تأثير الإسلام في العبادة اليهودية
١
وعنوان الكتاب يغري بهذا السؤال: كيف يكون هذا التأثير واليهودية سابقة للإسلام؟!
وقد يتعرض القارئ المسلم أيضًا لهذا الإغراء؛ لأن تقدم اليهودية في تاريخ الدعوة يخيل إلى الكثيرين أن السابق في التاريخ أولى بالتأثير فيما يليه، أو يسبقه إلى الشعائر التي يتشابهان فيها.
وهذا الخاطر «العرضي» هو مصدر تلك «الإشاعة» التي راجت في الغرب وكادت أن تثبت عندهم ثبوتَ المقرراتِ العلمية، فقال بعضهم: إن الإسلام نسخة مفصحة من اليهودية، وزاد آخرون فقالوا: بل نسخة مشوهة من اليهودية والمسيحية! ولم يبرأ من هذه العجلة رجل في طبقة الدكتور «شويتزر» في الثقافة والخلق، كان من واجبه أن يعصم عقله أمام الإشاعة الرائجة، وإن كل قول لا يستند إلى البحث ولا يستند البحث فيه إلى الدليل فهو حديث من أحاديث الإشاعات، إن لم نقل أحاديث الخرافات.
والبحث الذي كان من الواجب أن يستقصيه «الباحث» المقارن بين اليهودية والإسلام إنما على دراسة الموضوع والأمة لا على دراسة الرقم التاريخي وحده والوقوف لديه بعيدًا من موضوعه ومن أهله.
ولا يتم هذا البحث إلا إذا تناول أصالة اليهود فيما نقلوه من العقائد والأخبار، ثم تناول السبق عامة ولم يتناوله في ناحية واحدة من نواحيه، وتناول جوهر الدين ولم يقنع منه بأسماء العناوين.
واليهود ليسوا بالأصلاء فيما تدينوا به من العقائد ونقلوه من الأخبار؛ لأنهم لم يعرفوا أكثر هذه العقائد والأخبار قبل عهد عبوديتهم في بابل، وكل ما كان مفتوح الباب لليهود فيما بين النهرين فقد كان مفتوح الباب أيضًا لعرب الجزيرتين: جزيرة الدجلة والفرات وما يليها من أرجاء الجزيرة العربية.
والسبق إلى النبوة عامة لم يثبت لليهود، بل ثبت من كتب اليهود أنفسهم أن أنبياءهم الأول تلقوا علم الدين وشعائر العبادة من «ملكي صادق» وبلعام وأيوب ويثرون … ويثرون — كما جاء في العهد القديم — هو الذي علم موسى عليه السلام علم التبليغ وإقامة الشريعة، وهو الذي أمَّه وأمَّ قومه لصلاة القربان … وفي تاريخ العرب من أخبار الأنبياء ما ليس في تاريخ اليهود، ومنهم صالح وهود وذو الكفل عليهم السلام، وكلمة «النبي» نفسها لم تكن معروفة عند اليهود قبل دخولهم أرض كنعان، وإنما كانوا يسمون النبي بالرائي ورجل الرب على رواية العهد القديم.
أما المقارنة في جوهر الدين فالمعول فيها على المقارنة بين الفكرة التي توحيها الديانة في العقائد الجوهرية: وهي عقيدة الإله وعقيدة النبوة وعقيدة التكليف.
والمقارنة بين هذه العقائد في الديانتين الإسلامية واليهودية هي بالإيجاز مقارنة بين «يهوا» والإله الواحد الصمد رب العالمين، ومقارنة بين نبي التنجيم والخوارق وبين نبي الهداية والبلاغ المبين، ومقارنة بين الحساب على سنة المحاباة والاختصاص بالحظوة وبين حساب العمل والنية واستقلال الإنسان بما كسب وبما أراد.
ولم يعرف النوع الإنساني دينًا رفع هذه العقائد إلى سماء من التنزيه والرشد والصدق فوق تلك السماء العليا التي ارتفع إليها الإسلام.
فإذا كلف الباحث عقله أن ينظر إلى السبق التاريخي نظرةَ الإنصاف فليس لليهودية سبق على الإسلام، وقد يكون السبق على خلاف ذلك للمسلمين على اليهود، كلما نظرنا إلى أهل الدين في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.
ولقد بدأ البحث على هذا الأساس فثبت الثبوت الذي لا شك فيه أن اليهود تعلموا من المسلمين في لغتهم وأدبهم وحكمتهم، وأن المسلمين لم يأخذوا من اليهود شيئًا غير تلك «الإسرائيليات» التي تناقلها الجهلاء وأفلح المصلحون — أو كادوا أن يفلحوا — أخيرًا في تطهير العقول منها والرجوع بها إلى الجادة الإسلامية في نظائرها من شعائر الدعوة المحمدية.
