عِلم النَّفْسِ وَالدِّين الإسْلامي
يسمى علم النفس أحيانًا بعلم الإنسان العصري، أو علم القرن العشرين، وينسب معه إلى هذا القرن علمان آخران كبيران؛ هما: علم الكيمياء، وعلم الاقتصاد السياسي، وكلها مما يتسم بين العلوم الكثيرة بقرب الصلة بينه وبين هذا القرن العشرين.
ولم تنسب هذه العلوم إليه؛ لأنها نشأت فيه ولا لأنها أحدث العلوم التي يتعلمها أبناؤه، ولكنه يتميز بها حيث لا يتميز بعلم غيرها؛ لأنها اختلطت فيه بمعيشة أهله أفرادًا وجماعاتٍ، وكادت تدخل بآثارها في كل بيت، وكل مجال، وكل مثابة عامة يثوب إليها الناس، واحتاج إليها كل مشتغل بعلم من العلوم الأخرى لفهم علمه أو لتطبيقه أو لتدعيم سنده، فأصبح كل منها خليقًا أن يسمى علم العلوم على نحو من الأنحاء.
فالكيمياء هي علم الصناعات التي تستخرج المنافع من ثمرات الطبيعة، وتحكي تلك الثمرات أحيانًا بما يشبهها ويُغْنِي غَنَاءها، وتجعل من الشجر لباسًا يُغْنِي غَنَاء النسيج من ديدان القز، ومن الجماد لباسًا يغني غناء قشور الشجر، وتصنع مثل هذا الصنيع فيما يُحتاج إليه من الغذاء والدواء والمسكن والمركب، بل تصنعه في كل جزء من أجزاء المادة: من شوامخ الأطواد إلى الذرة التي تعرف بالحساب ولا تتمثل للعيان.
وعلم الاقتصاد السياسي في هذا العصر هو فيصل المبادئ والقوانين الاجتماعية، التي ترتبط بها حقوق الأفراد والطبقات ومعاملات الأمم، وعلاقات الدول ودساتير الأسواق، ومطالب الرعية وسلطان الراعي الذي يتولى تصريف مواردها ومصادرها، وما من قضية من قضايا الجماعة البشرية في العصر الحاضر تنفصل بحذافيرها عن مبادئ هذا العلم وقوانينه في جملتها وتفصيلها، وإن اختلفت الآراء حول تلك المبادئ وكثر التعديل والتبديل في تلك القوانين.
أما «علم النفس» فهو علم الإنسان في عالمه الداخلي كله، وهو ألصق بالإنسان، وأحرى بعنايته، وأهدى إلى أسباب سعادته وشقائه — من ذلك العالم الخارجي الأكبر الذي يتداوله ذانك العلمان الآخران: علم الاقتصاد السياسي، وعلم الكيمياء.
تشعبت فروعه وتعمقت جذوره حتى أوشكت أن تسعَ كل ما وسعته نفس الإنسان من معرفة وعاطفة، ومن حق ووهم، ومن واقع وخيال.
وقد كان في نشأته فرعًا لعلم الطب أو لعلم الأخلاق، فأصبحت فروعه اليوم تستوعب من جوانب البحث فنونًا لا يلم الطب بها، ولا تحصرها دراسة الأخلاق: بين علم النفس للفرد، وعلم النفس للنوع بأسره، وعلم النفس للجماعة أو للطبقة، وعلم النفس للصناعة، وعلم النفس للتجارة، وعلم النفس للعلاج، أو للتعليم، أو للإصلاح، أو للجريمة، أو للاختبار الذي يتصل بشتى الأعمال ومختلف المطالب الإنسانية، بل مطالب الحيوان في جملة شئونه التي يُنتفع بها للمعيشة، أو ينتفع بها لتحقيق المعرفة وتصحيح تاريخ الإنسان، قبل عصور التاريخ.
واتصلت فروع هذا العلم بعلوم أخرى كانت لها أبوابها المستقلة قبل أن يعرف علم النفس باسمه الحديث، ومنها علم الإنسان أو «الأنتروبولوجي»، وعلم الأجناس البشرية أو «الإثنولوجي»، وعلم الأحافير أو «الأركيولوجي»، وعلم الأخلاق، وعلم المقارنة بين الأديان.
