بُطولَة صَلاحِ الدِّين
الأستاذ «هاملتون جِيب» مستشرق معروف في البلاد العربية، يكتب في الأدب والتاريخ وفي الشئون الاجتماعية المتصلة بهما، ويتسم بين زملائه المستشرقين بسمة الاتزان، وتقدير التبعة، واجتناب المساس بالشعور فيما يبحثه من المسائل التي تختلف فيه الآراء وتمتزج بالعقائد الدينية، وقد عرف في بلاده وفي البلاد العربية باسمه الثاني أو لقبه المشهور «جيب» قبل الإنعام عليه برتبة الفروسية أو الرتبة التي تؤهل صاحبها للقب من ألقاب النبلاء، وهو لقب السيد أو «السير» باللغة الإنجليزية، فأصبح يذكر — بعد اللقب — باسمه الأول مع اسم أبيه على حسب التقاليد المرعية عندهم في تسمية أصحاب الرتب والألقاب، فهو يذكر الآن باسم هاملتون جِيب، ويكاد الذين يقرءون هذا الاسم في الشرق أن يشكل عليهم الأمر فيحسبوه كاتبًا آخر غير الكاتب المعروف بينهم منذ سنين.
وقد كان الإنعام بالألقاب على الأدباء والفنانين معهودًا في البلاد الإنجليزية في القرون الماضية، ولا سيما القرن الثامن عشر وما يليه، فأنعم بها على الشعراء والمؤرخين والممثلين والمصورين من جميع الطبقات، ولكن نسبة الإنعام عليهم تزداد في السنوات الأخيرة، وبخاصة في السنوات التي أعقبت ظهور حزب العمال، وكان منهم ثلاثة من حملة الأقلام المعروفين في الشرق؛ هم: توينبي المؤرخ، وسمرست موام القصاص، وجِيب المستشرق، وكلهم من طبقة غير الطبقة التي تسمى عندهم طبقة الأعيان، أو النبلاء.
ولا محل للمقارنة بين موام وجِيب في الموضوعات التي يكتبان فيها؛ لأن موضوع أحدهما القصة، وموضوع الآخر الاستشراق، ولكن المقارنة بين توينبي وجِيب مما يستدعيه النظر في كتابة كل منهما عن التاريخ الشرقي والإسلامي على الخصوص؛ فإن توينبي يحسن عرض الحوادث ويقصر غاية التقصير في فهم «الشخصيات»، ولا سيما شخصيات البطولة والعظمة، ومن قصوره عن ذلك أنه ظن أن أبا سفيان وقومه بني أمية غلبوا النبي عليه السلام في ميدان السياسة، واستخلصوا الملك من بيت بني هاشم ومن آل النبي أجمعين … ولم يفهم الموقف برمته منذ قام بالأمر الخليفتان: الصديق والفاروق، ومنذ نهى النبي عليه السلام عن العصبية وعن وراثة الأنبياء، ولا يستطيع أحد يفهم طبائع العظمة أن يضع محمدًا عليه السلام في ميزان المقدرة العقلية والنفسية ويضع أمامه أبا سفيان أو أبناءه ثم يحكم لهؤلاء بالرجحان في طبيعة من هذه الطبائع على أي اعتبار، ولكن تقدير «الشخصيات» والحوادث معًا يستوفي حقه في كتابة «جِيب» فلا يغفل الفوارق بين دلائل العظمة والبطولة في قادة التاريخ الإسلامي، ولا يفوته أن يرجع بهذه الفوارق إلى أسبابها «الواقعية» التي تحتوى أحيانًا طرفًا من الأسباب «النفسانية» كما كشفت عنها دراسات علم النفس الحديث.
والبطولة — كما لا يخفى — تهول عقول الناس فيجمعونها كلها في نوع واحد من الإعجاب والتعظيم، ومقتضى الإعجاب والتعظيم عند أكثر الناس أن يكون البطل في الذروة من كل خلق إنساني معظم محبوب، فهو مثل في الشجاعة، ومثل في الكرم، ومثل في الدهاء، ومثل في كل ما يمتاز به النخبة الممتازون … أما الناقد التاريخي فينبغي أن يكون له ميزان أصح وأعدل من هذا الميزان، فلا يلغي التاريخ إعجابنا بالبطولة والأبطال، ولكنه يجعل هذا الإعجاب حكمًا بأسباب ولا يتركه حكمًا «غيابيًّا» بغير أسباب وبغير مبالاة بإحضار «البطل» في مقام الوزن والتقدير، أو مقام التمييز بين بطل وبطل وبين نوع من العظمة وسائر أنواعها التي ينتسب إليها العظماء، على اختلاف الميادين والأعمال.
