العُلومُ الطبيعيَّة وَمَسائِل العَقِيدَة
في أي شيء من أمور العقل والمعرفة نرجع إلى العالم الطبيعي أو إلى العلماء المشتغلين بمباحث المعرفة التي اشتهرت باسم العلوم الطبيعية؟
لو سئل هذا السؤال في أوائل القرن الثامن عشر لكان جوابه السريع: في كل شيء!
وقد كان هذا الجواب السريع هو الجواب المعقول في ذلك الزمن؛ لأن العالمَ الطبيعيَّ حَلَّ يومئذ محلَّ عالمِ اللاهوت وعالم المنطق، وكان اللاهوتيون والمنطقيون يشتغلون بكل بحث ويجيبون عن كل سؤال، ثم ظهرت أوائل العلم التجريبي فعرف الناس منها شوائب الخرافات التي أحاطت بأوهام اللاهوتيين في القرون الوسطى، وعرفوا من التجربة كذلك أن القضايا المنطقية لا تغني عن تحقيق الفكرة باستقراء الواقع، فانتقلت وظيفة اللاهوتيين والمنطقيين جميعًا إلى العلماء التجريبيين، وأصبح العالم الطبيعي هو المرجع الأول والأخير لكل باحث عن أمر من أمور العقل والمعرفة؛ لأنه لا علم بغير تجربة، ولا تجربة عند أحد غير أصحاب المعامل، ولا معامل عند أحد غير أصحاب الكيمياء والفيزياء، وأصحاب المجاهر والمراصد، من الفلكيين والرياضيين، الذين يقرنون مباحث الضوء وعناصر المادة بمباحث الكواكب والفضاء.
لا تسأل أحدًا غير العالم الطبيعي عن فكرة أو عقيدة أو رأي في الأخلاق والشرائع والقوانين، فلا علم عند أولئك الذين كانوا يحتكرون علوم الدين والدنيا منذ أيام القرون الوسطى، ولا حدود للعلم الطبيعي الذي حل بعدهم في محل معرفتهم المطلقة بغير حدود.
ومضى القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فظهرت الحدود التي لم تكن ظاهرة ولا مقدورة، ولا تزال تظهر مع اتساع المعرفة في كل سبيل.
وظهرت هذه الحدود من جانبين لا من جانب واحد: جانب العلم الطبيعي، وجانب العلماء الطبيعيين.
فمن جانب العلم الطبيعي ظهرت الحقيقة «العلمية» التي لا شك فيها؛ وهي أن العلوم الطبيعية كلها وصفية تقف عند تسجيل الوقائع والتجارب كما تتمثل لها، وليس من شأنها ولا في قدرتها أن تنفذ إلى حقائق الأشياء وراء أعراضها وظواهرها، وكل ما جاوز هذه الأعراض والظواهر فهو فروض كفروض الفلاسفة النظريين أو فروض المنطقيين الأولين.
أما حدود العلماء الطبيعيين فقد تبين منها بعد حين ما كان ينبغي أن يتبين لأول وهلة: تبين منها أن عقول العلماء الطبيعيين تتفاوت من غاية الضيق إلى غاية السعة، فليست هذه العقول سواءً في فهم الحقائق العلمية الطبيعية نفسها ولا في الحكم عليها واستخلاص النتائج منها، وليس الرأي يقول به العالم الطبيعي هو الأخير حتمًا في زمانه وفي حدود علمه؛ لأن عالمًا طبيعيًّا آخر قد يكون أقدر منه عقلًا وأوفر منه علمًا وأوسع منه تجربة، فلا يقره على رأيه ولا ينتهي إلى نتيجته.
وتبين منها أيضًا ما كان ينبغي أن يتبين من بداءة الطريق، وهو اختلاف المزايا العقلية بين المشتغلين بدراسات المعرفة على عمومها.
فليست كفايات العقول البشرية محصورة في كفاية التجربة الطبيعية؛ لأن العالم الطبيعي قد ينتهي إلى الغاية من القدرة على صدق الملاحظة ودقة التجربة وأمانة التسجيل والاستقصاء وحسن الاستنتاج من الوقائع والمقدمات التي بين يديه، وهي الصفات التي يتحقق بها صلاحه للاشتغال بتجارب العلوم الكيميائية والفيزيائية والفلكية وما يتبعها، ولكنه يبقى بعد ذلك دون الغاية من ملكة التصور وملكة النظر أو ملكة «الرؤيا» التي تتقدم وراء الواقع إلى أمد بعيد، ولا بد من التقدم وراء الواقع في كل حال لتحقيق الغاية من الواقع إلى أقصى حدودها، فضلًا عن الخوض في مجاهل الفرض والخيال.
ولقد كان أناس من العلماء الطبيعيين يقرون أن طيران جسم أثقل من الهواء مستحيل، وظلوا على هذا «القرار» إلى أوائل القرن العشرين، وكانوا يعتمدون في «قرارهم» هذا على العلم الطبيعي كما فهموه، وهم مخطئون في فهم العلم الطبيعي بلا خلاف، فضلًا عن خطأ التصور وخطأ «الرؤيا» التي لا تحسب من خصائص العلماء الطبيعيين.
وقد قصرت عقول أولئك العلماء هذا القصور عن التصور الصحيح في حقيقة من حقائق العلم الطبيعي، بل حقيقة من حقائق الواقع المشهود كما ثبت بعد ذلك.
