أوراق هنري كورييل
هذه المجموعة من الوثائق التي أطلقنا عليها اسم «أوراق هنري كورييل» جاءت من بين مجموعة كبيرة من التقارير والدراسات والمراسلات السرية، يتضمَّنها أرشيف «مجموعة روما للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني»، التي كوَّنها هنري كورييل والشيوعيون اليهود المصريون في باريس، والتي أشرنا إلى جانبٍ من نشاطها في الدراسة السابقة، وكان هنري كورييل يكتبها، ثم يدفع بها إلى زوجته روزيت فتنسخها على الآلة الكاتبة لتحفظ بالأرشيف الخاص بالمجموعة، ثم تقوم بنسخها مرَّة أخرى بالحبر السري لتُرسَل إلى أحد كوادر حدتو بالقاهرة، إما مع أفراد يوثق بهم من بين المسافرين إلى مصر، أو مع رسل يوفدون خِصِّيصَى لهذه المهمة مثل جويس بلو (وهي يهودية جاء والدها من أصل روماني وأمها من أصل تونسي، أقامت أسرتها في مصر منذ نهاية القرن التاسع عشر) التي حمَّلها كورييل رسائل خاصة لحدتو في يناير ١٩٥٤م، واستمرَّت تعمل على خط الاتصال بين باريس والقاهرة، ثم ما لبثت أن وقعت في أيدي البوليس، وقضت عدة شهور بسجن القلعة، ثم أُفرج عنها بضغوط دولية، وكذلك لعبت يهودية أخرى من كوادر حدتو نفس الدور هي نعومي كانل حتى أثناء وجودها بسجن القناطر الخيرية لمدة خمس سنوات (١٩٥٤–١٩٥٩م). ورغم ذلك لم تعدم كوادر حدتو بمصر، ولا هنري كورييل السبيل لتأمين خطوط الاتصال.
وكانت نتيجة هذا كله، ذلك الأرشيف الذي تحتفظ به الآن «جماعة أصدقاء هنري كورييل» في باريس، واستطاع عدد من الباحثين الأجانب الاطلاع عليه، واستطاع رفعت السعيد أن يطَّلِع على بعض هذه الوثائق أيضًا. ومن الطريف أن رفعت السعيد أشار إلى اطلاعه على النص العربي لبعض هذه الوثائق بخط اليد، ورجَّح أن يكون كاتبها هو هنري كورييل، رغم أنه من الثابت أن هنري كورييل لم يتعلَّم العربية قراءةً أو كتابة، وأنه كان يتكلم عربية عامية ركيكة. ولو كان يعرف العربية حقًّا لكتب بها تقاريره التي كانت تصل إلى كوادر حدتو بالفرنسية، ثم يقوم أحد الرفاق بترجمتها إلى العربية، كما كان — في الغالب — يكلف أحد زملائه من «مجموعة روما» بترجمة بعضها إلى العربية عندما تكون المراسلة خاصة، وموجهة لشخص لا يعرف الفرنسية.
والمجموعة التي بين أيدينا والتي ننشر ترجمة عربية دقيقة لها تنقسم إلى خمسة أقسام، وهي على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة للدراسات الخاصة بتاريخ الحركة الشيوعية المصرية. وتأتي في مقدمتها «السيرة الذاتية» التي كتبها هنري كورييل أثناء اعتقاله بفرنسا (أكتوبر–ديسمبر ١٩٧٧) وقدم فيها «ذكرياته» عن الحركة الشيوعية المصرية حتى عام ١٩٤٨، والأصل الذي وصل إلينا منسوخًا على الآلة الكاتبة من المسودات التي كتبها كورييل أثناء اعتقاله الثاني والأخير بفرنسا. أما القسم الثاني فيتضمَّن تقريرًا عن نضال الحركة المصرية للتحرر الوطني والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني منذ تأسيسها حتى إعلان الأحكام العرفية في مايو ١٩٤٨، وهو أيضًا منسوخ على الآلة الكاتبة ويحمل غلافه إشارة إلى أنه كتب في سبتمبر–أكتوبر ١٩٥١. والقسم الثالث، يتضمن تقريرًا عن المراحل الرئيسية للصراع داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في عام الوحدة (مايو ١٩٤٧–يونيو ١٩٤٨)، وأصله منسوخ — كذلك — على الآلة الكاتبة ويحمل إشارة إلى أنه كُتب في نهاية ١٩٥٥. ومن الواضح أن التقريرين كُتِبا في ظروف تاريخية مُعيَّنة؛ فقد كُتب تقرير عام ١٩٥١، عقب خروج هنري كورييل من مصر، ربما لتستعين به القيادة الجديدة لحدتو في تحديد مراحل نضال المنظمة لأعضائها الجدد، وخاصة أنها كانت تعاني التمزق والتشتت بعد غياب هنري كورييل واعتكاف كمال شعبان، أما التقرير الثاني (عام ١٩٥٥) فلعله كتب بمناسبة مفاوضات الوحدة التي كانت تدور بين المنظمات الشيوعية المصرية، بهدف الاستفادة من دروس وحدة ١٩٤٧–١٩٤٨.
أما القسم الرابع الذي أطلقنا عليه اسم «وثائق مجموعة روما» مجازًا فلا يتضمن «كل» الوثائق، وإنما يتضمن بعضها، وهي عبارة عن تقارير كتبها هنري كورييل فيما بين ١٩٥١–١٩٥٨، باسم مجموعة روما، ولا تتضمن تلك المراسلات التي كانت تصل إلى المجموعة من مصر (والتي يذكر رفعت السعيد أنه اطلع على بعضها) لأنها لم تصل إلينا، كذلك الحال بالنسبة للبيانات والنشرات التي كانت تصدرها «مجموعة روما» في المناسبات السياسية المختلفة، لم نتمكن من الحصول عليها أيضًا. غير أن هذه المجموعة التي يضمها القسم الرابع لها أهميتها التاريخية من حيث تحديد علاقة «مجموعة روما» بالحركة الشيوعية المصرية.
وأخيرًا يتضمن القسم الخامس رسالتين شخصيتين من هنري كورييل إلى نعومي كانل وهي يهودية غير محددة الجنسية، نشأت بمصر وكانت من كوادر حدتو، تعمل بالتدريس والعزف على الكمان، أُلقي القبض عليها في قضية «الجبهة» عام ١٩٥٤، وحُكم عليها بالسجن خمس سنوات. ومن الطريف أن الرسالتين أُرسِلتا لها في السجن، وقد رأينا نشرهما لأنهما تتضمنان رَأْي هنري كورييل، في نظام ثورة يوليو، كما تشيران إلى علاقاته بالإسرائيليين، وأصل الرسالتين منسوخ على الآلة الكاتبة ويحمل إشارة بالقلم الرصاص في هامشه الأعلى إلى أنه مُوجَّه إلى نعومي كانل.
