رِسَالةُ السَّيِّدِ المَسِيحِ
بعث السيد المسيح في أرض فلسطين من الشرق الأدنى، ولكن أتباع المسيحية في القارة الأوروبية وفي العالم الجديد الذي تشعب منها يزيدون على عشرات أمثال عدد المسيحيين في أرض فلسطين وفي القارة الآسيوية بجملتها، وهذه الظاهرة من الظواهر البارزة في علم المقارنة بين الأديان، نبحث فيها فينكشف لنا سر عظيم من أسرار الدعوات والرسالات الروحية، وينكشف لنا معه سر عظيم من أسرار الحكمة في تقسيم المقادير بين عباد الله، وتعليم الأقوياء والضعفاء عظة من العظات التي ينتفع بها من وعاها، وقد ينتفع بها أقوياء هذا الزمن وضعفاؤه، وهم يتأملون مواقع العبرة في مقادير التاريخ الحديث.
كان إقليم الجليل من أرض فلسطين أضعف الأقاليم الخاضعة للدولة الرومانية الكبرى، وفيه — دون غيره في أملاكها الواسعة — نشأت الدعوة الروحية فقضت على سلطان المادة الغاشمة في صورتها الدميمة التي يسميها التاريخ باسم: الدولة الرومانية على شفا الهبوط والانحلال — يقول تعالى في القرآن الكريم: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
ونعلم من هذه الآية البينة أن الله — جلت حكمته — يختار الرسول الصالح لدعوته كما يختار الأمة أو الأمم التي تحتاج إلى الرسالة وتتلقاها بمقدار حاجتها إليها.
ولقد كان فساد الدولة الرومانية أو فساد الحضارة التي ملأت بها أرجاء العالم المعمور قبيل عصر الميلاد هو جملة «الدواعي» التي دعت إلى الرسالة الروحية يومئذ، فشاءت الحكمة الإلهية أن تختار لها صاحبها عيسى عليه السلام.
ولهذا نرجع إلى تاريخ الدعوة المسيحية الأولى، فنرى أنها انتشرت في كل قطر من أقطار الدولة الرومانية قبل سائر أقطار العالم المعمور، فشاعت في أملاكها شرقًا وغربًا، وكادت أن تلتزم حدودها عند البلاد المجاورة لها زهاء أربعة قرون، فلم تنتشر في قطر من أقطار الأكاسرة الفارسيين كما انتشرت بين بيزنطة الشرقية ورومة الغربية وما جاورهما من بلاد القارتين الأوروبية والأفريقية؛ لأن آفات الحضارة التي ملأت العالم المعمور الخاضع لدولة الرومان كانت هي «أساس الفتنة المادية» التي تناسبها رسالة السيد المسيح وتصلح لعلاجها.
وقد تفرق دعاة المسيحية بين بلاد الشرق من سورية إلى وادي النهرين إلى الهند كما جاء في بعض أنباء الدعوة الأولى، فلم تنتشر في قطر من تلك الأقطار كما انتشرت بين بلاد دولة الرومان؛ لأن أقطار المشرق كانت لها آفة غير هذه الآفة، وكانت تنضج للرسالة التي ستأتي في حينها وتستعد للدعوة الدينية التي تتلقاها على حسب الحاجة إليها، وقد جاءت في حينها المقدور بعد دعوة السيد المسيح ببضعة قرون.
كانت آفة الدولة الرومانية أنها أصيبت في أساسها الذي قامت عليه؛ وهو أساس التشريع.
وكان تشريعها المشهور قد أصيب في صميمه فلحق به شر ما يلحق الشريعة من عوارض الفساد … وشر ما يلحق شريعة الأمة من الفساد أن تجمد على النصوص والحروف، وأن تفقد روح الحق والإنصاف، وأن تصاب بداء التدليس فيمن يتسلطون باسمها وفيمن تتساقط عليهم من رعاياها المحكومين، وأن يصبح هؤلاء الرعايا المحكومون بين فريقين متناقضين: فريق يدين بتلك الشريعة ولكنه يجري فيها على سنة الرياء والخداع، وفريق آخر يستخف بها ولا يصدق بصلاحها واستقامة أمرها، فيخلع عنانها ويتحلل من ظواهرها كما يتحلل من بواطنها؛ فهو «الخليع» الذي تعطيه لغتنا العربية أصلحَ أسمائه بين لغات العالم؛ لأنه منخلع من كل رابطة تربط بينه وبين الناس، أو تربط بينه وبين الله، عارٍ من كل لباس يستر فضائح الأخلاق ويحجب نقائص العرف والتقليد.
كانت شريعة جمود ورياء، فلم يكن لها علاج أصلح من علاج الرسالة التي تقيم العلاقات بين الناس على المحبة لا على حروف القانون، وتعلمهم أن العبادة وجدان وضمير لا حركات جوارح ولا حروف كلمات، وتطلب ممَّن يدين الناس أن يدين نفسه قبل أن يدين الخاطئين والخاطئات، بل توحي إليهم أن الخطيئة الظاهرة أقرب إلى التوبة والغفران من الصلاح الظاهر ومن ورائه الباطل المستور والكذب الدفين.
