تفسِيرُ القرآنِ في العَصْرِ الحَدِيث
تصل إليَّ في هذه الآونة أسئلة كثيرة من طلاب العلم والمشتغلين بالدراسات الدينية عن فهم القرآن في عصرنا هذا من وجهة النظر إلى العلوم الطبيعية والمخترعات الحديثة، ومن أمثلتها سؤال من الطالب الأديب عمر عبد العزيز السباجي يقول فيه: إن المتكلمين عن تفسير القرآن الكريم انقسموا إلى طائفتين: «إحداهما: تحبذ تفسير القرآن تفسيرًا علميًّا، والأخرى: تدعو إلى فهم القرآن الكريم كما كان يفهمه العرب الأميون الذين خاطبهم القرآن الكريم … فما رأي سيادتكم في التفسير العلمي الذي يذهبون إليه؟ وما هي الأدلة التي تعززون بها الرأي؟»
ومن أمثلة هذه الأسئلة سؤال لطالب الطب الأديب يس مهدي جودة يذكر فيه هذه الآية الشريفة: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
ثم يقول: «أليس من الممكن أن تعتبر هذه الآية الشريفة إشارة مبكرة من القرآن الكريم إلى القذيفة الذرية، ودليلًا قاطعًا على سبق القرآن العلمي الذي أمكن إثباته في مواضعَ كثيرةٍ؟»
وهذه وأمثالها أسئلة تأتي في أوانها، ونغتبط بها؛ لأنها تدل على بحث الشباب المتعلم في أمور عقيدته وضميره، وحرصه على الفهم المستقل؛ أَنَفَةً من التقليد أو التسليم بغير دليل، ونرى أن الأسئلة من هذا القبيل ليست بالجديدة في العالم الإسلامي؛ لأنها أعيدت على أساليبَ مختلفةٍ في عصور النهضات العلمية وأدوار الانتقال من حضارة إلى حضارة، أو الاشتباك بين الثقافات المتعارضة في المشرق والمغرب، وتجددها اليوم معقول منتظر بعد تجدد النظر إلى السماء وإلى أسرار المادة وحقيقة المخلوقات المادية على هذا النحو الذي لم تسبق له سابقة مثله فيما تقدم من أدوار التاريخ الإسلامي، وقد شاركت فيه اليوم أبناء الديانات الأخرى من المسيحيين والإسرائيليين والبراهمة والبوذيين، فيندر أن تطلع على صحيفة من صحفهم تدرس المباحث اللاهوتية إلا رأيت فيها محاولات شتى لإعادة تفسير العقائد الكونية عندهم على ضوء العلم العصري كما يقولون، وأهم هذه المحاولات ما كان منها متصلًا بمسألة خلق الإنسان الأول، ومسألة السماوات وسكانها، ومسألة القيامة والحساب.
والأمر الذي لا محل فيه للخلاف أن الإنسان العصري مطالب بفهم كتبه المقدسة وفهم ما توجبه على ضميره من الفرائض والشعائر والواجبات، ولكن هل معنى ذلك أن الكتب المقدسة لا تفهم إلا كما فهمها المخاطبون بها لأول مرة، أو معناه أنها تفهم في كل عصر على حسب النظريات العلمية التي انتهى إليها أبناؤها؟
لا هذا ولا ذاك — فيما نعتقد — هو الفهم المطلوب من المكلف المخاطب بالكتاب.
فإن المسلم مأمور في القرآن بالتفكير والتأمل والتدبر والاستقلال بذلك عن الآباء والأجداد وأحبار الزمن القديم وأئمة الدين فيه.
وليس الخطاب مقصورًا على العرب الأميين ولا هو بمقصور على أبناء القرن العشرين، ولكنه عام مطلق لكل عصر ولكل مكان … إذ ليس من المعقول أن يفكر الإنسان على نسق واحد في جميع العصور.