وفيما يلي نقدِّم عرضًا نقديًّا لكل قسم من الأقسام الخمسة من «أوراق هنري كورييل» أو وثائق «مجموعة روما» التي ننشرها في هذا الكتاب.
أولًا: هنري كورييل: سيرة ذاتية
هناك ثلاثة أنواع من المذكرات الشخصية: اليوميات، وهي التي تكتبها الشخصية السياسية أولًا بأول فتضمنها رؤيتها للأحداث عند وقوعها، وهي تُعَد على درجة كبيرة من الأهمية التاريخية كمصدر لدراسة الدور الذي لعبته الشخصية المَعنية في الحياة العامة؛ لأنها أقرب إلى «المادة الخام» التي لم تَنَل منها يد التغيير أو التبديل أو التحريف، وغالبًا ما تكون بمثابة رجع الصدى لفكر كاتبها.
والنوع الثاني هو «المذكرات» وهي التي تكتبها الشخصية السياسية بعد انتهاء دورها في الحياة العامة، وقد يعتمد كاتبها على يومياته يتخيَّر منها ما يريد اطلاع الرأي العام عليه، وتتخذ — عادة — طابع التبرير لمواقفه السياسية، والتستر على السلبيات، وإبراز الإيجابيات، ومن ثَم كانت أقل قيمة من «اليوميات» كمصدر لدراسة تاريخ الحقبة التي لعبت فيها الشخصية صاحبة المذكرات دورها السياسي.
أما النوع الثالث فهو «الذكريات» وهي التي تكتبها الشخصيات العامة بعد إسدال الستار على الدور الذي لعبته على المسرح السياسي، وإطفاء الأضواء، وانصراف النظارة بوقت طويل، وفي هذه الحالة يحاول الكاتب اعتصار ذاكرته يستدعي حوادث الماضي، ثم يعرضها وقد تأثرت ببُعد العهد ومُضي السنين، وكثيرًا ما يؤدي ذلك إلى تشابك المعلومات وتداخُلها، وفقدان الكثير من التفاصيل الهامة، فضلًا عن طابع التبرير والمبالغة والتحريف الذي يغلب على هذا النوع من المذكرات الشخصية، ومن هنا كانت «الذكريات» دائمًا مصدرًا محدود القيمة بالنسبة للمؤرخين، يتعاملون معه بحذر شديد، ويُخضِعون معلوماته للنقد والتدقيق.
و«السيرة الذاتية» لهنري كورييل تنتمي إلى القسم الأخير، «الذكريات» فهو هنا يُعيد تركيب صورة الماضي بعد انقضاء ما يزيد على ربع قرن على وقوع أحداثها، ولذلك تتشابك فيها الأحداث وتتقاطع، فكثيرًا ما نجده يتوقف أثناء سرده للأحداث أمام شخصية مُعيَّنة فيروي قصته معها، أو جزئية مُعيَّنة فيحدِّثنا عن بعض تفاصيلها، ثم يعود مرة أخرى ليصل سياق ما كان يتحدث عنه من قبل. كذلك يخلط بين بعض الأحداث، فيجعل طه حسين — مثلًا — وزيرًا للتعليم في حكومة الوفد ١٩٤٢ وليس ١٩٥٠.
كذلك تتخذ السيرة الذاتية لهنري كورييل طابع التبرير والدفاع عن المواقف التي اتخذها، والعلاقات التي ارتبط بها، والتي كانت موضع شبهة «الخصوم» و«المنافسين» و«الأعداء» على حد تعبيره، بقدر ما كانت موضع شبهة «الأحزاب الشقيقة» في الحركة الشيوعية الدولية.
فنجده يستهل «ذكرياته» بالتلميح إلى الانتقادات التي يوجهها بعض المؤرخين للحركة الشيوعية المصرية، من أنها كانت تخضع لقيادة يهودية أجنبية، وأنها لم تضرب بجذورها في الريف المصري، وأنها كانت على درجة من التخلُّف من ناحية التنظيم … إلخ. ويرى أن تحليل حركة شيوعية من خلال «ما لم تحقِّقه» يمثل نظرة سياسية محدودة، ويتساءل عمَّا حققه أولئك «الوعاظ»!
ويكاد يدور محور «سيرته الذاتية» حول الرد على الاتهامات التي طاردته حتى وفاته: «الانتهازية»، و«الانحراف اليميني» و«العمالة للمخابرات البريطانية»، و«العمالة للمخابرات السوفييتية»، وهي اتهامات جاء بعضها من منظمات شيوعية مصرية منافسة، أو من أحزاب شيوعية دولية، وبعضها تفجر مع قضية مارتي الشهيرة في الحزب الشيوعي الفرنسي، وهو هنا يروي الأحداث التي جلبت إليه هذه الاتهامات (من وجهة نظره) بينما نجده لا يقدِّم تفسيرًا لقضية تمويل نشاط الحركة (مثلًا) الذي كان موضع الشبهات، ويقطع حبل «الذكريات» عند حرب فلسطين، فلا يوضِّح لنا كيف تبنَّت حدتو — على يديه — مبدأ القبول بقيام إسرائيل، وإمكانية قيام «تعايش» عربي-إسرائيلي في الشرق الأوسط، هذا الموقف الذي عرَّض التنظيم ذاته للتشقق والانقسام، وجلب عليه سخط الكثير من المنظمات الشيوعية المصرية، بل نجده يُسقط تمامًا صلاته بالحزب الشيوعي الفلسطيني قبل ١٩٤٨. حقًّا تفلت منه بعض العبارات هنا وهناك عندما يشير إلى حرب فلسطين على أنها «الحرب الظالمة ضد إسرائيل» أو «الحرب الإمبريالية ضد إسرائيل»، ولكنه يترك القارئ في منتصف الطريق دون تحديد لمعالم اتجاهه نحو القضية الفلسطينية.
وهكذا، فيما يتعلق بالاتهامات و«الشبهات» التي حامت حوله، نجده دائمًا يلبس ثياب «الشهيد» دون أن يقدِّم تفسيرًا مقنعًا — في كثير من الأحيان — لانطلاق هذه الاتهامات حوله من كل حدب وصوب، سوى إشارته إلى قصر النظر السياسي للخصوم، وبعد نظره هو، وقد يجد تفهمًا من القارئ لتقديم قضية التحرر الوطني على الإعداد النظري وبناء التنظيم في مرحلة «الحركة المصرية للتحرر الوطني» أو لتبني هدف الوحدة العربية، أو لموقف حدتو المؤيد لثورة يوليو على استحياء أحيانًا، وصراحةً أحيانًا أخرى، ولكن تظل الغيوم تلف الكثير من المواقف الأخرى التي تحتاج إلى إيضاح كلما كان الأمر يتعلق بشخصه.
