الإسْلامُ وَالثَّقَافَةُ الأفريقية
من تصانيف العصر النافعة كتب مخصصة لتسجيل مظاهر الثقافة يوشك أن تنحصر في الأرقام والخرائط مع بعض التعليقات التي توضح بالكلام أغراض الرسوم والإحصاءات، وهي رسوم تمثل النسب المتقابلة في توزيع اللغات والعقائد والفنون والنظم الاجتماعية، وتقرن أحيانًا بالخرائط الجغرافية أو يكتفى فيها بجداول الإحصاء وعلامات النسب البيانية، وقلما تشتمل هذه التصانيف على آراء خاصة لمؤلفيها أو على الأصح لجامعيها ومبوبيها، بل هي تترك للقارئ أن يبحث لنفسه ويراجع ما شاء على حسب قصده، ويبني ما يعن له من الآراء على بحوثه ومراجعاته.
والقارة الأفريقية أوفر القارات الخمس حظًّا من هذه التصانيف، وبخاصة في هذه السنة الستين بحساب التقويم الميلادي؛ لأنهم أطلقوا عليها اسم «سنة الفصل في القارة القديمة»؛ لاتخاذها في كثير من أقطار القارة حدًّا فاصلًا لتوقيت مواعيد الانتقال من نظام الانتداب إلى نظام الحكم الذاتي أو الاستقلال أو الحقوق الدستورية.
ولا يخفى على القارئ من النظرة العاجلة في هذه الكتب مبلغ الاهتمام بالإسلام ومصيره في القارة القديمة، وما يتبين للباحث من عوامل الثبات أو عوامل المزاحمة التي تنازعه الغلبة على مقاليد الثقافة الروحية والفكرية.
وأثر اللغة أول الآثار التي يدركها الإحصاء وتظهر فيها الفوارق بين موضع وموضع، من البلاد التي تتكلم العربية إلى البلاد التي تتكلم بلهجات متعددة من الألسنة الزنجية، ففي هذه البلاد تسري الكلمات العربية بمخارجها الأصيلة أو المحرفة بين قبائل السود حينما اتصلت بالمسلمين، ولو لم يدخل أهلها في الديانة الإسلامية.
ويؤخذ من الإحصاءات الأخيرة أن أبناء القارة يتكلمون بنحو سبعمائة لهجة ليس بينها غير أربع صالحات للكتابة بحروف أبجدية، أولها العربية، ثم الأمهرية الحبشية، ثم لغة «تماشق» البربرية، ثم لغة «فاي» في ليبيريا، وهذه إحدى العقبات الكبرى أمام المرسلين المبشرين الذين يفتحون المدارس؛ لتعليم الأفريقيين؛ فإنهم يلقون المصاعب الكثيرة لإقناع الأفريقيين بتعلم اللغات الأوروبية، ويلقون أكثر من هذه المصاعب في نشر التعليم باللهجات الأفريقية، ولكن هذه العقبات تتراجع أمام اللغة العربية التي يتكملها في القارة نحو سبعين مليونًا ولا يتعسر على من يريدون نشرها ويبذلون الجهد في تعليمها أن يجعلوها لغة الثقافة العامة، لو أنهم توفروا على تعميم المدارس كما يتوفر المرسلون المبشرون على تعميم مدارس التبشير.
ويفهم من الإحصاءات أيضًا أن الإسلام سريع الانتشار ولكن العلم به «سطحي» بين قبائل القارة الأصلاء، ومن آثاره «الحضارية» حتى في البلاد التي لا تدين به أن كهانها يتشبهون بشيوخ المسلمين في أزيائهم، وأن القبائل التي تهتم بمحاربة السحر والساحرات من أهل «النيجر» يشتركون مع المسلمين في استخدام الذرائع التي يحسبونها ناجعة في إبطال السحر والمكائد السحرية؛ وربما اختلط الأمر فلا يدري الباحث أي الفريقين يقتدي بالآخر في استخدام الرقى والتعاويذ!
