أفريقية الجَدِيدة
ألف هذا الكتاب باسم «أفريقية الجديدة» صحفي أمريكي يكتب عن الرحلات بأسلوب الصحافة فيما تتعرض له من موضوعات الاستطلاع العلمي أو السياسي: وهي موضوعات — عند الصحافة العصرية — موفورة المادة من الإحصاءات والمراجع التاريخية والسياسية، يستعان عليها أحيانًا بتوفير أدوات الرحلة السريعة بمزاياها ونقائصها التي تجتمع في شيء واحد؛ وهو السرعة أو العجلة.
فالرحالة الصحفي قد تزود لتأليف هذا الكتاب بزاد ضخم من الإحصاءات المجهزة، والمراجع الموجزة، وتذاكر السفر الحاضرة على كل مطية من المطايا الميسورة في القارة الأفريقية، وهي تنتظم أنواع المطايا من قبل الطوفان إلى السنة الأخيرة بعد منتصف القرن العشرين، ثم دون محصوله سريعًا في إعداد العدة، وسريعًا في استخلاص النتائج منها، فوضع بين يدي القارئ كتابًا يغنيه في مثل هذا الغرض للإحاطة السريعة بأحوال القارة الأفريقية في لمحات معدودات، ولكنها تستند وراءها إلى مستودع غير قليل من مراجع الوقائع والأرقام.
ولقد كان شأن الإسلام في مقدمة الشئون الأفريقية التي عني بها المؤلف، حيث ترتبط بالعلاقات الوطنية «المحلية»، أو حيث ترتبط بالعالم الواسع كلما اتصلت بجهة من جهاته، وكلامه عن الإسلام في القارة الأفريقية هو الذي يعنينا من هذا المقال.
إن المؤلف يردد الحقيقة المقررة عن عراقة تاريخ الإسلام في القارة وعمق أثره بين قبائلها وشعوبها، ويزيد على المؤلفين السابقين أحيانًا أنه يبحث عن عراقة الأسماء في المواقع التي يخيل إلى الكثير أنها «محض وثنية» أو «محض جاهلية أفريقية» …
ومن ذاك أنه يتعقب الروايات المنقولة عن أصل كلمة «بورنو» أو «بورنيو» فيقول: إنها على غير الظاهر من نطقها الأفريقي قد ترجع إلى كلمتين عربيتين؛ وهما: «بحر نوح» سقط، منهما لفظ الحاءين؛ لأن الحاء لا تنطق في كثير من اللهجات الحامية؛ فأصبحت «برنو»، وأطلقت على موقعها لاعتقاد شاع بين العرب الأولين هناك عن علاقة بحيرة «شاد» بطوفان نوح.
ويرى المؤلف أن الإسلام أعرق وأثبت في القارة من أن تعوقه عن الانطلاق في أرجائها عوائق التبشير أو المقاومة السياسية: «فإن المسيحية لم تفلح قط في مقاومة الإسلام بالقارة، وإنما كان العائق الوحيد الذي حال بين دين النبي وبين الانتشار فيها هو عائق — التسي تسي — أو ذبابة مرض النوم؛ إذ كان الإسلام ينتشر دائمًا على أيدي فرسان الصحراء، وكانت الخيل عرضة للإصابة بأذى تلك الذبابة وليس لها عمل غالب في أقاليم الغابات!»
ومن جملة «التسجيلات» الإحصائية أو العيانية التي راقبها المؤلف يخرج القارئ ببيان موجز عن مشكلات المسلمين في بلاد القارة التي بلغت استقلالها أخيرًا أو لا تزال في طريق الجهاد لبلوغ ذلك الاستقلال.
ومن هذه المشكلات أن الحماسة للعقيدة الإسلامية يشوبها أحيانًا جهل المسلمين البدائيين بفرائض تلك العقيدة واحتفاظهم بالكثير من أساطير الوثنية الأولى التي توارثوها عن جاهليتهم القريبة، ولكنه يُسَوِّي بين القبائل الإسلامية والقبائل المسيحية التي تحولت عن جاهليتها بدعوة البعوث المسيحية؛ فإن هؤلاء وهؤلاء معًا يأخذون من الدين الجديد بالقشور ولا يتعمقون فيه إلى جوهره وروحه. وقد يشاهد الأفريقي المسيحي في الأقاليم التي تجاور القبائل الإسلامية وهو يلبس التعاويذ القرآنية و«الأحجبة» الموصوفة في طب المشايخ والفقهاء، كما يشاهد الأفريقي المسلم وهو يشرب الخمر ليعطي المرح حقه في المواسم الدينية!
ومن المشكلات الأفريقية التي تعم المسلمين وغير المسلمين أن لهجات الخطاب بين القبائل تختلف في القطر الواحد حتى تعد بالمئات، وأن التفاهم بينها إنما يتأتى بلغة «تعليمية» يتلقونها من طريق الدعوة الدينية؛ وهي بين دعوة تسري من جانب المبشرين أو تسري الآن كما سرت من قبل على أيدي السكان المسلمين.
