الإسْلامُ مَنْهَجٌ شَامِلٌ
عودني قراء الكتب التي أكتبها في الموضوعات الدينية أو الموضوعات الاجتماعية التي لها علاقة بالعقائد والبحوث فيما وراء الطبيعة أن أتلقى منهم رسائلَ على نوعين: نوع له دلالة حسنة على الرغم مما يحتويه من خلجات الشك والحيرة بين وجهات النظر في الدين، ويغلب على هذا النوع من الرسائل أنه حسن الدلالة — كما تقدم — لأنه يدور حول السؤال عن كشوف العلم الحديث وأطوار الحياة العصرية: هل توافق الدين أو تناقضه؟ وهل عقيدة الإسلام فيها توافق المعقول، أو تحتاج من العقل العصري إلى تفسير وتأويل؟ وموضع الدلالة الحسنة في هذه الأسئلة أنها تنم على احترام الإيمان كما تنم على احترام العقل، واجتناب المغالطة بين المؤمن وبين نفسه فيما يعرض له من الشكوك وأسباب الغموض والتردد بين نقائض التفكير.
والنوع الآخر تسوء دلالته في بعض نواحيه، ولكنها لا تخلو من الناحية التي لها دلالتها الحسنة أيضًا بعض الأحايين.
ذلك النوع السيئ من الرسائل هو النوع الذي يتهجم أصحابه على الإنكار والجزم بالنفي لغير حجة قاطعة، وهو تهجم سيئ الدلالة من جهة العقل لا من جهة الدين وحسب؛ لأن العقل الذي يسرع إلى البت في مسألة الكون كله بهذه الرعونة حقيق بالرثاء، وإذا بدا أن هذا الضعف تهمة للعقل فهو في الوقت نفسه حجة تؤيد قوة الإيمان؛ لأن الخطأ الواضح في مهاجمة الإيمان حجة ناهضة على حصانته المنيعة أمام هجمات المتعجلين.
كلما دار نقاش مع الزملاء حول الإسلام كمنهج شامل للحياة، والبحث في إمكان الاسترشاد بقواعده التشريعية في تثبيت دعائم الاشتراكية وخلق مجتمع فاضل تشيع فيه العدالة نجد من يتساءل في تحدٍّ مثير: قولوا لنا لِمَ لَمْ يفلحِ الإسلامُ كشريعة حاكمة بعد عهد عمر بن الخطاب؟ إن الإسلام مجاله المسجد لا غير … هكذا يقول الواقع والتاريخ.
ونقول: إن هذه الرسالة مثل للرسائل على نوعيها؛ لأنها تدل على احترام صاحبها لإيمانه واحترامه لعقله، كما تدل على الخطأ الواضح في التهجم على الآراء الحاسمة في المسائل الكبرى لأهون الشبهات، وقد تكون الشبهة — في ذاتها — غير مفهومة في رأس من يتحدى بها هذا التحدي المثير.
أكبر الظن أن هؤلاء المتهجمين يتبعون مذهبًا من المذاهب المادية التي تدعي لنفسها احتكار المبادئ الشاملة للإصلاح بغير مثيل ولا بديل، وأنهم يحكمون بفشل الإسلام؛ لأنهم يتوهمون أن العقيدة الناجحة هي العقيدة ذات الشعائر التي يجري تطبيقها وتنفيذها حرفًا حرفًا في حياة كل مسلم، وفي دستور كل جماعة، وفي أطوار كل مشكلة من مشكلات الحياة، ولما كان المسلمون اليوم لا يقيمون الصلاة فردًا فردًا، ولا يؤدون الزكاة درهمًا درهمًا، ولا ينالون كل حقوقهم في مجتمعاتهم كبيرًا وصغيرًا، فالإسلام إذن عقيدة غير شاملة ومكانها المسجد كما يقولون، وليس لها مكان في معترك الحياة!
ولا يحتاج السامع لمثل هذا التهجم إلى أكثر من تدوير رأس صاحبه إلى مذهبه «الشامل» المزعوم؛ ليرى بعينيه على التحقيق أن قواعده الأساسية جميعًا غير قائمة في مهدها الأول، وأن القائم بين مشروعاته كلها هو القائم في كل مكان يتحرى الإصلاح على غير تلك القواعد وعلى نقيض الأصول الأساسية فيه، أكثر الأحيان.
فالعقيدة الشاملة هي التي تضع للناس مقياس الأعمال والأخلاق، وليست هي العقيدة التي تعمل بأيديهم ما يطلب منهم أن يعملوه أحرارًا في الرأي والشعور، ولو كان شفيع القانون للبقاء أن ينفذه كل خاضع له حرفًا حرفًا، وأن يمتنع خلافه أصلًا وفرعًا، لما كتب لقانون بقاء.
ونزيد التفصيل شيئًا فنقول: إن العقيدة الدينية سند للروح تعتمد عليه في شدائد الحياة، وقسطاس للآداب والعادات ترجع إليه في قياس الأخلاق والأعمال، وإنها بالنسبة للجماعات — أو للأمم التي تدين بها — قوة فعالة، ولو من طريق المقاومة، يحسب لها حسابها في التاريخ.
