الدَّعْوة الإسْلاميَّة حَركَةُ دِفاعٍ في العَصْرِ الحَدِيث
في نحو مائة سنة وصلت الدعوة الإسلامية من مكة إلى حدود الهند والصين شرقًا، وإلى شواطئ البحر الأطلسي غربًا، ودخل في الإسلام معظمُ القاطنين بين هذين الطرفين.
وفي أقلَّ من خمسين سنة شاع الإسلام بين أبناء القارة الأفريقية الذين اتصلوا بالبلاد الإسلامية، وجاء الاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر للميلاد فوجد الإسلام منتشرًا — ولا يزال ينتشر — بين هؤلاء الأفريقيين، وحاول المبشرون المؤيدون بقوة الاستعمار وأموال الحكومات والجماعات الدينية أن يدركوه فلم يستطيعوا — بعد مائة وخمسين سنة — أن يقنعوا بدعايتهم القوية الغنية عشر العدد الذي دان بالإسلام بغير دعاية منتظمة ولا إغراء.
قديمًا كان الجاهلون بالإسلام يتعللون لانتشاره في صدر الدعوة بقوة السيف! وهي خرافة تبطلها نظرة سريعة إلى خريطة الكرة الأرضية، فيعلم الناظر إليها أن القطر الذي فتحه المسلمون بالسيف — وهو الأندلس — ليس فيه مسلم، وأن ثلاثمائة مليون مسلم يقيمون اليوم بين الصين والهند وإندونيسيا؛ حيث لم يبلغ الفتح الإسلامي إلى أبعدَ من الأطراف.
وحديثًا يتعلل المبشرون لإخفاقهم ونجاح الإسلام بإباحة تعدد الزوجات! ويقولون: إن الأفريقي يقبل الإسلام؛ لأنه يبيح له أن يتزوج ويتسرى بما شاء من النساء، وإن التبشير ينهاهم عن ذلك فيعرضون عنه! وهي خرافة أخرى تبطلها التجربة كما أبطلت خرافة نشر الإسلام بالسيف؛ لأن الإسلام يحرم الخمر — وهي أيسر منالًا من تعدد الزوجات — ولا يصدهم ذلك عنه، وقد تتيسر الخمر لكل أفريقي يريدها ولا يتيسر له أن يعدد الزوجات والسراري كما يريد، وربما جاز أن يقال: إن الأفريقي يهجر المبشرين بعد استجابته لهم إذا أراد تعديد الزوجات فمنعوه، ولكنه لا يعلم من أول كلمة يسمعها منهم أنهم يمنعون تعدد الزوجات، ولا يستجيبهم كل أفريقي وهو عزب ثم يتركهم إذا شاء الزواج بأكثرَ من واحدة — دفعة واحدة — إن صح ما ادعوه!
واليوم لا يسمع هذا التعلل بمسألة الزواج المتعدد أو الزواج المقيد؛ فإن ذكرت من حين إلى حين فإنما يذكرها المبشرون للاعتذار عن إخفاقهم إلى أصحاب التبرعات، ولكنهم يعلمون أنها عذر واهن فيبحثون عن عذر غيره يرددونه اليوم، وقد يرون أنه أوفق للأحوال الحديثة في القارة الأفريقية وأقرب إلى الصدق وإلى التصديق، وذلك هو عذر العصبية القومية بين السود والبيض أو بين الأفريقيين عامة والأوروبيين من المستعمرين والمبشرين.
قرأنا في أكثرَ من كتاب من كتب المبشرين هذه التعلة التي يتعللون بها لإخفاقهم ونجاح الدعوة الإسلامية، وهي تعلة كانوا يكتمونها من قبل؛ لأن إعلانها يلقي تبعة الفشل على الاستعمار وهو قائم في البلاد لا ينوي أن يتخلى عن شبر من الأرض وصل إليه، فلما اضطر المستعمرون إلى الجلاء عن الديار الأفريقية أصبح المبشرون في حل من إلقاء التبعة عليه، وأصبح الكثيرون منهم ينادون بحرية الشعوب الأفريقية وينكرون التفرقة في الحقوق بين الأجناس والألوان.
ولم ينس المبشرون أنهم بيض من جنس المستعمرين، فإذا حمل الاستعمار تبعته وهو منصرف عن الديار، أو على نية الانصراف، فماذا يصنع المبشرون بمهمة التبشير؟ هل يتخلون عنها ويعولون على نية الجلاء في آثار المستعمرين؟ وهل يبقون ثم يطمعون من أصحاب التبرعات بموالاة المدد والمعونة بعد العلم بهذا الحاجزِ القائم بين الأوروبيين والأفريقيين، وبعد العلم بأنه حاجز متين يزداد قوةً ومنعةً في إبان حركات الاستقلال ونهضات الحرية والعصبية، ودعوات الأمم المتيقظة من المسلمين الأفريقيين وغير الأفريقيين؟
إن القوم قد حسبوا للأمر حسابه على ما نفهم من كتاباتهم المتأخرة عن خطر الإسلام في سواحل أفريقية الشرقية وما جاورها من الأقاليم التي ثارت على الأوروبيين أو تتحفز للثورة عليهم … ومن حساب هذا الأمر عندهم أنهم يدبرون تدبيرهم للتعويل على تلاميذهم الأفريقيين في تبشير إخوانهم الذين بقوا على ديانتهم، كما يعولون على هؤلاء التلاميذ في تبشير إخوانهم الذين دانوا بالإسلام من زمن بعيد أو قريب.