ولهذا صح أن يقال فيه: إنه «علم الإنسان العصري» على الإطلاق؛ لأنه حول نظره إلى داخل نفسه، وفتح أمامه في هذه الناحية بابًا أوسعَ من أبواب العوالم التي يشهدها بعينيه، وليس لهذه العوالم وجود بالنسبة إلى الإنسان ما لم يكن لها وجودها الباطن في علمه أو قرارة نفسه، وإلا فهي والمجهول عنده سواء.
على أن العلمين الآخرين اللذين ينسبان إلى القرن العشرين يقتربان يومًا بعد يوم إلى أعماق النفس الإنسانية، ويطرقانها دراكًا تباعًا من عدة أبواب.
فعلم الكيمياء يعرض المادة كلها في الصورة التي تعلم الماديين دروسًا من التواضع جهلوها قبل جيل؛ لأنها تسري بالرعشة إلى تلك الأيدي التي كانت تدق على الجسد الصلب؛ لتقول في زهو الثقة والخيلاء: «هذه هي الحقيقة الملموسة المحسوسة، وكل ما عداها مما وراء الحجب باطل موهوم.»
فاليد التي كانت تدق هذه الدقة على الخشبة أو الحديدة أو الصخرة تتراجع إلى جنب صاحبها، وترجع بالبصر معها؛ لتنظر إلى المادة في حقيقتها، فإذا هي حقيقة تلمحها العين كما تلمح حقائق النفس الخفية، ولا تدركها وراء الشعاع الخاطف إلا كما يُدرك الفضاء: أجسام من عناصرَ، وعناصرُ من ذراتٍ، وذراتٌ من شعاع، وشعاع من فضاء يرجع إلى فضاء، وحقيقة بعد ذلك من حقائق النفس التي تعود بنا إلى بواطنها وبواطن كل شيء في هذا الوجود، أيسر ما نعرفه منه هو هذا الذي يدق باليدين وتصدمه القدمان، أو يصدم القدمين.
وإذا كان هذا هو شوط الكيمياء فإلى أين ينتهي بنا الشوط مع علم الاقتصاد، علم الأوراق المعدودة بالأرقام، أو علم المسكوكات ذوات الرنين واللمعان؟
كل قيمة في هذا العلم المحسوب المعدود فإنما يقومها معيار واحد؛ هو معيار «الثقة النفسية» … وكل قوة تكسبها هذه الثقة أو كل ضعف يعتريها فمرجعها في النهاية اختلاف بين نفوس بشرية في عقيدة أو رأي أو فهم لمعنى الحرية أو معنى النظام، ومهما يكن من حساب المادة في هذا الاختلاف فهو حساب أصفار ما لم تسجله النفوس البشرية — بعد ذلك، أو قبل ذلك — بأرقام الرضا والقبول، أو أرقام النفرة أو الإباء.
فعلم الأجسام — وهو الكيمياء — وعلم المال — وهو الاقتصاد — كلاهما في القرن العشرين قريب من علم النفس في تفريعاته الكثيرة، وهو إلى عالم النفس البشرية أقرب منه إلى عالم المادة الصماء، لا جرم يدخل كلاهما في نطاق موضوعاته من باب رحيب أو من أبواب عدة، فيصبح علم الخلية الحية مقترنًا بعلم الذرة في الكيمياء التي سميت بكيمياء الحياة، وتصبح إدارة المرافق العامة وتدبير الثروات الاقتصادية دراسة نفسية من ألزم الدراسات الضرورية لنفسيات الجماهير، أو نفسيات الآحاد …
لكننا نشير إليهما في هذا الحديث بمقدار هذه الصلة التي تئول بهما من العالم الخارجي إلى العالم الأكبر: عالم السريرة الإنسانية؛ فإن لهذه السريرة أعماقًا هي في حياة الإنسان أبعد أمدًا وأهدى رشدًا من أعماق الأرض أو أعماق الفضاء.
وعلم النفس كله موكل بالأعماق الخفية.
علم النفس كله موكل بالبواطن التي تفسر لنا أعمالنا الظاهرة، كلما احتاجت إلى تفسير صحيح فلم نجد تفسيرها الصحيح في الظواهر المحسوسة.
