تطوُّرُ الفِكْرِ السِّياسيِّ الإسْلامي
على أن الظاهر من طريقته في الكتابة عن الموضوعات الإسلامية أنه يجري فيها على نهج الأكثرين من المستشرقين، وطريقتهم الغالبة عليهم أنهم لا يزنون الموضوع الواحد بميزان واحد فيما يتعلق بالإسلام وبالأمم الإسلامية وفيما يتعلق بغير الإسلام وغير المسلمين، فهم ينظرون — أبدًا — نظرة جانبية إلى المسائل الإسلامية، ولا يعممون النظر على قاعدة واحدة إلى هذه المسائل وإلى نظائرها في البلاد الأوروبية والأمريكية، وعندهم — دائمًا — أن مسائل الإسلام موسومة بالغرابة والمخالفة لما عداها من المسائل العالمية، فهم يتطلبون الشذوذ الغريب ابتداءً من النظرة الأولى، ولا يحسبون أن التعليل العلمي يتسع لتفسير الإسلاميات وغير الإسلاميات على قاعدة واحدة من قواعد الفهم والتحليل، وقد تسربت طريقتهم هذه في التأليف إلى عقول قرائهم وتلاميذهم من الشرقيين المسلمين وغير المسلمين، فكلهم يبتدئ البحث بالتفرقة بين ما يبحثه من شئون الإسلام وما يبحثه من أمثالها في التاريخ القديم أو التاريخ الحديث من شئون الأمم الشرقية والغربية الأخرى، وكلهم يخص الإسلام بمنظار «خاص» من أول نظرة، ولا يحمل ذلك المنظار نفسه حين يتحول بالنظر إلى سواه.
وأظهر ما يظهر ذلك فيما كتبه المؤلف عن تطور الفكر الإسلامي قديمًا وحديثًا إلى أواسط القرن العشرين؛ فإنه يجعل الإسلام في تقديراته مطالبًا بأحدِ أمرين مستحيلين: أحدهما أن ينص في عقائده من مبدأ الأمر على أحكام غير دينية تتبع في نظام الحكومة، فهو إذن دين وغير دين، وعقيدة وشيء مخالف للعقيدة، وذلك أغرب ما يخطر على البال بالنسبة إلى الدين خاصة وبالنسبة إلى كل نظام من أنظمة الشرائع والدساتير على التعميم.
والأمر الآخر أن يَتَنَزَّلَ الدين الإسلامي بنصوص قواعده مصحوبة بنصوص تعديلاتها وتطبيقاتها التي تغني المسلمين عن التصرف فيها على حسب المصالح والضرورات، فيحصل التعديل والتصرف قبل أوان الحاجة إليه، ويصح من ثم أن يقول المؤلف ومن على رأيه: إن التشريع الحكومي في الإسلام غير متحجر وغير مخالف للسنن المعهودة في غيره من التشريعات …!
ومثل هذا «التصرف» أيضًا غير ممكن، بل غير معقول، فإنما المعقول دون غيره أن توضع القواعد الدينية وتوضع الرخصة في تعديلها على حسب شروطها ومناسباتها … أما أن يتنزل الدين بنصوص قواعده ونصوص تعديلاتها معًا فذلك ما لم يحصل قط في شرع ديني ولا في شرع موضوع.
- (١)
أن الله رأسها والقرآن كما تنزل على النبي دستورها الوحيد.
- (٢)
وأن كلمات الله هي الشرع الوحيد وليس للجماعة أن تجري لها شرعًا غيره.
- (٣)
أن وظيفة دستور الحكومة وشكلها وأحكامها أبدية، ولا يمكن تغييرها كيفما اختلف الزمان والمكان.
- (٤)
أن الغاية من الحكومة هي إقامة الدين وتنفيذ كلمات الله.
قال: «ويتضح من هذا أن الشريعة — وهي جملة الأوامر الإلهية — ليست قانونًا بالمعنى المفهوم من القانون في العصر الحديث، ولكنها قضايا معصومة ترسم للمسلم أحكام سلوكه في حياته كلها دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وفي الأسرة والبيت.»