إننا مطالبون بأن نفهم القرآن الكريم في عصرنا كما كان يفهمه العرب الذين حضروا الدعوة المحمدية لو أنهم ولدوا معنا، وتعلموا ما تعلمناه، وعرفوا ما عرفناه، واعتبروا بما نعتبر به من حوادث الحاضر وحوادث التاريخ منذ الدعوة المحمدية إلى اليوم.
ولكن التفكير العصري شيء، وإقرار النظريات العلمية المتجددة شيء آخر.
فإننا نستفيد من أخبار الرحلات، ومن آراء المفكرين، ومن مذاهب العلماء النظريين والتجريبيين إدراكًا نافعًا لنا في التأمل والنظر دون أن نؤمن بصحة كل خبر وصواب كل رأي وصدق كل نظرية، ولا يمكن أن تتقدم هذه الفائدة زمانها في موضوعها وإن لم يكن موضوعها متعلقًا بهذا العلم أو ذاك.
ومثال ذلك أن الإنسان المعاصر لا يخطئ في استدارة الأرض بعد كشف الأمريكتين؛ فإنه لا يفسر كلمة البسط بالنسبة للأرض كما فسرها الذين وهموا أن الأرض لا تكون مبسوطة أمامنا وهي على شكل الكرة؛ لأن الإنسان المعاصر يرى بعينه أن الأرض تبسط أمامه كما ينظر إليها، ولا يمنع ذلك أن تكون على شكل الكرة في استدارتها؛ لأننا هكذا نفهم فكرة البسط بالنظر، وهكذا نعلم علم الواقع اليقين أن بسطها أمامنا وامتدادها للسائحين فيها لا ينقض الاستدارة التي لا تقبضها بمعنى من معاني القبض، وهو نقيض البسط في اللغة وفي الإدراك المعقول.
فالكشف العلمي الحديث يفيد الباحث العصري في تصحيح معنى البسط، ويذكره أن نقيض البسط هو القبض، وليس هو الاستدارة الكروية، ولكنه لا يدعوه إلى إنكار البسط بهذا المعنى الصحيح.
وعلى هذا المثال ينبغي أن نستفيد من النظريات العلمية دون أن نقحمها على القرآن الكريم، أو نعتبر أن القرآن الكريم مطالب بموافقتها كلما تغيرت من زمن إلى زمن، ومن تفكير إلى تفكير.
ولذا كان من الخطأ أن نقررَ أن القرآن الكريم يؤيد النظرية السديمية في نشأة المنظومة الشمسية أو نشأة الكواكب عمومًا من دخان المجرة المشهورة، أو دخان المجرات الأخرى التي لا ترى بالعين ولا بالمناظير.
فقد تعاقبت النظريات منذ أيام العَالِمِ الطبيعي «بوفون» إلى اليوم عن نشأة المنظومة الشمسية، ولم تزل ينقض بعضها بعضًا حتى الساعة.
هل نشأت المنظومة الشمسية من الاصطدام بمذنب عابر في الفضاء؟ هل نشأت من التقاء شمسين متعارضتين؟ هل نشأت من انفجار الشمس نفسها وتطاير أجزائها ثم عودتها إلى فلكها بفعل الجاذبية؟ هل نشأت من تجميع السديم وجموده؟
كل أولئك آراء يقول بها العلماء ولا يستقر منها رأي واحد إلى قرار، ومن شاء فليفهم أن النظرية السديمية هي النظرية الدخانية على وجه من الوجوه، ولكن ليس له أن يجعل رأيه هذا عقيدة من العقائد القرآنية التي يكفر بالدين من يعارضه فيها، وليس له أن ينفيَها بغير حجة قاطعة من القرآن الكريم.
وقد شاء بعض المفكرين أن يفسر السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية؛ تطبيقًا لعلم الفلك في تفسير الكتاب، وهو اجتهاد حسن على اعتباره فهمًا لصاحبه لا يوجب على نفسه أن يعتقده ولا يوجب اعتقاده على سواه، ولكنه يجوز عن القصد إذا ألزم الناس به إلزامًا وعرضهم للشك الباطل في الكتاب الإلهي إذا أقحم رأيه عليه؛ لأن علم الفلك لم يلبث أن أثبت أن السيارات عشر غير النجيمات وغير المئات من السيارات الصغار، ووجودها بهذا العدد إلى اليوم حقيقة لا سبيل إلى الطعن فيها، وقد توجد بعدد آخر بعد حين.