ويرجع فضل العناية بالأبنية وتزيينها بأفريقيا الغربية إلى الحضارة الإسلامية التي تأصلت في الشمال وسرت منه إلى الغرب والجنوب. «فإن تأثير فن العمارة في شمال أفريقية ظاهر على أنحاء الصحراء إلى المغرب؛ حيث تزدان مساكن الوجهاء بالرسوم الهندسية …» وقد يرجع كثير من الفضل إلى الاقتداء بالمسلمين في اتخاذ الملابس حيث لا تستدعيها ضرورات الجو والحاجة، ويتبع ذلك فضل الاهتمام بصناعات النسيج والحياكة وما إليها.
وتدل البقايا والآثار على قدم صناعة المعادن من الذهب والفضة والشبه في أقطار القارة، ولكن العرب هم الذين توسعوا في كشف المناجم بعد وصولهم إلى أفريقية الشرقية، وتمكنوا من استخراج المقادير الوافرة وتصديرها إلى العالم الإسلامي كله فترة بعد فترة من القرون الوسطى.
ويذكر المؤلفون أثر العرب وأثر الأوروبيين والأمريكيين في حياة الفنون الأفريقية، فيلاحظون أن سريان الذوق الفني من قبل العرب لم يهدد كيان الفنون الوطنية بالزوال ولم يطمس معالمها التي تحفظ وجودها وتميزها من الفنون الطارئة عليها، ولكن القدوة بالأوروبيين والأمريكيين أوشكت أن تذهب بالمزايا «المشخصة» للروح الأفريقية، وكادت أن تمحوَ معالمَها جميعًا لولا انتباه المسئولين إلى هذا الخطر البالغ من الوجهة «الأثنولوجية» — أي وجهة علم الأجناس — وإسراعهم إلى تدارك البقية الباقية بإنشاء المعاهد والجماعات التي يتعاون فيها الأجانب والوطنيون على حفظ قواعد الفنون، وإبرازها في صورتها العصرية، دون الإخلال بمعانيها التاريخية وسماتها القومية.
والموسيقى أحد الفنون الجميلة التي انتفعت بدخول المسلمين إلى القارة في كل جانب من جوانبها! «وقد عرف أثر الموسيقى العربية — كما يقول المؤلفون — وتكرر الاعتراف به كَرَّةً بعد كَرَّةٍ، إلا أنه لم يلق من الدراسة الوافية ما يحيط بجميع نواحيه، فلا محل للخلاف في تغلغل هذا الأثر بين أبناء أفريقية الصحراوية، ولا بين أبناء غانة وشواطئها، ولا بين أبناء السودان الشرقي وجهات الصومال، ولكنه أثر غير واضح ولا مفسر إلى الجنوب من تلك الأقاليم، وإن يكن — ولا شك — قويًّا في الشاطئ الشمالي والأقاليم الوسطى.»
ويكثر المؤلفون من بيان المصطلحات الفنية وتطبيقها على الأنغام والأصوات، في موسيقى القبائل على تفاوت درجاتها من الحضارة والتهذيب، ولكنهم يذكرون أن «الإيقاع الحار»، يقل بين القبائل كلما توشجت علاقاتها بالمسلمين، ويعنون بالإيقاع الحار تلك الحركات العنيفة التي يتتابع فيها الدق والقفز ويوشك الرقص الذي يصاحبها أن يكون تخبطًا عارمًا، كتخبط المصروع والمخبول، ويضاف إلى هذا الأثر المهذب الملطف للذوق والشعور أثر مثله في أصوات الغناء وتعبيرات الألفاظ، فلا يصعب على السامع تمييز الأغاني التي ينشدها الزنوج المغرقون في الهمجية من أغاني الزنوج الذين دانوا بالإسلام أو اتصلوا بالمسلمين ولو لم يدخلوا في الديانة الإسلامية؛ فإن الإيقاع «الحار» يندر بين أبناء القبائل التي فارقت همجيتها واقتربت من مواطن العرب المسلمين.
