قوَّة العَامِلِ العُنصري في حَركةِ التَّبشير وَالاسْتِعْمار
أشرنا في المقال السابق إلى قوة العامل العنصري في تعويق دعوة التبشير وتهديد سلطان الاستعمار بالقارة الأفريقية، وعنينا بهذا العامل أن مسألة اختلاف اللون تعتبر حائلًا منيعًا بين الأفريقيين السود وقبول دعوات المبشرين وحكومات المستعمرين البيض؛ لأنهم يقرنون بين مظالم الرجل الأبيض وبين كل دعوة دينية يسمعونها من قِبَلِهِ.
وقد كان هذا الحائل قائمًا قبل مائة سنة، ولكن المبشرين والمستعمرين لم يحفلوا به يومئذ كما حفلوا به اليوم بعدَ سريانِ حقوقِ تقريرِ المصير، وتيقظ الأفريقيين عامة لاكتساب تلك الحقوق؛ لأنهم كانوا أصحاب السلطان قبل مائة سنة في أنظمة الحكم والتعليم، وكان في وسع القوة والمال أن ترغما الرعايا على ما تريدان، وكان الرعايا أنفسهم على يأس من الخلاص القريب ومقاومة سلطان القوة والمال.
أما اليوم فالباب مفتوح أمام الرعايا المشتغلين، وليس هناك ما يمنعهم أن يعرضوا عن دعوات التبشير والاستعمار، وأن يقبلوا على الطرف الآخر إذا شاءوا، وهو قائم يتمثل لهم في الدين الإسلامي ثم في المذاهب الاجتماعية التي يحذرها المبشرون والمستعمرون.
ولم تمض أيام على كتابة المقال السابق في مجلة «منبر الإسلام» حتى وصل البريد الأجنبي — الأمريكي والأوروبي — حافلًا بالأخبار الهامة عن فعل هذا العامل العنصري في كل بلد يقيم فيه عدد كبير من السود والبيض.
قالت «نيوزويك»: ازدحمت على المدرج الدولي الكبير في شيكاغو — ذات يوم من الأسبوع الماضي — جموع السود الشبان يلبسون الأكسية السود والقمصان البيض والقلائد المذهبة، ومعهم جموع الشابان — أخوات الله — يلبسن الأكسية البيضاء، ويحيون جميعًا ذكرى انقضاء ثلاثين سنة على حركة «وجود الإسلام المفقود بأمريكا الشمالية»، وهي حركة يقودها زعيم مختار يسمى «إيليا محمد»، ولعلها أشهر حركة من حركات السود المبغضين للبيض، وإن كان التابعون لها لا يمثلون غير جزء قليل من عدد الزنوج بأمريكا الشمالية، وهم لا يكتمون مساعيهم السياسية، ولكنهم يسترونها وراء ستار شفاف من الدعوة الدينية … ويتجندون عادة من الطوائف غير المتعلمة ومن المضطهدين المحرومين … وقد زعم إيليا محمد أن أتباعه يبلغون مائتين وخمسين ألفًا من الرجال والنساء، ولكن العدد الأصح — فيما يبدو — لا يزيد على خمسين ألفًا … وقد اجتهد لابسو الأكسية السود في إقصاء المخبرين البيض ومراسلي التليفزيون؛ لأنها المرة الأولى التي يسمح فيها بدخول البيض إلى هذه المجتمعات، وكان على المنصة علم مكتوب عليه: «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» وأحاطت بمكان الاجتماع أعلام كتب عليها: «لا بد لنا من نصيب في الأرض.» و«لا بد لنا من وظائفَ وأعمالٍ.»
وقد حضر الاجتماع سبعة آلاف رجل وامرأة من خمسة عشر ألفًا كان ينتظر حضورهم، وأفسح الجانب الأيمن للنساء فلم يجلس الرجال في غير الجانب الشمال.
وكان من برنامج الاجتماع إحياء ذكرى السيد فرج محمد الذي يدين له السيد إيليا محمد بالزعامة، وقد نهض بدعوة إسلامية سوداء سنة ١٩٢٠، ثم اختفى منذ سنة ١٩٣٠ ولم يعرف له مكان … وكان اسم إيليا الذي سجل بدفتر المواليد «إيليا بول»، وكان ابن قس من الطائفة المعمدانية انتقل أخيرًا إلى مدينة «ديترويت» وتسمى باسمه الإسلامي من ذلك الحين، وتحسبه إذا رأيته ناسكًا متهجدًا يفرض على أتباعه اجتناب الخمر والتدخين والمخدرات وإقامة الصلوات خمس مرات كل يوم، وهي آداب توافق أحكام الإسلام التاريخية وإن خالفتها في التمييز بين الأجناس، وبين السود والبيض الذين يسمون في لغة إيليا النارية بالثعابين ذوات القدمين.
