الإسْلامُ والنُّظُم الاجْتِماعيَّة
مما يعده بعضهم من مآخذِ الإسلامِ أنه دينُ تشريعٍ ومعاملاتٍ، ولكنه لم يأتِ للناس بنظام مفصل للشئون الاقتصادية أو للحياة السياسية.
ويسرع بعض المسلمين إلى تفنيد هذه المآخذ كأنها اتهام يتطلب الدفاع، قبل أن يحققوا التهمة لذاتها ويكشفوا عن موضع المؤاخذة فيها، وهم أجدر أن يرجعوا إلى القائل الناقد ليسألوه: وهل يناسب جوهر الدين أن يفصل للناس نظم الاقتصاد أو نظم السياسة تفصيلًا مبرمًا يتبعون نصوصه كما فرضت عليهم، ولا يملكون التصرف فيها بمشيئتهم بعد تقريرها بحكم العقيدة وأصول التشريع؟
إن أحوال المعيشة الاقتصادية والنظم السياسية تتقلب من زمن إلى زمن، وتختلف بين أمة وأخرى، فيصلح لهذا الزمن ما لم يكن صالحًا قبل خمسين أو ستين سنة، وما ليس بصالح بعد خمسين أو ستين سنة أخرى. فكيف يتقيد الناس فيها على اختلاف الأزمنة فريضة من الفرائض يدين بها الناس مئات السنين، وتثبت مع الدين ثبوت العقيدة التي لا تتزعزع مع الأيام، ولا تساوي شيئًا في موازين الأديان إن لم يكن لها هذا الثبوت وهذا الدوام؟ …
إنما يناسب الدين أن يبين للناس قواعده التي يستقر عليها كل نظام صالح يأتي به الزمن، ولا عليه بعد ذلك أن تختلف هذه النظم بين أمة وأمة في العصر الواحد، أو تختلف في الأمة الواحدة بين عصرين. ومن الأمثلة التي يحسن أن نذكرها كلما ذكر الدين وذكرت نظم الاقتصاد أن الحياة الاقتصادية قامت في الغرب زمنًا على رءوس الأموال وفوائدها التي يدور عليها عمل المصارف والشركات، وأن بلاد الغرب شهدت بعد ذلك ثوراتٍ اجتماعيةً قامت على تحريم رءوس الأموال مهما تكن وسائلها إلى تقرير الفوائد واستحقاق الأرباح، فهل كان على الإسلام أن يبدل عقائده بين هذين المذهبين خلال جيلين متعاقبين؟
كلا، وليس عليه أن يبدل هذه العقائد إذا تبدل المذهبان معًا وجاء بعدهما مذهب ثالث غير الذي يقدس رءوس الأموال وغير الذي يحرمها وينظر إليها نظرتَه إلى الرزق الحرام.
وإنما أقام الإسلام قواعد الاقتصاد التي يقام عليها كل نظام صالح ولا يتصور أنها تناقض نظامًا منها كان بالأمس أو يكون بعد زمان طويل أو قصير.
قرر الإسلام أن يمنع الاحتكار وكنز الأموال، وقرر أن يمنع الاستغلال بغير عمل، وقرر أن يتداول المجتمع الثروة، ولا تكون دُولة بين الأغنياء، وقرر أن تكون للضعفاء والمحرومين حصة سنوية لا تقل عن جزء من أربعين جزءًا من ثروة الأمة كلها، وقد يزاد عليها بأمر الإمام وإحسان المحسنين.
وإذا تقرر هذا في مجتمع إنساني فلا حرج عليه أن يتخذ له نظامًا من نظم المعيشة الاقتصادية كيفما كان، ولا خوف على مجتمع قط يمتنع فيه الاحتكار والاستغلال وإهمال العاجزين عن الكسب والعمل، ومن شاء فليسمِّ هذا النظام بما شاء من الأسماء.
كذلك فرض الإسلام أن يقوم الحكم على أساس الشورى، وأن يقوم التشريع على أساس الكتاب والسنة واتفاق الإمام والرعية، ولا ضير بعد ذلك أن يتبعوا هذا النظام أو ذاك من نظم الانتخاب، أو يعملوا بهذا الدستور أو ذاك من دساتير الحياة النيابية، فكل نظام صالح ما دام قائمًا على الشورى مؤيدًا بسند من مشيئة الإمام وأولي الرأي وحقوق الجماعة.
فإذا كانت مآخذ الإسلام عند نقاده أنه اتبع حكمته ولم يتبع حكمتهم فلا حاجة بالمسلم إلى الدفاع عن دينه؛ لأن دينه لم يخطئ سبيل الهداية الدينية، ونقاده هم المخطئون.
وإذا كان للمسلم عملٌ واجب في مناقشة أولئك الناقدين فعمله الواجب هو بيان «القواعد الإسلامية التي يقوم عليها كل نظام في المعيشة الاقتصادية وفي الحياة السياسية، وإنه لعلى يقين أنها هي القواعد التي يوافقها كل وضع سليم يأتي به الزمن من أوضاع الاقتصاد والسياسة.»
إننا نحمد هذا الصنيع لكاتب أوروبي فاضل دان بالإسلام منذ خمس وثلاثين سنة، ودأب منذ إسلامه على تصحيح أخطاء الأوروبيين وإبطال مآخذهم بالحجة التي تصلح للإقناع وتقضي حق الدفاع كلما وجب الدفاع، وقد لازمه التوفيق في أكثر ما قرأناه له وآخره كتابه الجديد عن مبادئ الدولة والحكومة في الإسلام، وقد وسع فيه آراءه التي بسطها في هذا الموضوع قبل بضع عشرة سنة، بعنوان «تشريع الدساتير الإسلامية»، وأصدرها يومئذ باللغتين: الأردية والإنجليزية.
