مَسْألة الرِّقِّ في الإسْلامِ
مسألة الرق في الإسلام موضوع حملة من أقوى الحملات العصرية يتآمر عليها الذين لا يتفقون على شيء فيما عدا هذه الحملات، وهم الماديون المنكرون للأديان وجماعات المبشرين الذين يحترفون صناعة الدعوة إلى هذا الدين أو ذاك.
ويتفق الماديون والمبشرون؛ لأنهم يتجهون إلى وجهتين مهمتين عند هؤلاء وهؤلاء؛ «أولاهما»: نشر الدعوة بين الشبان المسلمين الذي يسمعون بدعاية الديموقراطية وحقوق الإنسان، ويجهلون دينهم، فيصدقون ما يقال لهم عنه في مسألة الرق، ولا يعلمون أنه الدين الوحيد الذي شرع للأرقاء شرعةً لم يسبقه إليها دين من الأديان، وأن الحضارةَ الغربيةَ لم تدركْ بعدُ شأوَ الإسلامِ في إنصافه لجميع الأرقاء.
أما الوجهة الأخرى التي يتفق عليها الماديون والمبشرون فهي غزو القارة الأفريقية بالدعاية المذهبية، والتنفير من الإسلام في هذه المرحلة الهامة من مراحل النهضة الأفريقية؛ خوفًا من إقبال أبناء هذه القارة على الإسلام قياسًا على نجاح الإسلام بين الأفريقيين في الأزمنة القريبة مع قلة الجهود التي يبذلها المسلمون لنشر دينهم هناك، وعظم الجهود التي يبذلها المبشرون وتعاونهم عليها حكومات الدول القوية.
فالماديون والمبشرون يجتهدون غايةَ الجهدِ لنشر دعواتهم إغراء المال والسياسة ووسائل التعليم والتطبيب، ويعلمون أن الإسلام كفيل بإحباط مساعيهم إن لم يتداركوه بتشويه السمعة بين أبناء القارة الذين يعاشرون العرب ويشتركون معهم في الموطن ومصالح المعيشة، فيتوسلون إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين بإعادة القول في مسألة النخاسة، وتلفيق الأكاذيب التي توهم الأفريقيين المتحررين أن العرب المسلمين قد احتكروا النخاسة قديمًا وحديثًا، وهم — أي دعاة المادة والتبشير — أول من يعلم من تاريخ النخاسة أنها كانت صناعة شركات أوروبية وأمريكية تعتمد على سماسرتها من غير العرب والمسلمين، ولكنه تاريخ مجهول عند أبناء الجيل الحاضر ممن تعلموا في مدارس المبشرين.
أما الحقيقة التي تقابل هذه الدعاية، وينبغي أن تقابلها في ميادينها الواسعة، فهي واضحة قريبة المنال، كفيلة بإقناع من يستمع إليها مسلمًا كان أو غير مسلم، ولكنه بريء من دواعي الغرض وسوء النية، ولو امتلأت أذناه قبل ذلك بأكاذيب الماديين ومحترفي صناعة التبشير.
إن الأديان جميعًا — قبل الإسلام — أباحت الرق وألزمت الأرقاء طاعة سادتهم ومسخريهم في خدمتهم وخدمة ذويهم، واعتبره بعض الدعاة قضاءً مبرمًا يعاقب به الخالق من يعصونه من خلقه ويضلون عن سبيله.
وجاء الإسلام فشرع العتق ولم يشرع الرق كما فصلنا ذلك في مواضعه، وقد ندب المسلمين إلى فك الإسار عن الأسرى، فجعله فريضة من فرائض التكفير عن ذنوب كثيرة: أوجب الإسلام قبول الفداء مع استحسان فك الإسار بغير فداء، وفرض تحرير الرقاب على من يقتل خطأً، ومن يحنث في يمينه، ومن يظاهر من زوجه، ومن يؤدي الزكاة في مصارفها؛ ومنها فدية الرقاب.
ولم يبق الإسلام من قيود الرق إلا ما هو باق إلى اليوم باتفاق الدول، وسيبقى بعد اليوم إلى أن يشاء الله.
فالقوانين الدولية اليوم تبيح تسخير الأسرى واعتقالهم إلى أن يتم الفداء بتبادل الأسرى، أو ببذل التعويض الذي تفرضه الدولة الغالبة، وقد تأخرت دول الحضارة أكثر من عشرة قرون قبل أن تنتظم بينها معاملات الحرب على هذا النظام الذي شرعه الإسلام وأوجبه على الدولة الإسلامية وهي تتولى صرف الزكاة «في الرقاب».
فإذا كانت الدول — غير الإسلامية — لم تعرف لها نظامًا تتبعه لإطلاق أسراها من الرق، فهي المسئولة عن هذا التقصير وليس على الإسلام أو الدولة الإسلامية ملامة فيه، وقد نعود إلى الواقع من تاريخ الحرب بين الدول الإسلامية وغيرها فنعلم أن هذه الدول الأخرى قد تعلمت من المسلمين نظام تبادل الأسرى وتحرير الأرقاء منذ اشتبكت الحروب بين حكومات الروم في آسيا الصغرى وحكومات المسلمين التي تجاورها. ولو وجدت شريعة الفداء عند حكومات القرن السابع للميلاد كما وجدت عند الحكومة الإسلامية لتقدم العالم كله في قضية الأسر والرق أكثر من عشرة قرون.