أما فيما يتعلق بالمنظمة التي أسَّسها، نجده أقرب ما يكون إلى الموضوعية، وأكثر اتساقًا ووضوحًا، بل نجده يمارس النقد الذاتي أحيانًا فيراجع مواقف اتخذتها المنظمة (بإيحاء منه)، أو ينتقد خطأً تنظيميًّا وقعت فيه المنظمة، أو تكتيكًا مُعيَّنًا اتخذته ونجده يعطي لبعض الكوادر المصرية التي عملت معه حقه من التقدير، حتى أولئك الذين تنصلوا منه عندما أثار الحزب الفرنسي الشكوك حوله أثناء تفجر قضية مارتي، مثل بدر (سيد رفاعي). أو أولئك الذين انضموا لخصومه أيام صراعات وحدة ٤٧–١٩٤٨ مثل محمد شطا، ولكنه يصبُّ جام غضبه على الكوادر المصرية التي طالبت بتمصير قيادة الحركة وإبعاد يونس (كورييل) عنها، ويتهمهم «بالعنصرية» و«الشوفينية».
ورغم ذلك كله تُعد «السيرة الذاتية» لهنري كورييل مصدرًا هامًّا لدراسة تلك السنوات السبع، الحافلة بالنشاط والحركة من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، منذ تأسيس «الحركة المصرية للتحرر الوطني» حتى نهاية تجربة وحدة ٤٧–١٩٤٨ التي أسفرت عن قيام «الحركة المصرية للتحرر الوطني» (حدتو) فهي في نهاية الأمر شهادة مسجلة لشخصية لعبت دورًا هامًّا في قيادة وتوجيه منظمة من أهم المنظمات الشيوعية يمكن أن تقارن بشهادات أخرى للقيادات التي شاركت في هذه المنظمة أو غيرها من المنظمات الشيوعية الأخرى.
ولعل نشر هذه «الذكريات» يشجِّع بعض قدامى المناضلين على تسجيل شهاداتهم التي لن يتمكن الباحثون من كتابة تاريخ دقيق للحركة الشيوعية المصرية في غيبتها وغيبة الوثائق التي تتصل بهذا التيار السياسي المتشعب الجذور.
ثانيًا: نضال الحركة المصرية للتحرر الوطني والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني منذ تأسيسها حتى إعلان الأحكام العرفية في مايو ١٩٤٨
كتب هذا التقرير عام ١٩٥١، بعد طرد هنري كورييل من مصر بنحو عام كامل، عانت حدتو خلاله الكثير لغياب يونس — الذي «كان يجمع بين يديه كل الخيوط» على حد قول إيمي ستون — واعتزال شوقي (كمال شعبان) ذراعه اليمنى، فضلًا عمَّا كانت تعانيه المنظمة من آثار ضربة ١٩٤٨ التي قذفت بأكثر من مائة من أعضائها إلى المعتقل لمدة تقرب من العامين.
ويشير هنري كورييل في مقدمة التقرير — الذي كتب على عجل — إلى أنه يهدف من كتاباته إلى الرد على «الافتراءات والانتقادات» التي يوجهها «التيار الانتهازي» في الحركة الشيوعية المصرية (ويقصد بذلك جميع المنظمات الشيوعية المصرية الأخرى) ضد «التيار الثوري» الذي تمثله «حدتو»! كما أنه كتبه بهدف «التذكير بأعمال أولئك الذين حاولوا إنشاء حزب شيوعي مصري»، ويقصد بذلك نفسه بطبيعة الحال.
الهدف من كتابة التقرير — إذَن — يحدِّد طبيعته، فهو «مذكرة دفاعية» عن حدتو، والمذكرات الدفاعية تتجه غالبًا إلى انتقاء الحجج وتسعى — دائمًا — لستر العورات. ومن هنا جاء تقرير هنري كورييل مركزًا على «الإنجازات» التي حقَّقها كلٌّ من «حمتو» و«حدتو» بقيادته، مع قَدْر كبير من المبالغة — أحيانًا — والتهويل أحيانًا أخرى اقتضاهما الموقف الدقيق الذي دفعه لكتابة التقرير.
وهنا نجد هنري كورييل يقدِّم عرضًا موجزًا لتطور الحركة منذ إنشائها عام ١٩٤٣، مسقطًا من اعتباره منظمة «تحرير الشعب» على نحو ما فعل في سيرته الذاتية، فهو لا يشير إليها إلا عرَضًا، أما في هذا التقرير فنجده يسقطها تمامًا، رغم أنها أسبق من «إسكرا» التي يضعها دائمًا مع «حمتو» على طرفي نقيض.
ويبالغ التقرير في الدور الذي لعبته «حمتو» في الحركة العمالية فينسب إليها إضرابات عمال المحلة الكبرى، وعمال شبرا الخيمة عام ١٩٤٥ من منطلق وجود بعض كوادر حدتو — المحدودة العدد عندئذٍ — بين قادة هذه الإضرابات، ويبرز الجهود التي بذلتها «حمتو» في العمل على إيفاد ممثلين للنقابات العمالية المصرية إلى مؤتمر الاتحاد العالمي للنقابات ويغفل الدور الذي لعبته كلٌّ من «إسكرا» و«الفجر الجديد» في هذا المجال، بل إن «الإنجاز» كله كان درامي الطابع أدى إلى نشوب الخلافات بين القيادات النقابية وبعضها البعض. وصرفها حينًا عن النضال من أجل تحسين الأوضاع البائسة للطبقة العاملة المصرية عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
و«الحركة المصرية للتحرر الوطني» هي التي دفعت العمل الوطني — في رأيه — بعد الحرب في الاتجاه الذي أدى إلى علوِّ المد الوطني عام ١٩٤٦، وهي التي كانت وراء تشكيل «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة»، ولعبت الدور الرئيسي في قيادتها. وبالطبع يختلف ذلك تمامًا مع حقائق التاريخ، فقد كانت «اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» مبادرة طلابية، لعبت فيها قيادات الحركة الطلابية — على اختلاف توجهاتها السياسية — الدور الأكبر لإقامة «جبهة وطنية» تضم ممثلي الأحزاب البرجوازية والجماعات الماركسية والإخوان المسلمين (الذين خرجوا من الجبهة بعد قليل)، وإن كان يسجل لقيادات حمتو الطلابية وكذلك شباب الطليعة الوفدية فضل ضم الحركة العمالية إلى اللجنة، وكانت مقاعد اللجنة موزعة بين الاتجاهات السياسية المختلفة.