ولا يشذ عن مذاهب علم النفس الكثيرة مذهب «السلوكيين» الأخير، وهم أقرب الباحثين النفسيين إلى الظواهر والمحسوسات.
فهؤلاء السلوكيون معروفون بمذهبهم المشهور في تفسير السلوك النفساني بحركات الأعصاب وخوالج الدماغ وعوارض الوظائف الجسدية على التعميم، ومن أدواتهم لتسجيل هذه العوارض أجهزة كهربية ترسم الهزات الباطنية بالأدمغة أو في أعصاب الجوارح وعضلات الأيدي والأقدام، وربما اكتفى بعضهم في تفسير السلوك الإنساني بمجموعة من رسوم هذه التسجيلات تصف لهم حركات الجسم من رأسه إلى أطرافه ولا يزيدون عليها، ولكن هؤلاء السلوكيين يوغلون في أسرار الحياة الباطنة كلما حاولوا الابتعاد منها، وآخر ما ثبت من تجاربهم في مدرسة «بافلوف» إمامهم الكبير أن الوظائف الجسدية كلها مرتبطة بالإرادة، وأن الإرادة مرتبطة بوعي الدماغ ما بطن منها وما ظهر، خلافًا لأقوال الأطباء قبل القرن العشرين؛ إذ كانوا يقسمون الوظائف إلى إرادية «سمبتاوية» وغير إرادية لا تتأثر بتوجيه الدماغ، فجاء «بافلوف» وتلاميذه فأثبتوا أن وعي الدماغ — باطنًا وظاهرًا — يوجه الأعضاء جميعًا، ويبلغ من أثره أن يؤجل فعل السموم القاتلة إلى أن يتنبه فيجري الأثر المألوف إلى العروق والأعصاب في مجراه.
ومهما يكن من خفاء الوعي في الدماغ، فالسلوكيون الذين يعولون عليه هم أقرب الباحثين في علم النفس إلى الظواهر الحسية، كما تقدم.
وأعمق منهم في هذه المباحث أناس يوغلون في القدم عند البحث عن أصول الأعمال الإنسانية، فيرجعون بها إلى تجاربِ النوع البشري قبل التاريخ، ويقتصد بعضهم فيرجع إلى موروثات الإنسان في الأسرة من قبل ميلاده، ويرجع بها غيرهم إلى تكوينه في طفولته ولا يستغني عن مراجعة تكوين الأسرة من أبويه وإخوتهم، وكلهم — من أجل هذا — يضرب في أكناف ليل غامض بعيد الآماد مترامي الأطراف، يتهدى في أطوائه بالظن والتخمين مرات كلما تهدى فيه مرة بالتحقيق والتقدير المزعوم بالبراهين.
ومن ثم يقول الكثيرون: إن تسمية هذه المباحث «بالعلم» فيها ترخُّص كثير، وإنها أولى أن تسمى بالدراسات أو المباحث أو الفروض؛ فإن سميت بالعلم تيسيرًا للإشارة إليها فلتكن علمًا اليوم كما كان الفلك علمًا من قبل على اتساعه للكثير من الخرافات والأوهام، ثم تصدق عليه التسمية جيلًا بعد جيل.
وأولى النظريات في مذاهب علم النفس بالتحفظ والأناة: تلك النظريات التي تعرض العلل النفسية، أو لما يسمونه بالعقد النفسية ويضعون بها القواعد للتمييز بين الإنسان الطبيعي والإنسان غير الطبيعي، أو بين السليم والمعتل، أو بين القويم والمنحرف على السواء.
فإن كثيرًا من هذه الحالات — التي يظن بها المخالفة لسواء الخلقة — إنما هي حالات طبيعية يبحث عن أسبابها في تعدد ألوان الطبيعة الإنسانية، ولا يدعو إلى وصفها بالانحراف إلا الخطأ في اعتبار الطبيعة السوية نموذجًا واحدًا على حالة واحدة وكل ما خالف هذا النموذج فهو منحرف على السواء.