فلم تكن للغة العبرية قواعدُ نحوٍ أو بلاغة قبل القرن العاشر للميلاد، وهو القرن الذي تعلم فيه «الرباني سعديا جاءون» ثقافة العرب بمصر، ووضع أول كتاب للقواعد العبرية وقواعد الفصاحة فيها، وتلاه «الرباني آودنيم بن تميم البابلي» فألف كتابه بالعبرية مقرونة بالعربية، مفسرة بشواهدها وأمثالها.
ولم يكن في اللغة العبرية فن للعروض، فتعلم اليهود هذا الفن من العرب بالأندلس ومصر، ونظموا في لغتهم وفي لغتنا على الأوزان العربية.
وكان فيلسوفهم موسى بن ميمُون — تلميذ فلاسفة المسلمين في المغرب — أول من كتب عندهم في حكمة «التوحيد»، واستثنى المسلمين من الأمم التي تنهى التوراة عن التعود بعاداتهم؛ لأنهم مؤمنون يعبدون الإله الأحد ولا يشركون به إلهًا آخر.
وكتاب اليوم يتقدم بالبحث خطوة أخرى، فيقابل بين عبادات اليهود قبل اتصالهم بالمسلمين، وعباداتهم بعد هذا الاتصال ببضعة أجيال، فيثبت المؤلف أن القدوة بالمسلمين عادت باليهود إلى إحياء السنن التي هجروها من عباداتهم الأولى، وعلمتهم سننًا أخرى لم يعلموها، ومنها شعائر في صميم العبادة؛ كشعائر الوضوء والغسل ونظام الصلاة الجامعة وغيرها من الصلوات.
وينقل المؤلف نصوص التلمود التي لم يرد فيها ذكر للوضوء أكثر من غسل اليدين، ثم ينقل وصايا الأئمة المتأخرين ووصايا الشعراء الذين تبعوهم بنظم القصيد؛ لترغيب الشعب في هذه النظافة المستحبة، وأشهرهم «مناحيم دي لونزان» الذي قال في بعض شعره: «تطهر من رجس المتاع ووقائع الليل الجسدية، ولا يكنِ العربُ والليبيون والليديون أكثرَ منك طهارةً وهم يغسلون أيديهم وأرجلهم ورءوسهم بالماء وفي الفجر وظهرًا وعشية، وكذلك ليلًا حين يشتد البرد ويسقط الثلج.»
ولما ثار الرجعيون من رجال الدين اليهود ثورتَهم على هذه البدع المستحدثة سرت الثورة إلى الشعب في هذه المرة، فقال الرئيس فنحاس بن مشولم شيخ الطائفة بالإسكندرية: «هب الناس من جميع الأنحاء قائلين: نحن لا نحتمل أقوالكم التي ينقض بعضها بعضًا؛ لأنكم تحلون ما تشاءون وتحرمون ما تشاءون، أليست هناك تقاليدُ أُثِرَتْ عن أسلافنا ومن تقدمونا تحرم على الإسرائيلي الصلاة وهو بحال الجنابة حتى يغتسل في الحمام أو يتطهر في البحر وينظف نفسه؟ فكيف تجيزون الصلاة ودخول الكنيس وتلاوة التوراة دون اغتسال؟ … إذا كان الدين كذلك فنحن ذاهبون لنرفع أمرنا إلى القضاء!»
والقضاء هنا هو القضاء الإسلامي في غير الشئون الملية التي يتولاها رئيس الطائفة، مما يدل على اعتبار قضاة الشرع المسلمين مرجعًا للشعب ورجال الدين في هذه الأمور.
وقد سئل موسى بن ميمون كثيرًا في هذا الخلاف فكان يقول: إنه لا يرى في كتب السلف الأولين ما يوجب غسل الجنابة، ولكنه يغتسل بحكم العادة؛ حيث عاش ونشأ في بلاد المسلمين.