ولقد كان مصاب العالم اليهودي في عصر الميلاد كمصاب العالم الروماني كله من قبل شريعته التي أقيم عليها أساسه القديم: جمود على النصوص والحروف، وتدليس في ولاية أمور الدنيا والدين، ورياء غالب على من بقي منهم بشريعته، وخلاعة مبتذلة يجهر بها الكافر منهم بتلك الشريعة ولا يبالي أن يعلن خلاعته حيث يرتبط بالدولة أو حيث يرتبط بالدين.
وكان أصلح القوم — كما قال السيد المسيح — من يشبه الضريح الفاخر بطلائه النظيف لمرأى العين، وتحت صفائحه الظاهرة رمة بالية يأكلها الدود.
إلا أن العالم اليهودي لم يكن صاحب اليد العليا في حضارة بلده أو في حضارة زمانه، وإنما كان تبعًا للسلطان الغالب الذي طواه وطوى غيره من أوطان العالم المعمور بين زواياه، فلو صلح كله لما أغنى شيئًا عن أبناء عصره وعن شركائه في عالمه الواسع وآفاته المحيطة بظواهره وخفاياه، فكان من قضاء العناية الإلهية أن يعرض العالم اليهودي عن الدعوة المسيحية غايةَ الإعراضِ، وأن يكون عداؤه لها أشدَّ وأعنفَ من عداء الغرباء المسلطين عليها، ولولا ذلك الإعراض البالغ وذلك العداء العنيف لما تحولت الدعوة بقوتها كلها — أو بأكبر قواها — إلى ميدانها الواسع ووجهتها «الإنسانية» الشاملة، من وراء إسرائيل ومن وراء فلسطين.
ولم تقم دعوة السيد المسيح — كما تقدم — على الحروف والنصوص، بل قامت لتحرير الضمائر من ربقة الحروف والنصوص، فلعلها جرت على اضطرادها حين انتقلت برسالتها من لغتها الأصلية إلى لغات أخرى لم يتكلم بها صاحب الرسالة، فلا يوجد اليوم بين أبناء الأمم من يقرأ حروفًا ونصوصًا سمعت من السيد المسيح، ولكنهم يقرءون فحواها ويتلقونها «روحًا» يجتهد فيها بما يلهمه وحي الرسالة الصادق من معنى ينفض عنه جمود الحروف والنصوص.
وبعد قرابة العشرين قرنًا من دعوة السيد المسيح تعود العبرة من جديد بين الأقوياء والضعفاء، وبين سلطان المادة وضحاياه، وبين الغرب القابض على أَزِمَّةِ الدنيا والشرق الذي أوشك أن يبتلى بمذلة الغربة في عقر دنياه.
إن سلطان الغرب يشقى بداء «المادة» التي شقيت بها من قبله دولة الرومان، وإنه لينكر على بني الإنسان حقهم في الكرامة الإنسانية؛ لأنه يفخر عليهم بكرامة العلم والحضارة وكرامة «التقدم والارتقاء»، وإنه ليتجرد من روح الإنسانية وهو يحتكر مظاهرها ويطرح عنه حقائقها؛ ليزهو بأشكالها، وإنه ليحتاج إلى النذير الرادع وإلى الدواء الناجع، فتأتيه الرسالة في هذه المرة أيضًا كما أتته من أضعف ضحاياه قبل عشرين قرنًا على يد الدعوة المسيحية، فمن بلاد الشرق التي سلبت حقوق الإنسان يتعلم الغرب كيف يرعى تلك الحقوق وكيف يدركها جوهرًا ولبابًا بعد أن قنع منها في عنفوان سلطانه بالأعراض والقشور … ومن بلاد الشرق يتعلم الغرب صاحب العلوم أن قوته الباغية تخلق من الضعف قوة تصد الأقوياء، وتقدح من الظلمة شررًا يحرق أو ينير، وتكشف القارة السوداء لأبنائها — بعد أن كانت تكشفها لمن يتسلل إليها ويوشك أن يغمض عيونها — عن شمس النهار.
إن فالق الذرة يضعف اليوم عن السلطان الذي اقتدر عليه آباؤه وأجداده بما دون ذلك من عدة قاطعة وحيلة واسعة، ولو لم تكن عبرة من عبر الحكمة الإلهية لكان سلاح الذرة أولى بتحكيم الغرب في الشرق وسيادة الأقوياء على الضعفاء من أسلحة القرن الغابر والقرن الذي قبله، وهي في جانب القذيفة الجهنمية أضعف من العصا في جانب السيف.
وليست العبرة من رسالة الشرق اليوم ديانة كتاب منزل أو بشارة مسيح موعود، ولكنها — على هذا — تقرع الأسماع بآية من وحي الله حين يخرج منها العالم الإنساني بالدرس الذي هو محتاج إليه، وحين يذكر الأقوياء أنهم نسوا أن الضعيف المغلوب إنسان فذكروا ذلك مكرهين يوم بلغوا بالسلاح غايته من القوة والجبروت؛ فهم يستعيدون اليوم نعمة الإنسانية على أنفسهم كما رضخوا بهذه النعمة للضعفاء، وعجزوا عن سلبهم إياها في عصر الذرة والصاروخ! …