هذا خطأ لا شك فيه، فإننا إذا نظرنا في عالم الأجساد المحسوسة، فضلًا عن عالم النفوس الخفية، لم نستطع أن نجد مثالًا واحدًا للجسد الصحيح على وتيرة واحدة في الطول والوزن والتركيب والتناسب واللون والصورة، بحيث تكون الأجسام الصحيحة كلها تكرارًا له بغير اختلاف، ويكون كل ما عداها إلى اختلاف أو انحراف.
سمعت مدرسًا من المولعين بالمباحث النفسية يقول عن تلميذ يميل إلى اللون البرتقالي من بين الألوان: إن هذا التلميذ مصاب بعقدة نفسية.
فسألته: وإذا لم يكن مصابًا بعقدة نفسية، فأي الألوان كان يختار؟!
وعاد المدرس إلى نفسه يسألها، فلم يجد لونًا يختاره فلا يتجه إليه مثل هذا الظن، فلا اختيار الأخضر، ولا الأزرق، ولا الأحمر، ولا الأصفر، ولا غيرها من الألوان الخالصة أو الممتزجة يصح أن يكون نموذجًا واحدًا للذوق السليم لا تجوز المخالفة فيه.
وكل ما استطاع المدرس المولع بعلم النفس أن يقوله: إن الطفل السليم تتساوى عنده جميع الألوان … وهذا أيضًا خطأ لا شك فيه؛ لأن الألوان لا تختلف لتكون سواءً في جميع الأحوال عند جميع الناس.
وأصح المذاهب النفسية في هذا الباب هو مذهب «يونج» عن النماذج البشرية، فليس الإنسان المثالي نموذجًا واحدًا، ولا يمكن أن يكون نموذجًا واحدًا مع هذا التركيب الذي يقع فيه الاختلاف لا محالة؛ لاختلاف العوامل الطبيعية الكثيرة التي لا توافقها.
ويونج يقسم النوع البشري إلى قسمين كبيرين؛ وهما: قسم المنطوين أو الانطوائيين الذين يحتجزون في معاملاتهم لغيرهم، وقسم المتكشفين أو الانبساطيين الذين يتبسطون مع الناس في عواطفهم وعلاقاتهم وأحاديثهم، ولا يشعرون بالحواجز الكثيرة بينهم وبين الآخرين.
وكل قسم من هذين القسمين له نماذجه المختلفة على حسب الطابع الغالب على صاحبه، من طوابع التفكير والتأمل، أو طوابع العمل والحركة، أو طوابع العاطفة والوجدان، أو طوابع الحس والشعور.
فليس هناك نموذج بشري واحد يقاس إليه العمل الصحيح.
وليس هناك إنسان يكون عمله قياسًا يقتدي به جميع الناس، وتقاس إليه الصحة والمرض في جميع ما يعملون.
وإنما العمل نفسه هو مقياس السواء والانحراف عند الموازنة بين أسبابه ونتائجه، أو بين دواعيه وغاياته.
فالرجل الذي يخاف ركوب البحر سليم إذا كان خوفه على قدر الخطر الذي يهدده منه، يخافه وهو في الزورق الصغير أشد من خوفه وهو في السفينة الكبيرة، ويخافه وهو هائج مضطرب أشد من خوفه وهو هادئ مستقر، ويخافه بحسابه الذي لا بد منه، فلا يخافه كأنما كل راكب عليه يغرق لا محالة، ولا يخافه كأنما هو على يقين من نجاة كل راكب عليه.
أما إذا كان خوفه للبحر غير مقترن بتقدير من هذه التقديرات، أو كان خوفه للبحر حين يذكره، وإن لم ينظر إليه، أو كان خوفه كخوف ابن الرومي حين قال:
فتلك هي علامة انحراف، وذلك هو عوج الطبع الذي لا يستقيم بصاحبه على اعتدال.
ويحب الإنسان المال؛ ليقضي به مصالحه ومطالب حياته، فإذا كان حبه إياه لغير مصلحة ولا مطلب، بل إذا كان يجوع وعنده المال فلا يأكل، ويعرى وعنده المال فلا يشتري الكساء، ويمرض وعنده المال فيضن به على ثمن الدواء، فذلك أيضًا هو الانحراف والعوج عن الطبع القويم!