ولكن الحقيقة أبدًا لا تموت، فرغم تضخيم هنري كورييل للدور الذي لعبته منظمته في أحداث ١٩٤٦ حتى جعلها القائد والمحرك ومصدر الإلهام، نجده يذكر لجنة التنسيق بين الجماعات الماركسية في الحركة الطلابية، كما يذكر دور العناصر التقدمية الوفدية (يعني بذلك الطليعة الوفدية).
ويعرض التقرير للموقف من القضية الفلسطينية بطريقة تبريرية أيضًا، فالمنظمة امتنعت عن الاشتراك في المظاهرات «المعادية للسامية» على حد تعبيره في نوفمبر ١٩٤٥ لأن الإخوان المسلمين دعوا إليها «بتحريض من الإمبريالية والحكومة المصرية» لصرف الأنظار عن القضية الوطنية، فطالبت «حمتو» بالاستقلال، وجلاء الجيوش الأجنبية وحق تقرير المصير للعرب واليهود في فلسطين «ورفعت الشعارات المعادية للإمبريالية والرجعية العربية والصهيونية»، ونجده يشير في نهاية التقرير إلى موقف «حدتو» عام ١٩٤٧ المؤيد لتقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية، الذي أثار ضجة داخل حدتو نفسها، وبين المنظمات الشيوعية المصرية الأخرى، ومن الطريف أن هنري كورييل أعرب عن «أسفه» — في سيرته الذاتية — عن عدم مشاركة «حمتو» في مظاهرات نوفمبر ١٩٤٥ التي نظمت بمناسبة ذكرى «وعد بلفور».
وعند حديثه عن مرحلة الوحدة التي أسفرت عن قيام «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) نجده يغفل ذكر الانقسامات والصراعات التي دارت داخل الحركة، وخاصة ما يتعلَّق منها بتمصير القيادة، وما نجم عنها من ظهور منظمات جديدة ناصبت حدتو العداء، ويكتفي بتعداد مظاهر النشاط الحركي لحدتو بين صفوف العمال والطلبة، واشتراكها في حملة مقاومة «الكوليرا» إلى غير ذلك من مظاهر النشاط السياسي الحركي.
لقد أعد التقرير لتستخدمه «حدتو» أداة للدفاع عن نفسها ضد هجمات خصومها على صعيد الحركة الشيوعية المصرية في فترة من أحرج فترات تطورها (عام ١٩٥١)، وهو — كما قلنا — مذكرة دفاع تبرز إيجابيات الحركة، وتُلقي أضواء باهرة عليها، ولكن التقرير رغم ذلك يقدِّم معلومات هامة حول أسلوب عمل المنظمة التي لعب هنري كورييل الدور الرئيسي في قيادتها.
ثالثًا: المراحل الرئيسية للصراع داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في عام الوحدة (مايو ١٩٤٧–يونيو ١٩٤٨)
لعل هذا التقرير من أهم وأخطر ما تتضمنه هذه المجموعة من الوثائق، لأنه يتناول تجربة الوحدة الأولى في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة، ولأن هنري كورييل نقل وجهات نظر الخصوم كما هي، وإن كان قد فسَّرها من وجهة نظره الشخصية، فأجرى «فرزًا» لمؤيديه ومعارضيه، فالأولون يمثِّلون «التيار الثوري» أما الآخَرون فيمثِّلون «التيار الإصلاحي الانتهازي». وهنري لا يعترف في هذا التقرير بأخطائه — ولا ننتظر منه ذلك بالطبع — وإن كان قد اعترف بخطأ واحد في «سيرته الذاتية» عند الحديث عن الوحدة هو أنه كان يفرط في حُسن النية في الآخَرين وفي إمكانية قيام وحدة حقيقية، وهو اعتراف مجرد من القيمة لأنه يعني — في نهاية المطاف — أن كورييل كان دائمًا على حق، وأن خصومه كانوا موغلين في الخطأ.
جمع كورييل كل الأوراق في يده، فرغم المساواة العددية — تقريبًا — بين «حمتو» و«إسكرا»، خرجت منظمته بنصيب الأسد عند توزيع مقاعد القيادة، وجميع مَن تم اختيارهم من «حمتو» كانت تربطهم بهنري روابط ود وولاء، لذلك كان «الرفيق يونس» يمسك زمام القيادة وحده، بعد أن نجح في زحزحة الرفيق «شندي» (هلل شوارتز)، وهو يقف إلى جانب «التمصير» ويعمل من أجله، فإذا تعالت أصوات الأعضاء من بعض المثقفين المصريين تطالب بتمصير القيادة، ضاق هنري كورييل ذرعًا بها، واتهم أصحابها بالشوفينية والانتهازية؛ لأن تمصير القيادة يعني تنحيته عنها. فكان لا بد أن يترتب على هيمنته على قيادة الحركة، وتمسكه بموقعه أن تفجر التنظيم من الداخل إلى «تكتلات»، وأقسام متناقضة مع القيادة التي كانت تحظى بتأييد معظم أعضاء «حمتو» القدامى.
لقد بدا الأمر كله، وكأن «حمتو» تريد احتواء الحركة الشيوعية المصرية، وتفرض عليها توجهاتها، وخاصة ما اتصل منها بالقضية الفلسطينية: القبول بقيام إسرائيل وسط إجماع شعبي على عروبة فلسطين، والحرص على «مشاعر» القواعد اليهودية للحركة بحي الظاهر بالامتناع عن مقاومة الصهيونية واعتبار أية محاولة من هذا النوع «مؤامرة إمبريالية» و«معاداة للسامية».
ثم هناك موقفه الغريب من شعار «التعميل» الذي نادى به وضمَّنه برنامجه السياسي الذي عُرف باسم «خط الرفيق يونس»، فهو يرى في «التعميل» توسيع قاعدة الانتشار بين العمال، بينما يرى خصومه في «التعميل» رفع الكفاءة النظرية للكوادر العمالية وتأهيلها للقيادة. لذلك نجده يندِّد بانتهازيتهم، ويصبُّ عليهم جام غضبه، ويدين من أيدوا وجهة نظره من رفاقه العمال، حتى ولو كان «حميدو» (محمد شطا) — صاحب التجربة النضالية العريضة بين عمال شبرا الخيمة — من بين أولئك المؤيدين وهو الذي كان موضع تقدير هنري في «سيرته الذاتية» وعدَّه من بين أساتذته الذين تعلَّم منهم الكثير.
كان الهدف من الوحدة — كما يتضح من التقرير — تهيئة الظروف الموضوعية الملائمة لإقامة «حزب شيوعي مصري»، وكان ذلك يعني صَهر المنظمتين المتحدتين في بوتقة واحدة، وكان ذلك يتطلب «نظرية مصرية للثورة» على حد تعبير هنري كورييل، ولكن كيف تُصاغ مثل هذه النظرية في غياب دراسة دقيقة لواقع المجتمع المصري وتناقضاته الأساسية، وهو ما كان يجب التركيز عليه باعتباره «المهمة العاجلة» للحركة، التي كان من بين أعضائها المثقفون القادرون على الاضطلاع بهذه المهمة، غير أن هنري كورييل — على ما يبدو من هذا التقرير — نصَّب نفسه «المُنظِّر» الوحيد للحركة رغم أن خبراته بالواقع المصري كانت متواضعة دون شك.