وليس يعنينا في هذا المقام أن نناقش تصوير المؤلف لحقيقة الإسلام، ولكننا نقلناه بحرفة لنسأل: وهل للدستور أو للقانون على الأساس الصحيح في كل صورة من صوره قاعدة تخالف هذه القاعدة في جملتها؟
وهل يصل المؤلف ببحثه يومًا إلى دستور «وضعي» قويم بدأ العمل به في أمته بجمع تفصيلاته وتعديلاته دفعة واحدة؟ وهل في دساتير العالم دستور لم يقم على قواعدَ ثابتةٍ لا تتغير مهما تتغير بعد وضعها نصوص المواد والقوانين المتفرعة عليها؟
إن أقدم الأمم الديمقراطية عملًا بالحكم النيابي هي الأمة البريطانية، ودستورها في أساسه قواعد لا تقبل التغيير وإن تغيرت المواد التي لم تكتب بتفصيلاتها حتى اليوم، ومن هذه القواعد حرية الفرد، وحرية الاعتقاد، وحرمة المنزل، ومبدأ النيابة، وتقرير الضريبة، ومبدأ المسئولية الوزارية، ومبدأ السيادة البرلمانية في وضع القوانين، ومبدأ سريان القوانين في جميع الأوقات، واشتراط الموافقة على وقفها أو تعليقها على حسب الطوارئ والضرورات، فهل يكون الدستور الصالح كذلك ولا غرابة فيه، ثم تكون الغرابة كل الغرابةِ في دستور الإسلام؟
وبين أيدينا الساعة خبر عن دستور دولة عصرية يصح أن يقال فيه: إنه من أخبار آخر ساعة؛ لأنه مكتوب على رأس سنة ١٩٦٣ في تقويم يسمى بتقويم «إيطالية»، وهي دولة عرفت الحكم «الثيوقراطي» أو الديني، وعرفت حكم الملوك والأمراء، وعرفت الحكم الدكتاتوري، وهي تعرف اليوم نظام الحكم الديمقراطي، ومن أحزابه حزب يسمى بالحزب المسيحي، وخلاصة نظامها السياسي كما جاء في الصفحة الأولى من التقويم لسنة ١٩٦٣ «أنه قائم على أسس التقدم الاقتصادي والاجتماعي، مع احترام الحرية الديمقراطية واستقرار العملة، والمشاركة الكريمة في الدفاع عن العالم الحر، وتشجيع الدعوة إلى الوحدة الأوروبية والتعايش السلمي بين أمم العالم.»
وليس مع هذه المبادئ نص واحد من نصوص الدستور المكتوب أو نصوص قوانين المعاملة والعقوبات، فماذا في هذا التعريف بأسس الحكم في هذه الدولة، أو في الدولة البريطانية، يتعذر نقله إلى التعريف بدستور الإسلام؟
إننا لا نغير حرفًا من نظام الحكومة الإسلامية إذا قلنا على هذا المنوال: إن قواعد الحكم كلها منصوص عليها في آيات القرآن الحكيم.
إن الإمام يتولى الحكم بالبيعة.
إن الإسلام يوجب على المسلمين أن تكون فيهم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ومنها «أهل الذكر» الذين يُسألون عن أحكام الذكر الحكيم.
إن السيادة التشريعية موزعة بين الإمام وأهل الذكر وإجماع الأمة، أو ما هو في حكم الإجماع.
إن أحكام الشريعة الإسلامية تنفذ في كل زمن وفي كل مكان، ولا يُعَلَّقُ تنفيذُها أو يُؤَجَّلُ إلا وفاقًا لسيادة التشريع.
إن الفرد حر مسئول.
إن مصلحة الأمة أساس في تطبيق الشريعة وفي وضع الأحكام التي لم تذكر بتفصيلاتها وعوارضها في آيات الكتاب.
إن المجتمع الإسلامي ينكر احتكار الثروة، ويحرم الربح بغير عمل، ويقرر من ثروة الأمة كلها حصة للعجزة والمحرومين.
إن الحدود الجنائية لا تعطل أبدًا إلا لعلة واضحة من علل الضرورات والشبهات.
إن هذه الضرورات والشبهات مرجعها كله إلى حق السيادة المطلق، وهو حق الإمام الراعي وأهل الذكر والرأي المتفق عليه بين جمهرة الرعية.
فهل في هذا الوصف قيد شعرة من الانحراف عن حقيقة الدستور الإسلامي؟
وهل هو على هذا الوصف بدعة في الدساتير التي تصلح للتطبيق وينتظم عليها أمر الجماعات الإنسانية؟
إن المستشرقين وتلاميذهم، وأصح من ذلك: إن «المستغربين» وأتباعهم من الشرقيين هم الذين يبتدئون بالاستغراب — أصلًا — في كل بحث من بحوثهم الإسلامية.
وإن هؤلاء لا يكلفون أنفسهم أن يبتدئوا بالبحث في شئون الإسلام «غير مستغربين» ولا مفرقين بين نظرة ونظرة وميزان وميزان، ولكنهم لو تكلفوا ذلك في كل ما بحثوه لعلموا أن الغرابة هنا حاصلة ولكنها في طريقتهم وفي اتجاه عقولهم أو نيات ضمائرهم، وليس في الإسلام شيء من الغرابة، إلا ما استغربه المستشرقون وتلاميذهم من الشرقيين!