (راجع هامش ١) بعد أن حَقَّق بعض كُتُب البيروني يقول
عنه عام ١٨٨٧: إنه أَعْظَم عقلية عَرَفَها التاريخ، كما أكد «أرثر بوب» أنه مِنْ أعظم
العقول المُفَكِّرة وعلى مستوى كُلِّ العصور، ونَعَتَ جورج سارتون — مؤرخ العلم الثقة
—
القرن العاشر/الحادي عشر الميلادي باسم «عصر البيروني» … لم يبلغ البيروني هذا
المَبْلَغ، إلا لأن المنهج قد تبَجَّلَت أهميَّتُه واسْتُبْيِنَت معالمه في رحاب
البيروني … وإذا انتهت أُطروحتنا إلى هذا، فإن البيروني إذن قد وَضَعَ يده على مفتاح
العلم. فالمنهج هو دماء حياة العلم والقوة المثمرة الوَلود إياه. النظريات قد يرسو بها
المطاف في متاحف التاريخ. أما المنهج — أسلوب البحث المنضبط حين يتبلور — فإن تطبيقه
يؤدي إلى النتائج تلو النتائج فيُصَحِّح بعضُها بعضًا ويفوق سابقَها لاحقُها، ليذوي هذا
السابق، ومع توالي الممارَسات المنهجية يُصْبِح هذا اللاحق بدوره سابقًا يومًا ما،
وهكذا دواليك … يمضي السير قُدُمًا في طريق التقدم والتطور المَعْرِفي، بفضل أو على
أساسٍ من المنهج — مُنْطَلَقِنا إلى عالم البيروني الخصب الزاخر.
إن البيروني أبرز علماء الحضارة العربية في الرياضيات وفي الفلك
٤ الذي عَرَفَه العرب باسم «علم الهيئة» وعَدُّوه فرعًا من
الرياضيات.
٥ وظل الفلك دائمًا وثِيقَ الاتصال بالرياضيات، وهما مجالات يُطْلَق عليها في
قديم العلم وحديثه مصطَلَح «العلوم الدقيقة المنضبطة» وكان هذا من العوامل التي أكسبت
عقلية البيروني منهجية مقننة، إنه أكثر أقطاب الحضارة العربية تكرسًا للمباحث والعلوم
العقلية.
ولئن كان البيهقي والشهرزوري ينعتان البيروني بأنه من أجِلَّاء المهندسين، فإنه ليس
رياضيًّا قُحًّا، كسَلَفِه الخوارزمي أو أبي سعيد السجزي أو سواهما، بل يتقاطع مع قُطْب
الرياضيات والفلك قطبٌ آخر، هو التاريخ والحضارات والأنثربولوجيا، ثم ما يستتبع
تقاطعهما من مباحث تجريبية أَنْجَزَ فيها البيروني، هي الجغرافيا والجيولوجيا والمعادن
وأيضًا الطب والصيدلة. فلا ننسى الطابع الموسوعي للعالم في العصر الوسيط.
الفلك والرياضيات أولًا وقَبْل كل شيء، والتاريخ والحضارة ثانيًا، ثم العلوم الطبيعية
التجريبية، تلك هي مقاطعات علم البيروني.
وتعلو مدارج السمة العلمية حين يتبدى كيف كان اهتمام البيروني بالمباحث الإنسانية
اهتمامًا علميًّا خالصًا بذلك المفهوم الحديث الذي اتفقنا عليه لمُصْطَلَح العلم الذي
يفيد علومًا إخبارية وصْفية وتفسيرية مُنْصَبَّة على ما هو كائن، وعلى الوجود الواقعي
المتعيِّن، وليس على ما ينبغي أن يكون، أو على مستويات أخرى من الوجود، بهذا المفهوم
كانت عقلية البيروني — على ثرائها وغزارة إنتاجها — عقليةً علمية في صُلْبِها وهيكلها،
في مبناها وأهدافها. أما الأبعاد الدينية والفلسفية والأدبية
٦ التي هي حاضرة عند البيروني، فكانت هوامش لكي يكتمل التشكيل العلمي
للعقلية، وروافد تُغَذِّيه وتُصْقِله، لا سيما وأن الإطار الثقافي للعصر يَفْرِضها
ويستلزمها لكي يكون العالِم عالمًا بحق، والفلسفة بالذات دَوْرُها خطير في تعميق
العقلية العلمية وفي كل عصر.
وإذ اكْتَسَبَ البيروني السمة العلمية إلى هذا الحد، فسبيلنا الآن إلى رحلة في
عالَمِه، لنرى هل كان منهجيًّا وعقلانيًّا بنفس القدر؟ وإذا أَسْفَرَتْ محصلة بحثنا عن
الإيجاب، يغدو من نافلة القول التساؤل عما إذا كانت العقلانية العلمية المنهجية بضاعة
غربية، علينا استيرادها وتدجينها، أو ما إذا كانت فلسفة العلم — من ناحية أخرى — في
بحثها لهذه المفاهيم ملتزمة فقط بالمعطى العلمي الراهن، وأصوله التي هي أولًا وأخيرًا
غربية.
ثانيًا: معالم شخصية علمية
وإن أبا الريحان البيروني لَرَجُلٌ تُحْنى الْهَامُ إجلالًا وتَكْرِمَةً له، لخصلتين
دُرِّيَّتَيْن تحقَّقَتَا فيه بوصفه عالمًا. الأولى: هي عِشْقُه النزيه للعلم، فقط من
أَجْل العلم، حتى إنه يرفض عطايا السلاطين التي قد تصل إلى حَدِّ حِمْل فيل من الفضة
—
حسب واقعةٍ يُخْبِرنا بها ياقوت الحموي — إذا كانت هذه العطية مكافأةً على إنجاز علمي
تَوَصَّل إليه، معتذرًا بأنه «يخدم العلم للعلم لا للمال»
٧ والخصلة الثانية هي مدى هذا العشق النزيه للعلم، حتى إن واحدًا من رفاقه في
الدرس والبحث — ويُدْعَى الولوالجي — قد عادَه وهو على فراش الموت، فما كان من البيروني
إلا أن غالب حشرجات المنية، وسأله عن إحدى المسائل الرياضية، فقاطَعَهُ الصديق مشفقًا:
أفي تلك الحالة؟ فرَدَّ عليه البيروني بقولٍ لَعَلَّه مِنْ أَنْفَذِ ما قِيلَ تبتُّلًا
إلى رحاب العلم، ألا وهو: «يا هذا، أنْ أُوَدِّعَ الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة خير
مِنْ أَنْ أخليها وأنا جاهل بها.»
٨ فلما تناقش معه الصديق، واطمأن إلى حسمه لتلك المسألة، انْصَرَفَ من عنده.
غير أن الصراخ سَبَقَه للطريق!
على أن «العلم للعلم» عند البيروني قيمة منهجية خالصة، ولا تعني بحال توجُّهًا
ميتافيزيقيًّا مُجرَّدًا، وكأنه مُواصِل لمُثُل الإغريق التي مَجَّدَت التأمل العقلي
الخالص فقط مِنْ أجْل المتعة العقلية اللائقة بالسادة، بل تعنى فقط أن قيمة العلم لا
تُحَدِّدُها أبدًا المنفعة العملية؛ لأن المنفعة العملية عنده لا تُحَدِّد قيمة أي شيء،
فهو يقول في «تحديد نهايات الأماكن»: «الفضيلة الذاتية للشيء غير المنفعة العارضة
لأجله.» وعقلية البيروني ذات المنحنى العلمي الواقعي لا تَعِي ولا تَقْبل العلم للعلم
أو الفن للفن كدوائر مغلقة. العلم عنده يَنْصَبُّ في رافد الحضارة العربية ويَخْدُم
القيم الإسلامية واحتياجات المجتمع الإسلامي، وقيم العلم عند البيروني ودوافعه وبواعثه
يُمْكِن أن نَجِدَها في تعاليم القرآن الكريم التي تَحُثُّ على التأمل في السموات
والأرض التي خلقها الله بالحق،
٩ وكثيرًا ما يستشهد البيروني في مقدمات أبحاثه بالآيات الكريمة الدالة على
هذا، ولا شك أن البعد الإيماني من العوامل التي زَرَعَتْ في شخصية البيروني عشقًا
للعلم، تُجَسِّدُه الأقصوصتان المذكورتان.
وهذا العشق المتأصل للعلم وراءه نبوغ مبكر، يكاد يكون الشيءَ الوحيد المُثْبَت عن
حداثته،
١٠ فقد وُلِدَ البيروني في خوارزم لأسرة فقيرة مغمورة من أصل فارسي، فلا نعلم
شيئًا عن نشأته إلا شَغَفه بالعلم وحِرْصه على تدوين ما يصل إليه من معلومات منذ
اليفاعة وبواكير الصبا.
ومن ثَمَّ نَجِدُه أتْقَنَ علوم اللغة العربية، شأن كل أعلام الحضارة الإسلامية التي
تتمركز حول محورها الثابت ألا وهو القرآن المبين. أما لغة البيروني الأم؛ أي اللغة
الخوارزمية فهي لهجة من لهجات اللغة التركية مُطَعَّمَة بمفردات كثيرة فارسية، وهي لغة
شعبية أو عامية. لم تكن آنذاك من لغات الكتابة والإنتاج العلمي والثقافة. الثقافة آنذاك
اقتصرت على اللغة العربية أولًا ثم الفارسية، وقد أجاد البيروني كليهما وبَلَغَ فيهما
من البلاغة وسلاسة التعبير مَبْلَغًا يَعِزُّ على الأهلين من العرب والفرس، وإخراجه
لعلمه «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» باللغتين العربية والفارسية يُبَيِّن إلى أي حد
تَمَلَّكَ ناصيتَهُما وأَجَادَهُما، ويشتهر عنه قوله: «إن الهجو بالعربية أحب إليَّ من
المدح بالفارسية.» فيُوَجِّه لطمة قوية للنزعات الشعوبية التي حاولت عبثًا الإعلاء من
شأن الفرس على العرب. فقد دان البيروني بالولاء العظيم والعميق للعروبة.
