الإسلام والعصر الحديث
وخطتها في دراسة موضوعاتها هي الخطة الغالبة على المؤلفين المعاصرين من الغربيين حين يكتبون عن الدين الإسلامي أو عن الأمم الإسلامية من وجهة دينية؛ فإن هؤلاء المؤلفين يتجنبون أسلوب الاستخفاف الذي اشتهر به كتاب القرن التاسع عشر؛ ترفعًا منهم عن علاج موضوعات الإسلام على خطة المساواة بينها وبين موضوعات العقائد أو المعارف التي تشيع بين الغربيين، واعتزازًا منهم بسيطرة الحاكم الذي يتحدث عن محكوميه ورعاياه ومن هم عنده في طبقة المحكومين والرعايا، وتعصبًا منهم لعقيدة يؤمنون بحروفها ومعانيها كما يؤمنون ببطلان العقائد التي تخالفها.
فالمؤلفون المعاصرون يتجنبون ذلك الأسلوب؛ لأنه أسلوب زمن مضى بأسبابه ودواعيه، وليس أقلها ولا أهونها أن سيطرة الأمس قد ذهبت بذهابه، وأن العصبية قد تزعزعت بعد الرسوخ وترددت بعد المضاء، وأن العالم الإسلامي قد أثبت له وجودًا — سياسيًّا وثقافيًّا — يقدره أصحاب الرأي ويعرفونه، فلا يتجاهلونه في كتابتهم عنه ووصفهم لحاضره وماضيه.
والدكتورة صاحبة كتاب «الإسلام والعصر الحديث» تنهج هذا النهج وتعرض لشئون العالم الإسلامي والديانة الإسلامية بما ينبغي من الأدب والرعاية، وتجتهد غاية اجتهادها في تحقيق مسائل البحث وإدراكها على الوجه الصحيح، ولكنها كغيرها من مؤلفي الغرب قد تفهم أكثر هذه الشئون بما تحدثه من الصدى وتثيره من اللغط في دوائر المستشرقين، وقلما تفهم حركات التجديد بفهمها للحقائق التي تدور عليها أو بفهمها لحقائق الرأي عند المحافظين أو حقائق الرأي عند أصحاب الدعوة إلى الجديد، وكثيرًا ما يكون هؤلاء الذين يحسبون من دعاة التجديد مقلدين يتحذلقون بمزاعم المستشرقين فيثيرون بها من اللغط ما ليس له علاقة بالدين ولا بالإصلاح، وإنما هو تقليد كتقليد المتعالمين بما يجهلون، يصل حديثه إلى المشتغلين بالمسائل الإسلامية في الغرب فيحسون صداه ولا يسبرون غوره أو يدركون مداه.
ويظهر أن معرفة الكاتبة بالبلاد الإسلامية في أواسط آسيا أوسع وأوفى من معرفتها بغيرها من بلاد العالم الإسلامي؛ لأنها لم تعول على المصادر العربية كما عولت على مصادر اللغات الأوروبية، واستعانت بمن يعرفها أو ينقلها إليها، ومنهم صاحب المقدمة الأستاذ ظفر الله خان الذي يعرفه المصريون.
على أن الفكرة التي لاحظتها الكاتبة في جملة آرائها تقوم على أساس صحيح يرتضيه المسلم وإن لم يذهب مذهب الكاتبة في تفصيل تلك الآراء والإشارة إلى أغراضها ومقاصدها؛ فهي تقرر أن المسلم العصري يعتقد أن كتابه المنزل يسمح له، بل يوجب عليه، أن يعالج مشكلات عصره بما يوافق الدين ولا يضيع المصلحة أو يصد عن المعرفة كما انتهت إليها علوم زمنه، وأن دعاة الإصلاح لم يعسر عليهم أن يجدوا السند القوي من القرآن لكل ما دعوا إليه من جديد، وكل ما انتقدوه من تقليد، وأن مزية القرآن — في عقيدة المسلم — أنه متمم للكتب السماوية يوافقها في أصول الإيمان، ولكنه يختلف عنها في صفته العامة، فلا يرتبط برسالة محدودة تمضي مع مضي عهدها ولا بأمة خاصة يلائمها ولا يلائم سواها، وكل ما يراد به الدوام ينبغي أن يوافق كل جيل ويصلح لكل أوان.