بل ينبغي للتاريخ أن يقسم البطولة إلى أنواع وأقدار، فليس كل بطل مخلوقًا على مثال أقرانه من الأبطال، وليس كل بطل قِرْنًا لكل عظيم موصوف بصفات البطولة … بل ليس كل عظيم معدودًا من الأبطال؛ لأن العظمة قد تعوزها خاصة البطولة في الصميم؛ وهي: خاصة الإيمان بالمثل الأعلى والفداء، ومغالبة النفس في هوى من أهوائها الغلابة المطاعة، وأعمها وأشيعها هوى الشهوات وهوى «الأنانية» في حدودها المحصورة التي لا تتعدى صاحبها في مطالبه وأمانيه.
وما أعيد نشره للأستاذ هاملتون جِيب بعد الإنعام عليه كلام له عن البطل الإسلامي الكبير صلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية الذي كثرت المقارنة بينه وبين أبطال هذه الحروب من قادة الأمم الغربية.
فلا شك عند المستشرق الحكيم في بطولة صلاح الدين، ولا في عظمة هذه البطولة، ولا في استحقاقه للشهرة التي ذاعت عنه وحوله بين أبناء الغرب والشرق على السواء، ولكنها بطولة تقوم على تمحيص الأعمال والغايات، ولا تقوم على الشهرة العامة والصفات المجملة، أو هي بطولة من نوع مقدور بأسبابه حتى البطولات العسكرية التي هي وحدها مجال متسع لأنواع من البطولات المختلفة، كبطولة القيادة، وبطولة التعبئة، وبطولة الحركة السريعة، وبطولة الهجوم أو بطولة الدفاع.
وصلاح الدين كان بطلًا منتصرًا في أكثر مواقعه وميادينه، ولكن بطولته في القدرة والتعبئة أكبر وأبرز من بطولته في فن القيادة وتوجيه الجيوش في إبان المعمعة؛ فإنه في هذا المجال لم يكن مستجمعًا لثقة العسكريين المحترفين من حوله، ولم تكن مخالفتهم إياه بالأمر النادر في بعض الظروف المحرجة وإن تبين فيما بعد أنهم مخطئون وأنه كان على صواب.
والتعبئة الروحية كانت في مقدمة فنون التعبئة التي أتقنها بطل الحروب الصليبية؛ فإن هذه التعبئة الروحية كانت ألزم له من سائر فنون التعبئة العسكرية في جميع القوى، وابتعاث الغيرة، وكبح عوامل الأثرة بين أتباعه ومنافسيه، ولكن التعبئة العسكرية لم تكن في بابها أمرًا يسيرًا يستطيعه كل من تصدى له من المجاهدين الغيورين؛ لأن تسيير جيش من أمم الشرق الأوسط بين العرب والأكراد والترك والرعايا الموالين للعباسيين ومواطنيهم الموالين للفاطميين وتكوين هذا الجيش من أجناد تختلف بواعثهم إلى الاشتراك في الحرب الصليبية، وتختلف أوقاتهم التي يستعدون فيها للمشاركة في كل ميدان وكل هجمة أو مدافعة تأتي على استعداد أو على حين غرة — كل أولئك فن من فنون التعبئة العسكرية لا يقدر عليه كل قائد ولا يقدم عليه كل فارس، ولو كان أعلم بالفروسية من صلاح الدين.
وقد جاء في ابن الأثير أن ضابطًا من الموصل رأى صلاح الدين وهو يعان على ركوب فرسه، فقال ما معناه: انظر إلى العواقب يا من يعينه على ركوب فرسه أمير من آل سلجوق ومن سلالة الأتابك زنكي!