إن الذي دعا إلى هذا النظام هو انصراف الشعب إلى النظر أمامه أثناء الصلاة، فيتحدث كل منهم إلى جاره أو يخرج من الصف والكاهن يتلو تسبيحاته وتبريكاته على غير جدوى؛ إذ ليس هناك من يستمع إليه، وإذا رأى الشعب الأحداث من المتعلمين وغيرهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويبصقون، ويسلكون أثناء الصلاة سلوكَ مَنْ لا يشتركون فيها — يفعل مثلهم ويدخل في روعهم أن الصلاة مقصورة على ما يهمس به الكاهن ولا يسمعونه …
ويقول ابن ميمون في موضع آخر: «وإن الإمام إذا عاد إلى الصلاة بصوت مرتفع نرى كل من فرغ من صلاته يستدير؛ ليثرثر مع رفيقه ويناجيه في خاصة أمره، ويحول وجهه عن الشرق ويبصق، ويتشبه به الأحداث فيفعلون فعله، ويظنون أن ما قاله الإمام لا يعتمد عليه أو عليهم، ومن ثم يخرج جميع الأحداث وهم لم ينجزوا واجبهم ويبطل الغرض الذي من أجله يرتل الإمام صلاته … وفي الحق لا يصلي الجمهور في همس أبدًا، بل يصلي الجميع بعد الإمام صلاة واحدة في قدسية وخشوع، وكل من يعرف الصلاة يصلي معه في همس، والأحداث يسمعون ويركعون جميعهم مع الإمام، والشعب كله متجه إلى الهيكل ينجز كل منهم فريضة، ويسير الأمر على ما يرام، ويمتنع التكرار الطويل، ويزول تدنيس اسم الله، وقد شاع بين الأمم أن اليهود يبصقون ويثرثرون في صلاتهم؛ لأنهم يشاهدون ذلك أينما رأوهم يؤدون الصلاة، وهذا هو الصحيح على الأكثر، كما أرى؛ لما ذكرت من أسباب.»
قال المؤلف: «ولما كان الميموني قد نظر إلى الحالة في الكنيس من خلال مرآة المسلمين، وكان يخشى مما تقوله الشعوب، فقد رأى نفسه يوصي ويعمل عمله للقضاء على هذه الحالة.» وكانت خير وسيلة للقضاء عليها في تقديره أن يسلك قومه في صلواتهم الجامعة مسلك المسلمين، بعد الاقتداء بهم في فرائض الوضوء والتطهر ورعاية أدب المسجد من جميع الوجوه.
ومن الكلام على الوضوء والصلاة يستطرد المؤلف إلى الكلام على سائر الفرائض وعلى العقائد الروحانية التي لا تدخل في باب الشعائر الحسية.
٢
فالآداب الصوفية في الأغلب الأعم آداب فردية يستقل فيها كلُّ عابد متصوف بطريقته في السلوك الديني أو الدنيوي كاستقلاله فيها بما يؤثره من نوافل العبادة وتفسيرات النصوص والمعتقدات التي يجوز فيها الاجتهاد بالرأي لأهل الاجتهاد، فإذا وجدت الجماعات الصوفية فإنما توجد من قبيل الأخوة التي تنتمي إلى أب روحي واحد، ويشترك فيها التابعون جميعًا في اتباع الشيخ والاقتداء بمسلكه ومنهج تفكيره وتفسيره: وهو على جميع حالاته منهج اختصاص يستقبل به فرد متبوع أو طائفة تابعة، ولم يعهد فيه من قبل، ولا ننتظر أن يعهد فيه من بعد، أن يكون منهج عموم يشيع بين جميع الناس شيوعَ الإيمان بالعقائد والفرائض التي لا محلَّ فيها للاجتهاد بالرأي والاستقلال بالعبادة.
فإذا أراد المؤرخ أن يبحث عن سريان التصوف من أتباع ديانة إلى أتباع ديانة أخرى، فإنما سبيله في هذا البحث أن يتعرف الصوفية المنتقلة من نحلة إلى نحلة في سيرة علم واحد من أعلامها البارزين أو أقوال مفكر واحد من أئمة الفكر بين أبنائها المجتهدين، وربما كان المفكر الديني الذي ينهج في النسك منهجًا لم يسبقه إليه أحد من أبناء ملته أعظم استقلالًا بالرأي ممن يبتدع ذلك المنهج لنفسه من غير سابقة؛ لأن التغلب على العصبية المذهبية والتحيز القومي أحوجُ إلى الاستقلال من ابتداع رأي لا مقاومة فيه ولا حاجة به إلى التغلب على معارضيه أو منكريه.
