الذَّاتُ المُحَمَّدِيَّةُ
من تحصيل الحاصل أن يقال: إن التفكير الغربي قد عجز عن إدراك حقيقة الفتح الروحي الذي جاء به الإسلام في ركنين من أركان العقيدة الدينية؛ وهما: فكرة الإسلام عن الإله، وفكرته عن النبوة.
فالحقيقة البينة للمسلم المتأمل أن الدين الإسلامي قد ارتفع بضمير الإنسان شأوًا بعيدًا إلى إدراكه للفكرة الإلهية والفكرة النبوية أو فكرة الرسالة والوحي من الخالق إلى خلائقه العقلاء.
فبعد الإيمان بإله القبيلة، أو إله الشعب المختار، وإله الشعائر الوثنية أو الإله الذي يحاسب الناس بحساب القرابين والكفارات، ولا يحاسبهم بالتبعة والتكليف، جاء الإسلام بأشرفِ العقائد الإلهية؛ فعلَّم الإنسان أن يؤمن برب العالمين، رب الإنسانية جمعاء … رب الإنسان الذي لا فضل له بغير عمله، ولا خلاص له بغير ضميره وعقله.
وبعد الإيمان بنبوات تقوم هدايتها على الخوارق والمعجزات، أو على الوساطة في تقديم القرابين، أو على الحراسة من الأخطار والنقم، جاء الإسلام بالنبوة التي تخاطب العقل والبصيرة، ولا تعول على التهويل بالخوارق والأراجيف، وعلم الناس أن النبي إنسان مثلهم يبشر وينذر، وليس بالمنجم الذي يكشف لهم عن الخبايا ويروعهم بالأعاجيب.
ومع هذا التقدم الواسع في مراحل العقيدة الدينية لم نزل نسمع من المفكرين الغربيين من يقول: إن الإسلام لم يأتِ بجديد في عالم الروح، وإنه نسخة محرفة من المسيحية، أو صورة جديدة متوسعة من صور اليهودية … وإنه لخطأ ذريع يدل على التهاون المعيب في أول واجب من واجبات البحث العلمي وأول واجب من واجبات النزاهة الدينية، وذلك هو واجب الابتداء بالمقارنة بين فكرة الإله في كل دين، ولا حاجة معها إلى أكثرَ من التعريف باسم الإله في ذلك الدين.
نقول: إن تهاون المفكرين الغربيين في هذا الواجب تحصيل حاصل وإعادة قول مفهوم من زمن قديم.
ولكن تهاون هؤلاء المفكرين ملحوظ في أمر آخرَ لا يزال حسن الظن بتفكيرهم فيه أملًا غير بعيد عند كثير منا — نحن المسلمين — من أبناء العصر الحديث.
ذلك الأمر الآخر هو إدراك مواطن العظمة وآيات القدرة في «الذات المحمدية» أو في «شخصية» النبي عليه السلام، كما يقال بتعبير هذه الأيام.
فمنهم من يرى غاية العظمة في صاحب الدعوة الإسلامية أنه داعية قدير يتوسل بالفصاحة حينًا وبالسيف حينًا إلى نشر عقيدته بين المنكرين المتألبين عليه.
ومنهم من يحسب أنه ينصف غايةَ الإنصافِ حين ينفي عنه الاحتيال والخديعة ويشهد له بالصدق والاجتهاد في طلب الإصلاح.
ومنهم من يشهد له بالقداسة الروحية، وينسب النجاح «العملي» بعد ذلك إلى أعمال خلفائه الراشدين، ويخصون بالذكر منهم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه.
وقد ترى على المفكر منهم دلائل حسن النية، ولكنه يظن أن الإنعام في التفكير والنظر إلى ما وراء الظواهر يتقاضاه أن يقيس قيام الدولة الإسلامية إلى العوامل المألوفة في أمثال هذه الأحوال، وأكثرها راجع عند المؤرخين إلى تدابير الزعماء وخطط المتربصين لانتهاز الفرصة واستغلال «الظروف» كما يقولون.