لقد كانت الحركة تضع أقدامها على الطريق السياسي الصحيح بتبنيها لمبدأ «التحرر الوطني» واتجاهاتها «الجبهوية» من خلال تحالف البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة في مرحلة النضال من أجل الاستقلال الوطني، ولكن كيف يقود «التحرر الوطني» في بلد خاضع للاحتلال، تنظيم يضم ٢٦٪ من الأجانب (معظمهم من البرجوازيين الكبار)؟! بل كيف يستطيع التنظيم أن يحقِّق هذه الغاية بقيادة أجنبي يتحدَّث العربية بصعوبة، حتى لو كان يحمل الجنسية المصرية؟!
وأخيرًا، كيف تتجزأ مهمة «التحرر الوطني» فتوجه في مصر ضد الوجود الأجنبي، وتقبل — في فلسطين — بذلك الوجود؟! بل وكيف يتسق هذا مع هدف «الوحدة العربية» الذي آمنت به «حدتو»؟!
هذه كلها تساؤلات، يكمن في الإجابة عنها جوهر الصراع الذي دار داخل «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني»، والذي انتهى بفرز لعناصر «حمتو»، وتوزع عناصر «إسكرا» مع بعض أفراد من «حمتو» بين عدد من التنظيمات الصغيرة، التي غرقت — ومعها حدتو — في صراع يدور حول محور الشجب والتنديد وتبادل الاتهامات، بما ترتَّب عليه من آثار بالغة السلبية على مسيرة الحركة الشيوعية المصرية.
ومن هنا تأتي أهمية هذا التقرير الذي أعدَّه هنري كورييل — على ما يبدو — ليسترشد به قادة «حدتو» أثناء مفاوضات وحدة ١٩٥٥ التي أسفرت عن تأسيس «الحزب الشيوعي المصري الموحد» ولكن دون الاستفادة من دروس وحدة ١٩٤٧، فكان التمزُّق والتشرذم والانقسام.
رابعًا: وثائق مجموعة روما للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (مارس ١٩٥١–أبريل ١٩٥٨)
هذه المجموعة من الوثائق — وعشرات غيرها لم نحصل عليها — تعكس نوع العلاقة بين حدتو و«مجموعة روما لحدتو» التي كوَّنها هنري كورييل بباريس عام ١٩٥١، وظلَّت تعمل تحت اسم «مجموعة روما للحزب الشيوعي المصري الموحد» حتى أصدر المكتب السياسي «للحزب الشيوعي المصري المتحد» (عام ١٩٥٧) قرارًا بحلها في بداية عام ١٩٥٨، عقدت على أثره مؤتمرًا بأحد مطاعم باريس في أبريل ١٩٥٨، اتخذت فيه قرارات صدَّرتها بقبول قرار الحل، وإن ظلَّت تمارس نشاطها في الدفاع عن المعتقلين الشيوعيين ومد يد العون المادي لأعضاء حدتو المعتقلين حتى نهاية محنة الاعتقال.
ورغم أن الوثائق التي يتضمَّنها هذا الكتاب جاءت كلها من أرشيف «مجموعة روما» إلا أننا رأينا أن نُصنف الوثائق التسع التي يتضمنها القسم الرابع تحت عنوان «وثائق مجموعة روما للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني»، لأن المجموعة كانت دائمًا تعد نفسها امتدادًا لحدتو بالخارج من ناحية، ولأن هذه الوثائق — بالذات — توضح للقارئ أسلوب التعامل بين المجموعة وحدتو، وطبيعة العلاقة بين «هنري كورييل وجماعته» — كما سمَّاهم خصوم حدتو — وبين حدتو خاصة، والحركة الشيوعية المصرية عامة.
وتكتسب هذه المجموعة أهمية تاريخية خاصة، لأنها أرسلت من هنري كورييل لبعض ثقاته من قادة حدتو، ولم تكُن — في معظمها — مُوجَّهة للَّجْنة المركزية أو لقواعد المنظمة، ولذلك مارس فيها هنري كورييل النقد الذاتي لتاريخ الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات، وكان أقل حِدَّة في الحكم على خصوم حدتو، وإن لم يرفع عنهم وصف «الانتهازيين»، وأقرب إلى الموضوعية في تناول نقاط الخلاف معهم.
ورغم حرص هنري كورييل — في مراسلاته وتقاريره المرسلة لحدتو على وجه الخصوص — على التأكيد على أنه لا يهدف إلى قيادة الحركة من الخارج، إلا أن هذه التقارير — كما يلاحظ القارئ — تضمَّنَت الكثير من التوجيهات للمكتب السياسي واللجنة المركزية، واستمراره في موالاة المنظمة بها يعني أن تلك «التوجيهات» كان لها وزنها عند قيادات الحركة، أو خلصائه بينهم على أقل تقدير.
ففي التقرير الأول — من هذه المجموعة — المرسل من ميلانو بإيطاليا في مارس ١٩٥١ — قبل انتقاله إلى باريس — الذي يدور حول توسيع نشاط الحركة والانتشار بين الجماهير، نجده يزود المنظمة بتوجيهات تنظيمية لتحقيق هذه الغاية؛ مثل محاربة التردد وكشف جذوره ومعالجة أسبابه، والاهتمام بالخلايا باعتبارها مصدر قوة التنظيم مع تبسيط عملها ومنحها قدرًا من حرية الحركة، وتبسيط أساليب العمل بكل المستويات التنظيمية، والاهتمام بقسم النشر وخاصة إصدار المنشورات والدوريات العلنية والسرية التي تعبر عن الحركة. مثل هذه التوجيهات التنظيمية لا يمكن أن تكون مجرد «نصائح» من الرفيق يونس إلى رفاقه بالمنظمة، وخاصة أنها جاءت في وقت كانت فيه المنظمة تعاني مشاكل تنظيمية خطيرة بعد غيابه عن قيادتها.
ويأتي التقرير الثاني — ديسمبر ١٩٥١ — وهو أخطر ما في هذه المجموعة من وثائق، ليشخص الداء الذي كانت تعاني منه الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات، ويصف العلاج الذي يراه مناسبًا للتخلص من ذلك الداء، ويحرص على التأكيد أنه لا ينبغي من وراء ذلك قيادة الحزب من الخارج، وإنما يقدم رؤيته كرفيق نضال مخلص للمنظمة التي شارك في تأسيسها.