وعلى هذه الأسس يمكن أن نتفهم نصًّا بالغ الأهمية والدلالة، قاله البيروني في مقدمة
كتابه «الصيدلة في الطب» واستهله بتأكيد أن كل أمة من الأمم — اليونان والعبرانيين
والنصارى والهنود والمغاربة … — موصوفة بالتقدم في عِلْم أو عَمَل، ثم يقول أبو الريحان:
ديننا والدولة العربية توءمان، يُرَفْرِف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى
الآخر اليد السماوية، وكم احْتَشَدَ طوائف من التوابع وخاصة منهم الجيل
والديلم، في إلباس الدولة جلاليب العُجْمَة، فلم تنفق لهم في المراد سوق، ما
دام الأذان يَقْرَعُ آذانهم كل يوم خمسًا، وتُقَام الصلوات بالقرآن العربي
المبين خَلْف الأئمة صفًّا صفًّا، وَيَخْطُب به لهم في الجوامع بالإصلاح كانوا
كاليدين والفم، وحَبْل الإسلام غير منفصم وحِصْنه غير مُنْثَلِم، وإلى لسان
العربية نُقِلَت العلوم من أقطار العالم وسَرَتْ محاسن اللغة منها في الشرايين
والأوردة، وإن كانت كلُّ أمة تستحلي لُغَتَهَا التي أَلِفَتْهَا واعتادتها
واستعملتها في مآربها مع آلافها وأشكالها، وأقيس هذا بنفسي وهي مطبوعة على لغة
لو خُلِّدَ بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في المكراب،
ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو
بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية.
١١
التسامح والانفتاح على تراث كل الأمم، وراءه إيمانُ العالِم بوحدة العلم وتكامُل
الجهود في طريقه، ولم يتعارض هذا مع إيمان معتزٍّ بالدين الإسلامي، جَعَلَه يَرْفَع من
شأنِ العروبة ولغتها الجميلة التي تَرْجَم إليها أسفارًا، ثم تَعُود موضوعية العلم
لتؤكد أن كل اللغات سواسية من الناحية الموضوعية، متفاضلة على أسس ذاتية. فينحو على
ذاته ويتذكر لغته الخوارزمية — التي هي غريبة ومغتربة عن العلم — لكنه اقتحم لغتي
الثقافة؛ أي العربية والفارسية وللأسباب الدينية والحضارية المذكورة تعلو الأولى على
الثانية إلى أبعد الحدود.
ثالثًا: حصادٌ وافرٌ
وفضلًا عن الخوارزمية والفارسية والعربية التي عَشِقَها، أتقن البيروني أيضًا اللغات
السنسكريتية والسريانية والعبرية وألمَّ باليونانية.
١٢ مما يَسَّرَ له الرجوع إلى المراجع العلمية المنجَزَة في تلك الحضارات
العريقة، متفاديًا أخطاء المترجمين غير الملمين بدقائق العلم المتخصصة، وكان هذا من
العوامل التي أعطته خلفيةً علمية مكينة يَسَّرَت له الانطلاق بعبقريته.
من هذه العوامل أيضًا أنه تراسل مع معاصره الشيخ الرئيس ابن سينا، وتفاعل — بعنفٍ
—
مع عقليته الموسوعية الثرة، فقد وجدت للشيخ الرئيس أجوبة مسائل سأله عنها أبو الريحان
البيروني، وهي تحتوي على أمور مفيدة في الحكمة.
١٣ لكن النقاش بينهما كان حادَّ اللهجة حتى عزف ابن سينا عن
مُوَاصَلَتِه،
١٤ لكن لا ينفي هذا أن البيروني عَرَفَ للفلسفة حَقَّ قَدْرِها وَعَدَّها من
أهم ظواهر المدنية، وأَوْلاها حظًّا من عنايته، وله فيها إسهام، ولا يَحْتَلُّ البيروني
مَوْقِعًا في تاريخ الفلسفة ولم يُعْرَف كفيلسوف؛ أولًا: لأن عقليته أساسًا — كما
اتفقنا — عِلْمِية وموقعه الحق في تاريخ العلم، وثانيًا: لأن إسهاماته الفلسفية مفقودة
تمامًا، وأهمها «كتاب في التوسط بين أرسطو طاليس وجالينوس في المحرك الأول» و«رياضة
الفكر والعقل»، وعُثِر أخيرًا في إسطنبول على عَمَلٍ هامٍّ له في الفلسفة بعنوان
«الشامل في الموجودات المحسوسة والمعقولة»، ولكن لم تَثْبُتْ بعد نِسْبَته إلى البيروني
بصورة قاطعة.
١٥
ليست كتبه في الفلسفة فقط هي المفقودة، مفقود أيضًا بعض من أهم أعماله في عقر داره
—
أي في الفَلَك والرياضيات والطبيعيات — من قبيل «البحث عن الآثار العلوية» ومقالة «في
صفة أسباب السخونة الموجودة في العالم واختلاف فصول السنة»،
١٦ وغير هذا كثير مفقود تمامًا، فقد وَضَعَ الرجل ما لا يُحصى من الرسائل
العلمية القصيرة.
١٧
وحين وَضَعَ البيروني فهرست لأعمال أبي بكر محمد بن زكريا الرازي
(+٣١٣ﻫ/٩٢٥م)
١٨ ذَكَرَ معها قائمة من أعماله هو نفسه بَلَغَتْ مائة وثلاثة عشر عملًا،
بالإضافة إلى خمسة وعشرين عملًا كتبها علي بن العراق، وأبو سهل عيسى بن يحيى المسيحي،
وأبو علي الحسن بن علي الجيلي تحت إشرافه، ثم ذَكَرَ حاجي خليفة في «كشف الظنون» خمسة
عشر عملًا آخر للبيروني، لَمْ يَذْكُرها حين ذَكَرَ أعماله في فهرست الرازي؛ لأنه
أَنْجَزَهَا فيما بعد — أي في الأربعة عشر عامًا السابقة على وفاته — وكذلك تَمَّ
العثور على سبعة مخطوطات أخرى لم تَذْكُرها أيٌّ من هذه المصادر، بخلاف أعمالٍ نسبها
آخرون أو نَسَبُوا مضمونها للبيروني.
والخلاصة أن أعمال البيروني تبلغ حوالي مئة وثمانين عملًا.
١٩
ويزداد الإعجاب بأبي الريحان حين نَجِدُه قد ترك هذا الإنتاج الغزير في حين أنه عاش
في عصر اضطراب سياسي شديد، بل واشتغل فيه بالسياسة؛ إذ عَمِلَ مستشارًا لخوارزم شاه مما
جَعَلَ حياته بدورها شديدة الاضطراب، فتَعَرَّض للأسر والسجن والنفي، وكان على وشك أن
يُعْدَمَ لولا أن شَفَعَتْ له مؤلَّفاته، وذلك عندما استولى السلطان الغزنوي محمود بن
سبستكين عام (٤٠٧ﻫ/١٠١٧م) على خوارزم التي قضى فيها البيروني نَحْبَه بعد ذلك عام ٤٤٠ﻫ،
وهي تقع الآن على حدود أفغانستان، وكان من العلماء المحتجَزين البيرونيُّ وأستاذُه عبد
الصمد الحكيم. قَتَلَ محمود الغزنويُّ عبْدَ الصمد واعتَقَل البيروني في قلعة غزنة ستة
أشهر، ثم أَطْلَقَ سراحه؛ لأن مؤلفاته جَعَلَتْه يُدْرِك أنه في حاجة إلى
علمه.
٢٠
ومع هذه الأجواء بلغ إنتاجه — كما ذكرنا — نيفًا ومائة وسبعين عملًا، ولئن ضاع
بعْضُها فليس يَصْعُب تقصي أبعاد المنهج العلمي عند البيروني، ولا يحتاج الأمر إلى
إسقاطات أو تَعَسُّفيات متربصة دائمًا بمبحث تاريخ العلوم عند العرب، فما زالت البقية
الباقية من الأعمال المحقَّقة والمثبَتة للبيروني من الكتب الكبرى أو الرسائل
المجَمَّعة (راجع هوامش هذه الدراسة) تُمَثِّل رصيدًا هائلًا للباحثين.
هذا بخلاف ما يَنْتَظِر الإثبات والتحقيق من مخطوطات أخرى للبيروني متناثرة في
المكتبات الأوروبية، وفي المكتبات الآسيوية التي تتمسك بانتساب البيروني إليها.
فقد وُلِدَ في مدينة كاث بخوارزم التابعة الآن لجمهورية أوزبكستان التي أقامت — حين
كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي حتى انهياره — في عاصمتها طشقند جامعةً أَطْلَقَتْ
عليها اسْم جامعة البيروني تخليدًا لذكراه، كما أَطْلَقَتْ على مدينة كاث اسم مدينة
البيروني، وتقع على شاطئ نهر آمو داريا — وهو نهر جيجون القديم — وتبعد حوالي مائتي
كيلو متر جنوبي بحيرة آرال.
٢١
ولكن مسقط الرأس ليس هو دائمًا دامغ الهوية. فقد عاش البيروني في رحاب الحضارة
الإسلامية في عصرها الذهبي، وصَدَقَ إيمانه بدينها، ودان — كما رأينا — بالولاء العميق
لها، وانتمى لزمرة أعلامها، وساهم في مَدِّها العلمي، أَخَذَ منه وأعطاه، وكَتَبَ
بلسانها وآثره على سواه.
رابعًا: منهجية التواصل العلمي
وعلى الرغم من عِشْق البيروني للغة العربية جاءت كتاباته بعيدةً عن الزخرف اللفظي
والتنميق بغير داع، ومَكْسُوَّة مع هذا بمسحة جمالية عذبة، والأهم أنها أنموذج لمنهجية
التفكير وتسلسل الأفكار، متحرية الضبط عن طريق استعمال مصطلحات دقيقة أو على الأقل
مُحَدَّدة. إنها على الإجمال كتابة عِلْمِية لأقصى حد يمكن أن يسمح به العصر الوسيط،
خصوصًا وأن عالِمنا كان يكتب دائمًا واضعًا نُصْبَ عينيه أنه عالِم مُتَبَحِّر، لا يكتب
للدهماء، ولكن لصفوة العلماء، فيتعمد البعد عن الأمثلة التي تُوَضِّح بقدر ما تَبَسَّط
وتَسَطَّح، يقول البيروني: «إني أُخْلِي تصانيفي من المثالات، ليجتهد الناظر فيها ما
أَوْدَعْتُه فيها، مَنْ كان له دراية واجتهاد وهو مُحِبٌّ للعلم، ومن كان من الناس على
غير هذه الصفة فلستُ أبالي فَهِمَ أم لم يفهم.»