وقد أراد مؤلف هذا الكتاب — عن تأثير الإسلام في اليهودية — أن يتتبع أثر التصوف الإسلامي في اليهودية، فاختار لذلك سيرة متقدمة من سير الأئمة الصوفيين الذين لم يسبقوا إلى منهجهم بين أبناء عقيدتهم، والذين عرفت لهم صلة بالثقافة الإسلامية، وأُثِرَتْ عنهم أقوال منقولة عن العربية ولم تكن لها سابقة في اللغة العبرية. وقد بدأ المؤلف كتابه ببيان الآداب الإسلامية التي دعا إليها الإمام اليهودي الحكيم موسى بن ميمون، ثم لخص الشعائر التي قررها ابنه إبراهيم من بعده في الوضوء وفي الصلاة الجامعة، وهي السجود والركوع واستقبال القبلة والاصطفاف وبسط اليدين، وانتقل من الشعائر «البدنية» إلى الشعائر الصوفية الروحية، فكانت خلاصة بحثه فيها «أن النسك الشرقي نتاج مدرسة إبراهيم الميموني وزميله الحبر إبراهيم الحسيد، وجذوره مستمدة من البيئة الإسلامية ومتأثرة بالمتصوفة المسلمين.»
وتساءل: من هو الحبر إبراهيم الحسيد؟ فقال: إن كتاب «كفاية العابدين» لإبراهيم الميموني هو مصدر الأخبار التي نعرفها عن ذلك الناسك الذي يكتنف الغموض سيرته، والذي يقول عنه الميموني: إنه أخوه في سبيل الله. ومما يلفت النظر في هذا التعريف كثير من العبارات التي نقلت عن المسلمين؛ وهي: الأخوة في سبيل الله، وتسمية الله برب العالمين، وتسمية المسالك الصوفية بالحالات والمقامات، والاقتداء بالإمام الغزالي في تعريف المتصوفة كما عرفهم في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنهم هم الذين يسيرون في طريق الله، وإشارة الميموني إلى الحسيد حيث يقول: «سيدنا وحبرنا إبراهيم الحسيد بن أبي الربيع كرم الله وجهه.» وأشباه ذلك من الصيغ التي اقتبسها الحكيم اليهودي من أقوال المسلمين.
ويتخلل وصف الإمام الحق كلام يؤخذ منه أن أناسًا من أبناء الطريق الإسرائيليين كانوا يلبسون الصوف ويعكفون على الصوامع ويتسمون بالفقراء؛ لأن الكاتب يفرق بين المتصوف الحق وبين المتصوفين الأدعياء فيقول: إن التصوف لا يكون بلبس الصوف ولا بملازمة الصوامع ولا باتخاذ أزياء الفقراء، ولكنه طهارة وزهد وإخبات إلى الله.
وينتهي المؤلف من تلخيص هذه التعريفات إلى قوله: «في الختام يتضح التأثير الصوفي أيضًا في تنويه الميموني بالبكاء التعبدي؛ فإن غزارة الدموع علامة يتميز بها الصوفي العظيم، وقد سمي الزهاد الأوائل في الإسلام بالبكائين، وإن البكاء كما قال الميموني هو غاية في التهيؤ للصلاة، وبفضله تلقى صلاة المصلي قبولًا حسنًا كما قيل لحزقيال: «قد سمعت صلاتك، قد رأيت دموعك».»
ولولا الثورة الصاخبة التي أثارتها شيعة الجمود على هذا التجديد «الأجنبي» — كما وصفوه — لتعذرت الشواهد التاريخية التي يُستدل بها على انتفاع اليهود بالقدوة الإسلامية في كل إصلاح من هذا القبيل أدخله حكماؤهم على آداب الدين وشعائر العبادة عند القوم، ولكان من الممكن أن يقال: إن الأمة اليهودية أخذت بهذا الإصلاح على سنة الأنبياء الأولين ممن جاءوا — في رواية العهد القديم وفي رواية التلمود — ببعض الوصايا التي أحيتها الديانة الإسلامية، ولكن هذا الإصلاح لم يمضِ بسلام بين القوم في حينه، ولم يلبث أكثرهم ومعهم أناس من قادتهم أن قابلوه بالإنكار الشديد مقابلَتَهم للبدع الدخيلة التي تفسد العقيدة، وتبدِّل السنن، وتخالف أمر الإله الذي نهاهم عن التعود بعادات الأمم كما جاء في التوراة.