وللكاتبة في توضيح هذه الفكرة أسلوب يقتبس من أساليب التصوف كما يقتبس من أساليب الفلسفة الدينية، فهي تقول في فصلها عن أسس الإسلام: «إنه من الضروري لإدراك عمل القرآن من حيث هو كتاب ديني وكتاب اجتماعي أن ندرك صدق المسلم حين يؤكد أن القرآن يمكن أن يظل أساسًا لأداة الحكم المعقدة التي تعالج مشكلات المجتمع الحديث؛ فإن النبي يرى أن القرآن هو حلقة الاتصال بين الإله في كماله الإلهي وبين خليقته التي يتجلى فيها بفيوضه الربانية وآيتها الكبرى الإنسان، وأن واجب الإنسان أن يعمل بمشيئة الله للتقريب والتنسيق بين العالم الإلهي وبين عالم الخلق والشهادة، وخير ما يدرك به هذا المطلب أن تتولاه جماعة إنسانية تتحرى أعمق الأوامر الإلهية وألزمها؛ وهي أوامر العدل للجميع والرحمة بالضعيف والرفق والإحسان: وتلك هي الوسائل التي يضعها الله في يد الإنسان لتحقيق نجاته، فهو من ثم مسئول عن أعماله ومسئول كذلك عن مصيره …»
وترى الكاتبة — بحق — أن رد الفعل الأول للثقافة العصرية أن المصلحين المجددين من أئمة الإسلام رحبوا بالعلم الحديث وانبروا لإثبات الموافقة بينه وبين حقائق القرآن الكونية وشرائعه الاجتماعية، وكان دور التنبيه في الحركة من عمل السيد جمال الدين، ودور التعليم من عمل صاحبه ومريده الأستاذ الإمام محمد عبده ومن خلفوه من تلاميذه المقربين.
قالت: «إن المسلمين أرادوا مطلبًا أكثر من مجرد النهضة السياسية؛ إذ كانت رسالة الإسلام الدينية تتطلب التمكين والتثبيت أمام هجمة الشكوك العصرية التي جاءت في ذيول العلم الحديث، وكانت دعوة الأفغاني إلى نهضة الإسلام الروحية ميراثًا تسلمه محمد عبده، وبرهانًا في هذه العصور الأخيرة على اشتباك المسائل السياسية والمسائل الدينية في الديانة الإسلامية. وقد كان محمد عبده أقرب أعوان الأفغاني خلال الأيام التي قضياها منفيين بباريس، فأصدرا صحيفتهما المشهورة باسم «العروة الوثقى» لسان حال الأفغاني في الدعوة إلى الوحدة كما يدل اسمها المقتبس من القرآن، وأدرك محمد عبده بعد بحثه في أسباب انتشار الشكوك بين شباب المسلمين أن العقيدة الدينية تتطلب إعادة التوجيه؛ كي لا تنفصم العروة الوثقى بين المسلم وضميره، ورأى الأستاذ أن العلم لا يناقض الإسلام بل ينفع المسلم لتعزيز إيمانه وتثبيت يقينه، وأن القرآن إذا فهم على وجهه كان هو والعلم كلاهما عونًا لصاحبه على الفهم والإيمان، واجتهد في تفسيره لآيات القرآن أن يوفق بينها وبين كشوف العلم لظواهر الطبيعة، وقصد إلى إثبات المطابقة بين هذه الكشوف وما تقدم به الوحي القديم، لا اختلاف بينهما، إلا أن الكشوف الحديثة تقرير دراسي مفصل لما تمليه البصيرة الهادية، فإذا كان العلم قد أثبت حقائقه بالتجارب أو المعادلات الرياضية فالنبي قد تلقاها بالوحي من عند الله العليمِ بكل شيء، وأفضى بها إلى الناس في رسالة النبوة الرفيعة وآياتها البليغة.»
واستطردت من شرح دعوة الأستاذ الإمام إلى المقابلة بينها وبين دعاة التجديد من أتباع العقائد الكتابية فقالت: «إن شهادة الإنصاف لهذا الإمام الأزهري تقتضينا أن نعلم أن طريقته لم تكن أغرب من طرائق اللاهوتيين المؤمنين بالتوراة والإنجيل حين ذهبوا يتتبعون كشوف أشور وبابل؛ ليثبتوا أنها جاءت مؤيدة لأنباء العهدين: القديم والجديد، وأن أقوالهما عن الظواهر الكونية تقبل التأويل الذي يوفق بين العلم والإيمان.»
ويحلو للكاتبة كما يحلو لكتاب الغرب جميعًا أن يقرنوا بين يقظة المسلمين ونهضتهم لإصلاح مجتمعاتهم وبين أثر الحضارة الأوروبية وتقاليدها الاجتماعية، ولكنها أقرب إلى العناية بما يهم المرأة على الخصوص من شئون الزواج والأسرة، وأولها تعدد الزوجات.