ذلك الكاتب الفاضل هو الأستاذ ليوبولد فايس النمساوي، الذي تسمى باسم «محمد أسد» بعد إسلامه، وألف في الموضوعات الإسلامية كتاب «الإسلام على مفترق الطرق»، وكتاب «أصول الفقه الإسلامي»، وكتاب «الطريق إلى مكة»، ثم ألف هذا الكتاب الأخير وعهد في نشره إلى جماعة إسلامية بمدينة كراتشي فنشرت ترجمته الإسلامية على يد جماعة البحوث الشرقية بجامعة كاليفورنيا، ومن مقدمته نعلم أن المؤلف يفرق بين نظام الحكم الذي يقوم على قواعد الدين ونظام الحكم الذي يقوم على غير هذه القاعدة بفارق أصيل عظيم الخطر في شئون الأمم؛ وهو: الموازنة بين اعتبار القيم الأخلاقية في التشريع، أو اعتبار الظروف العارضة فيما تتناوله الشريعة من الآداب والمعاملات، فإذا توافرت قواعد الأخلاق السليمة، فليست التفصيلات الجزئية ولا الإجراءات المتغيرة مما يقرره الدين بالنصوص التي تحجر على الأمم أن تتصرف في شئونها على حسب المواطن والأزمنة، ما دامت تحتفظ بمقومات العقيدة ولا تنقدها.
قال الأستاذ أسد في فصلٍ كَتَبَهُ عن مدى التشريع الإسلامي: «إن القوانين الإسلامية تقوم — مع القرآن والسنة — على القياس وفتوى أهل الذكر ومشيئة الإجماع، وإن القرآن الكريم يقول للمسلمين: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا؛ ليسلك كل مسلم طريقه على حسب هذا المنهاج المبين، فهو أمين على ضميره فيما يختاره من أحكام الدين التي شرعها الكتاب إجمالًا، ولم يذكر تفصيلات الأمثلة عليها، ولكننا إذا رجعنا إلى تفصيلات الحكومة التي يسميها الغربيون «ديمقراطية حرة» وجدنا أنها إلى الإسلام أقرب منها إلى «الديمقراطية» اليونانية التي استعيرت منها هذه الكلمة.»
قال ما فحواه: إن أول ما ينهى عنه الإسلام أن يقوم الحكم على أساس العصبية، ومن أحاديث النبي قوله عليه السلام: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية …» والكتاب يقول: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ، والرسول يقول: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة …» ويقول: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني.» ويقول: «اتبعوا السواد الأعظم.» فهذه جملة قواعد الحكم في الإسلام: سلطان لا يقوم على عصبية، بل على شورى يغلب فيها إجماع السواد الأعظم، وتجب فيها الطاعة لمن يتولى الأمر، كما تجب لله والرسول.
واستطرد المؤلف إلى تفسير قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، فقال: إن النبي عليه السلام سئل عن معنى «العزم» في هذه الآية فقال: إنه «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم». وإنه صلوات الله عليه قال مرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما.» ووضح عمل الوزير مع الأمير فقال: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزيرَ صِدْقٍ؛ إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إذا نسي لم يذكره، وإذا ذكر لم يعنه.»
أما الواجب بين الأمير والرعية فقد شرحه المؤلف شرحًا وافيًا فأورد من أحاديث النبي قوله عليه السلام: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» وقوله: «لا طاعة في معصية؛ إنما الطاعة في المعروف.» وقوله: «من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة فيموت إلا مات ميتة جاهلية.»
وزبدة الأوامر والنواهي جميعًا في هذا الواجب بين الراعي والرعية أنه الأمر بالمعروف، والطاعة في المعروف، والحذر عند الخلاف من تفريق الجماعة.
وعصمة الجميع أن يستمع الراعي والرعية إلى النصيحة من القادرين عليها: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، أو كما قال عليه السلام: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده ثم لتدعنه ولا يستجيب لكم.»
وإن على الأمة أن تغير ما تكره من شأنها فإنه «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب.» وإنه على الأمير ألا يبتغي الريبة في الرعية؛ لأن «الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم»، والخير كل الخير في الجماعة المفلحة أن تتساند وتتعاون، وإنما «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله، ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.»
وفصول الكتاب كله حافلة بالشواهد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيما يختاره الإسلام من نظم الحكومة والدولة أراد بها المؤلف أن يقرر عناية الإسلام بهداية الجماعة إلى نظامها السياسي كما ينبغي أن يهدي إليها الدين الذي يؤمن به الناس على توالي الأزمنة واختلاف البلدان، فهو يقيم لها القواعد، ويدع لها أن تبني عليها ما شاءت من بناء يستقر بدعائمها ولا يخرج من أساسها.
وقد كان في هذا الكتاب جواب حسن لمن يأخذون على الإسلام أنه دين تشريع ومعاملة ولكنه لم يأت للناس بنظام مفصل للشئون الاقتصادية أو للحياة السياسية، فليس فيما زعموه مأخذ على الإسلام إلا أن يساء فهم الدين على حقيقته الباقية؛ فإنه في شئون الزمن المتلاحق مصباح ينير الطريق لمن يبصرون، وليس بالقيد الذي يقاد به من يهديه معصوب العينين مكتوف اليدين.