الله في العقيدة الإسلامية وفي أقوال علماء المقارنة بين الأديان
علم «المقارنة بين الأديان» يسمى علمًا مع الحيطة المتفاهم عليها بين الباحثين والقراء؛ لأنه من المعارف التي يقيمها المشتغلون به على أسس مختلفة كاختلافهم في العقيدة الدينية وفي النظر إليها.
فمن علمائه من يؤمن بعقيدة يصدقها ولا يصدق غيرها؛ فهو يبتدئ البحث بحكم قاطع على العقائد الأخرى يجزم بتكذيبها قبل الموازنة العلمية بين أدلة التصديق وأدلة التكذيب.
ومن علمائه من يؤمن بعقيدته ويؤمن بصدق العقائد الأخرى في أوقاتها ومناسباتها، ويرجع بالخطأ والنقص فيها إلى انتهاء زمانها أو إلى عوامل التشويه والتبديل التي طرأت عليها، فهذا العالم يواجه البحث مفتوح العينين مستعدًّا لقبول الحسنة والسيئة، ولكنه يرتبط بنتيجة سابقة لا يسمح للمقدمات أن تذهب به إلى نتيجة غيرها.
ومن علماء المقارنة بين الأديان من يؤمن بالغيب ويؤمن بالإله، ولكنه يحكم على الأديان كأنها أعمال إنسانية تقاس بمقاييس النظر إلى الرسل والأنبياء وإلى التابعين لهم من الأمم والجماعات أو الآحاد؛ فهو يحفظ لموضوع البحث حرمته وقداسته، ويقبل التفصيلات بعد ذلك أو يرفضها على حسب أسانيدها الإنسانية وظروفها الواقعة، فيعالجها تارة بمقاييس الغيب المجهول وتارة أخرى بمقاييس الواقع المشهود التي تتردد بين الأنباء والأفكار.
ومن علماء المقارنة بين الأديان من ينكر الأديان أصلًا، ولكنه يؤمن بصلاحها لسياسة الأمم وتعزية النفوس، ومنهم من ينكرها أصلًا وينكر فائدتها وصلاحها، بل يرى أنها خدعة مقصودة وغير مقصودة يخترعها الرؤساء وتمالئهم على اختراعها البديهة الشعبية فلا تستحق بعد فوات الخدعة غير التفنيد والتجريح!
وهؤلاء المنكرون جميعًا يبحثون العقيدة غير معتقدين، فيخفى عليهم جوهر العقيدة في صميمه ولا يتأتى لهم أن يحكموا على شيء يجهلونه أو إحساس لا يشعرون به حكمًا يصدر عن فهم واع وإدراك محيط؛ فإنهم كمن يحكم على الكائن الحي بعد وصوله إلى مائدة التشريح مفقودة الحياة، فلا يخلو حكمهم من النقص الذي يتعرض له كل حكم على مجهول غير محسوس به على وجهه الذي يتم به وجوده في عالم العمل والحياة.
ومن أولئك الباحثين من يقارب موضوعه كما يقارب الشاعر موضوع ملحمة تاريخية يؤمن بحدوثها إيمانًا لا شك فيه، ولكنه يتصوره كما يتصور ملاحم البطولة بين المجاز والخيال والواقع، فلا يعرضها ليقول للقارئ هل يؤمن بها أو يرفضها، ولكنه يعرضها ليشهد القارئ ما فيها من بواعثِ الروعةِ والجمال وما تحدثه في الخواطر من دواعي الشعور والتأثير، وهؤلاء الباحثون يقرأ لهم القارئ فلا يحاسبهم بحساب الدين ولا بحساب العلم، وإنما يحاسبهم بحساب الأسلوب أو بحساب العرض الفني، ولا يعطيهم من العناية فوق هذا المقدار.
وفي هذا الكتاب تتابعت تراجم أرباب الديانات المجوسية والصينية واليابانية، ثم انتهى الكتاب بالكلام على «الله» بعد الكلام على «يهوا» كما يصفه كتاب العهد القديم، فكانت فاتحة الكلام على الإله في العقيدة الإسلامية أن الاعتقاد به غير مستعار من ديانات الأمم الأخرى، وأن الدعوة إلى الإيمان بالله كان يمكن أن تظهر حيث ظهرت ولو لم تدخل الجزيرة العربية عبادة من خارجها؛ لأن وحدانية الله في الإسلام لم يسبقها مثيل لها في صفة الوحدانية التي لا هوادة فيها ولا في غيرها من جملة الصفات المستفادة من أسماء الله الحسنى.
ولا حاجة إلى بيان الخلاف بين المفهوم من صفات الله في عقيدة المؤمن المسلم وبين المفهوم من هذه الصفات في هذا الكتاب، ولكن المؤمن المسلم لا ينتظر من غير المسلمين ولا من الكاتبين بهذا الأسلوب الذي يسوق الدراسات مساق القصة فكرة عن «الله» هي أقرب إلى «الاحترام» من فكرة الله في كتاب تراجم الأرباب.