فليست حركة التبشير اليوم تنافسًا بين المبشرين والإسلام لكسب القبائل الأفريقية، ولكنها حملة من التبشير على الإسلام لغزوته في عقر داره، واستعانة على هذه الغزوة بمحترفي التبشير الأفريقيين تلاميذ المبشرين الأوروبيين، ومحالفة بين الاستعمار والوطنية الأفريقية من طريق ملفوف؛ لمحاربة الإسلام تارة بدعوة الوطنية وتارة بدعوة الدين.
هذه الخطة تتبع في أفريقية الشرقية … وتتبع في البلاد الآسيوية التي تمكن التبشير من اجتذاب فريق منها إليه، فسبيله منذ اليوم أن يجند الأفريقيين والآسيويين للحملة على الإسلام في كلتا القارتين، ويتوخى هذه الخطة بعينها كلُّ من يجندون الدعاة لتحويل المسلمين عن دينهم وإقناعهم بدعوة الأديان الأخرى أو بدعوة المادية والإلحاد؛ فإنهم يستترون ثم يدفعون أمامهم تلاميذهم الأفريقيين والآسيويين، ويعقدونها محالفة خفية بين الاستعمار من بعيد، وبين القومية الأفريقية أو الآسيوية من قريب.
إن هذه «التعبئة» الجديدة توافق ظروف الأحوال كما يقال، وتتدارك الأزمة التي وقع فيها الاستعمار بعد الصدمات التي لقيها ويلقاها تباعًا من شعوب القارتين، فهو — بهذه التعبئة — يحاول أن ينقل السلاح من يده إلى يد الوطني الأفريقي والوطني الآسيوي وليس له من عدو يحاربه بهذه اليد أو بتلك غير الإسلام.
ولا يبالي خصوم الإسلام أن يتحالفوا عليه ويتهادنوا فيما بينهم إلى حين، مع تلك العداوة اللدود التي تفرق بينهم في غير هذا الميدان؛ لأنهم يعلمون أن خطر الإسلام باق لا ينقضي بانقضاء هذه الأيام، وينظرون إلى أخطار الأعداء الآخرين فيشعرون بضعفها إلى جانب الخطر الإسلامي المقيم، أو يشعرون بقوتها ولكنهم يعتقدون أنها عارض زائل يفرغون منه بفعل الزمن، أو يرجعون إلى محاربته على مهل بعد اضمحلاله وانحلاله أو دخوله في دور الاضمحلال والانحلال.
ولنعتبر بالخطر الصهيوني، وموقف المستعمرين والمبشرين منه حيال إسرائيل، فإن عداوة القوم لبني إسرائيل أشد من عداوتهم للمسلمين من قديم الزمن، ولكنهم يعلمون أن قوة إسرائيل خطر مأمون الجانب ويتغلبون عليه كلما جاوز حده، ويتحالفون معه كلما احتاجت إسرائيل إليهم واحتاجوا إليها، وستظل الحاجة بينهم متبادلة إلى زمن بعيد.
أما الإسلام فقوته أخطر من ذلك وأبقى على الزمن، ويوشك أن تزداد خطرًا مع اليقظة والتقدم، وأن يزداد الاستعمار ضعفًا مع التخاذل بين حكوماته وشعوبه، فلا تحالفَ معه على غرض من الأغراض المتبادلة بين الفريقين، وقد يكون خطر المادية والإلحاد على المبشرين أكبر وأعنف من خطر الدين الإسلامي؛ لأنه دين إيمان بالله والقيم الروحية على أية حال، ولكن خطر المادية والإلحاد حركة مولية لا تعيش ولا يمتد بها العمر — إذا عاشت — كما يمتد بالإسلام.
ولقد علمنا — نحن المسلمين — آسفين أننا لم نكترث زمنًا من الأزمان قط بتنظيم دعوات التبشير لنشر العقيدة الإسلامية، فلنعلم الآن أن المسألة قد جاوزت أن تكون أعمالًا لنشر الدين وصارت إلى ما هو أسوأ وأدهى: الآن هي مسألة الإهمال في الدفاع والتسليم بالهزيمة في إبان فرصة الدفاع، وقد تذهب هذه الفرصة ولا تعود.