ويشير الكتاب إلى فعل التبشير في تغيير الثقافة فيعزو نجاحه حيث نجح إلى تنظيم المدرسة والإشراف على التعليم، ويقول: «إن جماعات المرسلين ذات شأن في بلاد النيجر وفي غيرها من البلاد الأفريقية، ولا يحسب لها هذا الشأن؛ لأنها جاءت إلى أهل البلاد بعقائدَ جديدةٍ وشعائرَ مستحدثةٍ وحسب، بل يقوم شأنها بصفة خاصة على ولايتها لمعظم أعمال التدريس، ولا يبدو أن هناك شيئًا فريدًا فيما صنعه المرسلون ببلاد قبيلة «ألايبو» قياسًا إلى سائر القبائل النيجيرية وإن كانت قد بدأت متأخرة بعد ابتدائها في الجنوب الغربي، أما في شمال نيجيريا فلم يتسع قط عمل المرسلين؛ لقيام النفوذ الإسلامي هناك، وإنه لواسع الأثر إلى الجنوب سعته إلى الشرق والغرب الجنوبيين.»
•••
وتسلم الإحصاءات أحيانًا بالجوانب الأخلاقية والاجتماعية التي ترتبط بها رعاية الأنساب والأعراض، فيفهم منها أنها تغيرت كثيرًا أو قليلًا على قدر اتصالها بالديانتين: الإسلامية، والمسيحية، ولكن هذا التغيير لم ينتزع جذور الخرافات القديمة ولم يبطل إيمان القوم بالسحرة والأرواح وأنواع المحظورات التي قدستها التقاليد من أقدم عصور التاريخ المجهول، وهي بين جوانب القارة الأفريقية توغل في القدم إلى ما قبل آلاف السنين ولم تنصرم بعد في أرجاء منها تكتنفها ظلمات المجهول إلى اليوم، وربما تسربت هذه الخرافات إلى شعائر الإسلام والمسيحية، واعتبرها القوم مجالًا منفصلًا عن مجال العبادة والإيمان، فهم يقتدون فيها بسحرتهم وشيوخهم، ولا يبتغون فيها الهداية من الشيخ أو القسيس.
•••
ونحن نختتم هذا المقال وبين أيدينا بريد الغرب من الصحف والمجلات التي تفرد بعض أبوابها للمسائل الدينية، نفتح إحداها على باب الدين فنقرأ فيها عنوان «الغزوة لصيد الأرواح»! ويسمي الكاتب هذه الغزوة باسمها في اللغة السواحلية وهو اسم «السفرة» من السفر باللغة العربية … ويطلقونه على حملات الصيد التي تخرج إلى الغابات والقفار مزودة بعدتها الكاملة لاصطياد الفيلة والسباع.
وستعقب هذه الغزوةَ غزواتٌ على مثالها كما يظهر من البرنامج المرسوم لسنة الفصل — سنة ١٩٦٠ — في تقدير الساسة والمرسلين، وليس لنا أن نلوم غازيًا من هؤلاء الغزاة على اجتهاده في دعوته وتدبيره لنجاح مقصده، بل ليس لنا أن نلوم أوروبيًّا أو أمريكيًّا لأنه يحاول أن يعرف عن أفريقية والأفريقيين ما يتعلمه منه الأفريقيون، ويكسب به من طريق الآخرة ما فاته من طريق الدنيا الحاضرة … ولكننا نرجو أن نلحق بهم في هذا المجال، وأن نحفظ للقارة التي تؤوينا ذمار الوطن المستقل الآمن على فكره وضميره أن يقاد في أذيال الواغلين عليه؛ ليصطبغ بغير صبغته في الحياتين، ويخلص من فتح الديار إلى فتح الضمائر والأفكار.