في هذا التقرير نجده يتحدث بصراحة لم نعهدها فيه سواء في «سيرته الذاتية» أو في تقريريه حول «نضال حمتو وحدتو منذ تأسيسهما» و«الصراع داخل حدتو في عام الوحدة»، فهو يعترف بالضعف الأيديولوجي الذي كانت تعانيه «حمتو»، وعدم كفاية العمل داخل التنظيم مقارنة بالعمل خارجه، والارتجال في العمل بين صفوف الجماهير، ويطالب المنظمة بالتخلص من هذه السلبيات حتى تتغلب على المصاعب التي تواجهها.
نفس الأسلوب الانتقادي الموضوعي يتجلى في التقرير الثالث — مارس ١٩٥٣ — حول النضال لتحقيق الوحدة بين الشيوعيين المصريين، وهو تقرير على درجة كبيرة من الأهمية التاريخية. فنجده يبدأ بنقد موقف «حمتو» من قضية الوحدة الذي تمثل في التعالي على المنظمات الأخرى، والتهوين من شأن الوحدة كضرورة باعتبار «حمتو» التنظيم الأقوى، وتجنب الصراع الأيديولوجي وعدم الاعتراف بالأخطاء، وتجاهل تحليل مشكلة الاتجاه نحو الوحدة، وعدم إدراك خطورة الانقسام الذي يؤدي إلى إضعاف الحركة من الداخل، وإضعاف نفوذها بين الجماهير، وغياب الوعي بدور الرجعية والإمبريالية في مساندة الاتجاهات الانشقاقية.
وفي تحليله لأسباب ذلك، يعترف بأن قيادة الحركة كانت تعاني — منذ الأربعينيات — من عدم وجود الخبرة السابقة بالتنظيم، وعدم توافر الإعداد السياسي الكافي لديها لعدم مشاركتها في الحركة السياسية المصرية، وتعدد التنظيمات وتصارعها مع غياب الكومنترن (الذي حلَّ عام ١٩٤٣) كسلطة عُليا يمكن الرجوع إليها للفصل بينها. ويرى أن الخلاف بين التنظيمات لم يكن نظريًّا ولا سياسيًّا، وأنه يرجع إلى الجهل وليس الانحراف، فالأشكال التنظيمية متقاربة، والمطالب الأساسية متفقة إجمالًا وإن اختلفت البرامج، وإنما الخلاف في خطة (تكتيك) كل منها، وموقفها من العمل الخارجي، ومن الغريب أن نجده في «سيرته الذاتية» يعود إلى نغمة ازدراء الآخَرين ووصفهم بالانتهازيين!
ونجده — في نفس التقرير — يبادر بالاعتراف بأن انقسام الحركة الشيوعية يأتي لصالح الإمبريالية، ويرجع أسباب فشل وحدة ١٩٤٧–١٩٤٨ إلى عدم تحديد الجذور الطبقية التي تجعل التنظيمات قادرة على التطور باتجاه الوحدة وعدم فهم الخلاف الحقيقي بين التنظيمات والتهوين من شأن الانقسامين، وعدم إدراك أن الصراع داخل التنظيم يغذي التنظيمات الانشقاقية، وعدم إدراك العلاقة بين الانقسامات داخل حدتو والقرار الخاص بقبول تقسيم فلسطين. ويختتم تقريره بالدعوة إلى الوحدة باعتبارها هدفًا استراتيجيًّا لحدتو، مع تقديم مقترحات الوحدة إلى جميع المستويات التنظيمية وإعطائها الوقت الكافي لدراستها وطرحها على جميع الشيوعيين، وينصح بعدم فرض شروط مسبقة، وخاصة شرط حل التنظيمات واندماجها في حدتو.
ويبدو أن المنظمة — التي شهدت العديد من التغيرات في مطلع الخمسينيات — لم تعُد تعول كثيرًا على توجيهات الرفيق يونس، فنجد هنري كورييل يبدأ خطابه الموجه للجنة المركزية — مايو ١٩٥٣ — بالعتاب لأنها لم تستشره في شيء على مدى عامين ونصف، وأنها الآن تطلب رأيه — من خلال الرفيق حميدو (محمد شطا) — حول «الجبهة الوطنية» و«المجلة الجديدة»، وهنا لا يحاول كورييل أن يُدلي برأي محدد حتى لا يزيد الانقسام حِدَّة بين رفاقه القدامى، وخاصة أن صراعًا — داخل قيادة حدتو — كان يدور حول قضية «الجبهة الوطنية الديمقراطية» الذي كان شعارًا رفعته قيادة حدتو، عارضه بدر (سيد رفاعي) وطالب بتشكيل «اللجان الثورية السرية» وشايعه في ذلك بعض عناصر قيادة الحركة، كان ثمة انشقاق جديد في مرحلة المخاض، ولذلك حرص هنري كورييل على تقديم نصيحة غامضة هي تبنِّي خط سياسي يجمع بين إيجابيات الرأيين، وقد انتهى الأمر بانشقاق بدر وجماعته وتكوين «حدتو – التيار الثوري». مرة أخرى، «ثوريون» و«انتهازيون»، إنه التراث السياسي للحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات، الذي لعب هنري كورييل دورًا هامًّا في تكوينه. على كلٍّ، عندما حدث الانقسام أيَّد كورييل اتجاه «الجبهة الوطنية الديمقراطية» وتخلَّى عن بدر وجماعته الذين قطعوا بدورهم الصلات معه، وأيدوا موقف الحزب الشيوعي الفرنسي منه.
وظلَّت مراسلات هنري كورييل مع بعض كوادر حدتو مستمرة بصفة شخصية، وبفضل هذه الصلات، والإخلاص للروابط التاريخية، ظلَّ للرفيق يونس مقعد خالٍ في اللجنة المركزية لحدتو، وإن كان الكثيرون من الأعضاء لا يُبدون ارتياحهم للتمسك بهنري كورييل وجماعته، ولكن الكوادر الأقوى نفوذًا كانوا هناك دائمًا للدفاع عنه. ولعل هذا يفسر عدم معرفة «مجموعة روما» بتشكيل «الحزب الشيوعي المصري الموحد» (وحدة ١٩٥٥) إلا عن طريق «الحزب الشيوعي السوداني»؛ فقد ظلَّ يونس على علاقة وثيقة برفيقه القديم (راشد) عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني.
ويتضح ذلك من الوثيقة الخامسة من هذه المجموعة — يونيو ١٩٥٥ — التي تعلن فيها «مجموعة روما» انضمامها للحزب الشيوعي المصري الموحد، بعد أن بلغها نبأ تأسيسه من الحزب الشيوعي السوداني، وتعلن قبولها بشروط الوحدة رغم تحفظاتها على بعضها، وتطالب بمعرفة الأسس التي يقوم عليها الحزب حتى تتوفر على دراستها وتوافي الحزب بتقارير حلولها، وختمت الوثيقة بالاسم الجديد الذي اتخذته المجموعة «مجموعة روما للحزب الشيوعي المصري الموحد».
