ماذا يَقُولُونَ؟ بل كَيْفَ يَقُولُونَ؟
نعرض في هذا الكتاب لأشتات من الكتب الحديثة التي يؤلفها الغربيون عن الإسلام والأمم الإسلامية، ونرى فيها اختلافًا بين الصواب والخطأ، أو الصدق والكذب، أو حسن النية وسوئها، يصح أن نخرجَ منه بنتيجة عامة كالميزان لآراء القوم نفهم منه كيف يقولون قبل أن نعرض لما يقال أو لموضوع المقال، وفيما نقدم من الملاحظات على الكتب التي نعرض لها مادة كافية لتحرير هذا الميزان والانتفاع به في تقويم الآراء وأصحاب الآراء، كلما وقفنا على مؤلف جديد لهم فيما يتحدثون به عن الدين الإسلامي أو عن الأمم الإسلامية.
وأهم ما يهم في هذه الأشتات المتفرقة من المؤلفات هو محك الإخلاص في كتابتها؛ فمن هم المخلصون منهم؟ ولماذا يخلصون؟
كل ما اطلعنا عليه من مؤلفاتهم المتلاحقة في العصر الحاضر يدل على أن المخلصين منهم فريقان: طلاب المعرفة، وطلاب العقيدة؛ وقد تجمعهما فئة واحدة يقال عنهم جميعًا: إنهم طلاب الحقيقة في عالم العلم وفي عالم الضمير.
إن العلماء المتجردين للبحث العلمي عندهم يتحررون جهدهم من الأهواء النفسية التي تحول بين الباحث وتقرير ما يراه كما رآه، ومنهم من يقرر مذهبًا له فلا يفرق بين المشاهدات التي تؤيد مذهبه والمشاهدات التي تنقضه أو تشكك فيه أو تذره معلقًا بين النقض والتأييد، فينتهي إلى ترجيح مذهبه ثم يتبع الترجيح بقوله: إن المذهب حتى الآن ثابت لولا ما يرد عليه من هذه المشاهدة أو تلك في جملة المشاهدات … وليس بهؤلاء من خفاء فيما يكتبون؛ لأنه ينم على مقاصد أصحابه بعد مراجعة يسيرة، ومنهم من عرفوا بالأمانة العلمية فيما كتبوه عن سائر المطالب العلمية غير الإسلام.
أما طلاب العقيدة فهؤلاء هم زمرة من الباحثين داخلهم الشك في عقائدهم التي ولدوا عليها، وغلب عليهم الإيمان بأن الشرق هو مصدر الأديان وأن الباحثين عن العقائد الروحية مرجعهم إليه في الزمن الحديث كما كانوا يرجعون إليه في الزمن القديم.
وإذا كان من هؤلاء من وقعت الجفوة بينه وبين رؤساء دينه فالغالب عليه في كتابته عن الإسلام أن تصطبغ أقواله عنه وعن تاريخ الأمم الإسلامية بحماسة بَيِّنَةٍ تشبهُ حماسةَ المؤمن بدينه وإن لم يبلغ به الأمرُ مبلغَ التدين بالعقائد الإسلامية أو مبلغ الانتساب إلى الإسلام، ومن هؤلاء الكاتب الإسباني «بلا سكو أبانيز» الذي قال في كتابه «تحت ظلال الكنيسة» ما لا يزيد عليه المسلم شيئًا من فضائل التاريخ الأندلسي، ويشبهه «جوزيف مكاب» باللغة الإنجليزية في مقارناته بين التواريخ الأوروبية والتواريخ الإسلامية، فلا يكاد يقارن بين شيئين تشتمل عليه التواريخ إلا كان الرجحان بينهما للكفة الإسلامية، مع الإطناب من ناحية، والتنديد من الناحية الأخرى.
وفيما عدا طلاب العلم وطلاب العقيدة يندر الإخلاص في مؤلفات القوم حيثما عرضوا للمسلمين أو عرضوا لما اعتقدوه أو تعودوه، ولكنهم في قلة الإخلاص أو سوء النية أنواع ودرجات.
