أفريقية التي لا تَقْبَلُ التَّصْدِيق
بعد خمسة قرون من بدء اهتمام الغربيين بالرحلة إلى الشرق، أصبحت كتابة هذه الرحلات مذاهبَ متفرقةً، وأصبح كل مذهب منها ذا طرائقَ مختلفةٍ، على حسب كتَّابها وأغراضهم منها، أو قدرتهم على كتابتها.
وقد التقينا على هذه الصفحات بكثير من هذه المذاهب وكثير من هؤلاء الكتاب، وأولهم وأسبقهم أصحاب مذاهب الإغراب الذين يجتذبون قراءهم برواية الأعاجيب والخوارق المجهولة، ويحسبون أنهم مطالبون بإعطاء أولئك القراء صورة يدهشون لها بديلًا من كل صورة يألفونها في بلادهم، ولو عمدوا إلى المبالغة والاختلاق.
ومن هؤلاء الرحالين أناس مطبوعون على تشويه كل صورة يلقونها في البلاد الشرقية والبلاد الإسلامية على التخصيص، وقد تبدو لهم مشوهة منكرة وهي لا تشويه ولا نكر فيها، ولكنهم يكرهون الاعتراف بالحسنات بينهم وبين أنفسهم فيحيلونها إلى سيئات توافق ما عندهم من سوء الظن وسوء الدخلة، وقد يعترفون بالحسنة ولكنهم يقصدون تشويهها؛ لاعتقادهم أنه أقرب إلى هوى قرائهم وأوفق لخدمة التبشير أو الاستغلال، وهم يعملون لحسابه.
ولقد رأينا بعض هؤلاء الدجالين يصدقون في النقل والوصف؛ لأنهم يتحرون الدقة الجغرافية والتاريخية، ويعلمون أن هذه الدقة أنفعُ لهم وأجدى على قرائهم وأوطانهم؛ إذ كان تضليل هذه الأوطان عن فهم الواقع على جليته تفويتًا لهم عن سبل المنفعة التي يسلكها من يواجهون الحقيقة بغير تضليل.
ولا يندر بين الرحالين ممن يصدقون النقل والوصف أن يكون منهم من يصدرون عن عاطفة حسنة تعطفهم نحو البلاد الشرقية، ويبعثها فيهم أنهم ناقمون على ولاة الأمر ثائرون على سلطان رؤساء الدين فيها، معتقدون أن اطلاع إخوانهم على حسنات الشرق وسيلة أخرى من وسائل الاطلاع على سيئات المسئولين في بلادهم عن عيوبها وأوزارها.
وربما أضيف إلى أولئك وهؤلاء في الزمن الأخير جماعة الباحثين العلميين الذين يعلمون أن الطريق إلى الشرق مفتوح أمام الكثيرين من طلاب السياحة والاستطلاع، ويحذرون على سمعتهم «العلمية» من الخلط والتزيد في الأمور التي يتناقلها الناس وتتواتر أنباؤها مع أحاديث البرق والإذاعة، ولا يصعب على قاصد التحقيق أن يهتدي إلى وجه الصواب فيها.
وكنا نحسب أن مذهب هؤلاء الباحثين العلميين قد تغلب على جماعات الرحالين في الزمن الأخير فضاقت على المغربين مذاهب الإغراب، واستغنى قراؤهم عن غرائبهم بالجديد من أخبار البلاد التي تكفل لقارئها الجدة والطرافة وإن لم تكفل له الدهشة ومباينة المألوف كلَّ المباينةِ.
ولكن الظاهر من متابعة الرحلات الأخيرة أن طريقة الإغراب لم تنقطع بعد، وأنها عند بعض الكتاب ضرورة لا يملكون اختيارهم فيها، وهي على كل حال من اثنتين في أكثر الأحايين: ضرورة المزاج الشعري الذي يضفي على الواقع تزويق الخيال ولو كان من مشاهدِ وطنِه ومآلفِ بصرِه وسمعه، وضرورة العجز عن كتابة ما يشوق القارئ ويطيب له بغير تهويل أو تحريف أو مبالغة في عرض الصحيح من كل مألوف مطروق.
ولعله لو استطاع أن يجتذب قراءه بأسلوب غير هذا الأسلوب لما ارتضاه للكتابة عن عقائد المسلمين في مراكش، وهي أقرب إلى معظم الأوروبيين من معظم البلاد الأوروبية، وسياحهم فيها أكثر من سياحهم في بعض ربوعها.
روى عن أحد الفرنسيين في طنجة أنه قال له ولصحبه: «إن طنجة عصرية بالقياس إلى بعض مدن الأقطار الداخلية، ولنضرب مثلًا ببلدة فاس … فإنني لم أكد أفرغ من مطالعة كتاب ظهر خلال القرن الرابع عشر ووصفها كما كانت في تلك الحقبة، ولم تتغير اليوم عادات أهلها التي وصفها في كتابه، فلو طبع الكتاب وعليه تاريخ هذه السنة لعده القارئ من تصانيف آخر ساعة.»