ولا ينتهي التحفظ عند هذا الحد من الموازنة بين أسباب العمل ونتائجه، أو بين دواعيه وغاياته.
بل ينبغي أن نتأنى لنحقق سبب العمل في نفس العامل، أو نحقق أنه يرجع إلى طبعه، ولا يرجع إلى ضغط العرف الغالب وإملاء الجماعة التي يعيش فيها على عقله ومشيئته.
صاحب حقل في حراسة حقله ينقض عليه منسر من مناسر اللصوص؛ ليغتصب ثمراته ويقضي على حياته إذا حال بينه وبين مأربه، فيحمل الرجل سلاحه ويصيب به من يخشى أن يصاب على يديه؛ لأنه يعلم أنه مقتول مغصوب إن لم يقتل الغاصب الباغي عليه.
هذا حادث قتل من حوادث الحراسة المشروعة لا غبار على طبيعة صاحبه، ولا محلَّ للبحث فيها عن موضع العوج والانحراف من سواء الفطرة وبراءة الطوية.
ولكن حوادث الحراسة قد تروي لنا من وقائعها العديدة نبأً غير هذا النبأ، ومما سمعناه من هذه الأنباء — وربما سمعتم مثله — أن عابر سبيل مال على حقل ناضج الثمرات فاقتلع منه ثمرة ليأكها ولعله لم يكن لصًّا يستبيح السرقة، بل أخذ تلك الثمرة لطعامه في ساعة جوعه وعجزه واطمئنانه إلى غفلة الحارس عن صنيعته، فيدركه الحارس فيأمره بأن يعيد الثمرة إلى موضعها من الشجرة التي اقتلعها منها، ويحس الرجل هذا العنت من صاحب الحقل، مع ما به من مرارة الجوع والفاقة، فيتحداه بالرفض ويتلقى منه الوعيد بمثله، فتقع الواقعة وتنتهي إلى مقتل الرجل في عراك لا يدري من البادئ به فيه بالبغي على حياة غريمه.
فهذا — أيضًا — حادث من حوادث الحراسة، جاوز الأمر فيه قدره وخرج عن سوائه، فليس القتل هنا مما يقتضيه رد الثمرة المنزوعة ولا حراسة الثمرات الباقية، ولكنه نزعة من نزعات الشر التي تدخل في حساب علم النفس وتشغل الباحثين فيه عن أسرار الطبائع وأسباب العدوان والجريمة.
ولكننا نخطئ إذا انتهينا بالنظر إلى هذه النهاية ولم نجاوزها إلى ما وراءها، فالقتل هنا جريمة لا تناسُبَ بين بواعثها وغاياتها، وعمل نقيسه بمقياس الأعمال الذي ذكرناه آنفًا فلا يخفى علينا ما فيه من علامات الخلل والانحراف.
ولكن من المسئول عنه في هذا الحادث؟
إن كان شطط الحارس من فعله ومن وحي طبيعته وعقله فهو مختل الطبيعة لا مراء، وعلته علة نفسية، أو عقدة نفسية، مما يصدر عن طبيعة الفرد ويحاسب عليه وحده.
إلا أن العيب هنا قد يسري إليه من ضغط الجماعة ولا ينحصر في دخيلة نفسه بمعزل عن سائر نظراته بين أهله وعشيرته.
وقد يكون من جماعة توحي إليه أن صاحب الحقل الذي تؤخذ ثمرته على مشهد منه ليس برجل، وأنه مستباح الحمى، مبذول العرض، مستحق للمذلة ممن يبغي عليه في عقر داره.
وقد يكون هذا الوحي الاجتماعي أقوى وأفعل في نفسه من زواجر الشريعة وضوابط العقل والروية، فلا يكون مقياس العمل الطائش هنا تناسبًا بين خسارة الثمرة وحمايتها، بل تكون الخسارة المحذورة هنا خسارة السمعة وضياع الحوزة في تلك الثمرة وما هو أكبر منها، ويكون العمل مساويًا للباعث عليه والغاية منه في هذه الحالة، ولكن العقدة النفسية فيه هي عقدة الجماعة التي غلبتها بقايا الغريزة على آداب الحضارة وأوامر العرف والشريعة.