كانت المفاوضات الأساسية للوحدة قد تمَّت — كما رأينا — داخل السجن، وتعرضت حدتو لانتقاد شديد من جانب معظم المنظمات الشيوعية المصرية لتمسكها بالرفيق يونس وتخصيص مقعد له من مقاعد حدتو العشرة باللجنة المركزية على أن تجمد عضويته لحين صدور قرار بهذا الشأن من الحزب. ولعل ظروف السجن حالت دون تلقى هنري كورييل لنبأ تأسيس الحزب من رفاق حدتو مباشرة.
وعلى كلٍّ، ظلَّت المجموعة تمارس نشاطها تحت الاسم الجديد، ووثقت صلاتها بأعضاء المنظمات الشيوعية المصرية التي انضمت للوحدة من الموجودين بالخارج، وعندما بدأت مفاوضات الوحدة الثالثة (١٩٥٧) بعد تفكك الحزب الموحد، سارعت «مجموعة روما» بتقديم مذكرة — الوثيقة السادسة — عن نشاطها في مختلف المجالات السياسية والحزبية، وخاصة الحملة التي نظمتها للتضامن مع المعتقلين.
وفي يناير ١٩٥٨ يعرف هنري كورييل من رفيقه حميدو (محمد شطا) أن نقاشًا يدور داخل «الحزب الشيوعي المصري المتحد» حول حل مجموعة روما لأنها تضم أجانب، ولأنها تحاول قيادة الحزب من الخارج، كما أنها تبذل جهودًا من خلال الحزب الشيوعي الإسرائيلي — الذي كانت على صلة وثيقة به — لإقامة سلام «عادل» بين مصر وإسرائيل. لذلك تسارع مجموعة روما بالكتابة للحزب (الوثيقة السابعة) تنفي عن نفسها تهمة قيادة الحزب من الخارج، وتدافع عن صلاتها بالحزب الشيوعي الإسرائيلي وسعيها للسلام مع إسرائيل بحجة أن ذلك لم يتم باسم «الحزب الشيوعي المصري» وإنما تم بصفة غير رسمية.
وينشط هنري كورييل لتأكيد فعالية «مجموعة روما» فيرسل تقريرًا — مارس ١٩٥٨ — عن التناقضات التي يجب طرحها وحلها (الوثيقة الثامنة)، فتحدث عن التناقضات الاجتماعية والسياسية، وقدم تحليلًا لها يقوم على أساس اتخاذ موقف من نظام الحكم يأخذ في الاعتبار إيجابياته وسلبياته معًا ولا يركز على إحداها دون الأخرى. وتقريرًا آخَر عن عداء الحركة الشيوعية الدولية له يقدم فيه وجهة نظره في أسباب هذا العداء.
كان هنري كورييل يوالي إرسال تقاريره لتأكيد أهمية نشاط مجموعته، في الوقت الذي اتخذ فيه «الحزب الشيوعي المصري المتحد» قرارًا بحل مجموعة روما نهائيًّا اعتبارًا من ١٤ مارس ١٩٥٨، لانعزالها عن الواقع المصري، وبعدها عن رقابة الحزب، ولفتح آفاق جديدة أمام أعضائها للالتحاق بأحزاب البلاد التي يقيمون بها، ومن أجل الحرص على سلامة العلاقات بالأحزاب الشقيقة (إشارة إلى إدانة الحركة الشيوعية الدولية لهنري كورييل)، ولأن المجموعة أجنبية التكوين.
هكذا أقفل «الحزب الشيوعي المصري» ملف مجموعة روما نهائيًّا، وأبلغ القرار لهنري كورييل في أبريل، فكان الاجتماع الذي عقدته المجموعة لمناقشة القرار والذي انتهى بالموافقة عليه بأسلوب يغلب عليه طابع العتاب، مع التمسك باستمرار تقديم المساعدات المالية والمعنوية للمعتقلين دون استخدام اسم الحزب، تبرأ الحزب الشيوعي المصري من تبني أولئك الشيوعيين اليهود اللقطاء الذين لفظتهم الحركة الشيوعية الدولية من قبل، وأثارت الشكوك حولهم، ولكنهم يصرون على الالتصاق بالحركة الشيوعية المصرية ويعلقون الآمال على النجاح في إقناع الحزب بالتخلي عن موقفه منهم، وفاتهم أن رفاق حدتو — أنفسهم — وافقوا على قرار حل المجموعة، بعدما أصبحت تمثل قيدًا على حركتها، ونقطة ضعف في مواجهة المنظمات الشيوعية المصرية.
خامسًا: رسالتان من هنري كورييل إلى نعومي كانل (مايو–يونيو ١٩٥٧م)
يتضمَّن القسم الأخير هاتين الرسالتين من هنري كورييل إلى نعومي كانل، حسبما تشير كلمة كُتبت بخط اليد على أصل كل رسالة، تنص على أن الرسالة كتبت إلى نعومي كانل بالسجن وكانت تلك السيدة اليهودية المتمصرة تقضي عقوبة خمس سنوات (١٩٥٤–١٩٥٩م) بسجن القناطر في القضية المعروفة بقضية «الجبهة» والتي حوكم فيها عدد من الشيوعيين واليساريين المصريين، كان من بينهم بعض المثقفين والفنانين وضباط الجيش.
وقد لعبت نعومي كانل — أثناء وجودها بالسجن — دور ضباط الاتصال بين حدتو وهنري كورييل، وبين الأخير وبعض الإسرائيليين المسجونين، وقد أشار إليها جيل بيرو في كتابه «هنري كورييل، رجل من طراز فريد»، دون أن يذكر اسمها الحقيقي أو الحركي.
على كلٍّ، لا يهمنا كثيرًا أمر نعومي كانل أو دورها في التنظيم بقدر ما يهمنا مضمون الرسالتين فهما تدوران حول محورين: رأي هنري كورييل في نظام الحكم في تلك الفترة، وفي سياسة حكومة الثورة، وكذلك رأيه بالنسبة للقضية الفلسطينية، وعلاقاته مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي، هذا فضلًا عن إعرابه عن سروره البالغ بتمسك حدتو به عضوًا في القيادة، ويبدو أن نعومي كانل لعبت دورًا هامًّا في هذا المجال، فهو يثني على جهودها في إقناع قادة حدتو بالتمسك به.