وبين هؤلاء مؤرخ كبير لعله أشهر المؤرخين الغربيين من المعاصرين؛ وهو الدكتور أرنولد توينبي صاحب «دراسة التاريخ» في أكثرَ من عشرة مجلدات ضخام.
ولعل هذا المؤرخ أسلم المفكرين الغربيين نيةً عند الكلام على الإسلام، ولكنه — فيما نرى — أقدر على الإحاطة بالحوادث والمواقف الاجتماعية العامة منه على الإحاطة بأسرار العظمة في «الشخصيات» النادرة، ولهذا كان اعتقاده أن قداسة محمد عليه السلام لم تعصمه أن ينساق — من حيث لا يدري — إلى تحقيق مطامع الزعماء الأمويين؛ لأنهم كانوا أعرقَ وأعرفَ بتدبير وسائلِ السياسةِ والملك من بيت النبي الذي تخصص من قبل عصر الدعوة لشئون العبادة، ولم يستعد للملك كما استعد له بيت أبي سفيان بأدوات «الحيطة» والدهاء.
إن المسألة وصلت إلى السياسة العملية، فكان أمراء التجارة المكيون أكبر من ند لابن بلدتهم العجيب … وكانوا قد أخفقوا في صد الإسلام ومنع انتشاره، فلم يبق لهم من بديل عن ذلك غير الاحتيال عليه بالانضواء الظاهر إليه.
ثم مضى يقول ما فحواه: إن زعماء بني أمية جعلوا محمدًا عليه السلام يسوق الدولة إلى أيديهم وهم يظهرون خدمته ويستدرجون قريشًا إلى تجديد زعامتهم كَرَّةً أخرى بعد الخلفاء الأولين! ولم يذكر المؤرخ متى كان من عمل النبي أن ينشئ بعده دولة وأن يذود عنها بني أمية وغير بني أمية من الخلفاء والأتباع.
هذه «المناورة» الخيالية فصل من فصول التاريخ المألوف يبحث عنه رواة المناظر والمؤامرات كلما بحثوا عن قيام الدول والأسر المالكة، ويرضيهم كما يرضي قراءهم أن يصوروا أمام الناس بطلين: أحدهما: طيب مثالي، والآخر خبير ذو دهاء «عملي» يستفيد من جهود الدعوة، ثم يحولها بحيلته إلى الجانب الذي ينتهي بتحقيق مطامعه وتغليب القدرة «العملية» على الأفكار المثالية، ولو بعد حين.
ولو أن «شخصية محمد» عليه السلام فُهِمَتْ حقَّ فهمِها لما ورد هذا الخاطر على وهم المؤرخ، فضلًا عن تقريره وتوسيعه وإقامة الدين والدولة في الإسلام على أساسه!
إن تاريخ النبوات لم يعرض لنا قط مثلًا للشخصية التي تدين لها جبابرة «الشخصيات» كما حدث ذلك في تاريخ الإسلام والصحابة.
فأعظم الأنبياء لم يكن حولهم من أصحاب الشخصيات الممتازة باقتدارها وعزيمتها من نستغرب طاعتهم لهم وتسليمهم بعظمتهم زمنًا يقصر أو يطول كيفما طال.
لم يكن أحد منهم من أحاط به أمثال الصديق والفاروق وعثمان وعلي وأبي عبيدة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأندادهم من الرؤساء والدهاة والفرسان، وكلهم قد صلح — بعد التجارب الكثيرة — لإقامة دولةٍ، وسياسة أمة، وخلق تاريخ، وقيادة جيوش وشعوب، ورياضة أقوياء وضعفاء.
هذه «الشخصيات» القوية الفعالة لم يكن أحد منهم لينظر «النبي» طوال أيام صحبته إلا كنظرة التلميذ المعجب بأستاذه إلى ذلك الأستاذ الموقر المحبوب.
ولقد عاش ابن الخطاب ما عاش — وهو أمة في رجل — يردد نداء النبي له باسم الأخوة؛ لأنه — على عظمته النادرة — كان يستكثر أن يقول له محمد: «يا أخي.» وهو يناديه.