«وعلى أثر تناول القهوة بعد الغداء قالت لي فتاة إنجليزية: إنني سمعت ذلك الرجل يقول عن طنجة: إنها عصرية متمدنة … انظر إلى هذا … ورفعت ذيلها لترينا ساقيها وهما مسودتان مزرقتان من أثر الضربات عليهما.
ومضت الفتاة تقول: إنني كنت ألتقط بعض الصور في القصبة ولم تكن غير صور عادية للبيوت والطرقات وفيها بطبيعة الحال أناس من عابري الطريق، فأخذ النسوة في الصياح وأقبل الرجال والأطفال الصغار فأوسعوني ضربًا ورفسًا بالأقدام …»
قال المؤلف معقبًا على حديث الفتاة: «… إنها الخرافة القديمة؛ فإنهم يعتقدون أن آلة التصوير تلتقط أرواحهم مع أشباحهم … وقد كاد أحدهم أن يحطم مصورتي حين جئت إلى مراكش لأول مرة؛ لأنه حسب أنني التقطت صورته، ولم أكن قد فعلت وإن كان هو موقنًا أن الصورة هناك، وأصر على ردها إليه، فلم يسعني إلا أن أجاريه على وهمه وأخذت أزمزم وأدمدم وأردد بعض الكلمات التي لا معنى لها، ثم استخرجت روحًا متخيلة من الحقيبة وناولته إياها، فتناولها ومضى في طريقه وهو يلفظ باللغة العربية المتواترة: خنزير يهلك على قبر جدك …»
واسترسل الكاتب قائلًا: «إن خرافة التقاط المصورة للأرواح مع الأشباح شائعة في أرجاء العالم، ولكن الأمر في بلاد المسلمين يداخله عامل آخر من عوامل كراهة التصوير، فليس في الفن الإسلامي المشروع صور للخلائق الآدمية، وإنما يسمح هذا الفن بتمثل الرسوم الهندسية ليس إلا؛ لأن القرآن يحرم تمثيل الإنسان؛ لكون الإله الأعلى نفسه غير منظور، ولا ينبغي للإنسان أن يظهر والله الذي خلقه غير ظاهر! وشرحت ذلك للفتاة فلم تقنع بهذا التفسير، وأجابتني قائلة: إنها ترى صور السلطان في كل مكان، وعلى رأس البواب في هذا الفندق واحدة منها … فقال الفرنسي الذي حدثنا من قبل: إن السلطان مستثنى من هذا التحريم؛ لأنه نصف إله، ولا تسري عليه الأحكام التي تسري على سائر المخلوقات …»
إن عنوان «القارة التي لا تقبل التصديق» ليس بالتعويذة التي تحمي المؤلف من الشك الكبير فيما رواه، وهبه شهد في طنجة ما لم نشهده معه فأين هو كلام القرآن الذي يحرم على الإنسان أن يظهر والله غير ظاهر؟! وأين هو المسلم الذي يطيق أن يسمع بتأليه حاكم أو تشبيهه بالإله وهو يتلو في الكتاب أن نبيه — صلوات الله عليه — بشر لا يميزه عن غيره من أبناء آدم وحواء إلا أنه بشر يوحى إليه؟! وكيف يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يفهم أن تمثيل الإنسان مستكثر عليه، ولكن هذا التمثيل الظاهر لا يستكثر على الحيوان والجماد؟
إن أفريقية التي لا تقبل التصديق هي أفريقية على صفحات هذا الكتاب، وليست أفريقية كما خلقها الله ظاهرة للأعين قبل أن تظهر مصورة على الخرائط أو على الصفائح الشمسية، وليست القصة التي نقلناها هنا غير مثل واحد من أمثلة شتى رويت عن البلاد الإسلامية وسائر البلاد المعروفة في أقطارها، وقد يكون شفيعًا للكاتب أنه سلك هذا المسلك؛ للتهويل على ولده بما يستغربه من عظمة مراكش بالأمس كما سلكه للتهويل عليه وعلى عامة القراء بغرائبِ العقائد والعادات فيها اليوم …
فإن ابنه كان يسأل عن المراكشيين: هل هم مستوحشون؟! فيقول له: إنهم إن لم يكونوا متمدنين حقَّ التمدنِ فهم الذين علموا الأوروبيين المدنية قبل حين.
وتصيح به زوجته: لا تبلبل دماغ الغلام يا صاح! فيدفع هذا البلبال عن دماغها ودماغ وليدها ووليده بصفحة وافية يشرح فيها فضل العرب على حضارة الغرب، بعد زوال الحضارة من ربوع اليونان والرومان.