وكان المصلحون منهم يوافقونهم على تحريم التعود بعادات الأمم وإنكار البدع التي يدخلها المقلدون للشعوب الأخرى على جوهر الدين، ولكنهم يقولون: إن عادات المسلمين هي عادات الشريعة الموسوية في لبابها، وإن بني إسرائيل هم الذين خالفوا تلك الشريعة الموسوية وهجروها، ولا يعقل أن تنهى التوراة عن إعادة الأمة الإسرائيلية إلى سنن أنبيائها لمجرد ظهور هذه السنن في أمم أخرى تتبع من أوامر الإله ما لم تتبعه أمة التوراة، ويقول المؤلف نقلًا عن الحكيم الميموني: «إن حبرنا يرفض البتة ادعاء محاكاة الأمم أو القرائين؛ لأنه لا وجه لتحريم العادات الإسرائيلية القديمة التي اختفت من اليهودية أثناء النفي … وإذا شئنا أن نحرم الأمور التي دانت بها الأمم الأخرى، فإننا سنضطر إلى التخلي عن كثير من وصايا التوراة؛ كالصلاة والزكاة اللتين أصبحتا من أركان الإسلام … وإذا ادعى أحدهم أن في هذا ما يوجب المنع رددنا عليه بأن النصارى أيضًا يستقبلون جهة أورشليم في صلاتهم، فليس من أجل هذا يحرم علينا استقبال جهة القدس في صلاتنا … وهو — أي الحبر الميمون — يوجه هذا الرد إلى معارضيه من الأحبار المقيمين في أقطار النصارى، وهو نفسه الحكم فيما يختص بمحاكمات القرائين؛ فإن اتباع خطاهم لا يجوز، ولكن في البدع الحديثة لا في الأمور التي لها أصولها وجذورها في شريعة إسرائيل.»
ولم ينفرد الأحبار المقيمون في الأقطار المسيحية بمعارضة هذا الإصلاح، بل كان له معارضون متشددون بين كبار أحبار المشرق، ومنهم هوديا الناسي من آل الناسي بدمشق، وهو الحبر الذي كان الميموني يرد عليه؛ حيث قال: «لست أخشى هذه الأباطيل، فماذا يمكن أن يقال عني؟ هل أفرطت في إخافة الجمهور من سلطان أحد غير الله؟ هل جُرت في الحكم؟ هل قبلت الرشوة؟ هل ابتغيت الربح؟ هل أقسمت باطلًا؟ إنهم لا يستطيعون أن يقرفوني بشيء من هذه التهم، اللهم إلا أنني مثابر على عبادة رب إسرائيل تبارك اسمه بكل قلبي وروحي، وإنني أطيل الركوع والسجود، وبمثل هذا يتحدثون عني، ولا أخفيه.»
على أن دعوة الحكيم الميموني لم تلبث أن شاعت بين الطوائف اليهودية بالمشرق والمغرب حتى استجاب لها أناس من أحبار اليهودية في نبتها الأول وهو أرض فلسطين، ومن حافظ على تقاليده الموروثة فإنما كان تأويله لذلك أنه يجري على سنة تغيير الروح وإبقاء الجسم، ويقول المؤلف: إنه «إذا كان نساك فلسطين أنفسهم قد استمروا يستمسكون بصورة إكفاء الوجه التقليدي؛ فإن أحبار فرنسا الذين أكبروا الحبرَ إبراهيم الميموني — وهم المقيمون في مدينة عكا قد اتبعوا نظامه، وهو ما نفهمه من بضعة سطور بقيت لنا في إحدى صفحات كتاب الجنيزة جاء فيها أن المقيمين اليوم في عكا حفظهم الله، وهم الحبر يوسف ابن الحبر ستاتيا، والحبر يهودا، والحبر صمويل — هؤلاء يركعون ويسجدون على وجوهم وليس جانبًا، بل على ركبهم وجباههم على الأرض …»
•••
وفيما أوردناه من هذا الكتاب كفاية لما أردناه من تفنيد خرافة القائلين بأن الإسلام شعبة من اليهودية، أو أن الإسلام مدينٌ لها بشعائره وأحكامه.
فالواقع أن اليهودية بعد الإسلام قد استفادت من آدابه وشعائره، كما استفادت من ثقافته في علم الأصول وفي نحو اللغة وعروضها وأوزان شعرها.
وأما قبل الإسلام فمصادر اليهودية في المسائل المتفق عليها هي مصادر الإسلام من الديانات التي سبقتهما بين النهرين، وعنها أخذ اليهود عقائدهم التي لم يعرفوها قبل منفاهم إلى العراق.
فإذا اختلفت اليهودية والإسلام فالفضل للإسلام في الارتقاء بالعقيدة الإلهية التي جعلها اليهود مشيخة قبيلة، وفي عقيدة النبوة التي جعلوها ضربًا من التنجيم، وفي المسئولية الإنسانية التي جعلوها ضربًا من محاباة العصبية الجَهْلاء لغير سبب ولا فضيلة.