فهناك المتعصبون للغرب — وطنيًّا أو جنسيًّا — كما يتعصب الريفي الساذج لكل شيء في قريته على كل شيء في قرية سواه! وأكثر ما يظهر هذا التعصب فيما يكتبونه عن المسلمين العرب؛ لأنهم إذا كتبوا عن المسلمين الهنود أو الفرس استطاعوا أن يقولوا: إنهم من السلالة الآرية التي ينتمي إليها الأوروبيون، واستطاعوا أن يزعموا — مثلًا — أن الإسلام قد أخذ التصوف من الفرس، وأخذ الحكمة من الهند، وتلقى فلسفة الكلام عن اليونان مما نقله النساطرة وسائر المترجمين، وأن المسلمين العرب كانوا يعولون في خدمة دينهم — بل في خدمة لغتهم — على المجتهدين من سلالة الآريين، وقد يلج الغلو بهذه الفئة حتى تنكر دينها؛ لأنه تبشير رسول «يهودي سامي» كما يقولون عن السيد المسيح! وبعضهم ينشئ لنفسه مراسمَ وشعائرَ كالمراسمِ والشعائرِ يتبعها أصحاب العبادات، ويتذرعون بما يدعونه من المزايا الجنسية؛ لتسويغ سيادتهم على الغربيين أنفسهم؛ لأنهم لم يحرروا عقولهم من العبادات الشرقية، أو لأنهم خالطوا الشعوب من غير السلالة الآرية الخالصة فلحقت بهم الهجنة في الأنساب وفي الأخلاق …!
هذه طائفة من ذوي النيات السيئة بين كتاب الغرب يؤلفون عن المسلمين عامة وعن المسلمين العرب على التخصيص، ومعظمهم ممن يدينون بالمذاهب الفاشية أو النازية في السياسة والاجتماع.
وطائفة أخرى هي طائفة الماديين الملحدين الذين يدعون إلى هدم المجتمعات القائمة ويقولون بأن الأديان كافة عقبة تعترض «الإصلاح الاجتماعي» الذي يلغي «الروحيات» ويستبدل بها «الماديات» في كل مطلب من مطالب الحياة الدنيا ولا حياة غيرها لإنسان.
ونصيب الإسلام عند هؤلاء الماديين الملحدين أوفر الأنصبة وأولاها بالتقديم في خطة الهدم والتشويه؛ لأن المسيحية لا تزاحم مذهبهم الاجتماعي بمذهب شامل لمسائل التشريع والنظم الاجتماعية والحكومية، ولكن الإسلام يقيم المجتمع على نظامه ويقرر الحقوق والواجبات بقسطاسه، ويحيط بشئون الدين والدنيا في حياة الآحاد وحياة الجماعات، ويتقبل البناء الجديد على قواعد أساسه الخالد دون أن يضطر المسلم إلى إنكار قاعدة من قواعد العبادات فيه والمعاملات.
ولا يقل عن هؤلاء الكفرة في عداوتهم للإسلام جماعة «المؤمنين المحترفين» سماسرة التبشير الذين يتخذون تشويه الإسلام صناعة يستدرُّون بها الرزق، ويتوسلون بها إلى جاه الرئاسة وسمعة الصلاح والتقوى بين المتعصبين والجهلاء في البلاد الأوروبية والأمريكية، فهؤلاء أصحاب مصلحة في تشويه الدين الإسلامي وتمثيل المسلمين على الصورة التي تذكي عند القوم جذوة التعصب وتملي لهم في الجهالة والغفلة، فلا يسرهم أن تظهر الحقيقة لهم ولمن يستأجرونهم ويرسلونهم للتبشير، ولا يندر أن يكون المبشر ملحدًا بالدين كله! ولكنه يعلم أنه يقطع موارد رزقه إذا كشف عن إلحاده أو قال عن الإسلام قولةَ حقٍّ وإنصافٍ تمحو عداوة الأعداء وتضعف غيرتهم وحماستهم للحملات التبشيرية في بلاد المسلمين، فهو كاذب متعمد منتفع بالكذب لا يزحزحه عنه علمه بالحقيقة، ولا هو يسعى إلى علمها برضاه.
وينبغي أن نفرق بين هؤلاء «المؤمنين المحترفين» وبين المؤمنين المصدقين برسالتهم عند النظر إلى أقوال المبشرين.