كان زعماء الاجتماع قد أبلغوا الحاضرين أن الاجتماع كلفهم سبعمائة وخمسين ريالًا، وأن الرجل الأبيض يطالبهم بألفين وخمسمائة ريال استولى عليها ساعة الاتفاق على تأجير المدرج، قال زعيم منهم: إنهم يتهموننا بنشر تعاليم العداوة والبغضاء، وهو منهم تدبير كتدابير «الشيطان»، وقد تولى الرجل الأبيض الحكم ستة آلاف سنة، ونحن هنا في آخر الدنيا ننادي بالنصيب الذي كان للرجل الأبيض في ولاية الأحكام، وعلينا أن نستقل بأنفسنا، ولكن ليس من الضروري أن ننعزل عمن حولنا. ثم انتهى الاجتماع بوقوف الحاضرين للصلاة مستقبلين الكعبة.
هذا ما كتبته المجلة الأمريكية.
وقد ورد الخبر في مجلة «الإيكونومست» الإنجليزية — وهي من أهم مجلات العالم — مكتوبًا بعنوان «جهاد الزنوج»، وزادت على ما جاء في المجلة الأمريكية أن هؤلاء السود يتحدثون بينهم في إنشاء جمهورية مستقلة مع بعض ولايات الجنوب، وتستمد الحركة قوتها من إقامة أعضائها في البلاد المركزية مثل شيكاغو ونيويورك وديترويت وميلووكي؛ حيث تقيم الطبقة الزنجية الوسطى التي تنبهت لحقوقها في الزمن الحديث، وتزيد المجلة الإنجليزية تقديرها لعددهم فتبلغ به مائة ألف، ثم تقول: «إنهم يحرمون الخمر والتدخين، ويفرضون التدريب الرياضي على الشبان من الثامنة عشرة إلى الثلاثين، مؤكدين فريضة التعليم … ويقول العارفون بهم: إن شريعة العداوة والبغضاء التي يبشرون بها لا تختلف عن شريعة «الكوكلكس كلان» التي أخذ اسمها من صوت البندقية عند إطلاقها، ولا عن جماعة «مجالس البيض»، ويخشون أن يكون تعصبهم للرجل الأسود معطلًا للحقوق الدستورية التي يراد بها تحسين أحوال الزنوج السياسية والاجتماعية والاقتصادية … وسيظهر غدًا هل هم خطر على الجنس الأسود أو دعامة من دعامات تقدمه عند تنازع الزعماء على الرئاسة بعد وفاة السيد محمد، وهو الآن في الرابعة والستين.»
وقد نشرت أخبار هذه الحركة في صحف أخرى لا يزيد ما احتوته على أخبار هاتين المجلتين، ولكننا نفهم الكفاية من صيغة هذه الأخبار كما روتها كلتا الصحيفتين.
- (١)
أن الدعوة الإسلامية بين السود الأمريكيين مفتحة الأبواب، شأنهم في ذلك شأن السود الأفريقيين.
- (٢)
أن الإسلام يستطيع أن يعتمد على العامل العنصري الذي تحتال هيئات التبشير الآن على استخدامه بتدريبها للقساوسة السود على دعوة إخوانهم المسلمين وإخوانهم الوثنيين.
- (٣)
أن النية متجهة إلى انتحال المعاذير «القانونية» للقضاء على هذه الحركة باسم الأمن والسلام! وحجة المسئولين في ذلك أنهم حرموا جماعات البيض متى تستخدم السلاح في محاربة خصومها، فلا تفرقةَ إذن — عندهم — بين العاملة الجنس الأسود والجنس الأبيض.
- (٤)
نعلم من تناقض المجلتين أن أصحاب هذه الحركة لا يجهلون أحكام دينهم، ولا يستبيحون التمييز بين السود والبيض وهو ممنوع في الإسلام، فإذا صح أن لهذه الإشاعة أثرًا فمن الواجب على المسلمين في الشرق أن يتداركوا هذه الحركة بما يعصمها من تعلات المسئولين هناك، وأن يكون تصحيح هذه الإشاعة علانية بين السود والبيض والهنود الحمر وسائر الأجناس، ولسنا ننتظر من تبشير هؤلاء الدعاة الغيورين أن يستميلوا إلى الإسلام من يستمعون إليهم من البيض، ولكنهم يفلحون ولا ريب في مقاومة التبشير الذي يحتال له المبشرون باستخدام القساوسة السود؛ أمريكيين كانوا أو أفريقيين.