تقول: «إنه من الأمثلة التي طال بحثها واشتهر أمرها مثل النظام الذي يبيح تعدد الزوجات، فليس في البلاد الإسلامية — ما عدا البلاد التركية — قانون يحرم هذا النظام بحكم القضاء العام أو القضاء الخاص بالأحوال الشخصية والمحاكمات الشرعية، فلا يزال تعدد الزوجات عملًا مشروعًا في ج. ع. م، والباكستان وإيران والعراق وإندونيسية، وإن العرف ليتجه — بتأثير القدوة الغربية، وتأثير متاعب تعدد الزوجات — إلى النفور منه، ويزداد هذا النفور مع الزمن فينظر المسلم المعاصر إلى البناء بأكثرَ من زوجة واحدة كأنه طراز عتيق، وتختلط هذه النظرة بشيء من الترفع؛ لأنه عمل يكاد أن ينحصر في الطبقة الوضيعة، وإن المصلحين ليجدون السند الأقوى للاكتفاء بالزوجة الواحدة في آيات الكتاب؛ إذ تدل الكلمات الأخيرة من الآية المشهورة في السورة الرابعة على أن الزواج المفضل هو البناء بزوجة واحدة.»
وقد تكون الكاتبة غير بعيدة عن إيحاء طبيعتها الأنثوية حين تفرد للجهاد في الإسلام بحثًا خاصًّا تفسره فيه تفسيرًا يزيل بعض الشبهات التي ترد على خواطر الغربيين كلما ذكروا كلمة «الجهاد» وفهموا منها أنه شريعة توجب على المسلم أن يقاتل غير المسلمين ويناصبهم العداء؛ لإكراههم على الدخول في الإسلام.
قالت في شرحها لقواعد الإسلام: «إن النظرية الإسلامية في القرون الوسطى تقسم العالم إلى قسمين: دار الإسلام، ودار الحرب؛ ودار الإسلام تشمل البلاد التي انبسط عليها سلطان الإسلام عقيدة وحكمًا، ودار الحرب تشمل البلاد التي يصح من الوجهة النظرية فتحها للإسلام ولو بالسيف إذا اقتضى الحال، ولهذين الاصطلاحين شأن في مبادئ السياسة الإسلامية والعلاقات الدولية، وينبغي — لسوء فهمهما بالمعنى الصحيح الذي ينطويان عليه — أن يبحثا ببعض التفاصيل.
إن كلمة «الجهاد» مشتقة من جذر في اللغة يعني الجهد أو المشقة، ويمكن أن يصدق على الدراسة الفقهية وعلى تطبيق الشريعة وتنفيذ الأحكام؛ إذ يسمى الفقيه أو القاضي إلى هذه الأيام بالمجتهد؛ أي الباحث الذي يتوفر على المعرفة جادًّا في بحثه، وقد أمر القرآن بجهاد الكفار ولم يعين الجهود التي تعمل لذلك، وقد استثنى الإكراه في الدين بنص الآية القرآنية، ولكن الجهاد اكتسب في أيام الفتوح الظافرة بعد وفاة النبي معنى القتال بما يفيد أن الحرب في هذه الحالة مقدسة تشهر في سبيل نصر الله وتعظيمه، وكاد أن يحسب ركنًا من أركان الإيمان المفروضة على كل مسلم، ومن الوجهة النظرية تعد دار الحرب خاضعة لحكم الفتح، ولكن خلفاء الإسلام وسلاطينه عقدوا المحالفات واتفقوا على عهود السلم والمودة والمعاملات التجارية مع الأمراء من غير المسلمين على الأقل منذ عهد هارون الرشيد وشرلمان.
وقد جسمت العداوة المسيحية خطر الحرب المقدسة في إخضاع البلاد التي لا تدين بالإسلام للسيطرة الإسلامية؛ إذ إن القتال لم يكن له كل هذا العمل في انتشار الفتوح حتى في إبان القرن الأول بعد الدعوة، وإنما تم معظم هذه الفتوح بالتسليم ومعاهدات الصلح، ووردت في هذه المعاهدات فقرات تبيح لأهل الكتاب من أبناء البلاد المفتوحة أن يحتفظوا بعقائدهم وشعائرهم بشروط ليست على الجملة بالمرهقة، فليست فكرة النار والحديد بالفكرة الصحيحة التي يؤيدها الواقع، ومن الميسور — كما يقول المؤرخ توينبي — أن نسقط الدعوى التي شاعت بين جوانب العالم المسيحي غلوًّا في تجسيم أثر الإكراه في الدعوة الإسلامية؛ إذ لم يكن التخيير ببلاد الروم والفرس بين الإسلام والسيف، وإنما كان تخييرًا بين الإسلام والجزية؛ وهي الخطة التي استحقت الثناء؛ لاستنارتها حين اتبعت بعد ذلك في البلاد الإنجليزية على عهد الملكة «إليصابات».