ولكن كاتبًا قصصيًّا سبق هؤلاء العلماء إلى «تصور» الحقيقة العلمية في أمور الطيران وفي أمور الغوص تحت الماء، فتصور القذيفة الجوية، وتصور السفر إلى الكواكب، وتصور الغواصة تحت أعمق الأعماق، وكانت له قدرة «التصور العلمي» الصحيح قبل مائة سنة، يوم كانت ممكنات هذا التصور ضربًا من المستحيل في عقول أناس من ثقات العلماء الطبيعيين.
ذلك هو القصاص «جول فيرن» الذي ولد سنة ١٨٢٨ ومات سنة ١٩٠٥ قبل أن يشهد عجيبة واحدة من عجائب الحديد الذي يطير في الهواء وعجائب القذيفة التي تطير وراء الهواء إلى قمر السماء.
وأسبق من «جول فيرن» قصاص ألف ليلة الذي تصور أن طيران الجسم بالدفع الآلي ممكن ولو كان أثقل من الهواء، فقص لنا قصته المشهورة عن حصان الأبنوس ولوالبه ودواليبه، وكان تصوره «علميًّا» صحيحًا، وإن لم يكن هذا «التصور» عند جلة العلماء غير ضرب من الخيال.
ولقد عاب العلماء الطبيعيون على الفلسفة القديمة والحديثة تصوراتِها التي كانوا يستخفون بها ولا يعدونها من العلم في شيء، ولكنهم «جربوا» التجربة فعلموا أنها لا تغنيهم عن التصور الفلسفي قبل وبعد الوصول معه إلى النهاية، و«جربوا» أنفسهم فعلموا أنهم لا يقلون «شطحًا» عن فلاسفة الأمس واليوم كلما احتاجوا إلى الفروض ولو كانت فروضًا عن أمور كالشمس في وضح النهار.
ولا نذكر الشمس مثلًا بل نذكرها واقعًا مقصودًا حين نتكلم عن فروض العلماء الكثيرة حول نشأة الشمس أو نشأة المنظومة الشمسية.
فمنهم من يفرض أن المنظومة الشمسية كانت غبارًا ملتهبًا فتفرقت فانتثرت أجزاؤها هنا وهناك، ثم استدار كل جزء منها؛ ليدور في فلكه بفعل الدفع من ناحية والجاذبية من ناحية أخرى.
ومنهم من يفرض أن المنظومة الشمسية كانت نجمًا واحدًا كبيرًا جدًّا، فتفلق من اختلاف الحرارة بين جوفه وسطحه، وتناثرت شظاياه ثم عادت إلى الانتظام في مداراتها حول مركزها، مدفوعة إلى الفضاء تارة ومجذوبة إلى المركز تارة أخرى.
ومنهم من يفرض أن هذه المنظومة نشأت من اصطدام نجمين ولم تنشأ من تفلق نجم واحد كما تقدم.
ومنهم من يقول: بل نشأت من مرور نجم آخر على مقربة من فلك الشمس، لم يصدمها، ولكنه اجتذب منها واجتذبت منه، فكانت منهما هذه الشظايا التي تألفت منها السيارات، وخرجت منها المذنبات والنجيمات.
ومنهم من يقول غير ذلك كثيرًا من الأقاويل، وكل قول منها قابل للنقض بسبب من أسباب العلم الطبيعي الذي تخصص له أصحاب تلك الفروض، وكلهم بعد هذه الفروض المرفوضة يشعرون بحاجتهم إليها وإلى أمثالها، ويدركون بعد «التجربة» أن العقل الإنساني يستمد المعرفة من «التصور» ومن التجارب الحسية، ومن أحكام الرياضة التي لا يحسبونها تصورًا محضًا ولا تجربة محضًا، ولكنها قوام بين هذا وذاك، ومن هذا وذاك.
ونعيد السؤال الآن: في أي شيء من أمور العقل والمعرفة نرجع إلى العلماء المشتغلين بمباحث العلوم التي عرفت باسم العلوم الطبيعية؟
فإذا كان الجواب في أوائل القرن الثامن عشر: نرجع إليهم في كل شيء، فالجواب بعد منتصف القرن العشرين على نقيض ذلك؛ أننا لا نرجع إليهم في كل شيء …
أو نتوسع بعضَ التوسع المعقول، فنقول: إننا نرجع إليهم في كل شيء ولكن بشرط واحد؛ وهو أنهم يسألون عن شئون العلم الطبيعي كما أثبتوها بالتجربة والبينة المعقولة، ثم يسألون في كل شيء غير ذلك سؤالنا للباحثين والمفكرين على اختلاف أبواب المعرفة التي يطرقونها ويسلكون منافذها، فإذا أجابوا في غير مجالهم فحقهم في الاستماع إليهم كحق كل مجيب باسم الفكر والفهم والدراية الإنسانية، وليس حقهم هنا بحق «الوحي» المنزل، والقول الذي تقوله حزامِ ولا يقوله أحد غير حزامِ!
وجوابهم عن مسائل العقائد و«النظريات» الغيبية على التخصيص كجوابهم فيما دون ذلك عن مسائل التجربة المقررة، فهو جواب صاحب فكر ورأي وليس بجواب «العلم» الذي يحسب كل ما عداه جهلًا غير مقبول.
ويحق للعالم الطبيعي أن يقرر لنا عن شئون العقائد ما هو الموافق المقرر، أو حكم القياس الصحيح.
وعلينا إذن أن نستمع لحكمه الواقعي أو حكمه القياسي، ولكن مع تعليق الفصل الأخير …
نعم، مع تعليق الفصل الأخير إلى أجله المقدور؛ مخافةَ أن تعاد إلينا قصة الطيران المستحيل بجسم أثقل من الهواء، ثم لا تنقضي سنوات حتى يمتلئ الفضاء من الأرض إلى كواكب السماء بأجسام كلها أثقل من الهواء.