إن «الله» الذي يدين به المسلمون لم يخذلهم في حياة البادية ولم يتركهم في حياة الحضارة الممتزجة من بقايا الدول الفارسية والبيزنطية التي انتقل إليها المسلمون بعد انتشار الإسلام في الأقطار الآسيوية والأفريقية، وقد وصل إلى أبعد أقطار العالم المعمور في هذه القارات قبل انتهاء المائة الثانية من تاريخ قيام الدعوة المحمدية.
وفي خلال هذه الرحلات المتباعدة لقي المسلمون عقيدة الفلسفة اليونانية القديمة، وسمعوا بإله يسميه أرسطو: السبب الأول! وتقول الأفلاطونية الحديثة: إنه يكل تدبير العالم الأرضي إلى فيض بعد فيض من خلائقه العليا حتى ينتهي إلى ما دون فلك القمر فيتصل بعالم الفساد على بعد ويمهل عباده على الأرض إلى حين، ريثما تعود عقولهم الهيولانية إلى الاتصال — بعد الجهاد — بالعقل الأول مصدر هذه الفيوضات.
ولو أن معبودًا آخر فهم المفكرون من عباده أنه لا يعدو أن يكون «سببًا أول» أو علة رياضية بعيدة عن هذه الحياة الإنسانية لما بقيت لعبادته بقية في عقول قراء العلم والفلسفة، ولأصابه ما أصاب المعبودات المهجورة من «الأنيميا» القاتلة للأرباب الباطلة على حد تعبير الكتاب.
ولكن الفلسفة اليونانية لم تزعزع عقيدة المسلم المفكر في «الله»، بل استطاع الضمير الإسلامي أن يخرج لتلك الفلسفة أندادًا لها من المفكرين على طريقة الإمام الغزالي: «برأس فيلسوف، وقلب ناسك.» أو على طريقة الإمام الأشعري: بتسليم صاحب البحث، وبحث صاحب التسليم، فخرج الإيمان بالله وصفاته المتعددة سليمًا، منزه الوحدانية، بعيدًا من شبهات الفلاسفة وأتباع الزندقة المثنوية.
ويتخلل الكتاب خلط كثير يمتزج بالسخافة أحيانًا كلما حاول تصوير الظروف الطبيعية والاجتماعية التي يفسر بها ثبات المسلم على الإيمان بإله أحد لمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ. ولكنه يعود حينًا بعد حين إلى عناصرَ قويةٍ تكمن في ذلك الإيمان وتهيئ له أسباب النجاة من الشكوك والبدع التي لا تسوقها تقلبات الزمن وعوارض الاحتكاك بالحضارات الأجنبية، وهذه العناصر القوية هي التي أنجدته مرة أخرى بعد محنة الفلسفة اليونانية عندما واجهته العصور المتأخرة بمحنة كبرى لا تُذْكَرُ محنة الفلسفة اليونانية بالقياس إليها؛ ففي هذه العصور المتأخرة استطاع الضمير الإسلامي أن يخرج للمحنة الجديدة أندادًا لها من المفكرين المؤمنين خلفاء الغزالي والأشعري وورثة الحكمة والتصوف وأعلام المحافظة والإصلاح؛ «وأعظمهم الإمام المصري الشيخ محمد عبده؛ فإنه حفظ العقيدة الموروثة دون أن يمس بها، وجدد الإيمان بإله الإسلام السرمدي بلا أول ولا آخر، فردًا لا مثيل له في قدرته وكماله، حيًّا عالمًا مريدًا سميعًا متكلمًا بصيرًا، يخيل إلى من ينظر إلى هذه الصفات لأول وهلة أنها حكاية معادة من بقايا الماضي، لولا أن الشيخ محمد عبده ينفض عن الدين ما علق به من جمود القدرية، ويقرر نصيب الإنسان من التبعة وواجبه في إصلاح العالم، معتمدًا على عون الله له في إقامة النظام الاجتماعي الصالح، والقيم الأخلاقية الملائمة لذلك النظام.»
•••
ومن متاعب علماء المقارنة بين الأديان ممن يعولون أولًا وآخرًا على طبيعة الأرض والسكان في تعليل العقائد أن يعللوا هذه القوة — قوة العقيدة الإلهية في الإسلام — بعلة طبيعية يتواضعون عليها ويطبقونها على سائر العقائد، إذا كان المسلمون قد انتشروا في بقاع كثيرة بين أمم مختلفة في أزمنة متفاوتة فلا تصلح العلل المتفرقة بين هذه البقاع والأزمنة لتعليل عقيدة واحدة، ولا معنى للتفسير إذا اشتركت جميع هذه العلل في أثر واحد …
ولكنهم — على وضوح الخطأ في الاستناد إلى سبب طبيعي واحد لتفسير هذه الظواهر المتعددة — يتلاقون عند وجهة يكررونها على نحو متشابه، ولا يقع الخلاف فيها كثيرًا بين مدارسهم المتناقضة، ومنها المدارس التي تعطي الأديان حقها من أدب الرعاية والاحترام، والمدارس التي تستخف بأسبابها ونتائجها، ولا تتكلف لها ما ينبغي لموضوعها من التثبت والإمعان في المراجعة والتحقيق.