والذين فسروا الأيام الستة بأيامنا هذه كما نعدها في كل أسبوع قد أخطئوا الفهم، ووجب أن يدركوا خطأهم قبل أن يتبين للعلم أن تاريخ الكواكب يمتد إلى ملايين السنين.
نعم، قد وجب أن يدركوا خطأهم هذا وأن يعلموا أن الأيام الستة غير أيام الكرة الأرضية في دورتها حول نفسها، وأن السنين أيضًا غير سنوات الكرة الأرضية في دورتها حول الشمس؛ لأن الشمس والأرض لم تكونا مخلوقتين في اليوم الأول من تلك الأيام، فلا بد أن يكون للخلق حساب غير حساب الفلكيين للأيام والسنين.
والذين أنكروا مذهب التطور يحق لهم أن ينكروه من عند أنفسهم؛ لأنهم لم يطمئنوا إلى براهينه ودعاواه، ولكنهم لا يجوز لهم أن ينكروه استنادًا إلى القرآن الكريم؛ لأنهم لا يملكون أن يفسروا خلق السلالة الآدمية من الطين على نحو واحد يمنعون ما عداه، وكل ما يجوز لهم، أن يوجبوا الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سوَّى الطين وبث فيه روح الحياة فصنع منه السلالة التي نشأ منها آدم عليه السلام؛ فأمَّا أَنْ يُحَتِّمُوا كيفية التسويةِ وكيفية النفخِ وكيفية خلقِ السلالةِ والزمن الذي خلقت فيه، فهو ادعاء على القرآن الكريم لا يقبل منهم على وجه من وجوه النفي أو وجوه الإثبات؛ ويجوز أن يكون مذهب التطور مذهبًا ناقصًا في تطبيقه على الحياة وعلى الكائنات العضوية وبخاصة في قول أتباعه بتحول الأنواع … ولكن لا يجوز أن نقحم الآياتِ القرآنيةَ في إنكار النشوء والتطور؛ فإنه إنكار أخطر من إنكار القائلين بتكفير الفلكيين لأنهم ذهبوا إلى استدارة الأرض ودورانها حول الشمس في الفضاء.
وكل ما يجب على المسلم أن يؤمن به، أن كتابه الإلهي يأمر بالبحث والتفكير ولا ينهاه عنه ولا يصده عن النظر والتأمل في مباحث الوجود وأسرار الطبيعة وخفايا المجهول كيفما كان، ولكنه لا يأمره بالتماس التوفيق بين نصوصه وبين نظريات العلوم كلما ظهرت منها نظرية بعد نظرية يحسبها العلماء ثابتة مقررة وهي عرضة بعد قليل للنقض أو التعديل، بل لا يأمره الكتاب بالتوفيق بين الكيفيات التي يفهمها العلم والكيفيات التي يقدرها العقل لفهم المسائل الكونية في بداءتها الأولى ونهايتها الأخيرة بين طوايا الغيب المجهول … لأنه ينبغي أن يعلم — عقلًا وعلمًا وإيمانًا — بأن اليوم إذا نسب إلى الإله أو نسب إلى عمر الكون لن يفهم منه أنه يوم من أيام عمر الإنسان، قبل أن يوجد، وقبل أن توجد الأرض التي خلق عليها الإنسان.
فنحن مطالبون بأن نفهم القرآن الكريم، ومطالبون بأن نفكر وأن نستفيد لأفكارنا من علوم العصر الذي نعيش فيه، ولكننا لا نطالب في عصر من العصور بأن نعلق إيماننا بتفسير النظريات العلمية، وهي لا تستقر عصرًا واحدًا على تفسير غير قابل للنقض أو للتعديل والتحوير.