ولنسأل أدعياء التحرير في العصور الحديثة: ماذا يحدث في هذا العصر لو لم يصبح تبادل الأسرى معاملة متفقًا عليها بين المتقاتلين؟ ماذا تصنع كل دولة بأسراها في ميادين القتال؟ هل تعفيهم من العمل؟ هل تعامل أعداءها المأسورين معاملة المواطنين أصحاب الحقوق؟ هل تطلقهم وتبقي جنودها المأسورين عند أعدائها؟ هل تصنع بهم صنيعًا أكرمَ من صنع الإسلام يوم أوجب على المسلمين أن يمُنُّوا بالتسريح أو يقبلوا الفداء والعتق أو يوجبوه في مقام التكفير والإحسان؟
إن صنيع الإسلام الذي أوجبه قبل أربعة عشر قرنًا هو غاية ما تستطيعه دول الحضارة في إنصاف أسراها وأسرى أعدائها، فأما أن يكون لها صنيع أكرم منه فلا ندري كيف يكون، ولا كيف يأتي لنظام من النظم الدولية أن يستقر عليه.
على أن دول الحضارة لم تدرك فضيلة الدين الإسلامي في تشريعات الرق بغير استثناء دولة منها في أحدث تشريعاتها الإنسانية كما تسميها.
فالإسلام قد أنصف الأرقاء ابتداءً بغير اضطرار إلى الإنصاف اتقاءً لثورة سياسية أو منازعة اقتصادية أو أزمة من أزمات الحروب والاستعداد بالسلاح.
إن أول خطوة من خطوات الحضارة الحديثة إلى تحرير الأرقاء جاءت على أثر النزاع بين أصحاب الصناعات الكبرى في بلاد تنفق الأجور الوافرة على الصناع وبين أصحاب الصناعات حيث تدار بأيدي الأرقاء ولا تنفق عليها أجور؛ فإن أصحاب الأموال والصناع معًا حاربوا الرق؛ ليحاربوا هذه المنافسة، واستجابوا لداعي المنفعة قبل أن يستجيبوا لداعي الكرامة الإنسانية.
ثم جاءت الخطوة الثانية يوم احتاجت الدول إلى العبيد؛ لتجنيدهم أو لصنع السلاح في غيبة المجندين، فخطبت ودهم بمنحهم حقوق الانتخاب والتصويت.
وجاءت خطوة أخرى بعد هذه الخطوة يوم أصبحت للعبيد أصوات يتنافس عليها المرشحون.
وجاءت بعدها آخر الخطى يوم نهضت القارة الأفريقية نهضتها وتحررت شعوبها من سادتها، وخاف أولئك السادة أن يستمال السود إلى معسكر أعدائهم في سباق التنافس على التحرير واجتذاب قلوب المستضعفين إلى هذا الفريق أو ذاك الفريق.
فلما وصلت الحضارة الأوروبية إلى هذا المدى بعد طول التعثر والمحال لم تكن قضية الرق عندها قضية سماحة وإنصاف، ولكنها كانت — ولا تزال — قضية مساومة واضطرار، وحيلة من حيل السياسة والإدارة، وخطة من خطط التأخير والاستغلال.
والفارق الأكبر في مسألة الرق من جانب الواقع التاريخي هو ذاك الفارق الذي تحصيه الأرقام بالحساب بين عدد الأرقاء في البلاد الإسلامية وعددهم في البلاد الغربية حيث يعيشون اليوم بين الأمريكتين؛ فإن الأرقاء من الزنوج لم يزيدوا في البلاد الإسلامية — بعد ثلاثة عشر قرنًا — على ثلاثة ملايين أو نحو هذا العدد القليل بالقياس إلى سعة البلاد وطول الزمن واقتراب المكان، ولكن عدد السود في الأمريكتين قد يبلغ العشرين مليونًا، ولما يمضِ على قيام الحكم «الأبيض» هناك أكثر من ثلاثة قرون.
وأبعد من هذا الفارق في العدد فارق المعاملة التي لقيها الأرقاء في البلاد الإسلامية والمعاملة التي لقيها إخوانهم في الأمريكتين، فلا وجه للمقارنة بين المساواة في النسب والمصاهرة وحقوق الدم والمال، وبين تحريم المساكنة والمصاهرة واستباحة الدم انتقامًا من الأسود الذي يرفع هذه الحواجز بينه وبين سادته «البيض» …!
إن مسألة الرق تصلح للدعاية الواسعة بين الناشئة الإسلامية والأمم الأفريقية التي تتحرر من قيودها وتتلمس سبيلها إلى عقيدة مثلى وحضارة تصلح لها وتخاطبها بما يقنعها، ولكنها دعاية للإسلام وليست بالدعاية التي يحارب بها الإسلام … فإذا انعكست الآية وذهب بها سماسرة المادية والتبشير مذهبَ الحملة الشعواء على الإسلام، بمسمع ومشهد من المسلمين، فمن ذا يلام على ذلك غير أولئك المسلمين؟