والباحثون في «نفسيات» الجماعة يوغلون في القدم إلى ما وراء هذه الأدوار الاجتماعية التي نعهدها في الحضارات المختلفة.
فالنوع البشري كله قد مرت عليه ألوف السنين قبل عصور الشريعة، وعصور النظام والحضارة، وقد سكنت في قرارة الضمير منه مخاوف لا يحصى لها عدد، ولا يسبر لها غور، ولا تؤمن لها نكسة: مخاوف من السباع العادية، ومخاوف من أرواح الظلام وشياطين المكر والغيلة، ومخاوف من البروق والرعود ومن الأعاصير والسيول، ومخاوف من الحر والبرد ومن العري والجوع ومن المرض والوجع ومن السحر والخديعة، ومخاوف من أبناء نوعه الغرباء عنه ومن أبناء جيرته وأقرب الناس إليه.
وتنقضي على ذلك حقبة بعد حقبة، ودهر بعد دهر، وألوف السنين بعد ألوف السنين، ثم تأتي الحضارة بقوانينها وآدابها فتمحو من هذه المخاوف ظاهرها المكشوف، وتقصر عما دونه في قرارة النفس من فزع مجهول، وحذر كامن، ووهم دخيل، وتتفاوت الحصتان في الجماعات البشرية كما تتفاوتان في قرارة كل نفس من نفوس أبنائها، ونعني بهاتين الحصتين: حصة الظاهر الذي يدركه عمل الحضارة، وحصة الباطن الموغل في القدم من وراء علم الجماعات ومن وراء الحضارات والشرائع والقوانين.
وذلك أخطر ما فيه.
أخطر ما فيه أنه فزع في الظلام المطبق، لا يدرى له سبب، ولا يعرف الخائف المذعور أنه مستقر هناك … حتى يعود ثانية من الظلام مع كل فزع جديد إلى ضوء النهار.
فالنوع البشري كله يحمل ماضيه المفزع في أطواء غرائزه المكنونة، وأعماق ضمائره الخفية، وتأتي أطوار الحضارة فتغشي تلك الأعمال بطبقة من الصقل والسكينة تسترها ما دامت على هينة من أمرها في عهود الدعة والطمأنينة، فإذا عنفت بها الأحداث في عهد من عهود القلق والهياج، وقعت النكسة ووثبت الهمجية من أغوارها فاندفع المتحضرون كما يندفع الهمج المتبربرون، بل كما تندفع سباع الوحش والطير إلى كل نكراء من قبائح الفتك ورذائل السوء، وصنع ابن القرن العشرين ما كان يصنعه أبناء الكهوف والغيران قبل عشرات الألوف من السنين، وما حديث المذابح والفضائح في ثورات هذا الجيل وحروبه بالبعيد.
ففي هذه الثورات والحروب يجاوز عنف الإنسان حدود الباعث عليه والغاية منه، ويتلظى الضمير الإنساني بأجيج من المقت والضغينة وبراكين من الحزازة والعصبية، لا تفسرها الأسباب الحاضرة التي تجري على الألسنة، وإنما تفسرها الغرائز المكتومة التي لا يرتفع خبرها إلى هواجس الذهن فضلًا عن كلمات اللسان.
وتلك هي «العقدة النفسية» الكبرى في طوايا النوع البشري من قديمه إلى حديثه.
وعلامة العقدة النفسية — كما تقدم — أن تتباعد المسافة بين بواعث العمل وغاياته، وبين دواعيه ومسوغاته، وليس أبعد من ذلك في أعمال العنف التي تتمخض عنها العداوة بين الأقربين في الثورات والعداوة بين الغرباء في الحروب.
ولهذا ينقص معنا عدد العقد النفسية كثيرًا كلما رجعنا إلى تلك العقدة النفسية الكبرى التي كمنت في أعماق النوع البشري كله؛ فإن أكثر العقد في نفوس الأفراد إنما هي نكسة يسهل ظهورها أو يصعب مع الزمن على حسب الظروف، وإنما يسهل ظهور تلك النكسة كلما رقت على الطبائع قشور الحضارة فلم تتغلغل إلى الأعماق.
