رسالتان من هنري كورييل إلى نعومي كانل من مايو-يونيو ١٩٥٧م
(١) من هنري كورييل إلى نعومي كانل (في السجن)
١٠ /٥/ ١٩٥٧م
الزميلة والصديقة العزيزة
كم أنا سعيد بإمكان مراسلتك؛ لقد عرفت أن معنوياتك مرتفعة، وأنك تدبرين أمورك بحيث تستطيعين القيام بعمل مفيد، وهذا أمر لم أكُن لأشك فيه؛ لكن التعب الجسماني قد عاودكِ مرَّة أخرى، يجب حتمًا أن تستعيدي صحتك، ولا يكفي لهذا الغرض، الاعتماد على الأطباء، بل ينبغي أن تقومي بجهد في ملاحظة أحوالك حتى تتبيني الظروف التي تسوء أو تتحسن فيها صحتكِ … فالصحة لا يجب التهاون فيها لأننا جميعًا بحاجة إليكِ بكامل العافية.
لهذه العودة أيضًا معانٍ سياسية طيبة، فهي تشير إلى ضعف التيارات المتطرفة داخل الحزب، ولا يمكن من هذه الناحية الاستهانة بأن الحزب الشيوعي المصري الموحد هو الوحيد في الشرق الأوسط العربي (لأن هذا موجود في الدول العربية بشمال أفريقيا) الذي يقبل عودة عنصر يهودي لقيادته، وهي تعني أن وحدة الحزب الداخلية متينة، وأن سياسة الوحدة مُثمِرة ولا ينبغي أن «نخشاها».
فيما يتعلق بالوضع السياسي: أعرف أن هناك بعض الخلافات مع قيادة الحزب، وإن كنت لا أعرف امتدادها داخل الحزب، لكن هناك خلافًا تحليليًّا من الصعب معالجته كتابةً بعد هذا البعاد الطويل، وبسبب الجهل بالظروف التي بنى عليها كل طرف موقفه؛ ومع هذا أسمح لنفسي بأن أخبرك ببعض ما يدور بخلدي:
(أ) أنتِ تعرفين أن موقفي من النظام القائم كان دائمًا إيجابيًّا، حتى أنني تراجعت عن الاشتراك في النشرة التي يصدرها الحزب عندما أخذ الحزب خط المعارضة المطلقة له، فظهرت النشرة في صورة جديدة للدفاع عن هذا الخط.
(ب) لكنني لا أعتقد أن النظام يمثل حقيقة القيادة التي تحتاجها مصر:
-
فإن انتصارات مصر لم تبدأ مع تغيير النظام، بل مع ازدياد مشاركة الشيوعيين في قيادة الجماهير الشعبية.
-
إن تغيير النظام نفسه يعود في جوهره إلى عمل الشيوعيين، حيث إن عملهم بين الجماهير أضعف النظام السابق، كما أتاح للعناصر الواعية من البرجوازية الوطنية تنظيم أنفسهم وتحديد أهدافهم الوطنية التي لم تكُن طائفية ضيِّقة كأهداف الضباط في البداية: الإصلاح الزراعي والجمهورية، ومقاومة الأحلاف العسكرية … إلخ.
-
إن النظام يقود مصر إلى التقدم في حدود ضغط الجماهير الذي يمارس بدوره عندما يقوم الشيوعيون بدورهم القيادي في توجيههم؛ وفي الفترة التي ترك فيها النظام وحيدًا لم يحسب له إنجاز واحد بخلاف سياسة القمع والإرهاب.
-
لكنه وإن قاد سياسة وطنية استقلالية — إلى حد ما — فإنه لا يزال يعمل لصالح الرأسمالية أساسًا؛ لا أستطيع الإفاضة في هذا لكن يكفي مثال واحد: بعد فشل العدوان، وضعت تحت الحراسة «ممتلكات بعض الرعايا» (الأعداء)، ولا أرغب في التعليق على الطريقة التي تم بها تنفيذ هذا الإجراء لكننا أيدناه. ومع هذا فقد أُسيء تطبيقه كالعادة، إذ ذهبت هذه الممتلكات إلى الرأسماليين المصريين المستعدين دائمًا للتنازل عن استقلال مصر لا للدفاع عنه، وقد حصل عليها هؤلاء الرأسماليون — الذين لم يقدموا تضحية واحدة من أجل مصر — بشروط تافهة لا تضر المالكين السابقين بقدر ما تلحق الغبن بالشعب المصري؛ أليس بديهيًّا أن عمل الشعب هو خالق هذه الثروات؟ وأن مقاومته بالداخل هي العنصر الأساسي في فشل العدوان؟ وأنه هو الذي تحمل ثقل هذا العدوان وقدم التضحيات وواجه المصاعب؟ هذا مثال يبرز أسلوب النظام في محاباة البرجوازية على حساب الشعب.
-
وأخيرًا فإنني أعتبر النظام عاجزًا عن حل مشاكل مصر على الصعيد الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، فهو غير قادر على التقدم خطوات لتعويض مصر عن تخلُّفها، وغير قادر على تثبيت مستوى معيشة الشعب المصري رغم انخفاضه الشديد: انظر أرقام الدخل القومي الثابت منذ عام ١٩٥٢م، والمتناقض بالنسبة للأفراد.
لا أريد الاستطراد فأنا أعتقد أنني أعطيتك فكرة عن تصوراتي، وستلحظين أنها لم تتغير منذ عام ١٩٥٢م؛ إن النظام له مزايا، في حدود تكوينه الطبقي، وأيضًا في الحدود التي تفرضها ظروف وطنية ودولية معينة، ولا أود أن تستخلصي من أقوالي أنني أعترض على تأييد حزبنا للنظام، فنحن ننقل هذا التأييد إلى الخارج بكل إمكاناتنا التي لا يُستهان بها.
إن الخلافات لا تزال قائمة: في تحليل الصلات بالبرجوازية الوطنية، وفي تحليل هذه المرحلة من مراحل الثورة، في مضمون الدعاية والبرنامج، وارتباط الأهداف الوطنية بالأهداف الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك حول موقف النظام من السياسيين الذين صدرت ضدهم أحكام … إلخ.
أعود فأكرر أنني مقتنع أن المناقشات المطولة ستؤدي إلى اتحاد كامل في وجهات نظر أغلبية أعضاء الحزب، ولكن يجب توقع صراع أيديولوجي مكثَّف ضد التيارات الوطنية – البرجوازية التي لا يُستهان بها، سواء داخل حزبنا أو في الحركة الشيوعية المصرية.
ما كان بودي أن أتحدث كثيرًا عن «السياسة العليا» في خطابي الأول، بل كنت أفضل أن أتناول فيه مسائل ملموسة، لكن هذا أمر مؤجَّل بما أننا سنتراسل بانتظام من الآن فصاعدًا؛ حتى ذلك الحين أرجو إبلاغ مشاعري الحارة وكذا مشاعر جميع أفراد مجموعة روما إلى الزملاء؛ أما أنتِ فلك أطيب التمنيات بالشفاء العاجل، ونرجو أن تعتني تمامًا بصحتك مع إعجابنا بموقفك وسلوكك؛ وأخيرًا أرجو أن تقبلي بالغ شكري وإخلاصي.
أما عن الأخبار فلن أعطيك منها هذه المرة سوى ما يخص عائلتك، وهي أخبار قليلة لكننا سنقوم باللازم من أجل الحصول على معلومات حديثة: والدك بخير وقد أرسلنا إليك خطابًا منه منذ حوالي شهر، وإنني مندهش لعدم وصوله إليك؛ على كل حال سنرسل من الآن فصاعدًا صورة من الخطابات إلى ماري؛ وبالنسبة لأخواتك فإن بولا تظهر شيئًا من اللامبالاة على العكس من أليس التي تراسلنا بخصوصك باستمرار، وكنا للأسف قد حُرمنا أخبارك لمدة طويلة لكن الوضع سيتغير الآن.
(٢) من هنري كورييل إلى نعومي كانل (في السجن)
م/٢ –
(٤٨)
٧ يونيو سنة ١٩٥٧م
عزيزتي ليلى
فرحت جدًّا بخطابك رقم ١ «من السلسلة الجديدة» كما فرح به جميع مَن قرأه.
(١) أرسل بالبريد نفسه خطابًا إلى أليس، وخطابًا آخَر إلى إينا «المقيمة الآن بميلانو» لإطلاعهما على أخبارك، وقد بعثت إلينا أليس بكراسة موسيقى قمنا بإرسالها إليكِ.
(٢) أثار الوصف القصير لنشاطكِ إعجابنا الصادق.
إنني أرد باختصار على بعض أسئلتك إلى أن أتمكن من إرسال رد أطول عليها جميعًا.