فالمبشر المؤمن بدينه ربما انحرفت المخالفة الدينية بعاطفته فنظر إلى الأشياء على غير وجهها، وأخطأ الحكم عليها غير متعمد أن يخطئ أو يصر على خطئه، وربما لاحت له فضيلة من فضائل الدين الذي ينكره أو من فضائل أهله فلم ينكرها ولم يحاول أن يطمسها ويخفيها، ولكنه يفسرها على سنة الأقدمين من المبشرين تفسيرًا يوافق رأيه في عقيدته وعقائد المخالفين له من المستحقين لغضب الله في زعمه! وكذلك فسر المبشرون الأقدمون فضائل الديانات التي وجدوا عليها أبناء الأمريكتين: الوسطى والجنوبية، يوم ذهبوا إليها بعد كشف العالم القديم بقليل؛ فقد شهدوا بفضائلهم في بعض عقائدهم، وشهدوا بصحة تلك الفضائل على مذهبهم، ولكنهم قالوا: إنها دسيسة من الشيطان أدخلها على عقول أولئك الأمريكيين الأصلاء؛ ليزين لهم ضلالتهم، ويزيف عليهم أباطيلهم، ولا يخطرنَّ لنا أن هذا الزمن قد ولى وانقضى بتأويلاته وتخريجاته التي يأباها العقل ويرفضها المنطق السليم؛ ففي عصرنا هذا سمحت سيدة أوروبية لعقلها أن يَغُضَّ من فضائلِ رجلٍ كالمهاتما غاندي الهندي فلم تنكر عليه تلك الفضائل، ولم تجرؤ على ازدرائها عند أبناء أمتها، ولكنها قالت: إنها صفات عارضة في روح غير ناجية ولا عالية، ومن هنا — كما قالت — لم تظهر لروح غاندي مسحة من السماحة على وجهه … فلحقت به الدمامة وحومت على محياه! ولعل المبشر المثقف في هذا العصر لا يرجع إلى تأويلات الأقدمين ولا يزعم أن فضائل الدين الذي ينكره دسيسة من كيد الشيطان، ولكنه يقول، كما قالت تلك السيدة: إنها صفات عارضة لا تتغلغل في أعماق الروح، ولا تحس سيماها في الوجوه!
على أن الإخلاص في الإيمان بدين من الأديان عصمة ولا ريب من التلفيق المتعمد والكذب المقصود، فإذا كتب المبشر المؤمن بدينه عن الإسلام والمسلمين فإنما يكتب الحقيقة كما يراها وتتمثل له في هواه، ثم ينم عليه جهله وينكشف للقارئ مصدر خطئه وبواعث انحرافه، ويختلف أمر المبشرين المحترفين فيما يلفقونه على الأديان التي ينكرونها ويتجردون — على زعمهم — لهداية أصحابها … فإن هؤلاء المبشرين المحترفين مهرة في فنون الدعاية، مدربون على تمويه الواقع وتلبيس الحق بالباطل، فلا يشق على عقولهم ولا على ضمائرهم أن يعرضوا أحوال الأمم على الصورة التي تنفر الناس منها ولا سيما المتعصبين المستعدين للنفرة والراغبين في اختلاقها، ولا نبالغ في التقدير إذا قلنا: إن تسعة أعشار المبشرين المحترفين في العصر الحاضر من هذا القبيل.
طائفة أخرى يشوب كتابتها الغرض كلما تحدثت عن البلاد الإسلامية كما يشوبها الغرض كلما تحدثت عن بلد غريب يتطلع القراء الغربيون إلى سماع أخباره ويحبون أن توافق ما تخيلوه من أطواره وأعاجيبه، ومعظم المتحدثين على هذا الأسلوب يسوقون أحاديثهم إلى قراء ألف ليلة ورباعيات الخيام ورحلات الرواد في القرون الوسطى، فلا يحبون أن يسمعوا خبرًا يألفونه ويشبه ما تعودوه، وهواهم كله إلى الأحاديث الشرقية التي تعرض لهم شرقًا في الواقع كالشرق الذي قرءوا عنه في أساطير الخيال. وقد رأينا بعض كتاب الغرائب في هذا القرن العشرين يجول بين ربوع البادية العربية فيزعم أنه نزل بضيافة شيخ في الستين له في مضارب الخيام حوله ثلاثون زوجة، وله من الأبناء والبنات ما ليس يحصيه! ورأينا غيره يزعم أنه زار في العواصم الإسلامية بيوتًا لا تفتح نوافذها وأبوابها بالنهار ولا بالليل، وبين جدرانها خليط من الزوجات والسراري لا يهتدين في الطريق بغير دليل من الخصيان! ولكن هؤلاء المغربين المتخيلين يثوبون شيئًا فشيئًا إلى الاعتدال في رواية أخبارهم وأعاجيبهم بعد شيوع الصور المتحركة وانتشار المناظر الشرقية على حقيقتها فيما تعرضه اللوحة البيضاء أو تعرضه الصحف السيارة، ولم تبقَ للمغربين المتخيلين غير زاوية واحدة يملئونها بالأعاجيب والمدهشات عن المسلمين والشرقيين؛ وهي زاوية التاريخ والقصور الأثرية التي يعمرونها بأبطال العصور الغابرة ويلحقون بهم أحيانًا أبطال العصر الحاضر فيما يؤلفونه عنهم من قصص البيوت والخدور.