ولكن هذا الفارس الذي كان بين قواده من هو أخبر منه بفنون الفروسية لم يكن في زمانه كله من هو أقدر منه على جمع القوى وتأليف الشعاب واختيار الزمن والموقع الذي يصلح للهجوم أو يصلح للدفاع.
ولقد كان صلاح الدين حصيفًا ذكيًّا عليمًا بطبائع الناس، ولكنه لا يوصف بالمكر والدهاء ولا يحسب من دهاة الساسة المعدودين في تاريخ الإسلام، وكان وفاؤه بالوعد مضرب المثل في معسكر الفرنجة ومعسكر الإسلام، ولكنه لو لم يكن حسن الظن بالناس لما تورط في بعض وعوده التي اضطره الوفاء إلى المحافظة عليه؛ لأنه كان يأبى الغدر وينتظر من غيره هذا الإباء، فيصدق ظنه في حين وتخيب ظنونه في أحيان، ولكنه كان يملك القدرة على تدارك الخطأ بعد وقوعه؛ لفرط إيمانه بحقه وحق القضية التي تصدى لها ووقف جهوده عليها.
ومن عادة الناس أن ينظروا إلى أكبر أعمال البطل وأدلها على القدرة والكفاية فيحسبوا أنها هي المقصد الذي تحراه من جميع أعماله وهي الغاية الأولى والأخيرة من جميع جهوده وتدبيراته، ولا خلاف على أن العمل الأكبر الذي تصدى له صلاح الدين وأفلح في إنجازه هو صد الجيوش الصليبية والتغلب على أمراء الصليبيين وقادتهم في ميادين الحرب والسياسة، ولكنه من الخطأ أن يقال: إنه هو العمل الذي توخاه وانصرف إليه بتدبيره وسعيه من بداءة حياته، فإنما كان شاغله الأكبر قبل كل شاغل عناه أن يدعم الدولة الإسلامية المتصدعة ويقتلع جذور الفساد والشقاق من دواوينها ومعاهد إدارتها، وقد كان صلاح الدين «الإداري» المدير هو صلاح الدين الحق في رأي نفسه ورأي المتعقبين لمساعيه ودواعي أعماله، ويزداد حقه في الإكبار والإعجاب كلما لوحظ من مساعيه المتتابعة أن أغراض الطموح ومطامع النفس لم تسيطر عليه ولم تصرفه عن غايته الشاملة من تدعيم الدولة العباسية وتغليب أسباب الألفة بين أجزائها على أسباب التفرقة والانقسام، وهو على علو همته واعتداده بكفايته لم يطمع في كل ما كان يستطيعه من السلطان ولا في كل ما كان ميسورًا له بقوته العسكرية وثروته المالية وعلاقاته بأرباب القوة والثراء في الولايات الأخرى.
وآية البطولة في صلاح الدين أنه غلب نفسه كثيرًا كما غلب أعداءه من الفرنجة والمسلمين، وأنه حكم نفسه كثيرًا قبل أن يحكم رعاياه من المطيعين له أو المتمردين عليه.
وقد كانت هذه النظرة الواقعية إلى كنه العظمة التي اتصف بها هذا البطل العظيم وليدة الاطلاع الواسع على مصادر أعماله ومصادر تاريخ عصره ومصادر الأقوال التي نسبت إلى المتصلين به ممن عاملوه في ميادين سياسته وحروبه، ومن بين هؤلاء من يخالفونه في الدين، ومن هم على دينه وعلى مذهبه السني ولكنهم يتعصبون لأمراء الموصل المحنقين عليه، أو على مذهب الشيعة ولكنهم يمحضونه الثناء؛ لأن غيرتهم الإسلامية غلبت على كراهيتهم للرجل الذي قضى على دولة الفاطميين.
ونرى من مراجعة الطرائق التاريخية التي يتبعها المستشرقون أن طريقة «جِيب» في تمييز «أنواع البطولة» بين من كتب عنهم من قادة المسلمين هي المثل المختار لمن ينصف البطولة حيث كانت، ويبني إنصافه على الأسباب والأعمال، وعلى وجوه التمييز بين دواعي الإعجاب والتعظيم، ويعينه على ذلك اطلاع واسع وقدرة على العلم بما يأخذ به وما يدعه مما يطلع عليه.