وفي تحديد موقفه من ثورة يوليو، ينطلق هنري كورييل من مفهوم «الجبهة الوطنية الديمقراطية» التي تجمع بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة في مرحلة التحرر الوطني، فرغم اقتناعه أن النظام لا يمثل «حقيقة القيادة التي تحتاجها مصر»، لأنه يعمل لمصلحة الرأسمالية المصرية، وليس لمصلحة الجماهير الشعبية، إلا أنه يتصور أن الشيوعيين المصريين يستطيعون — عن طريق توجيه حركة الجماهير — أن يدفعوا النظام إلى اتخاذ خطوات تقدمية، ويضرب أمثلة على توجه النظام لخدمة مصالح البرجوازية المصرية من خلال سياسة «تمصير» الشركات الأجنبية بعد عدوان ١٩٥٦، وإن كان ينتقد الطريقة التي تم بها تأميم قناة السويس ويرجع انحصار العدوان إلى خروج بريطانيا وفرنسا على قواعد اللعبة في الشرق الأوسط، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تجبرهما على الانسحاب، وهو تحليل دقيق في مجمله، وخاصة أنه لم يغفل دور الجماهير الشعبية في التصدي للعدوان.
لكن يلاحظ أن هنري كورييل بالغ كثيرًا في تقديم الدور الذي لعبه الشيوعيون في إسقاط النظام القديم، لأن «عملهم بين الجماهير أضعف النظام السابق»، وجعل العناصر «الواعية» من البرجوازية الوطنية يحددون أهدافهم الوطنية، فرغم أهمية الدور الذي لعبه الشيوعيون المصريون في الحركة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، إلا أنهم كانوا يتحركون — دائمًا — بين الجماهير في إطار الجبهة الوطنية، ومن خلال نشاط جبهوي أساسًا، ولم يكن باستطاعتهم وحدهم توجيه العمل السياسي الذي أدى إلى إضعاف النظام القديم، وخاصة أنهم كانوا موزعين بين منظمات متناحرة متصارعة، ولا يمثلون تيارًا واحدًا قويًّا وفعَّالًا، مهما قيل عن التواجد الجماهيري لحدتو، وعن وجود بعض عناصرها داخل الجيش، فحتى مَن كان منهم بين صفوف «الضباط الأحرار» عجز عن توجيه نظام ثورة يوليو صوب الاشتراكية، وتمَّت تصفيتهم في وقت مبكر (خروج يوسف صديق من مجلس قيادة الثورة، وإبعاد خالد محيي الدين، واعتقال أحمد حمروش) رغم أهمية الدور الذي لعبوه — كأفراد — في إسقاط النظام القديم.
وعلى كلٍّ، يتلخص موقف هنري كورييل من نظام ثورة يوليو (عام ١٩٥٧) في ضرورة الحفاظ عليه، والتعاون معه، والعمل على توسيع نطاق إنجازاته الإيجابية وتوجيهها وجهة اشتراكية بضغط من الجماهير الشعبية التي يحركها الشيوعيون. وهو موقف يتناقض تمامًا مع موقف «الحزب الشيوعي المصري الموحد» من ثورة يوليو، ويتعارض مع المقعد الذي حصل عليه هنري كورييل في لجنته المركزية بضغط من حدتو، لذلك نجده يعلن تمسكه — رغم ذلك — بخط الحزب واستعداده لتبنيه، رغم عدم موافقته عليه.
هذا التبني الغريب لمواقف تختلف عن القناعات الشخصية لهنري كورييل و«مجموعة روما» يتكرَّر في الموقف من تأميم قناة السويس، الذي ينتقد هنري أسلوب تنفيذه ولكنه يتبنى الدفاع عنه علنًا في الأوساط السياسية الدولية، ولا يمكن أن نفسر ذلك إلا في ضوء حرص «مجموعة روما» على إبقاء الجسور ممتدة بينها وبين الحركة الشيوعية المصرية، ولعلها كانت تعتقد في إمكانية استخدام الحركة الشيوعية المصرية نقطة ارتكاز لحوار مصري-إسرائيلي لإقامة «سلام مصري-إسرائيلي» من خلال الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي احتفظت «مجموعة روما» معه بصلات وثيقة.
ويتجلى ذلك من النقاط المتصلة بإسرائيل في الرسالتين؛ فالمجموعة تلعب دور ضباط الاتصال بين الأفراد الإسرائيليين المعتقلين في مصر لأسباب تتصل بالأمن القومي، والذين أدين بعضهم في قضايا التجسس، وبين عائلاتهم في إسرائيل (من خلال نعومي كانل). كذلك كانت المعلومات المتعلقة بهم التي ترسلها نعومي كانل، تبلغ إلى جهة أو شخص أطلق عليه هنري كورييل اسم «إيلي» ونعتقد أنه اسم كودي، فمن كانت تهمه — في إسرائيل — أخبار الإسرائيليين المعتقلين بمصر؟ من يهمه أمرهم سوى جهة أمنية إسرائيلية كالموساد على سبيل المثال؟!
ويتجلى ذلك أيضًا من إشادة هنري كورييل بموقف «الحزب الشيوعي الإسرائيلي» وخاصة تلك «الأخوة الفريدة التي حققها النضال بين اليهود والعرب داخل صفوف الحزب»، ويرى أن تصريحات المسئولين العرب المعادية لإسرائيل «استفزازية»، وأعمال الفدائيين الفلسطينيين «استفزازية» ويطالب بتنمية «قوى السلام» في البلاد العربية، لقد كان إبرام السلام بين العرب وإسرائيل، وتحقيق تعايش الدولة العبرية الصهيونية مع العرب، هدفًا سعَت إليه «مجموعة روما» وبذلت جهودًا كبيرة لتحقيقه، سواء من خلال مصر أو من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، وعندما اغتيل هنري كورييل قبل مغادرة مصعد بيته، كان يحمل بيده مفكرته الشخصية، وقد وضع إصبعه بين صفحاتها على موعد يشير إلى لقاء مع «الدكتور» وهو الاسم الذي استخدمه كلما حدد لقاء مع عصام السرطاوي — أحد معاوني ياسر عرفات — الذي كان يتولى مسئولية الحوار الفلسطيني مع العناصر التقدمية في إسرائيل.
•••
وبعد … عزيزي القارئ … إن هنري كورييل لم يكن بالشخصية التي يسهل تفسير دوافعها وأهدافها، وكانت تحركاته دائمًا موضع ريبة الكثيرين على الصعيدَين المَحلِّي والعالمي — على نحو ما رأينا — غير أن الدور الذي لعبه في «الحركة الشيوعية المصرية» يظلُّ دائمًا موضع عناية مؤرخي هذا التيار المتأصل في الحركة السياسية المصرية، لأنه زود الحركة الشيوعية المصرية بإرث سياسي ثقيل لم تستطع أن تطرحه جانبًا، ولعل هذه الأوراق ترسم أبعاد هذا الإرث، وتوضِّح معالمه، وتعيننا على فهم الظروف التي أحاطت بالحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات.