أقوالٌ وأقَاوِيلُ
لعالم النشر في البلاد الأوروبية عادات متفق عليها، تتكرر في كل فترة من فترات الثقافة العامة على نمط يناسبها.
وإحدى هذه العادات التي لاحظناها غير مرة في هذا الباب أن مواسمهم «الطباعية» لا تمر في سنة من السنين دون أن تظهر في الموسم بعد الموسم منها كتب عدة عن الإسلام والبلاد الإسلامية.
وقد تلحق بهذه العادة عادة أخرى تلاحظ في الكتب التي لم يخصصها المؤلفون بالموضوعات الإسلامية ولم يقصروها عليها؛ فقد يصدر الكتاب عن موضوع في موضوعات التواريخ والرحلات، أو موضوع شائع يتعلق بالحياة البشرية من أدوارها المختلفة، فلا ينسى مؤلفه أن يتناول شيئًا من الدراسات الإسلامية من جانبها الفكري أو جانبها التاريخي أو جانبها السياسي، أو جوانب الأخلاق والمصالح الاجتماعية، فلا ينفصل موضوع الإسلام عن موضوع التاريخ الإنساني، ولا سيما التاريخ المتصل بتطور العقائد والنظم الاجتماعية.
وبين يدي الآن خمسة كتب وصلت في بريد واحد، أربعة منها تتناول الكلام عن الإسلام والمسلمين من بعض النواحي العامة أو الشخصية، والخامس منها قد خلا من الكلام عن الأديان عامة، فلا ذكر فيها للإسلام ولا للمسيحية ولا لليهودية أو البوذية؛ لأنه بحث مقصور على العلاقة بين الكيمياء والحياة الحيوانية.
تكلم هابولد عن كل طريق من طرق الصوفية المشهورة في عقائد الهنود والفرس والمسيحيين الأقدمين والمحدثين والإسرائيليين في نشأتهم بفلسطين على الخصوص، وأفرد للصوفية الإسلامية فصلًا كبيرًا معززًا بالشواهد من الشعر والنثر في كتب الأقطاب البارزين من شيوخ الطريق بين الشعوب الإسلامية، فذكر جلال الدين الرومي والجامي وابن الفارض والعطار والحلاج والبسطامي، وغيرهم ممن لم يشتهروا في الشرق والغرب مثلَ شهرتِهم، وذكر حجة الإسلام الغزالي؛ ليسند إليه ميزان الاعتدال بين المذاهب الصوفية التي يرضاها أهل السنة وبين المذاهب التي جاوزت حَدَّ الاعتدال وبلغت من الشطط في القول بالحلول ووحدة الوجود حدًّا لا ترضاه الجلة من أئمة الإسلام …
وأنصف المؤلف إذ قال: إن الإسلام أشد الديانات الكبرى حرصًا على تنزيه الذات الإلهية من عوارض البشرية والتجسيم، سواء ظهرت في القول بامتزاج الإنسان بالإله، أو امتزاج الإله بالإنسان، أو ظهرت فيما يسمونه بالتجلي، ويعنون به رؤية «الحق» في صورة إنسان أو مخلوق من المخلوقات.
وقسطاس الاعتدال كما شرحه الإمام الغزالي في مشكاة الأنوار: أن العابد يفنى في حب الله وينسى أنه فان؛ لأنه ينسى ذاته، ولا يذكر وجوده الباطل إلى جانب الوجود السرمدي الحق في الذات الإلهية، فليس هناك وحدة أو حلول أو امتزاج بين ذات الخالق وذات المخلوق، وإنما هناك الحب الذي يبطل «الأنانية» كما تبطل الأثرة في نفس العاشق؛ حبًّا للمعشوق، ولكن مع الفارق الشاسع بين العشق الإلهي وبين عشق الإنسان للإنسان.
ولو أنه قارن بين السلطان والإمبراطور — أيِّ سلطانٍ وأيِّ إمبراطورٍ — لعلم يقينًا أن الإمبراطور كان يأبى على المسيحي الذي يخالف مذهبه أن يعيش في ظله آمنًا على حياته مساويًا لأخيه المسيحي في حقوقه وحرية اعتقاده، ولم تكن عنده طبقة أولى وطبقة ثانية في رعاياه، وإنما كانت الرعية طبقة واحدة يحق لها الوجود، وطبقات أخرى لا توجد في ظله إلا على خوف وحذر وحرمان من حرية العبادة بغير مصادرة واضطهاد.
وقد يعلم المؤلف من مقارناته لأسباب التفرقة بين رعايا السلطان أنهم يفترقون اضطرارًا بحكم الفوارق الجنسية والعنصرية، وأنهم يعاملون بحسب إخلاصهم للدولة التي تعاملهم؛ تفرقة في درجات الولاء، لا تفرقة في الحرية الدينية التي تكفلها الدولة لأهل الذمة من رعاياها.
•••
والكتاب الثالث عن بونابرت في مصر للكاتب الإنجليزي كرشيفو هيرولد الذي يكتب عن التاريخ الفرنسي والشخصيات التاريخية بأسلوب التبليغات الصحفية، ويجيد الوصف في هذا الأسلوب غير مستخف بأمانة التحري التي يغفل عنها كثير من طلاب التهويل والاستثارة بين المؤرخين الصحفيين أو الروائيين المؤرخين.
وفي الكتاب بيان مفصل لكثير من الحوادث والمشاهد، وكثير من القضايا الاجتماعية والأزمات السياسية والعسكرية، ولكن عناية المؤلف بنظرة نابليون إلى هذه الأمور وخطته في تدبيرها وتصريفها مع دولته ومع المصريين والعثمانيين كانت أهم وأعظم من عنايته ببيان الحوادث لذاتها أو بيان آثارها ونتائجها، وربما كانت عنايته بموقف نابليون من علماء الدين وموقف علماء الدين من البعثة العلمية التي أحضرها معه للدرس والاستطلاع هي الفصل الذي يقال عنه: إنه بيت القصيد بين سائر الفصول، وإنه أجمع الفصول لأسباب التعريف بعبقرية نابليون الذي يحسبه المؤرخون بين عظماء القادة العسكريين، وتظهره مواقفه من قادة المجتمع المصري الروحيين في مظهره الغالب عليه؛ وهو مظهر الزعيم الاجتماعي المحنك، والقائد السياسي، أو الدبلوماسي، في أكثر الأحيان.
وكان نابليون يرى بعد اختباره لكبار علماء الأزهر أنهم أهل للتوقير والاحترام بحق العلم والمعرفة، وحق الورع والتقوى، وحق الخلق الكريم والحكمة الراجحة، وليس بالقليل منهم من كان أهلًا للتوقير والاحترام بحق الثراء وحق النسب العريق، وكان في مسلكه نحوهم وتودده إليهم يؤمن بأنهم — دون غيرهم — مناط القدوة الاجتماعية ومرجع الطاعة والاعتبار للهيئة الحاكمة، وقد حاول أن يستخلص منهم آخر الأمر بالمعاونة على المشورة ما يدعو إلى اجتناب الثورة والتمرد من جانب المصريين.
ويقول مؤلف الكتاب: إن علماء الأزهر قد احتفظوا بوقارهم ورصانتهم العقلية أمام عجائب العلم الحديث التي خيل إلى علماء البعثة أنها تقع عندهم موقعَ السحرِ من أبناء الشعوب البدائية، ولكنهم قد نظروا إليها — فعلًا — نظرتهم إلى حيل السحرة وأصحاب الشعوذات وإن كانوا قد فهموا أنها تستند إلى علم جدير بالتحقيق من قبيل ما عرفوه أو سمعوا به من حكمة الأولين.
قال المؤلف: إنه لم تَمْضِ حقبةٌ قصيرة على عهد نابليون حتى كان الأفريقيون والآسيويون قد علموا ما وراء تلك الحيل من أسرار الكهرباء والكيمياء، وتبين أن السذاجة كانت من نصيب علماء الحملة؛ لأنهم قدروا الدهشة في غير موقعها من عقول أولئك الحكماء.
ومما يؤخذ من طرائف هذا الكتاب مأخذَ التأمل والاعتبار أن نابليون، على رغبته في العلم بأحوال مصر وأحوال الجامع الأزهر على الخصوص، قضى أيامه بمصر وهو يعتقد أن الجامع الأزهر أثر من آثار صلاح الدين، ويأخذه الزهو بهذه العلاقات الأزهرية التي جمعت بينه وبين البطل الإسلامي الكبير في مقام واحد!
•••
وختام ما ننقله من الكتب الأربعة فصل عن الساعات الأخيرة في حياة الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله، وهو فصل من فصول الكتاب الذي ألفته السيدة ماري رولات بنت السير رولات محافظ البنك الأهلي على عهد الاحتلال، وقد اختارت لكتابها اسم «بناة مصر الحديثة»، وقصدت بهم بناة النهضة منذ عصر الثورة العرابية، وأولهم في تقديرها الأستاذ الإمام رائد الدعوة الثقافية — الروحية — قبل الجيل المعاصر.
ومعظم معلوماتها عن نشأة الأستاذ الإمام مستمدة من تراجمه العربية، ولكنها اعتمدت على مصادرها فيما نقلته عن أخباره الأخيرة، وكتبت ما أوردته منها بأسلوب ينمُّ على التعظيم والإكبار.
إنه لا يبكي شجوه وحده، ولكنه يبكي لأولئك المحرومين الذين كان من عمله أن يطوف عليهم بالصدقات في كل شهر من مرتب الشيخ … وقد كان عظيمًا فقيرًا في الحياة، وقضى نحبه وهو فقير عظيم.
ولم يسلم كتاب السيدة رولات من الأخطاء والسهوات، ولكنها أخطاء وسهوات كأمثالها مما ورد في كتب هذه المجموعة، قد تُحْمَلُ على نقصِ العلم بالواقع واختلاف النظر إليه، قبل أن تُحْمَلَ على سوءِ النِّيَّةِ.