تلك الوجهة الواحدة هي غلبة العوامل «الجسدية» على عقائد الديانة الإسلامية، وبرهان هذه الفلسفة الحسية عندهم هو الاعتماد على السيف في نشر الدعوة وأوصاف النعيم السماوي في الدار الآخرة.
وقد يكفي لإسقاط هذا الرأي ما ألمعنا إليه من استحالة تفسير العوامل المتناقضة بعلة طبيعية واحدة، أو يكفي لإسقاطه إحصاء المسلمين والمقابلة بين عددهم في البلاد التي فتحت بالسيف، والبلاد التي لم تحارب المسلمين ولم يحاربوها، أو إحصاء عدد الداخلين في الإسلام على أثر الفتح وعدد الداخلين فيه مختارين بعد ذلك بعصور متطاولة، ولكننا نكتب هذا المقال بين معالم شهر رمضان ونقنع منه بصفة واحدة تدل على حكم الإسلام في مسائل الحس وواجب المسلم نحوها، ولا تحتاج إلى دلالة أخرى لتقرير موقف الإسلام بين الحياة الروحية، والحياة الجسدية، وتلك الصفة هي تخصيص شهر كامل من شهور السنة، تقوم فيه حياة المسلم خلال هذا الشهر على حكم شهوات الحس وإخضاعها للإرادة في أقوى مطالب الجسد من طعام ومتاع، وهي فريضة تعلِّم المسلم واجبه في سائر أيام حياته، وتلهمه أنه صاحب ضمير يملك زمام نفسه، ويأخذ من الحس بما يشاء الإنسان العاقل المريد.
وكل فريضة من فرائض الإسلام هي في الواقع صورة أخرى من صور هذه الرياضة العامة في جميع أوقات الحياة، فالمسلم لا يقف بين يدي الله خمس مرات في اليوم ليكون «مخلوقًا حسيًّا» مستغرقًا في مطالبه الجسدية، ولا تجب عليه الزكاة لأنه «مخلوق حسي» ينقاد لمطامع النفس وشهوات الجسد، وليس الحج بواجب عليه لأنه «مخلوق حسي» يستسلم للدعة، ويطمئن إلى الراحة، ويحجم عن مشقة السفر وبذل المال والتضحية بشيء منه وهو مرتحل أو مقيم، بل هو لا يشهد بوحدانية الله ليشرك معبودًا آخر مع الله يتمثل في عبادة الدنيا والاستسلام لغوايتها على وجه من الوجوه.
إنما العقيدة الإلهية في الإسلام عقيدة حسية روحية كما ينبغي أن تكون كل عقيدة يؤمن بها كائن حي عاقل له جسد وروح.
والله خالق الحياتين ومانح السعادتين في الدارين، فلا ينبغي أن يكون قوام عبادته مسخ الجسد وازدراء الدنيا، ولا أن يكون قوام عبادته تسليم الدنيا للشيطان والابتعاد منها، كأنها من عمل عدو الله، وليست من عمل الله ولا من نعمه التي ارتضاها لعباده بتدبيره وهداه.
•••
ونختم هذا المقال كما بدأناه فنعيد في ختامه أن علم «المقارنة بين الأديان» يسمى علمًا مع الحيطة … لأنه معارف شخصية يقيمها المشتغلون به على أسس مختلفة، ولكننا نعيده لنضيف إليه شاهدًا من الشواهد «المحسوسة» على وجوب الحيطة في تناول آراء الباحثين في هذا العلم؛ فإن بها لنقصًا يتبين للناظر فيها كلما قابل بينها وبين الحقائق الثابتة عن تاريخ الإسلام، فلا مناص من تغييرها أو تغيير التاريخ الثابت الذي لا ينكرونه إذا عادوا إليه بالتمحيص النزيه.
إذا صدق علم المقارنة بين الأديان على أسس الأسباب الطبيعية التي تفهمها مدرسة التعليل الطبيعي، وجب أن يكون اعتقاد المسلم بالله كالاعتقاد «بشيخ عربي» كبير تضاعفت قواه الحسية على النسبة التي تكون بين رئيس قبيلة وبين رئيس الخلائق جميعًا، وصاحب الأمر والنهي في السماوات والأرضين.
ولكن علم المقارنة بين الأديان لا يصدق الحكم في هذه القضية؛ لأن «الله» في عقيدة المسلم ينسخ آداب الشيخ العربي القديم؛ وأولها: العصبية وإيثار الآل والبنين. وأين يجد الباحثون أثرًا من آثار الشيخ العربي في معبود سرمدي لم يلد ولم يولد ولا فضل لأحد من العالمين عنده بغير التقوى، وليس يحب العدوان والمعتدين ولا يأمر بغير البر والإحسان؟
فإن دليل المقارنين بين الأديان ليتخبط في طريق مضلة لا تهديه إلى شيخ ولا إلى شيء؛ لأنه يولِّي وجهه إلى قبلة غير القبلة وعلى سبيل غير السبيل، فإذا أدار وجهه عنها فأينما يولِّ فَثَمَّ وجهُ الله.