وأخطر المغرضين جميعًا طائفتان تملكان من وسائل الدعاية ما ليس لطائفة أخرى من طوائف المغرضين؛ وهما: طائفة الصهيونية، وطائفة الاستعمار.
ويهون خطب الصهيونية الساخرة في دعايتها السياسية أو العنصرية؛ فإن الغربيين يعرفون أكاذيب هؤلاء الصهيونيين ولا يساعدهم من يساعدهم هناك؛ جهلًا بما يفترون على ضحاياهم أجمعين، وإنما يساعدونهم؛ لأن خطر الإسلام عليهم أكبر من خطر الصهيونية وما يماثلها من الأخطار العنصرية، ولعلهم في الغرب لم يسلموا من دعاية صهيونية تحاربهم وتفتري عليهم في مسائل الدين ومسائل السياسة كلما بدا للصهيونية العالمية مأرب عند هذا البلد أو ذاك، فإذا أعلن الصهيونيون حملاتهم مصرحين بأسمائهم فلا ثقة بما يروجون، ولا ضير على المسلمين منهم ولا غير المسلمين.
لكن الدعاية المقنعة أخطر ما يستطيعه هؤلاء الصهيونيون، والحملات التي يشنونها في أرجاء العالم بأسماء غيرهم هي في الواقع سلاحهم الذي يعولون عليه؛ لأن جمهرة القراء يصغون إليها ولا يتهمون قائليها، بل لا يشعرون بداع إلى الاتهام في أكثر الأحيان.
وقد عرف الصهيونيون في عصرنا هذا مواطن القوة التي تسخرها الدعاية فاستولوا على الكثير من أدواتها وبرعوا في تسخيرها وإخفاء مراميها، فهم يملكون شركات الإعلان فتحسب الصحف الكبيرة قبل الصغيرة حسابهم ولا تتورع عن خدمتهم أو السكوت عنهم على الأقل وكتمان سيئاتهم ومآربهم؛ إذ كانت الصحف الكبيرة — خاصة — أحوج إلى الإعلانات؛ لكثرة تكاليفها تبعًا لكثرة صفحاتها، فلا تكاد أثمانها تفي بتكاليف الورق فضلًا عن تكاليف التحرير لولا موارد الإعلانات.
ويملك الصهيونيون دور النشر فيحسب المؤلف حسابهم كما يحسب الصحفيون.
وقد يتبرع المؤلف بمرضاتهم ونشر دعايتهم؛ تمهيدًا لقبول كتبه، وإذاعتها بالترويج والتقريظ وخلق «الجو» الصالح للاهتمام بها واللغط حولها، ولا تقصر وسائلهم أحيانًا عن ترشيحها لأكبر الجوائز العالمية من قبيل جائزة نوبل بالسويد، وجائزة بولتايزر بالولايات المتحدة؛ لأن نوبل نفسه يهودي، ولجان التحكيم في الولايات المتحدة لا تخلو من اليهود أو من يسيطر عليهم اليهود بوسائل الإعلان والترويج.
ويملك الصهيونيون أسهمًا وافرة في شركات الصور المتحركة وينتسب إليهم عدد كبير من الممثلين والممثلات ونقاد المسرح واللوحة البيضاء.
وإلى جانب هذه الوسائل الفنية أو المادية وسائلهم وراء الستار — وأمام الستار — بين الساسة والنواب والمرشحين لمراكز الزعامة والمتنازعين على الأصوات في مواسم الانتخابات، وليس استخدامهم لوسائل الجمال في هذه المعارك وما إليها بأقلَّ من استخدامهم لوسائل المال.