ولقد قيل عن المقارنة بين «الشخصية المحمدية» و«الشخصية العمرية» ما قيل، وزعم من زعم من الغربيين أن الإسلام مدين بانتشاره لعظمة عمر بعد قيام النبي بدعوة الرسالة، ولكن الفارق الشاسع بين محمد وعمر لم يزل جليًّا بارزًا يفهمه كل من يفهم الفارق بين الإنسان العظيم والرجل العظيم.
ولقد كانت شخصية معاوية تتضاءل إلى جانب «شخصية» عمر، وكانت شخصية عمر تتضاءل إلى جانب شخصية محمد، بغير تردد يخامر الظن عند ذكرهم على اللسان، أو عند المقابلة بين عناصر العظمة عند كل منهم وكل من أقطاب الصحابة العاملين.
والنبوة — ولا خفاء — شرف عظيم تدين له الرءوس والقلوب، لكن النبوة وحدها بغير «شخصية» تناسبها لم تكن كفيلة لذات النبي بهذه الهيبة وهذا الحب والإعجاب جيلًا كاملًا حافلًا بالعظائم والتجارب مزدحمًا بأطوار النصر والهزيمة، وعوارض الرجال والقنوط، فلو لم يكن محمد يملك من صفات القدرة والشجاعة والبلاغة والتدبير والمهابة وحسن الأثر في النفوس والعقول نصيبًا أوفى من نصيب أصحابه وأتباعه لما دانت له هذه الأطواد الشوامخ بالتطامن والاطمئنان، ولما انقضى الزمن على هذه الصحبة دون أن تظهر فوارق الصفات الشخصية إلى جانب فوارق النبوة وفوارق الدعوة ما تقتضيه من الإصغاء بوحي الإيمان، دون وحي العاطفة والبديهة.
فالصحابة حول موسى عليه السلام لم تبق لهم سيرة تدل على عظمة خارقة يستكثر عليها أن تدين بالطاعة والولاء لمن هم دون موسى أو دون هارون في صفات الرئاسة والتعليم.
والحواريون حول عيسى عليه السلام لم يكن أحد منهم ليرتفع إلى مكان الظن بالمشابهة أو المقارنة بينه وبين هذا الرسول الكبير.
ولكنك تذكر أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وابن الوليد وابن العاص وأبا عبيدة وغيرهم وغيرهم، فتذكر فتوح بابل وفارس وبيزنطة ومصر، وتذكر سياسة الدول وقيادة الأمم وحكمة الرأي وشجاعة الإقدام والأناة، ثم تعود إلى حضرة النبي لتتخيل هؤلاء جميعًا تابعين مطيعين يأوون إلى جناح النبي كما يأوي البنون إلى الأب الأمين، فلا يسعك إلا أن تحس من وراء الزمن جلالَ هذه «الشخصيةِ»، وأن تدرك المسافة الشاسعة بين ذلك الرأس الرفيع، وبين تلك الرءوس التي تطامنت لديه، وكلها — على هذا — مرتفع ممعن في الارتفاع آفاقًا على آفاق.
إن النبوة المحمدية صفة إلهية تولي صاحبها من القداسة ما يوحيه الإيمان وتوحيه طاعة الإله.
وبعد ذلك عظمة إنسانية راسخة القرار رفيعة الذروة، تهول الناظر إليها ولو كان في عظمة الصديق، والفاروق، وذي النورين، والإمام، وسيف الإسلام، وإخوانهم الأفذاذ بين عظماء الأمم وأعلام التاريخ.
تلك عظمة «الذات المحمدية»: عظمة «الشخصية» التي استحقت من الله أن يجعل فيها رسالته كما جاء في الكتاب المبين، ولن يستطيع مفكرو الغرب أن يخلصوا من مألوفات التاريخ و«مناوراته» التقليدية إلا أن يدركوا كيف جاوزت هذه العظمة كل مألوف، وكيف استطاعت بوحيها الإلهي مع وحيها الإنساني أن تكسب تلك المكانة العليا بين أصحاب أقطاب، كل منهم يضيق به أفق الإكبار والإعجاب.