بل نحن نجد أن الوثنين من أهل البلاد المفتوحة لم يعرضوا على السيف على قول الفقهاء المسلمين، وهم أكثر الداخلين في الإسلام عددًا خلال القرون التالية، وهم أصدق برهان على الخطة العملية التي لم تدر دائمًا للرأي وفاقًا؛ أي بصيغته النظرية.»
وتمضي المؤلفة على هذا النحو في تفسير معنى الجهاد قولًا وعملًا إلى العصر الحاضر؛ إذ يفهم من بعض تطبيقاته على أنه عمل واجب لاسترداد كل أرض مغصوبة أخرج فيها المسلمون من ديارهم عنوة وبغيًا، وهو بهذه المثابة دفاع محتوم.
•••
وانتهت المؤلفة إلى الكلام على «الدولة الإسلامية» في العصر الحديث فأشارت إلى اعتقاد بعض الغربيين أن الإسلام لا يصلح لإقامة دولة تساس فيها الأمور على قواعد المصلحة الاجتماعية، وحسن العشرة بين المسلمين وغير المسلمين، فقالت: إن تاريخ الحكم الإسلامي يدحض هذه الظنون، وإن مفكري الإسلام في جميع العصور بحثوا قواعد الحكم والعرف من الوجهة الفلسفية، وأخرجوا لأممهم مذاهبَ في السياسة والولاية تسمو إلى الطبقة العليا، وقد اشتهر منهم اثنان؛ هما: ابن خلدون المتوفى «سنة ١٤٠٦ ميلادية» والفارابي الذي سبقه ببضعة قرون. وتقول الكاتبة: إن الفارابي رجع بآرائه عن الحكومة والدولة إلى أسس إغريقية أو أسس قائمة على الأفلاطونية الحديثة، ولكن الفيلسوفين المسلمين لم ينحرفا عن قواعد الإسلام في وصف الحكومة، وإن كان كل منهما يصف المجتمع الإسلامي كما عهده بين أقوام زمانه.
والفصل الأخير من الكتاب يلملم أطراف البحث؛ ليضع العالم الإسلامي والعالم الغربي وجهًا لوجه في موقف المقابلة وموقف الحاجة إلى الفهم المتبادل والمعاونة الإنسانية، وتذكر المؤلفة طائفة من الغربيين يرون أن المسلم العصري يحاول أن يجاري العصر، ولكنه يغمض عينيه عن المناقضات التي تحول بينه وبين مجاراة عصره مع تسليمه السابق بصواب كل حكم من أحكام دينه وصلاح كل حالة من أحوال ذلك الدين لدواعي الزمن الحاضر، ودواعي الأزمنة التي تتلوه ولا ينتظر أن تجري على منواله. وتعود فتذكر صعوبة الموقف من وجهة النظر الإسلامية مع سوء الظن بمقاصد الغرب وقلة الثقة بمزايا الحضارة الغربية، وعندها أن التفاهم لا يأتي من جانب واحد، وأن الصعوبة من هنا تقابلها صعوبة من هناك، وكلتاهما عصية على التذليل ما لم تكن عند الفريقين رغبة صادقة في التقارب وأمل قوي في إمكانه.
وتتم الكتاب بهذه الأسطر القليلة التي عبرت بها المؤلفة عن نتيجة الواقع وأمنية المستقبل في وقت واحد، فقالت: «إن محاولة التوفيق والملاءمة بين الظروف في هذه الدنيا العصرية المستحكمة آخذة لا تزال في مجراها إلى غايتها من جانب الشرق ومن جانب الغرب، وإن الغرب ينظر وهو يقنع بالمراقبة، وقلما يقترح الحلول وإن عمل على رفع العوائق من حين إلى حين، وعليه كيفما كانت الحال أن يحاذر الاستخفاف أو التعرض بوحي الطمع والأثرة لجهود الشرق فيما يعالجه من السعي إلى غايته؛ لتقرير مكانه بين صفوف الإنسانية دون أن يفقد كيانه أو يفرط في وجدانه.»