إن العقدة النفسية الكبرى في أعماق النوع البشري قد تتلخص في كلمتين؛ وهما: المخاوف المجهولة.
وإن الشفاء من تلك العقدة يتلخص في كلمتين أخريين؛ وهما: الثقة البصيرة.
والثقة البصيرة في كلمة واحدة هي «الإيمان»؛ لأنه أمان وائتمان.
أو نعيد القول بعبارة أخرى فنقول: إن الإيمان هو الدين القويم.
ولقد يعود الأمان من تلك المخاوف المكبوتة إلى عامل السلطان في يد القبيلة، أو يد العشيرة، أو يد الأولياء على الجماعات والشعوب.
ولكن السلطان الإنساني قد يلوح لبني الإنسان كأنه كبت فوق كبت، وتخويف فوق تخويف، وقد يتمرد عليه المتمرد كلما خلا إلى هواه وابتعد به المكان عن الرقابة، وإنما يأتي الإيمان — أو يأتي الأمان — من سلطان فوق سلطان الإنسان، يدين به الخاضع له؛ لأنه مطمئن إليه، سابق لخوف العقاب والخضوع للسلطان.
والذي نحسه ونتبينه من تاريخ هذا النوع البشري أن تربيته التي لا تربية له أصلح منها وأجدى في رياضة تلك الغرائز الضارية إنما هي تربية الدين، وإنما تترقى به تلك التربية كلما ترقت في طريق الثقة البصيرة، وهي هي طريق الإيمان.
من هذه الوجهة تتصل دراسات علم النفس بالدين كافة في نفس الإنسان الفرد ونفس الجماعة العامة، ولا سيما الدين الذي تهيأت له النفوس بعد التقدم في معارج الحضارة؛ فإن هذا الدين يلتقي بالنوع الإنساني في إبان حاجته إليه واستعداده لتلقيه، ويلتقي به ليطب لدائه الأكبر؛ داء المخاوف المبهمة: يطب له بدواء الثقة واليقين البصير.
ونخص الدين الإسلامي في هذا المقام بتوكيد العلاقة بينه وبين الدراسات النفسية وما تهتدي إليه مذاهبها ومدارسها من ضروب الوقاية والرياضة؛ لأننا — مع الإيمان بالإسلام — نرى من الوجهة العلمية أن العقيدة هي التي تعصم الإنسان من أكبر دواعي المرض النفساني، وهو باتفاق المذاهب يرجع إلى علة واحدة محيطة بجميع العلل، وهي علة الانقسام الداخلي، أو علة التصدع التي توزع النفس شيعًا بين النقائض والأضداد، وتفقدها الوسيلة التي ترأب بها صدوعها وتعيد بها الوئام والألفة بين مقاصدها ونزعاتها.
فليس أخطر على الإنسان الفرد من توزيع الفكر والنية بين النقائض المختلفة، ومن هذا التوزيع الأليم ينساق الفكر إلى بلباله المريض، ويقع في الداء المعروف بداء الفصام، أو انقسام الشخصية …
ويقترن بهذا الخطر، وقد يكون من أسبابه، داء الحيرة بين حياة الروح وحياة الجسد، وبين تغليب حياة الروح بالجور على المتعة الحسية، وتغليب حياة الجسد بالاسترسال مع الشهوات، والإقبال على اللذات الحيوانية دون غيرها، ويتحقق الخطر على الطبع السليم عند الوقوف في مفترق الطريق بين النزعتين المتدابرتين كأنهما عدوان متقاتلان، ينتصر أحدهما بمقدار ما يصيب الآخر من الخذلان والهزيمة.
وأجمع من هذين الخطرين خطر انقسام الوجود كله بين عالم يسمى «عالم الملكوت»، وعالم يسمى «عالم الشيطان» أو «عالم الهاوية»، فإن صراع النفس بين هذين العالمين يقضي على الإنسان أن يكون ملكًا سماويًّا، أو شيطانًا مريدًا من شياطين الهاوية، ويجعل الضمير ساحة حرب لا تهدأ بين عدوين لا يتفقان ولا يكفان عن العراك، وإذا اتفقا فإنما هي خلسة في انتظار الوثبة بعد حين.