ويذكر المؤلف أن المسلمين ربما تخلفوا عن جيرانهم الوطنيين في بعض الأقاليم؛ لأنهم قاطعوا المدارس العصرية يوم كانت تابعة كلها لبعوث التبشير، فلم يتخرج منهم في تلك المدارس غير قليل من الموظفين الصالحين لأعمال الدواوين.
وقد أغلقت مئات من هذه المدارس في أعالي النيل وأواسط القارة، ولم يخلفها عدد يصارع هذا العدد من المدارس الإسلامية أو الوطنية المنفصلة عن إدارة التبشير.
ولا يكتم المؤلف أنه لقي في بعض تلك البلاد أناسًا «محليين» يجهرون بالسخط على حكوماتهم ويتساءلون عن الدول الأمريكية والأوروبية: هل لهم أن يتطلعوا إلى معونتها السياسية في مقاومتهم لجيرانهم المسلمين؟!
قال: وإنهم ليعربون عن أسفهم علانية كلما قيل لهم: إن الدول لا تنوي أن تتعرض لهذه الشئون! ثم يقولون: إنه لا أمل إذن في غير معونة السماء!
وكلام المؤلف عن الأقاليم الإسلامية التي يراقبها جيرانها بين شواطئ البحر الأحمر ووادي النيل جدير بالتأمل وطول النظر؛ لأنه «غير مفهوم» على حقيقته، وغير معلوم بتفصيلاته فيما ينقل إلينا عن أخبار تلك البلاد.
ويروي المؤلف أحاديث الزعماء المسلمين؛ حيث يشيع الإسلام بين الملايين من السكان، فينقل عنهم أنهم صريحون في المجاهرة بنفورهم من الخضوع لغير أبناء دينهم، ولكنه يعقب على ذلك في بعض المواضع فيقول: إن هؤلاء الزعماء على تدينهم ومشاركة الملايين لهم في الدين ليس لهم أتباع سياسيون بمقدار عدد المشاركين لهم في الدين.
ومن ملاحظات المؤلف على مسلمي الصحراء أنهم «محافظون متشددون» ينظرون بشيء من الريبة إلى مسلمي الحواضر، ولا ينتظرون أن يتلقوا منهم الهداية الروحية؛ لاعتقادهم أنهم مسلمون متفرنجون، أو مسلمون غير أرثوذكسيين!
وقد أشار المؤلف إلى احتيال الفرنسيين على تعليم هؤلاء «الصحراويين» في غير المدارس النظامية التي يعرضون عنها ويستريبون بها؛ فإنهم أبدعوا في الصحراء نظامًا بدويًّا يناسبها ويستهوي إليه أبناءها؛ وهو نظام المدارس المتنقلة كأنها ضرب من قوافل التعليم.
وقد أومأ المؤلف إلى خطة التفرقة بين العرب والبربر في المغرب الأقصى، واستطرد منها إلى الإلمام بآثارها السياسية والاجتماعية في السنوات الأخيرة.
ويرى المؤلف أن من أسباب قوة الإسلام بين قبائل «الهوسا» إلى الجنوب من بلاد المغرب الأقصى أن الشعائر الإسلامية قد أصبحت عندهم «طريقة حياة» مع الإيمان بعقائدها الروحية، وقلما ينجح المبشرون في المزج بين التدين وأساليب المعيشة اليومية.
وقد أومأ المؤلف كذلك إلى نشاط الطائفة الإسماعيلية في أفريقية الشرقية وأفريقية الغربية، وقال: إن واحدًا من دعاتها في «سيراليون» يقدر عدد الوثنيين الذين تحولوا إلى الإسلام على يديه بخمسة آلاف.
وقد تحدث المؤلف عن إقبال المسلمين الأفريقيين على تعلم دروس الدين في الجامع الأزهر فقال: إن أكثر من مائة وسبعين شابًّا صوماليًّا كانوا يتعلمون في مصر سنة ١٩٥٧، وإن الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى تجتذب إليها المزيد من أولئك الطلاب عامًا بعد عام.
ولا نختم تلخيص هذا الكتاب دون أن نشير إلى موضعين فيه يستحقان من القارئ المسلم كل عناية بالتوسع فيهما والاعتماد على النفس في استقصاء أخبارهما، بنجوة من المصادر الأجنبية التي لا تخلو من قلة الاهتمام إن خلت من سوء النية، وهذان الموضعان هما: موضع «تسجيلاته وتبليغاته» عن تاريخ الإسلام الحديث في جوار الحبشة، وموضع «تسجيلاته وتبليغاته» عن مساعي الصهيونية في القارة الأفريقية؛ فإن المؤلف يطوي الأحاديث عن هذا الموضوع طيًّا لا يتسع للصراحة والبيان الوافي، وإن تكن أيسر الصراحة كافية للعلم بما وراء النيات، أو العلم بمحاولات الصهيونية المتشعبة للانتفاع بإشارة التعصب بين الأفريقيين المسلمين وغير المسلمين.