والإسلام — بهذه الصفة — عقيدة فردية اجتماعية، لا يجاريها دين من الأديان.
تبدأ بقوته العالية: فنعرفها بالقوة التي تقابلها من جهة خصومها قبل أن نعرفها بما صنعته هي لإقامة بنيانها والدفاع عن كيانها، فقوة الإسلام العالمية تقابلها في التاريخ دولة الأكاسرة ودولة القياصرة، كما تقابلها دول الحروب الصليبية ودول الاستعمار ودول التبشير والدعاية المذهبية، على اختلاف الدعاوى والغايات.
والإسلام هو الذي منح شعوبه هذه القوة التي ضارعت تلك القوى كافة وصمدت لها وهي في دور العزة والبأس، كما تصمد لها وهي في دور الضعف والجمود، وقد صمدت قوة الإسلام لخصومها بمبادئها التي تدين بها ولم تصمد لأولئك الخصوم بالمبدأ المستعار، كما استعار أصحاب «المذاهب المادية» مبدأ الوطنية وهم ينكرونه؛ ليخلقوا به قوة في موضع الوهن، وإيمانًا في موضع الخوف والهزيمة.
أما الاشتراكية الإسلامية فهي اشتراكية الإنسان الرشيد الذي يملك حرية التصرف كما يملكها العقلاء من الأفراد والجماعات، وليست هي الاشتراكية الآلية التي تصب العقول في قالب من حديد يحطمها ولا تقوى هي على تحطيمه بأيدي الحاكمين أو بأيدي المحكومين.
فالإسلام قد حرم الاحتكار والاستغلال، وحرم تداول المال في أيدي الطبقة الواحدة؛ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، وأوجب للضعفاء العاجزين جزءًا من أربعين جزءًا من ثروة الأمة بأجمعها، واستنكر خزن الذهب والفضة، وحرم الفائدة على المال بغير عمل له جزاء يستحقه صاحب المال.
ومتى تقرر هذا كله في مجتمع إنساني فلا حرج علينا أن نسميه بما نشاء من الأسماء التي تتقلب من عصر إلى عصر وتتبدل بين أمة وأمة، ولا يضيرنا أن نقول: إنها اشتراكية أو ديموقراطية أو سندكالية أو تعاونية، أو مرسومة بتخطيطها، أو مرسومة بغير تخطيط، وليس علينا أن نصب العقول والشرائع والحريات في قوالبِ الحديدِ أبدَ الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن قوانين الاقتصاد المادية — فيما يزعم دعاتها — تأبى لحياة الإنسان طورًا من الأطوار إن لم يكن من ورائه طلسم «القيمة الفائضة» أو تعويذة «المادية الحوارية» أو صيحة الصراع بين الطبقات، أو ما شاكل هذا من الطلاسم والتعاويذ.
ولهذه الخاصة التي اختصت بها الاشتراكية الإسلامية استطاع الإسلام أن يسخر في عصرين متواليين من سخافة متهميه بتعطيل المرافق العامة؛ لتحريمه الربا، وسخافة متهميه بعد ذلك؛ لأنهم ينكرون الربا ومعه رأس المال، ولو كانت اشتراكية الإسلام رهنًا بانتقاد «القفازين» إلى النقد لكان منكروه اليوم لأنهم اشتراكيون ماديون، هم منكريه بالأمس لأنهم رأسماليون محافظون، يقدسون الربا، ويبنون الحضارة كلها على الاستغلال وتثمير الأموال.
أما قسطاس الإسلام الذي تقاس به الأخلاق والآداب فلا يحكم على فلاحه أو فشله بانقطاع الخلاف له من العالم؛ لأنه إن كان كذلك كان قسطاسًا مستحيلَ الوجودِ في قوانينِ الطبيعة التي تسري على المادة الصماء فضلًا عن قوانين الأخلاق التي تسري على نفوس الأحياء، ويعرض لها ما يعرض لأطوار الحياة من عوارض التقلب والانقلاب.
وإنما يحكم على فلاحه بحكم المجتمع الإسلامي على المتبعين له أو الخارجين عليه، فلا يزال أكرم الناس وأشرفهم قدرًا في المجتمع الإسلامي من يقال عنه: إنه مسلم صادق الإسلام في أعماله ومعاملاته، ولا يزال أهون الناس وأرذلهم قدرًا من يقال عنه: إنه إنسان «ليس عنده إسلام» كما يجري ذلك على الألسنة كل يوم في وصف أرذال الخلق في حكم هذا الدين، وهم على الدوام أرذال الخلق بكل مقياس صالح وكل قسطاس قويم.
وهذا هو الواقع، وذلك هو التاريخ.
فمن حق المسلم — وهو يعيش في العالم ويذكر التاريخ — أن يشعر بمجال الإسلام في المسجد وفي كل مجال؛ لأن الإسلام هو الذي علَّمَه — ويعلِّمُه — أنه «أينما كان» فثم وجه الله.