ويلحق بهذه الأخطار العامة خطر الانقسام في النوع الإنساني بين سلالة يختارها الله، وسلالة ينبذها ولا يتقبل منها ما يتقبله من أخواتها في الإنسانية، وقد ينقسم النوع الإنساني مثل هذا الانقسام بين قسم ملعون بالوراثة وقسم مغفور له بالكفارة من غير عمله.
وكل أولئك باب من أبواب الفتنة، مصيره إلى الفصام في نفس الفرد، والفصام في نفس الجماعة، أو الفصام في بديهة النوع كله، كما تستقر في العصبيات الموزعة بين شعوبه وأجياله، وتلك هي فتنة الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، والظالمين الذين قال لنا الكتاب الحكيم: إنهم في شقاق بعيد.
وفي الإسلام عصمة من كل داء من أدواء هذا الفصام الذي يمزق طوية الفرد، أو يمزق صورة الوجود كله بين خصومات الفكر وخصومات العقيدة وخصومات المثل العليا في كل قبلة تتجه إليها.
فليس في الإسلام عداء بين الروح والجسد، وليس للجسد فيه محنة تمتحنه بالصراع بين الطيبات من متعة الروح أو متعة الجسد: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
وليس في الوجود عالم لله وعالم للشيطان، أو عالم للسماء وعالم للهاوية: بَل للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا، وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا، مَّا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
ومن فاتحة الكتاب يعلم المسلم أن الله رب العالمين، ويعلم من كل ما ورد في كتابه عن هذا النوع الإنساني أنه أسرة واحدة لا فضل فيها لأحد على أحد بسلالته أو بنسبه أو بلونه إلا بالتقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
فليس في العقيدة الإسلامية إنسان متصدع يتوزع بين نوازع الروح ونوازع الجسد، وليس فيه ضمير متصدع يتوزع بين الدنيا والآخرة، وليس فيه عالم متصدع يتوزع بين السماء والهاوية، ولا خليقة متصدعة تتوزع بين اللعنة الأبدية أو المغفرة الأبدية.
وفي عقيدته ما يعصم من كل فصام، وليس في عقيدته منفذ لفصام تتسرب منه أدواء النفوس، وكل أدواء النفوس فإنما يرجع إلى الشقاق البعيد في ضمائرِ مرضى القلوب.
وفي اسم الإسلام دليل على ما في العقيدة الإسلامية من دعائمِ الثقة واليقين.
فالإسلام تسليم وسلام، ومن تمكن في قلبه فهو أمان وإيمان، وقد كان الأعراب مثلًا للإنسان في جاهليته الأولى وهو يخطو خطواته الطوال من مخاوف الجاهلية إلى يقين البصيرة، وفي هذا المعنى يقول الكتاب الكريم: قالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
وما أوضح الفرق بين هذه المناهج الثلاثة في تاريخ الإنسان: جاهلية، وتسليم، وإيمان!
وصفوة القول في هذه الصلة بين عالم النفس والدين الإسلامي أن دراسات العلماء تجمع الأدواء النفسية كلها في داء واحد، هو داء الضمير المدخول، أو الضمير المنقسم على نفسه، وإنها تجمع الطب النفساني كله في دواء واحد، هو دواء اليقين والإيمان، وذلك دواء عند الدين وليس منه عند العلم غير القليل؛ لأن العلم سبيل ما يعرف ولا حاجة به إلى ثقة وتسليم، وإنما يؤمن الإنسان ليعرف كيف يثق وكيف يبصر موئل الأمان، ثم يركن إليه ركونَ العارف الآمن أو ركون الإسلام والتسليم.
قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه: «هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان … أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه حتى يعرفها ويعوذ إليها … هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس؛ حتى يعود إليها لمعانُها الروحاني؟»
حار الفيلسوف في أوروبا وأظهر عجزه مع قوة العلم، فأين الدواء؟ في الرجوع إلى الدين: «الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها …»
صدقت هذه النفس الزكية بما ألهمت من هداية العلم، ومن وحي العقيدة الإلهية، فإذا صدئت نفس الإنسان بغواشي الأهواء والشكوك فلا جلاء لها غير ثقة الإيمان، ولا إيمان أسلم لها من إيمان الإسلام.»