والمغرضون في خدمة الاستعمار قوة تضارع الدعاية الصهيونية الخفية إن لم تزد عليها في بعض الأحوال؛ إذ هي قوة الدولة وقوة المال وسائر القوى المسخرة للسياسة والتبشيرِ مجتمعات.
إلا أن الاستعمار في هذا العصر يقترن به الترياق على الرغم منه، وأوله ترياق النزاع عليه بين المستعمرين.
فإذا جاءت الفرية من جانب المستعمر الفرنسي لم يبخل عليه المستعمر الإنجليزي بالتفنيد والتجريح؛ مزاحمة له وإحباطًا لمسعاه، وإذا اختلفت برامج السياسة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية ففي مجال الخلاف متسع لظهور الغرض المستور إن لم يكن فيه متسع لإنصاف الأمة المفترى عليها وتصحيح الأباطيل التي يروجونها عنها.
وقيام المعارضين للاستعمار في كل دولة من دوله المشهورة ضمان لتفنيد دعاواه أو للكشف عن خباياه، فلا تخلو دولة من دول الاستعمار الكبرى من أحزاب تعارض الاستعمار؛ إشفاقًا من مغارم الضريبة ومجازر الحرب وغارات الهجوم والدفاع، وزهدًا في مغانمه التي يستأثر بها الرعاة ولا نصيب للرعية منها غير الخسارة والشقاء.
وعلى قدر سموم الاستعمار يكثر الترياق لكل سم من هذه السموم.
فالرغبة في كسب مودة الضعفاء أقوى اليوم من الرغبة في احتلال بلادهم واستغلال مرافقهم؛ لأن فوائد الاحتلال تنقص، ومغارمه تزداد، ولأن الحروب اليوم حروب عالمية تمتد إلى كل ركن من أركان العالم المعمور فلا تؤمن العاقبة أثناء القتال إذا فوجئ المقاتلون بالمقاومة الحربية أو الاقتصادية في ركن منها، كائنًا ما كان شأنه من الضعف والانزواء.
وليس من المنتظر ولا من المعقول أن يتصدى المستعمرون لإعلان الحقائق المشرفة لضحاياهم الأولين وضحاياهم الباقين تحت نيرهم، وهم غير قليلين، ولكن المستعمرين خلقاء أن يعلموا أن معرفة الحقيقة عن الأمم المطموع فيها أجدى عليهم في معاملاتهم معها من كتمان الحقيقة وتضليل الأذهان عنها؛ إذ كانوا يخدعون أنفسهم ويضللون أبناء بلادهم إذا وضعوا لهم تلك الأمم المطموع فيها على غير حقيقتها، فيخسرون لا محالة كما يخسر التاجر الذي يجهل أحوال «زبائنه» من الغنى والفقر، والأمانة والغش، والوفاء والمطال، وما دامت القوة الغاصبة سلاحًا مغلولًا في أيدي الغاصبين فلا مناص لهم من معاملة الناس كما هم في الواقع بدلًا من التعويل على قهرهم وإرغامهم وقلة المبالاة بما يجهلونه من شئونهم وأخلاقهم، كما كانوا يفعلون يوم كان الحكم كله للعنف والإذلال.
إن سموم الدعاية الاستعمارية باقية وستبقى إلى حين، ولكنها اليوم سموم يقترن كل سم منها بترياقه، ولا تفعل عقاربها ما تفعله أمصالها بين ضحاياها، بل لا يأمن المستعمر نفسه من جرائرِ تلك السمومِ.
والنتيجة التي نستخرج منها ميزانًا لما ينشره الغربيون عن الإسلام والمسلمين في عصرنا، هي: تمييز المخلصين منهم وغير المخلصين، وحصر البواعث التي تدفع غير المخلصين إلى الجهل بالحقيقة وإخفائها إذا عرفوها.
فالمخلصون منهم هم طلاب العلم وطلاب العقيدة، وغير المخلصين هم المتعصبون للوطنية الغربية، والمتعصبون للدعوة المادية، والمتعصبون للدين عن إيمان أو عن غش واحتراف، وطلاب الغرائب ودعاة الصهيونية والاستعمار.
ويعوزنا — نحن الشرقيين المفترى عليهم — أن نحسن الوزن بهذا الميزان؛ لنفهم ما يقال كما ينبغي أن يفهم، ولكنها نتيجة سلبية قصاراها أن تنفي ما يقال، فألزم لنا من هذه النتيجة السلبية أن نقول نحن ما يثبت وما يدفع ما يقال.