-
(أ)
فيما يتعلق بوجودها، ليس هناك تغيير في الموقف إلا من جانب المتطرفين السوريين واللبنانيين الذين يتعرضون لنقد الجميع، وقد أرسلنا بهذا الخصوص مذكرة بسلسلة من تصريحات الاتحاد السوفييتي الرسمية قبل وبعد العدوان: الموقف المبدئي هو نفسه المحدد في مذكرة ١٧ أبريل سنة ١٩٥٦م الشهيرة أي «حل دائم وسلمي للمسألة الفلسطينية على أساس مقبول من الأطراف المعنية مع مراعاة المصالح القومية العادلة لدول المواجهة.»
-
(ب)
بالنسبة للحزب٤ هناك، فإن العالم كله يحتفي به بفضل موقفه المبدئي الثابت من العدوان، وفيما يلي ما جاء في عدد ٢ يونيو من لومانيتيه عن المؤتمر المنعقد: «أنهى المؤتمر الثالث عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي أعماله بعد ثلاث جلسات خُصِّصت للتقارير والمناقشات الموسعة، وقد أبرزت هذه المناقشات نضال الحزب الشجاع ضد سياسة الحرب التي ينتهجها التحالف الحكومي، كما أوضحت الأخوة الفريدة التي حققها النضال بين اليهود والعرب داخل صفوف الحزب.
وقد ساد المؤتمر الإيمان بالدولية العمالية، والثبات على المبادئ، والوعي الكبير بالدور القائد للطبقة العمالية بقيادة «الحزب الشيوعي».
-
(جـ)
إن السلاح الهام في يد الدوائر العدوانية بإسرائيل يرتكز على التصريحات الاستفزازية لبعض قادة العرب، وعلى أعمال «الفدائيين» الاستفزازية، والسلاح المتين الذي يمكننا حيازته ضد هذه الدوائر هو تأكيد وتنمية قوى السلام في البلاد العربية.
(٦) وبالنسبة للتأميم، سأقول لك رأيي بصراحة آملًا ألا يصدمك:
-
(أ)
منذ أكثر من ٤٥ عامًا والتأميم مطلب دائم للحركة الوطنية المصرية، وقد طالبت به أيضًا الحركة الشيوعية «حتى أننا قمنا بإعلانه في نشرتنا بروما» ومع هذا لا أزال مُصرًّا على أن لطريقة وشروط تنفيذه نتائج مؤسفة جدًّا، كان يمكن تفاديها، بالنسبة لمصر فهي قد عرضت استقلالها للخطر، وكذلك عرضت جميع الانتصارات الشعبية في العشر سنوات الأخيرة للخطر.
-
(ب)
إن وقف التدخل حدث بفضل عدة عوامل، وكان الأساس هو الانشقاق القائم في المعسكر الإمبريالي بين فرنسا وإنجلترا الراغبتين في استعادة سيطرتهما على الشرق الأوسط من ناحية، والولايات المتحدة التي رأت في انتصار حلفائها خطرًا على نفوذها، وقد أتاح لها هذا الانشقاق التدخل بكامل ثقلها لوقف القتال دون المجازفة بصراع عالمي.
-
لا يمكن الحديث عن مقاومة عسكرية مصرية (يُعطي مقال حديث بروز اليوسف بعض الإيضاحات الصادقة لأول مرة في مصر عن الجانب العسكري للتدخل)، ومع هذا فإن إصرار الشعب المصري على الكفاح من جهة، ومساندة الرأي العام العالمي من جهة أخرى، قد أدَّيا إلى استمرار النظام في المقاومة، الأمر الذي أتاح التدخل الأمريكي.
-
-
(جـ)
إن هذه الفترة تؤكد أن البرجوازية ليست دليلًا أمينًا فعَّالًا أو شجاعًا للشعب المصري، وهي تؤكد أيضًا أن رجلًا «مرسلًا من العناية الإلهية» ليس بكافٍ لحل مشاكل الأمة المصرية.
إن البطولة، داخل مصر، موجودة في الشعب، في الطبقة العمالية وفي الفلاحين، إنها لم تظهر أبدًا في البرجوازية، ويصح هذا القول بصفة خاصة عن الفترة الحديثة.
آمل ألا يصدمك ما أكتبه، ولا تظني أنني أوصي بتغيير سياسة حزبنا، فأنا أنصح فقط بإجراء بعض التعديلات في بعض المواقف، وعلى كل حال فإن الضرر الناتج عما أعتبره الآن تطرفًا، أقل منه كثيرًا في الفترة السابقة عندما كنا في موقف المعارضة التامة للنظام.
أرسل إليك، يا عزيزتي ليلى، إعجابي وإعجاب جميع الزملاء بسلوكك، فهو ينطوي على قدر من البطولة أكبر مما تصفين به بعض القادة البرجوازيين وأكبر مما تصفين به مَن سيظل على الدوام زميلك المخلص.