٢٢
هكذا لم تكن كتابات البيروني سهلة يسيرة المنال، فلم يَعْرِفْه العالَم
الغربي،
٢٣ ولم تَنْتَقِل نصوصه إلى أوروبا في عصر انتقال العلم العربي إليها فيما
قَبْلَ عصر النهضة. عرفه الأوروبيون فقط مع نمو حركة الاستشراق في القرن التاسع عشر،
واهتموا به مع تنامي الاهتمام بتاريخ العلوم في القرن العشرين، ويُرْجِع مارتن بلسنر
هذا إلى تَخَوُّف المترجمين في العصور الوسطى وعصر النهضة من «صعوبة لغة البيروني
ومناهجه الدقيقة لمعالَجة الموضوعات الواردة في مؤلفاته»
٢٤ ولكن لئن لم تَنْتَقِل نصوص البيروني إلى أوروبا آنذاك، فليس يعني هذا أنه
ليس له أيُّ دَوْر في التمهيد للنهضة الأوروبية ولحركة العلم الحديث. فلا شك أن
للبيروني دورًا في هذا، لكن بأسلوب غير مباشر عن طريق التلاميذ
٢٥ والتالين له من أعلام الحضارة العربية، خصوصًا في مجال الفلك والرياضيات،
الذين ملأت مؤلَّفَاتُهم مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا من قبيل صقلية وأشبيلية
وقرطبة.
٢٦
دأب البيروني على جمع «ما للقدماء والمحدثين»
٢٧ من رؤًى ونظريات في القضية المطروحة للبحث، خصوصًا حين يَطْرَح برهانه
الهندسي لا بد وأن يَسْبِقَه بالبراهين التي طُرِحَتْ قبله، ولا يخلو الأمر من مقارَنة
موضوعية، وكان مُولَعًا بالجدل ونَقْد العلماء السابقين عليه والمعاصرين له وتبيان
أخطائهم وتصحيحها. فهكذا فَعَلَ مع الكندي وثابت بن قرة وإبراهيم بن سنان وأبي الحسن
البصري، وبطليموس وأرشيمدس وإرازموس … وغيرهم، كما كان يَنْقُد ويُصَحِّح نظرياتٍ
أصحابُها غيرُ معروفين. ودَيْدَنُه في هذا ألا يعمد أصلًا لدراسة موضوع إلا بعد أن
يُحِيطَ بكل ما كُتِبَ عنه، ويقيمه وينقده، ورائده عدم التسليم بأية قضية مهما كانت
مشهورة إلا بعد امتحانها وإثبات أنها جديرة بالتسليم، ثم لا يتوانى عن تقدير آراء
الغير، وتحري الأمانة في إثبات الفضل لذويه، قائلًا أنه تعلم من أساتذته إعمال الرأي
والبعد عن التعصب وطلاقة الفكر ليمزج بينها وبين ما أَخَذَهُ عن أبي نصر — أي الفارابي
— «فتكون يقظة العقل ووثبة الذهن وسلامة المنهج».
وبخلاف المعلم الثاني — الفارابي — تأثر البيروني بجالينوس العرب أبي بكر الرازي
الذي
وَضَعَ فهرست لأعماله، حتى وإن كان هذا «محض استجابة لطلب صديق»،
٢٨ فقد مال البيروني لكثير من آراء الرازي الطبيعية المخالِفة للمشائية
الأرسطية السائدة في الثقافة الإسلامية، ولعل الرازي هو الذي ألقى في رُوع البيروني
قيمة تاريخ الشعوب وعقائدهم، فقد أكد على أهمية هذه الدراسات، وبصفة خاصة فإن نزعة
الرازي العلمية العقلانية التجريبية، وتأكيده لمعقولية الطبيعة واعتبار العقل جوهر
الإنسان على الأصالة وأنه الحاكم في الكون ومجعول للمعرفة،
٢٩ وتنبيهه إلى ضرورة التجريب الواعي وتحصيل المعارف السابقة عن الأقدمين،
وامتحانها إذا لَزِمَ الأمر، وتعديلها إذا حَكَمَت الخبرة والتجربة.
٣٠ كل هذه الخطوط تنعكس بوضوح في منهجية البيروني.
ولكن البيروني ذا الإيمان الصادق العميق كان لا بد وأن يلوم الرازي لِمَا عُرِفَ
عنه
أو نُسِبَ إليه من شطحات حرانية وهرمسية، وقوله بالقدماء الخمسة وإنكار النبوة … وما
إليه من أراجيف جَعَلَتْه يُلَقَّب بالملحد الأكبر … هذا ما جعل الباحثين يختلفون بشأن
موقف البيروني من الرازي هل يُدِينه أم يَدِين له؟، ونحن نرى أن البيروني على الرغم من
كل ما وَجَّهَه للرازي من نَقْد ومن تبكيت، فإنه قد أدان فقط شطحاته، ونميل إلى رأي
ريتشارد وَالْزر الذي أكد أن البيروني حَمَلَ للرازي — كعالِمٍ وكفيلسوف — تقديرًا
فريدًا
٣١ إنه متواصل معه، سائر في طريقه العلمي والمنهجي.
خامسًا: منهاج علمي للدرس والتحصيل
هكذا نلاحظ أن البيروني تأثر بالفارابي وبالرازي وابن سينا الذي يصغره في السن وفي
العبقرية العلمية، كما أكَّد دي بور (راجع الهامش ٢٤) … تأثر أيضًا بالكندي والمسعودي
والفلكي الهندي فاراهميرا وسواهم ممن سبقوه …
أما إذا يممنا الأبصار شَطْر المستقبل، فلن تُدْهِشَنا نقاط التقاء بين البيروني
وبين
كارل بوبر K. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤) شيخ فلاسفة
المنهج في القرن العشرين والذي خَرَجَتْ من أعطافه كل خطوط فلسفة العلم الراهنة، وكانت
أهم منطلقات فلسفة بوبر أن الملاحظة تالية على الفرض العلمي، أما البدء بالملاحظة فلا
يفضي إلى شيء، وهذه قضية مأخوذٌ بها الآن. لكن كان لا بد وأن يجيب بوبر على السؤال: ما
هي نقطة البدء إذن — أو ما هي المرحلة الأولى — للبحث العلمي؟
واجتهد بوبر في تأكيد أن البداية المثمرة للبحث العلمي إنما هي بصياغة المشكلة
المطروحة للبحث وتحديدها
٣٢ وفي فاتحة كتاب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» يقول البيروني:
سألني
أحد الأدباء عن التواريخ التي تستعملها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي
مبادئها، والفروع التي هي شهورها وسنوها، والأسباب الداعية إلى أهلها إلى ذلك، وعن
الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال، وغيرها مما يَعْمَل عليه بعض
الأمم دون بعض.
٣٣
تلك هي المشكلة المطروحة للبحث، وبعد صياغتها بوضوح يطرح البيروني أسلوب
تناولها أو منهاج بحثها عبر خطوط ثلاثة — أكدها بوبر وسواه من فلاسفة المنهج العلمي —
وهي التعقيل والتجريب، ثم الحصيلة المعرفية التي تَكْفُل تواصل الجهود والطابع الجمعي
التراكمي للبحث العلمي. فبيَّن البيروني: «أن الاستدلال بالمعقولات والقياس بما يُشاهَد
من المحسوسات»
٣٤ — وذلك أَمْر ضروري — لا يُغْنِي عن الاطلاع على كتب السابقين، وأصحاب
الآراء وأهل الملل والنِّحل المستعملين لذلك و«تصيير ما هم فيه أُسًّا يُبْنَى
عليه»
٣٥ ونلاحظ أنه بالنسبة للمشكلة المطروحة للبحث فإن «ما هم فيه» رصيد معرفيٌّ
سابق، ومن ناحية أخرى معطيات تجريبية عن موضوع البحث.
ثم يستأنف البيروني حديثه، مُلِمًّا بقيم البحث المنهجي ونواميسه فيقول بشأن مسار
البحث العلمي المقبل:
«ثم قياس أقاويلهم وآرائهم في إثبات ذلك بعضها ببعض، بعد تنزيه
النفس عن العوارض المردئة لِأكثر الخَلْق والأسباب المُعْمِية لصاحبها عن الحق، وهي
كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة، وأشباه
ذلك.»
٣٦
وبغير هذا الطريق لا يتأتَّى لنا نيل المطلوب ولو بَعْد العناء الشديد
والجهد الجهيد بتعبيره، ثم يُسْرف في إيضاح الصعوبات التي تَكَبَّدَها وهو يتحرى هذه
القواعد المنهجية والجهود المضنية التي بذلها لتمحيص الأخبار المتضاربة ونفي الزائف
منها.
فمن أجمل ما في البيروني أنه لم يَقَعْ في الهاوية التي وَقَعَ فيها ديكارت أو ابن
خلدون
مثلًا، أولئك الذين تأتي مناهِجُهُم في وادٍ وأبحاثهم ذاتها في وادٍ آخر. بل جاءت
أبحاث البيروني خيرَ تطبيقٍ لمناهجه، فارتد هذا في قيمتها التي ساهمت في دَفْع حركة
العلم إبان عصرها.
وقد وَضَعَ البيروني كتابه المذكور «الآثار الباقية عن القرون الخالية» في عام
(٣٩٠-٣٩١ﻫ)، وهو في السابعة والعشرين من عمره ليحمل حماسة الشباب ورصانة العقلية
المنهجية في آنٍ واحد، وانْصَبَّ موضوعه — كما أشرنا — على دراسة التقاويم عند الأمم
القديمة، مُرَكِّزًا على قوانين بطليموس ومواصلًا مَسَارَه، وكما أَوْضَح مارتن بلسنر
وهذا الكتاب أوَّل عمل في الفكر العالمي يتضمن دراسة وصفية لحقب مختلفة من
التقويم،
٣٧ ولكن تطرق البيروني إلى الأعياد الدينية والأيام المشهورة، مما جَعَلَ
الكتاب يحمل — بخلاف مضمونه الفلكي الهندسي — كنزًا مذخورًا في تاريخ وحضارات الشعوب
الشرقية وأديانها ومأثوراتها، وكان هذا معهودًا دائمًا من عالِمِنا.
وإذا كنا باحثين عن المنهج كتمثيل للعقلية العلمية فسوف يتقدم كتاب «الجماهر معرفة
الجواهر» على سائر أعمال البيروني؛ لأنه تجسيد لمدى السير قُدُمًا نحو اكتساب السمة
العلمية، بالتالي المنهجية التي طَبَعَتْ عقلية البيروني.
ليس هذا الكتاب فتحًا جديدًا في ميادين البحث؛ لأن التأليف في الجواهر أمرٌ شائعٌ
في
الحضارة الإسلامية والحضارات القديمة إجمالًا، وثَمَّة أعمال سَبَقَت البيروني أهمها:
«في الجواهر والأشباه» للكندي، ومقال لنصر بن يعقوب الدينوري، وأخرى مفقودة لأبي بكر
الرازي، وباستثناءات قليلة نَجِدُ أن أغلب الأعمال الجمة في هذا تهتم أساسًا بالقوى
السحرية التي تُنْسَب للأحجار الكريمة، فتكون مجالًا تتكاثر فيه الأساطير الخرافية بشأن
قدرات الجواهر وفعالياتها التي تُسْتَمَدُّ منها القيمة العالية والثمن الغالي؛ لذلك
يُحْمَد اتجاه البيروني العلمي، وهو يبحث في الجواهر كمحض موجودات فيزيقية، ويتجاهل
تمامًا أية قُوًى سحرية لها، ويُكَرِّس جهوده لتوصيفٍ عقلاني لأسمائها وأنواعها
وأوزانها وقيمتها التجارية وأماكن توافرها …
بادئ ذي بدء يجري البيروني على ديدنه المنهجي، ويبدأ بصياغة المشكلة المطروحة للبحث
بوضوح، فيقول: «نريد الآن أن نخوض في تعديد الجواهر والأعلاق النفيسة المذخورة في
الخزائن، ونفرد لها مقالة، تتلوها ثانية في أثمان المثمَّنات وما يجانسها من الفلزات،
فكلاهما رضِيعَا لبانٍ في بَطْن الأم، وفَرَسَا رهانٍ في الزينة والنفع.»
٣٨
وبهذا التساوق التام بين الجواهر والفلزات لن تزيد عن كونها جوامد/موجودات جيولوجية
تخلقت في القشرة الأرضية — بطن الأم — ثم كان فيها منافع للإنسان.
فينقسم متن الكتاب — بعد تمهيدٍ ذي طابع أدبي — إلى مقالتين: الأولى: في الجواهر،
والثانية: في الفلزات.
٣٩ في الجواهر بَحَثَ البيروني الياقوت وأشباه اليواقيت منها اللعل والبيجاذي
والماس، والسنباذج الذي يعاون الماس في الصلابة والحك والجلاء.
٤٠ واللؤلؤ والمرجان، والزمرد وأصنافه، والفيروز، والعقيق، والجزع، البلور
والبسد، اللازورد، الجمست، الدهنج، اليشم …
وينتهي إلى ذكر الكهربا والمغناطيس … وأنواع أخرى من الأحجار نصف الكريمة حتى يتطرق
إلى الأنواع الجيدة من الخرز ويختتم الحديث بالبرد والزجاج والمينا.
أما عن الفلزات فقد استهلها بالزئبق،
٤١ ثم الذهب والفضة والحديد والأسرب … وتحدث عن المركبات أو «الشبه المعمولات
والممزوجات بالصنعة»
٤٢ والشبه نحاس أصفر بإطعام التوتيا المدبر بالحلاوات وغيرها حتى أشبه بالذهب،
ويستفيض في ذكر أساليب تجريبية دقيقة،
٤٣ وينهي الفلزات بالأسفيروري والبتروي والطاليقون
٤٤ … وبالكتاب مُلْحَق لتبيان مناجم الجواهر والفلزات … وهكذا في مجالٍ خصيب
للخرافة، نجد بحثًا مهمًّا كانت درجة قصوره المعلوماتي أو ضآلة رَصِيدِه المعرفي بحكم
زمانه، فإنه لا يوسم إلا بالسمة العقلانية العلمية كمنهاجية تحتذى.
ومما يؤكدها أكثر، أن العنوان الوحيد اللامعقول في الكتاب هو «الحجر الجالب
للمطر».
٤٥ ذكره أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتابه «الخواص» وهو حجر بأرض الترك،
من شأن تحريكه أن ينزل المطر الدافق، وينقل البيروني تفاصيل ذلك عن ابن زكريا الرازي،
مُعَقِّبًا بقوله: «وليس ابن زكريا يختص بهذه الحكاية، إنما هي كالشيء الذي لا
يُخْتَلَف فيه.»
٤٦ ولكن العقلانية العلمية التجريبية المتمكنة من عقل البيروني تَجْعَلُه ما
يذكر هذا إلا ليستنكره أشَدَّ الاستنكار، ويَدْحَضُه بسلاح المنهج العلمي: العقل
والتجريب. فيقول: «إن أحد الأتراك حَمَلَ إليه شيئًا من هذا الحجر، ظن أني أتبجج بها
أو
أَقْبَلُها ولا أناقش فيها، فقلت له: «جئني بها مطر في غير أوانه أو في أوقات مختلفة
بإرادتي، وإن كان في أوانه حتى آخذه منك وأوصِلَك إلى ما تُؤَمِّله مني وأزيد.» ففعل
ما
حَكَيْتُ مِنْ غمس الأحجار في الماء ورمى نقيعها إلى السماء مع همهمة وصياح، ولم ينفذ
له من المطر ولا قَطْر سوى الماء المرمِيِّ لما نزل، وأعجب من ذلك أن الحديث به يستفيض
في طباع الخاصة فضلًا عن العامة، منطبع يلاحون فيه من غير تحقق.»
٤٧
هكذا يندهش البيروني من قبول الخاصة قبل العامة لقضية يَرْفُضها المنطق وتدحضها
التجربة، ولا غرو أن يخرج من هذا بقِصَر تفسير الظاهرة الطبيعية على العوامل الطبيعية.
«فقلت لهم: النظر في هذا (أي في أسباب سقوط الأمطار) من أوضاع الجبال ومهابِّ الرياح
وممارِّ السحاب من عند البحار.»
٤٨
إنها الخطوط الأولية التي تمثل صُلْب المنهج العلمي: الرفض المبدئي لما يناقض العقل،
البحث عن التحقق، والتفكير المنطقي ثم الاحتكام إلى التجربة لدحض الرأي الفاسد، وأخيرًا
تفسير الظاهرة الطبيعية فقط بالعوامل الطبيعية، لقد تلاقت هذه الخطوط في مجال أثير
للخرافة.
سادسًا: والمنهج التجريبي يتقدم
غَنِيٌّ عن الذكر إِذَنْ أن البيروني جَعَلَ التجريب من عمد البحث العلمي، ومارَسَهُ
مُتَحَرِّيًا الضبط عن طريق الآلات الدقيقة قَدْرَ المستطاع آنذاك، فلو لم يفعل لَمَا
أصبح عالمًا طبيعيًّا مذكورًا، فاهتم بتحري المشاهَدة والاستقراء والرصد والتتبع، ورأى
«أن العلم اليقيني لا يُحَصَّل إلا من إحساسات يُؤَلِّف بينها العقل علي نمط
منطقي.»
٤٩ وكثيرًا ما يقول: «لم تسكن نفسي إلى غير المشاهَدة.»
٥٠ ويأنف ممن يخوضون في هذه المجالات بغير تجريب، فيرفض رأيًا في الفلزات
قائلًا باستنكارٍ: «إنه كلامُ مَنْ ليس له بَصَرٌ بمزاولة الفلزات وصنعة الأشخاص
العظام.»
٥١ فلا قائلُه زاوَلَ — أيْ مارَسَ وجَرَّبَ — ولا هو ذو علم بتجارب الرواد
العظماء في مجال الفلزات، بالمثل اختتم كتابه عن الأسطرلاب، بقولٍ يكرره، وهو إلى
التجربة يلتجأ في مثل هذه الأشياء، وعلى الامتحان فيها يعول، ما التوفيق إلا من الله
العزيز الحكيم.
ولئن كانت التجريبية كمنهاج علمي هي الالتجاء المنظِّم لخبرة الحواس، خصوصًا البصر
والسمع، في إطار التآزر والتفاعل بين العقل والحواس، فليس جزافًا أن يستهل البيروني
كتابه العلمي الأصيل (الجماهر …) بأن الله أنْعم على مخلوقاته بالحواس التي تنقل معطيات
العالم الخارجي — عبر الهواء بتعبيره — ولكن نوع الإنسان قد فُضِّلَ على الحيوان بأنْ
زِيدَ على الحواس بما شرف مِنْ قوة العقل، ثم يقول البيروني: «أُفرد من حواسه اثنتان
هما السمع والبصر، فجُعِلَتَا مراقيَ من المحسوسات إلى المعقولات.»
٥٢ وبإدراك نافذ لفعاليات العقل المنهجية يستأنف البيروني قائلًا: «إن كان
الإنسان تَصَرَّفَ فيها بأفكاره واستنباطاته حتى بَلَغَ بمحسوساتها إلى أقصى
غاياتها.»
٥٣
إننا إذن بإزاء الإرهاص التاريخي للصياغة المعاصِرَة للمنهج التجريبي العلمي فيما
يُعْرَف بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي يقوم على وضع الفرض العلمي، ثم استنباط القضايا
الجزئية منه لمواجهتها بوقائع التجريب؛ أي لاختبار الفرض إمبيريقيًّا، حوار الفرض
والإمبيريقيات هُمَا صلب المنهج العلمي التجريبي.
وتتبدى أمامنا إمبيريقية البيروني، وهو يحدد الثقل النوعي — أي الكثافة — لثمانية
عشر
عنصرًا ومُرَكَّبًا، بعضها من الأحجار الكريمة، وقد أَوْرَدَ ألدو ميلي
Aldo Mielle في كتابه الشهير — المترجم إلى العربية
— «العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي» قائمةً وَضَعَهَا
E.
Wiedemann تُقَارِن قِيَم الكثافة التي وَصَلَ إليها البيروني
بالتقديرات الحديثة، لتوضح كيف كانت الفوارق طفيفة للغاية،
٥٤ أجرى البيروني تجاربه تبعًا لقاعدة «أرخميدس»، بتعبيره، واصطنع وعاءً
مخروطيًّا مَصَبُّه مُتَّجِه إلى أسفل في اتجاه قنينة لتجمع الماء الساقط من الوعاء
المخروطي، ثم يَزِن البيروني الجسم بعناية، ويضعه في الوعاء، ثم يزن الماء الذي أزاحه
الجسم وتساقط في القنينة، وبالعلاقة بين الوزنين يَخْرج بالثقل النوعي أو الكثافة
المطلوبة، وهذه الفكرة على بساطتها يراها كاجوري في كتابه «تاريخ علم الطبيعة» من خطى
التقدم في التجريب المعملي.
٥٥
وفي هذا الصدد نذكر أيضًا محاولات البيروني الإمبريقية لوضع توصيفات وتفسيرات علمية
لكيفية صعود مياه النافورات والفورات والعيون إلى أعلى، وبَحْث أَثَر الخلاء والظواهر
التي تتعلق بحركة السوائل وتوازنها مهيبًا بمن: «يزاولون العلوم الطبيعية» أن يأخذوا
«بالأسباب الطبيعية».
٥٦
أما عن الفرض العلمي فلنذكر كيف أكَّد بوبر أنه ليس ثمة طريق ملكي مضمون للنجاح
والإنجاز في العلم؛ لأن الفرض العلمي إبداع يأتي من إلهام العبقرية العلمية، حين يقدح
العالِم زنادها مستعينًا بالحصيلة المعرفية السابقة، إن الفرض وحْي وإلهام خَطَرَ برأس
العالِم، سوف يُخْتَبَر تجريبيًّا ليُقْبَل أو يُرْفَض، لكن الطريق إلى الفرض ليس له
قواعد ميثودولوجية ربما يفهمه علم نفس الإبداع، لا المنطق.
٥٧ هذه القاعدة الميثودولوجية/السيكولوجية المُقِرَّة بضرورة عنصر الإلهام
الذي لا نَعْرِف له سبيلًا منطقيًّا مُحَدَّدًا، سَبَقَ أن تراءت ظلالها للبيروني منذ
عشرة قرون، وحاول التعبير عنها.
لكن تعبير البيروني جاء مشبعًا بعبق الإيمان الذي استقاه من نشأته تحت ظلال الحضارة
الإسلامية؛ إذ يقول: «إن النجاح والتوفيق موهبة من عند الله.» وأردف مؤكدًا على ضرورة
الرجوع إلى المَراجع العلمية السابقة، حتى إن تطلَّب هذا إتقانَ اللغات الأخرى، تمامًا
كما أَكَّدَ بوبر على ضرورة الإلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، وضرورة أن يستفيد
الباحث من جهود سابقِيه، كي يُمَثِّل إضافةً حقيقية بدلًا من أن يُهْدِر جهوده في
محاولة شَقِّ طريقٍ كان قد قُطِع، فالسمة الأساسية للبحث العلمي أنه نشاط جَمْعِيٌّ
مُتَّصِل.
كما كان البيروني يدعو إلى ضرورة المواظَبة على ممارَسة البحث العلمي بغير كلل ولا
ملل، لكي نصل إلى ما يمكن أن نسميه — بالتعبير المعاصر — العمَلَ على رَفْع احتمالية
النظرية، ويؤكد البيروني على هذا بحثه العلماء على التشكك في نتائجهم المرة تلو المرة،
حتى يرفعونها إلى أعلى درجة ممكنة من الدقة واليقين.
سابعًا: المنهج العلمي في التأريخ
وهذا النابغة الذي جعلَتْه روحه العلمية الأصيلة ميثودولوجيًّا ذا اعتبار، قد تنبَّه
إلى أن عِلْم التاريخ ذو طبيعة مختلفة عن طبيعة العلوم التجريبية؛ لذا فالمنهج السالف
لا يَصْلح له.
ومن ثَمَّ انشغل البيروني بمشكلة المنهج الخاص بعلم التاريخ، فتصدر الطليعة من
المفكرين المنهجيين المعنيين بعلمنة هذا المبحث، أو من مؤسسي عِلْم التاريخ. لقد ظل
التاريخ أمدًا طويلًا فنًّا لا علمًا، أقاصيص وحكايات شيقة، معقولة أو لا معقولة،
واقعية أو يمتزج بها الخيال، على الإجمال تنتسب إلى فنون الأدب أكثر مما تنتمي للدراسات
المنهجية أو المباحث العلمية، وكدأب الباحثين الأوروبيين في الزعم بأن الغرب هو فاعِل
كُلِّ فِعْل حضاري، ورائد كل إنجاز عقلاني، راحوا يَدَّعُون أن علمنة التاريخ — خصوصًا
من حيث المنظور النقدي الساعي إلى تمحيص الحقائق — تمت فقط على أيديهم،
٥٨ وبالتحديد في القرن التاسع عشر مع رانكة
Ranke (١٧٩٥–١٨٨٦) الذي ظل أستاذًا للتاريخ بجامعة برلين خمسين
عامًا. ففي كتابه «التاريخ الألماني في عصر الإصلاح» الذي أنجزه فيما بين عامَيْ
(١٨٣٩–١٨٤٧)
٥٩ تبلورت منهاجية التعامل النقدي مع الرواية التاريخية الذي بَلَغَ حَدَّ
الهجوم عليها، بمعنى تمحيصها بدقة ليُسْفر البحث التاريخي عن معرفة كُنْهِها الحقيقي،
وكيف كانت بالفعل
Wie es eigentlich gewesen.
٦٠
ولكن قبل رانكة بثمانية قرون، عالَج البيروني منهاج التأريخ من جانبين الأول سلبي
والثاني إيجابي — كما أوضح الباحث د. عادل محيي شهاب.
٦١
الجانب السلبي من المنهج التاريخي عند البيروني يحمل خطوطَ نظريةِ رانكة المذكورة،
فهو منهج نقدي ساعٍ إلى تطهير الروايات التاريخية من الأساطير والخرافات التي تَلْحَق
بها، وذلك بأن نرْفُضها لزيفها الظاهر، ونرفض الروايات غير الصحيحة، كي نستبدل بها
الصحيح، وبسبب من شريعة التحكيم النقدي العقلاني هذه رَفَضَ البيروني تمامًا — على خلاف
جمهرة مؤرخي الإسلام — أيَّ حديثٍ عن بدء الخلق والقرون المبكرة؛ لاختلاط هذه الأحاديث
بالخزعبلات. فهو يرفض أصلًا التسليم بأي خبر إلا بعد التأكد مِنْ صِحَّتِه عن طريق
المشاهدة أو العيان، أو التثبت من الصدق التاريخي — أي من مطابَقة الخبر للوقائع — وهذا
يَتِمُّ بالاعتماد على العقل وحده، أو التسلح بمنهج المقارَنة بين الأخبار لإثبات
الأصلح
٦٢ ولهذه المنهجية النقدية المُحْكَمَة أجْمَع الباحثون على أن البيروني ناقد
تاريخي ممتاز.
أما الجانب الثاني من المنهج التاريخي — الجانب الإيجابي — فهو يضع أُسُس البحث
التاريخي من حيث تحديد المواصفات التي يجب أن تتوافر في المؤرخ، وفضلًا عن استيفاء
الحاسة النقدية، نجد هذه المواصفات هي: الثقافة الشاملة والأمانة والنزاهة وعدم التحيز،
والصبر والجلد والشجاعة، فلا يخاف في قولةِ الحقِّ لومةَ لائم، ثم الموضوعية، وهي أهم
الصفات قاطبة؛ لأن الوقوع في براثن الذاتية مِنْ تعصُّب ومَيْل وهوًى ومَصالح شخصية هي
أخطر آفات البحث العلمي عامةً والتاريخيِّ خاصةً.
٦٣
رائعٌ هو البيروني، حين يحذر تحذيرًا شديد اللهجة من التعصب، وعرقلته لأصوليات البحث
العلمي والعقلاني، لا سيما في المباحث الإنسانية فيقول: «إن العصبية تُعْمِي الأعين
البواصر وتُصِمُّ الآذان السوامع، وتدعو إلى ارتكاب ما لا تُسَامَح باعتقاده
العقول.»
٦٤ وكانت عقلية البيروني نفسه — كما رأينا — أقوى تمثيل للبعد عن التعصب كقيمة
منهجية وشريعة علمية، فانفتح على تراث الحضارات الأخرى واستطاع أن يقوم «بتركيب عظيم
لعلوم الحضارات السابقة على الإسلام وتطويرها في خطوط الروح الإسلامية.»
٦٥ وكان هذا من العوامل التي جعلَتْ إنتاجه العلمي مؤشرًا شديد الدلالة على
تقدُّمِ وسيرورة البحث العلمي في عَصْره.
وما ذكرناه آنفًا من تأكيد البيروني على ضرورة الرجوع للمَرَاجع والتسلُّح بالمعرفة
يَبْرُز ها هنا مجددًا؛ إذ نراه يهيب بالمؤرخين أن يُتْقِنوا العلوم المساعدة للبحث
التاريخي، وهي اللغة والأدب ثم حساب التقاويم الذي بَرَعَ فيه البيروني والجغرافيا
والجيولوجيا، مع الإلمام بالمنطق والفلسفة والقانون أو الشريعة والشرائع، ويبدو
البيروني في دعوته هذه متأثرًا بموسوعية عصره.
كما تناول أبو الريحان مشكلةَ منهجيةٍ معينةٍ خاصة بالبحث التاريخي، هي مشكلة جمع
المادة التاريخية وما يكتنفها مِنْ صعاب وما تحتاجه من جهد جهيد، وعمل على إيضاح معايير
صحتها وسُبُل الاستدلال السليم منها والتثبت من خُلُوِّها من التناقض، وفي هذا يؤكد
تأكيدًا مكثَّفًا — مرة أخرى — على ضرورة الالتزام التام بالموضوعية في تدوين
التاريخ.
٦٦
بهذه الأسس المنهجية تمَّت علمنة التاريخ، وتأكدت في مقدمة ابن خلدون بعد هذا بثلاثة
قرون، فأصبح التاريخ عِلمًا — قبل رانكة وهورنشيو وسواهما — لكنه عِلْم نَقْد وتحقيق،
وليس عِلْمَ تجريب.
إذن الوعي المنهجي الناضج عند البيروني يتبين تَنَوُّع مناهج المعرفة تبعًا لاختلاف
المجالات، ويُرْدِف هذا بالجهود الرصينة حول المنهج الخاص بكل مبحث، فضلًا عن تطبيقه
المتدفق لهذه المناهج المضْمَرة في أبحاثه، وقبل أن ننتقل لتطبيقات مناهجه التاريخية
نتوقف مليًّا عند وعي البيروني الباكر بتعدد المناهج لنقارن هذا بتطور المباحث
التاريخية في القرن التاسع عشر على خطوط مُسْتَقَاةٍ من تَطَوُّر العلوم الطبيعية، واصل
هذا الاتجاهُ نماءَه حتى بلغ طريقًا مسدودًا، انعكس في التخلف النسبي للعلوم الإنسانية
بسبب إغفال الفوارق بين الظاهرة الإنسانية التاريخية والظاهرة الطبيعية، وهنا تَبْرُز
الأُمَّة الألمانية مُجَدَّدًا مع مدرسة فيلهلم
فندلباند
W. Windelband (١٨٤٨–١٩١٥) وهنريش
ريخرت
H. Richert (١٨٦٣–١٩٣٦) اللذين تأثرا بصياغة دلتاي (١٨٣٨–١٩١١)
للإشكالية.
٦٧ وبفضل هذه المدرسة كَفَّ التاريخ عن محاكاة الفيزياء، وانْفَصَلَ البحث
التاريخي عن البحث الطبيعي، وتُعَدُّ محاضرة ريخرت الشهيرة عام ١٨٩٤ علم الحضارة وعلم
الطبيعة
Kulturwissenschaft und Naturwissenschaft٦٨ من المعالم البارزة في هذا المنحى للدراسات التاريخية.
ثامنًا: منهاج وتطبيق
نعود إلى البيروني والأسس المنهجية التي أرساها لعلم التاريخ … الحاسة النقدية …
القدرة على الرؤية الشمولية، الاحتكام المتكرر للتعقيل والعقلانية … هذه الأسس والأبعاد
المنهجية انعكست متجلية في تأريخات البيروني ومباحثه الحضارية، فتجاوَزَ مجال التاريخ
وكان أيضًا في طليعة الأنثربولوجيين ودارسي الحضارات ومؤسسي علم الأديان
المقارن.
هذا العلم الأخير تضيق به ذرعًا، بل تُوصَد في وجهه أبواب البيئات الحضارية
المُغْلَقة والمتزمتة؛ لأنه قد يَفْتَح بابًا لأَنْسَنَة التجربة الدينية، وبالتالي
التجديف والهرطقة. هذا على الرغم من الرؤى الكشفية العميقة التي يتيحها هذا المبحث بشأن
تطَوُّر الوعي وأصول التجربة الدينية، إن التزم الحدود العلمية والموضوعية، ومما يعطي
مؤشرًا بالِغَ الدلالة على مدى تفتُّح وازدهار وتسامُح البيئة الحضارية الإسلامية هي
أنها أفسَحَت المجال لعلم الأديان المقارن. فقد أشار ابن المسعودي إلى شغف أبي بكر
الرازي بطبائع البشر في ماضيهم وحاضرهم والتحري عن معتقَداتهم ومذاهبهم،
٦٩ لنتذكر إصرارنا على تأثر البيروني به، ثمة أيضًا ابن حزم الأندلسي وكتاب
عبد الكريم الشهرستاني. «الملل والنحل» ذائع الصيت.
ولكن كتاب البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»
٧٠ ذو مكانة فريدة تجعل البيروني بحق مؤسِّس علم الأديان المقارن، حتى يندهش
«إدوارد ساخاو» من كل تلك الموضوعية التي يتحلَّى بها عالِم مسلم وهو يبحث في العقائد
الوثنية وتاريخها، خصوصًا وأن هذا الكتاب يسبق كتاب الشهرستاني، ثم إنه لا يقتصر على
المِلَل والنِّحَل، فهو دراسة منهجية فذَّة بقَدْر ما هي شاملة.
أشرنا فيما سبق لقدرة البيروني على تأليف عظيم بين تراث الحضارات المختلفة العبرانيين
والنصارى، المسلمين، اليونان والمغاربة، الفُرس والهنود … ولأن البيروني ممثل لمسارِ
التقدم العلمي في عصره، فليست قصة العلم إذن خطًّا مستقيمًا من اليونان إلى غرب أوروبا،
بل هي ميراث أمَمٍ شتَّى. طبعًا كان البيروني عميق الاستيعاب لتراث الإغريق، ولكن ما
يؤكد عالمية العلم أن الهند التي كانت فاتحةَ اتصال العرب بالرياضيات والفَلَك منذ
القرن الثاني الهجري، كانت أيضًا الرافد الدافق الذي ساهَمَ بقوة في تشكيل عقلية
البيروني، فقد مَكَثَ فيها سنينًا طويلة مصاحبًا للسلطان مسعود الغزنوي، وكان على خلاف
أبيه محمود الغزنوي الذي أَسَرَ العلماء، ومن بينهم البيروني — كما ذكرنا — ولما
تُوُفِّي محمود وتولى ابنه مسعود دعم حُكْم الإسلام للهند، ودأَبَ مسعود على تكريم
وتقريب العلماء عمومًا، والبيروني خصوصًا، فاصطحبه ثلاث عشرة مرة في فتوحاته السبعة عشر
للهند. فعمل البيروني طوال هذا على نقل علوم الإسلام والإغريق للهند، وإتقان لغة الهنود
السنسكريتية واستيعاب العلوم الهندية ونقل صورة علمية دقيقة عن الهند للمسلمين، في
مؤلفات متعددة.
درة حصائل هذا كتابُه المذكور «تحقيق ما للهند من مقولة» فقد تعمَّق في وصْف الهند،
ليس فقط أرضها ومناخها ومعالمها الجغرافية، بل شمل بالدراسة عادات الهنود وأديانهم —
خصوصًا عقيدة التناسخ — وشرائعهم وأساطيرهم، ونظام الطبقات الاجتماعية وأزياءهم
وأخلاقهم وأنشطتهم الاقتصادية، أنواع الخط وطرق الكتابة والنحو والشعر، الأدب والفنون
والحساب والعلوم، ثم عِلْم الفلَك عند الهنود والزيج والتقاويم والتنجيم … فيُشَبِّه
أحمد أمين هذا بجهود جمعية العلماء الفرنسيين الذين صاحبوا حملة نابليون وأخْرَجُوا
موسوعة وصْف مصر، على أن البيروني — بتعبير أحمد أمين — كان جمعية وحده. أما مؤرخ العلم
المتميز ج. برنال فيشير إلى أن منهج البيروني الاستقصائي في هذه الدراسة لم يُبَارَ إلا
في القرن التاسع عشر.
٧١ وحتى الآن ما زال هذا الكتاب خيرَ المراجع بشأن الهند القديمة.
وبخلاف هذا، ثمة مترجمات أيضًا عن السنسكريتية قام بها. يقول البيروني:
«نقلت إلى
العرب كتابين؛ أحدهما في المبادئ وصفة الموجودات واسمه «سنك»، والآخر في تخليص النفس
من
رباط البدن ويُعرف ﺑ «باتانجل»، وفيها أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم، به فروع
شرائعهم.»
٧٢
الأول مفقود، لكن الثاني «باتانجل» — الذي حققه المستشرق ريتر — يَحْمِل
خلاصة مذهب اليوجا وفلسفة الهند الصوفية.
ومن ناحية أخرى نقل البيروني إلى اللغة السنسكريتية أعمالًا أهمها المجسطي لبطليموس،
وإن كانت هذه الترجمة المُثْبَتَة في عداد أعماله المفقودة.
٧٣ هكذا كان البيروني بؤرةَ استقطاب لخطوط العلم المختلفة يأخذ ويعطي في أكثر
من اتجاه تأكيدًا لعالمية العلم.
ومثلما تكامَلَتْ دراسة البيروني العلمية للتاريخ والحضارة منهجيًّا بالجانب السلبي
والجانب الإيجابي، فإنها تكامَلَتْ أيضًا موضوعيًّا، وذلك لعنايته بالعلوم التجريبية
المساعِدة، فليس ينفصل عن التاريخ اهتمامُ البيروني بالجغرافيا وطُرُق رسم الخرائط
وتحديد المسافات بين البلدان، ودَفَعَهُ هذا إلى الاهتمام بالجيولوجيا والتكوين الطبقي
للصخور والأنهار، وذلك في كتابه «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن»،
ورسالتيه «تصحيح خطوط الطول والعرض لساكن المعمور من الأرض» و«أطوال البلاد وعرْضها»،
حيث نَجِد نظريات رائدة عن حدوث التطورات الأرضية البطيئة، وما ينتج عنها من انتقال
للعمران من موضع إلى آخر. تكلم أيضًا عن الثورات الجيولوجية التي كانت تنتاب القشرة
الأرضية وما كانت تُحْدِثه فيها من الْتِواءات وارتفاعات وانخفاضات، مما أدَّى إلى
تكوُّن سلاسل من الجبال، ومساحات المياه التي تنحسر وتتحول إلى يابسة «فهذه بادية العرب
كانت بحرًا، فانكبس حتى إن أَثَرَ ذلك ظاهر عند حفر الآبار والحياض.» ويَجْمُل بنا الآن
أن نعود مجدَّدًا إلى المنهج التجريبي، فمن هذه الإشارة
البسيطة للبيروني يتضح كيف تآزر الفرض العقلي والاستنباط مع المشاهدة الحسية.
٧٤
في هذه الدوائر المتداخلة نَذْكُر أيضًا آخر أعمال البيروني، الذي كتبه في أخريات
العقد الثامن من عمره، فجاء مُشْبَعًا بخبرة السنين، وهو متعلق بشكلٍ ما بالإنسان في
مَبْحَث إخباري قد يُعْوِز المنهج التجريبي، لكنه شمل أيضًا جهدًا تأريخيًّا «تاريخ علم
العقاقير» — الفار ماكولوجي — إنه كتاب البيروني «الصيدنة» أو «الصيدلة في
الطب».
٧٥
وقيل إن الصيدلة أفضل من الصيدنة؛ لأن الصيدلي باللام هو مُزَاوِل الأدوية، أما
الصيدني بالنون فهو مزاول العطور، والصيدلي عند البيروني — كما يقول في مقدمة الكتاب
—
هو المحترف جَمْعَ الأدوية على أحْمَدِ صوَرِها، واختيار الأجود من أنواعها مُفْرَدَةً
ومُرَكَّبة على أفضل التراكيب التي خَلَّدَها مُبْرِزُو أهل الطب.
٧٦ وهكذا استقصى البيروني في هذا الكتاب — كما يقول ابن أبي أصيبعة — معرفة
ماهِيَّات الأدوية ومَعْرِفة أسمائها واختلاف آراء المتقدمين، وما تَكَلَّم كل واحد من
الأطباء وغيرهم فيه، وقد رَتَّبَه على حروف المعجم.
٧٧
لقد استقصى البيروني في هذا الكتاب «تراث العرب» بالمفهوم الحضاري الشامل للعلم
العربي المستوعب لكل الدوائر الحضارية التي دخلت في الإسلام، وهو مفهوم يصدِّق عليه
البيروني قَبْل سواه — كما رأينا في دفاعه عن العروبة — وتراث العرب ذو شأن في تاريخ
عِلْم العقاقير.
٧٨ فمن ناحيةٍ ثَمَّةَ البيئة الطبيعية للمنطقة التي تجعلها غنيةً بالأعشاب
الطبيعية الطبية، ومن الناحية الأخرى — والأهم — ثمة النهضة الثقافية العظيمة والتطور
الاجتماعي والعلمي مما جَعَلَ العرب وخصوصًا الرازي بكتابه «الحاوي» يُبْدِعُون كثيرًا
من تراكيب الأدوية
٧٩ ها هنا يبدو مجدَّدًا تأثُّر البيروني به، وقُبَيْل أوبَتِنا إلى البيروني
نَذْكُر ما تُجْمِع عليه مَرَاجِع تاريخ العقاقير وعلوم الأدوية من أن الصيدلية
كمؤسَّسة قائمة بذاتها ظَهَرَتْ لأول مرة في بغداد.
٨٠ وبَقِيَت الإشارة إلى أن البيروني في هذا الكتاب اعتبر الصيدلة صناعة
منفصلة عن صناعة الطب. إنها آلته، وانفصالها عنه كانفصال المنطق — آلة الفلسفة — عنها،
وانفصال العروض — آلة الشعر — عنه.
٨١ إنها المنهجية المتمكنة من عقلية البيروني.
تاسعًا: إنها الرياضيات والهيئة
والآن لا ينبغي أن تدهشنا كل هذه المنهجية المتجذِّرة في حنايا إنتاج البيروني فالأمر
ببساطة — كما قال ساخاو — أنه دَرَسَ كل تلك المواضيع بعقل دَرَّبَتْه الرياضيات التي
تظل دائمًا — في كل عصر ومِصْرٍ — أرقى أشكال التفكير المنطقي الممنهج.
إن البيروني — كما صَدَّرْنا الحديث، أولًا وقبل كل شيء — عالِم رياضيات وفَلَك وها
هنا مجمر عبقريته الحقيقية، وبخلاف دراساته التاريخية والحضارية التي تُهِمُّ المعنيين
بالمباحث الإنسانية، عادةً ما يُذْكَر البيروني في تاريخ العلم بوصفه عالمًا رياضيًّا،
ويكاد يَتَّفِق مؤرخو الرياضيات على أنه «ألمع العقول الرياضية التي تصادفنا في مفتتَح
القرن الحادي عشر، فضلًا عن أن تاريخ الرياضيات يَدِين للبيروني، بأفضل مُوجَز
للرياضيات الهندية ظفر به ذلك العصر.»
٨٢ ودَوْر الرياضيات الهندية في إهداء البشرية رموز الأرقام أجَلُّ مِنْ أَنْ
يُذْكَر أو يُنْسَى.
ولئن بلغَتْ أعمال البيروني في الرياضيات نحو أربعة وعشرين عملًا، فإنه ترجم أيضًا
كتابين من تأليف الفلكي الهندي «فاراهميرا» الذي عاش في القرن السادس الميلادي، ويمكن
اعتباره أهَمَّ الفلكيين في هذا القرن، وتحتوي ترجمة البيروني على ملخص بارع لحساب
المثلثات الهندي المبكر وجدول لجيوب الزاوية يبدو أنه مأخوذ من جدول بطليموس لأوتار
الدائرة.
٨٣ وهاهنا يبدو مجددًا تلاقي الشرق والغرب تأكيدًا لعالمية العلم. تفنيدًا
لخرافة المصدر الإغريقي الواحد والوحيد. أما عن الأرقام الهندية — أساس الأرقام العربية
— التي أصبحَتْ — فيما بعْدُ — عالميةً ففي رسالة البيروني «تذكرة في الحساب والعد
بأرقام السند والهند» شرحٌ وافٍ لها ولأصولها. أما في رسالته «راشيكات الهند» فيبحث في
أن النسبة فيما بين المقادير المتجانسة وهي صورة من صُوَر الإضافات تحصل لها من جهة
الكمية، فيُعْرَف بهما أحدهما من الآخر إن كان غير معلوم.
٨٤ إن النسبة والتناسب وحساب المتناهي إجمالًا اكتملت على يدَي البيروني
كمحصلة لمزاوَجَته المثمِرة بين التراث الهندي والتراث الإغريقي بالإضافة إلى
عبقريته.
أما أهم أعماله في الهندسة فهي «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها»
ورد في رسائل البيروني (المذكورة في الهامش السابق ٨٤). كما حققه ساوتر عام ١٩١٠م، ثم
أخرج عالم الرياضيات د. أحمد سعيد الدمرداش تحقيقًا مُثبتًا وجَيِّدًا له عام ١٩٦٥م،
ويتلخص هذا العمل في شروحٍ وإثباتاتٍ بطرق مختلفة لأربع نظريات، ناتجة عن خواص الخط
المنحني؛ أي المنكسر داخل الدائرة؛ أي على قوس منها، ويبحث البيروني — كما يقول: «في
انقسام الخط المنحني في كل قوس بالعمود النازل عليه من منتصفها.»
٨٥ ثم يتعَرَّض بعد هذا لعدة مسائل رياضية وفلكية من قبيل برهان مساحة المثلث
بدلالة أضلاعه، وبرهان مساحة الشكل الرباعي المرسوم داخل الدائرة، ثم سَرَدَ بعض
الدعاوي الفلكية مبرهنًا عليها باستغلال النظريات الأربع المذكورة، ثم تَعَرَّضَ لتقدير
أطوال أوتار الدائرة
٨٦ …
لقد أنجز البيروني الكثير من البراهين الرياضية، وبفضلها استقام جذع أبحاثه الفلكية
والجيوفيزيقية، ليزداد اقترابًا من المنهج العلمي الحديث الذي دَأَبَ على خَطْب وُدِّ
الرياضيات، ومِنْ أشهر إنجازاته في هذا الصدد «قاعدة البيروني» وهي معادلة رياضية
تُسْتَخْدَم في حساب نصف قطر الدائرة من التعرف على محيطها، وبواسطتها تَوَصَّل
البيروني إلى قياس محيط الأرض عن طريق قياس درجة انحراف الأفق عند جبل قائم، ونلاحظ أن
البيروني أخذ باستدارة الأرض التي كانت مثبتة في تعاليم الفلكي الهندي فاراهميرا،
وتَبِعَه فيها مُعْظَم الفلكيين الهنود وفلكيي عصر النهضة
٨٧ على أية حال ما زالت طريقة حساب نصف قطر الأرض تُسمى إلى الآن «بقاعدة
البيروني»، ويَعْتَبِر المستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نللينو في كتابه «علم الفلك
وتاريخه عند العرب» قاعدة البيروني من أهم إنجازات العلم العربي.
وفي هذا الإطار المتماوِه بين الرياضيات والفلك، نذْكر أن مبحث الضوء والبصريات —
أو
علم المناظر — حَظِيَ برصيد وافِرٍ من العلماء العرب، وكما يقول «برنال»: «لو لم يُضِف
العرب غير ما أضافوه في مجال البصريات لكانت الخطوة التي خطوها بالعلم حاسمةً لا شبهة
فيها.»
٨٨ وليست الجهود حكرًا على قُطْب المُنَاظر الأكبر الحسن بن الهيثم، هنالك
رجالات آخرون أسهَمُوا في هذا المبحث المنهجي حقًّا، منهم عالمنا البيروني الذي عرج على
الضوء وانكساراته ومشاكل علم البصريات أو كيفية الحال في «المخروط الكائن بين البصر
والمبصر» في رسالته «إفراد المقال في أمْر الظلال»،
٨٩ وحاول الخروج بنظريات علمية كانت دقيقة في الحدود التي يَسْمَح بها عصره
ومجديه في الاستدلال على أوقات النهار من الظل، وإثبات أنواع الظلال في الأسطرلاب وفي
نقل أنواع الظلال بعضها إلى بعض، ويتصل بهذا رسالته الهامة «الاستيعاب للوجوه الممكنة
في صناعة الأسطرلاب».
وما دمنا قد اتفقنا على أن العلم عند البيروني يصب في نهر الحضارة الإسلامية من أجْل
قِيَمها وأهدافها، نتفهم لماذا تتبدى منهجية البيروني بوجه خاص في حساب المثلثات. فقد
اهتم به الإسلاميون؛ لأنه ضروري لحساب مواقيت الصلاة، كما أنه أساس علم الفلَك الذي هو
اهتمام البيروني الرئيسي، فقد عُنِي بالأرصاد الفلكية على اختلاف أنواعها، والتي تعتمد
على معرفة الجهات الأصلية الأربع، وذلك — كما أشرنا — من أجل تحديد أوقاتِ وتعيين
اتجاهاتِ أماكن العبادة، ووَضْع جداول للتقاويم وحساب أوائل السنين والشهور.
ومن مؤلفات البيروني نجد «الأزمنة والأوقات» و«تحقيق منازل القمر» بخلاف أبحاث أخرى
للبيروني في هذا الصدد مودَعة في كتاب باسْم الرسائل المتفرقة في الهيئة، قامت بطبْعِه
دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (١٣٦٨ﻫ/١٩٤٨م) ويشتمل الكتاب على
إحدى عشرة رسالة هي:
«استخراج تاريخ اليهود» للخوارزمي، «تخطيط الساعات» للنيريزي، «استخراج تاريخ اليهود»
للقايني، «استخراج الساعات» للقايني، «إقامة البرهان على الدائرة» للبوزجاني، «مساحة
الجسم المكافئ» لويجن القوهي، «كيفية تسطيح الكرة لأحمد الصاغاني»، «أشكال الدائرة»
لنصر بن عبد الله، «المقادير المشتركة» للبغدادي، «شكل القطاع» لأحمد السجزي، «الأبعاد
والأجرام» للبيروني.
٩٠
لكن «القانون المسعودي في الهيئة والنجوم» هو أهم أعمال البيروني قاطبة، أخرجه عام
٤٢١ﻫ وأسماه نسبة إلى السلطان مسعود الغزنوي الذي حاول أن يكافئه بحِمل فيل من الفضة
—
كما ذكرنا — فرَفَضَ. يدور موضوعه حول هيئة السماء وشكْل الأرض ومكانها من الكون،
وحَجْمها بالنسبة إليه، وأنواع حركات الأجرام السماوية.
يقع هذا الكتاب في ثلاثة مجلَّدات تتكون من ثلاثة وأربعين بابًا في إحدى عشرة مقالة،
تعالِج — باستفاضة — مختلف النظريات الفلكية والرياضية المطروحة في ذلك الوقت، وتنقدها
وتنقحها وتضيف إليها، ولكن نظرًا لأسلوب البيروني الموسوعي الشامل نجد الكتاب يتطرق إلى
كل الموضوعات التي تَمَسُّ الفلَك من قريب مثل حساب المثلثات وتعيين أطوال البلاد
وعرضها، أو من بعيد مثل المناسبات الدينية عند مختلف الشعوب والديانات. فكان هذا الكتاب
الرائدُ شاهدًا إضافيًّا على سعة إلمام البيروني بمباحث الحضارات والأديان
المقارَنة.
لقد احتوى هذا الكتاب على إنجازات علمية قيمة ولفتات ثاقبة منها: الْتِفاته إلى فرض
الجاذبية، مُوَضِّحًا أنه لم يَشْعر بقوة هذا الجذب إنسان. يقول البيروني:
«ثم إن
الأقاويل في سبب هذا الاضطرار كثيرة، منها جذب السماء الأرض من كل النواحي بالسواء،
وذلك يبطل بالجزء، وفيها المنفصل عنها، فإن ما يلحقه من الجذب من جهة الأرض أفتر، ويجب
أن تستلبه السماء إلى نفسها من غير تلك الجهة، حتى يطير إليها.»
٩١
وفي مقالة «الميزان» نجد تحقيقاته التي تتعلق بالجاذبية النوعية.
عاشرًا: مراجعات ختامية
إلى كل هذا الحد شق البيروني أجواز العلم بجناحَي المنهجية المَكِين، ولكن مهما
عَلَتْ تحليقاته فلن يستطيع الانفصالَ البائن عن كل متواضعات عصره المرفوضة الآن، أو
التي تبدو لنا محْض خرافة. منها مثلًا: انشغال البيروني بعلم التنجيم؛ أي الاستدلال على
وقائع الحياة وأحداثها والتنبؤ بها (قراءة الطالع) بناءً على حركات النجوم، ولا يزال
هذا ماثلًا في جرائدنا اليومية وحياتنا المعاصرة!
فقد تَكَسَّب البيروني عيشه من عَمَلِه كمُنَجِّم، عُرِفَ بأنه إمام وَقْته في علم
النجوم، فضلًا عن مؤلَّفاته في هذا، وأهمها: «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» الذي
بَلَغَ اعتزازه به أن كتبه باللغتين العربية والفارسية، وأيضًا «جوامع الموجود لخواطر
الهنود في حساب التنجيم» والمقالة الأخيرة من «القانون المسعودي» ولعل هذه المؤلَّفات
هي التي شَفَعَتْ له عند السلطان محمود الغزنوي لاحتياج الحكام القدامى دائمًا للمنجمين
ليستهدوا بنبؤاتهم في اتخاذ القرارات.
وأي إنكار لهذا إهدار لتاريخية الظاهرة العلمية، وللتعامل الموضوعي معها، فقد فرض
التنجيم نفْسَه على العقل البشري ردحًا طويلًا من الزمن بسبب من سيادة النظرة الحيوية
للطبيعة؛ أي اعتبارها كائنًا حيًّا، والنجوم أعلى جزء تُمَاثِل الرأس الحاكم
المُدَبِّر، فضلًا عن اقترابها من الله تعالى؛ لهذا آمنوا بتدخلها في تسيير الأمور على
الحياة الأرضية، وكما أشرنا في المبحث الثاني «تصور الطبيعة» فرض هذا نفْسَه على أقطاب
الحضارة الإسلامية أيضًا، ولم يَنْجُ منه نفر مِنْ أشَدِّهم عقلانية كابن رشد مثلًا.
رَفَضَه فقط الأشاعرة لأسباب كلامية.
وحتى بعد أن بدأ التصور الآلي الميكانيكي للطبيعة — المقترن بالعلم الحديث — يحل
محل
التصور الحيوي، ظَلَّ علماء الفلَك منجِّمِين، يُقَرِّبهم الملوك وينفقون على أبحاثهم
مِنْ أَجْل التنجيم، فقد كان هذا هو حال تيخوبراهه T. Barhe (١٥٣٦–١٦٠١) وكبلر J. Kepler (١٥٧١–١٦٣٠) واستمر هذا الوضع حتى القرن الثامن عشر.
لذلك لا يمكن تقَبُّل حماس نفر من أساتذة عِلْم الفلك عندنا الذين يندفعون مؤكدين
تبرئة البيروني من الانشغال بالتنجيم اعتمادًا على فقرة بالقانون المسعودي يقول فيها
عن
عِلْم الفلك إنه صناعة «على استغنائها بذاتها لنفاسة قَدْرها في نفسها، لا تكاد تميل
إليها القلوب التي لا تتصور كيفية اللذة إلا في مقدمات الآلام الجسمانية، ولا النفع إلا
في الأمور الدنياوية، وإذا لم تَرْغَب فيها رَغِبَت عنها وعافتها، فعادتها ولهذا السبب
رجز القدماء أكوان العالم بقضاياها، وطرقوا إلى تقديم المعرفة بها من تأثيراتها طرقًا،
أشبهت شيئًا من الإقناع، وفننوا عليها صناعة الأحكام؛ أي: التنجيم.»
٩٢
وقصارى ما تعنيه هذه الفقرة أن علم الفلك في حد ذاته جدير بالتقدير بصرف النظر عن
التنجيم، وهذا أقصى ما ننتَظِره من عالِم أتى في عصر البيروني، ونذكر في هذا الصدد كبلر
الذي مارَسَ التنجيم وهو يؤسس علم الفلك الحديث ويفجر ثورته الأهليلجية التي أنهت
العقيدة القاطعة بدوران الأجرام السماوية في دوائر كاملة، وراح يضيق بالتنجيم شيئًا
فشيئًا حتى انتهى إلى أنه الابنة السِّفاح لعلم الفلك، والتي مع هذا تَكْفُل لأمها
إقامة الأود وضمان الحياة.
٩٣ إذَنْ لا نملك أن نلوم البيروني كثيرًا على انشغاله بالتنجيم، فضلًا عن أن
نندفع لنبرئه أصلًا من هذا، فهذا إهدار لتاريخية الوضع المعرفي.
بخلاف التنجيم، ثمة أيضًا رَفْض البيروني دوران الأرض واستنكاره قولًا يرى أن «الأرض
متحركة حركة الرحى حول محورها.»
٩٤ ذلك أن البيروني قد رأى سكون الأرض ودوران السموات حولها، لكنه ذَكَرَ في
القانون المسعودي أن ثمة رأيًا يقول بدوران الأرض حول محورها، وأنه قابَلَ واحدًا من
علماء الهيئة القائلين بدوران الأرض — لم يذكر البيروني اسمه — مستندًا على أن الجسم
لا
يَسْقُط على الأرض عموديًّا بل بزوايا أقل أو أكثر قليلًا من ٩٠° مما يعني أن الأرض
تحرَّكَتْ أثناء السقوط، لكن البيروني رَفَضَ هذا الرأي وحاول تفنيد أدلة ذلك العالِم،
فيقول البيروني: «أما أنا فقد شاهدْتُ أحد من مالَ إلى نصرة هذا الرأي من المبرزين في
علم الهيئة، لم يلتزم نزول الثقيل إلى الأرض على القطر عمودًا على وجهها، بل مُحَرَّفًا
على زوايا مختلفة.»
٩٥
لقد رفض البيروني حركة الأرض، على الرغم من أَخْذِه باستدارتها، وربما لا يمانع في
كُرَوِيَّتها، لكنه رَفَضَ تمامًا كروية السماء، واعتبر الأرض في مركز الكون أو قريبة
منه، تبعًا لنظرية بطليموس التي عمل بها هو وكل معاصريه.
إلا أننا لا نملك أن نحاسب البيروني على كل صغيرة وكبيرة، أو نلومه من منظور عَصْرنا
على مثل تلك الأغاليط، نظرًا لطبيعة العصر الذي جاء فيه وحدوده المتاحة وقصوراته
المعرفية من منظور عَصْرنا، وليس ثمة أيةُ عبقرية مهما كانت فَذَّةً تستطيع الانفصال
المُطْلَق عن العصر الذي أَنْجَبَهَا والبيئة المعرفية التي نشأت فيها، حَسْبُه ما
أسداه من جهود دَفَعَتْ مسيرة العلم في تلك الحدود وذلك العصر.
وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أن البيروني على الرغم من إقراره بتنوع مناهج المعرفة،
بل
وبالاختلاف بين المعرفة الإنسانية النامية وبين العقائد الدينية المطْلقة، فإنه مع هذا
انشغل في بعض أبحاثه بالمشكلة التي تَشْغَل نفرًا من رجال الدين ومن الإعلاميين الآن
…
فقد كان البيروني حريصًا جدًّا على التقريب بين عِلْم الفلَك بالذات وبين إشارات القرآن
الكريم، في مُقَابِل الحسن بن الهيثم الذي رَفَضَ تمامًا أي محاولات للتوفيق بين العلم
والدين، مُوَضِّحًا أن المعرفة الإنسانية مختلفة ومعيارها مختلف هو الصحة والإفادة، على
أن البيروني في سائر تقريباته بين الفلك والقرآن، لم يتجاوز أبدًا حدود العقل والمنطق،
وآية ذلك رَفْضُه الباتُّ لشطحات الصوفية في هذا الصدد، قائلًا ببساطة: «إن كلامهم غير
مفهوم عندهم، فضلًا عن عند غيرهم وخاصة كلام الحسين بن الحلاج.»
٩٦ وذلك على الرغم من سعة علمه بالتصوف ودراساته المقارنة بين التصوف الإسلامي
والتصوف في الهند.
لقد ظل العقل دائمًا في عالم البيروني مناطًا يُعْتَدُّ به أيَّمَا اعتداد،
ويُحْتَكَم إليه، فلا يتَرَدَّد هنيهة — في تأريخاته ومباحثه — في رَفْض «كل ما يستفز
—
من استماعه — القلوب وتمجه الآذان ولا تقبله العقول.»
٩٧ وكثيرًا ما ينتهي إلى أن هذه الرواية — أيًّا كان قدر قائلها — «غير صحيحة؛
لأن الامتحان يشهد عليها.»
٩٨ أي أن الاختبار التجريبي أو التمحيص المنطقي لا يؤيدانها، لا يقفان في
صفها.
ولا غرو أنْ ترتد هذه العقلانية في منهجية مَكِينةٍ، فكان البيروني بدوره تمثيلًا
عينيًّا رائعًا لتألق العقل العربي والعلم العربي والحضارة العربية في قمة عصرها
الذهبي، القرن الرابع-الخامس الهجري، أو العاشر/الحادي عشر الميلادي … أو — بتعبير
سارتون — عصر البيروني.