أديان الدعوة
من التقسيمات المتواترة عند علماء المقارنة بين الملل والعقائد تقسيم الأديان في العالم إلى أديان دعوة، وأديان «مقفلة» أو محصورة في بيئة خاصة. وأكبر أديان الدعوة عندهم في العصر الحاضر ثلاثة: البوذية، والمسيحية، والإسلام. وأولها تنحصر الدعوة إليه في التلمذة، ومصاحبة المريدين للأئمة والرؤساء في الهياكل والصوامع ودور العبادة.
ويعود الكتاب فيقول تمهيدًا للكتابة عن الديانة اليهودية: «إن ديانة اليهود أيضًا ذات ارتباط بشعب معين كما يؤخذ من تسميتها باليهودية أو العبرية، وهي لهذا تشبه الهندوكية والشنتية في أنها ديانة مقفلة؛ أي ليست من ديانات الدعوة، وإنما تختلف بأن الهندوكية والشنتية كلتاهما ديانة شعب مستقر في وطنه منذ عهد بعيد، وأن اليهود تعرضوا للشتات غير مرة، فوقعوا في أسر مصر وبابل، وفقدوا وطنهم بعد أن استولى العاهل الروماني «تيتوس» على أورشليم سنة سبعين للميلاد.»
ولما عرض الكتاب للدين الإسلامي قال: إنه دين دعوة، وإنه لا يزال ينتشر في القارة الأفريقية وبين الشعوب المتأخرة، ولكنه لم يحاول أن يبحث عن حقيقة الفارق بين أديان الدعوة والأديان المقفلة التي لا تعنى بإدخال الغرباء في ملتها … إلا فارقًا واحدًا ذكره غير مرة، وهو الفارق بين الدين الذي يعبر عن بيئة محدودة والدين الذي يسري الإيمان به إلى أقطار لا تحدها المواضع الجغرافية أو الروابط العنصرية.
على أن الفارق الأصيل ظاهر، بل مفرط في الظهور، حتى ليكفي في تلخيصه بضعة سطور، غنية عن الإفاضة في الشروح والإكثار من الأسانيد.
إن ديانات الدعوة مفهومة في حالة واحدة؛ وهي حالة الإيمان بالضمير الإنساني واستعداد الإنسان في مختلف البلدان والأجناس للإيمان بالتوحيد، ولا يتأتى أن ينتشر دين دعوة يعم الناس جميعًا قبل أن يفهم الناس أن الدين هدايا يتقبلها كل من له عقل يعي، وضمير يميز بين الخير والشر، وبين العمل الصالح والعمل الطالح بمعزل عن الحدود الجغرافية وحدود العنصر والنسب وأصول الأسلاف.
فالدين عند أصحاب الملل التي تدعو إليه عقيدة إنسانية تقوم على التوحيد، وليس بصبغة محلية محدودة، ولا بفريضة سياسية تمليها السلطة الحاكمة، ويخضع لها الرعايا المحكومون.
هذا الفارق في تطور الإنسانية واضح جدًّا لو شاء علماء المقارنة بين الأديان أن يستوضحوه، ولكنهم لا يشاءون ولا يحبون أن يشاءوا مختارين؛ لأن النتيجة المحتومة لو نظروا إلى هذا الفارق أن يرفعوا الإسلام إلى القمة العليا بين العقائد الدينية، وأن يمتنع عليهم تعليل انتشاره بموافقته للشعوب المتأخرة كما يقولون كلما عرضوا لمسألة الدعوة والشيوع.
فالإسلام قد جاء للناس بعد أن بلغوا من التطور في فهم الدين بعد التمييز بين هداية الضمير وبين فواصل الأمكنة والأنساب، فعرفوا أن «الحق الإلهي» محصول روحاني وليس بالمحصول الأرضي الذي يرتبط بالتربة كما ترتبط محاصيل الزروع والضروع.
وآية الإعجاز في هذا «التطور» أن يطلع على العالم من بلاد العصبيات والأنساب، وأن تكون له آيات بينات في الإيمان بالعقيدة الإلهية، والإيمان بالنبوة، والإيمان بضمير الإنسان.
فالله في الإسلام هو «رب العالمين» يتساوى عنده الناس ولا يتفاضلون بغير العمل الصالح.
والنبي في الإسلام هو المبشر بالهدى والمنذر بالضلال، وليس هو بالمنجم الذي يكشف الطوالع والأسرار، ولا بصاحب الخوارق والأعاجيب التي تشل العقول، وتهول الضمائر، وتخاطب الناس من حيث يخافون ويعجزون، ولا تخاطبهم من حيث يعقلون ويتأملون ويقدرون على التمييز.
والإنسان في الإسلام مخلوق عاقل ذو ضمير مسئول ومحاسب على عمله، ولا تلحق به جريرة قبل مولده، وبعد انقضاء حياته.
ولا حاجة إلى الإطالة في المقابلة بين الأديان؛ ليعلم المطلع عليها من قريب أن هدف العقيدة في الله وفي النبوة وفي الضمير الإنساني هي غاية التقدم الذي ارتقى إليه الناس، بعد الديانات الجغرافية، والديانات العنصرية، والديانات التي تنحصر في بيئة ضيقة، أو واسعة، ولكنها لا تحيط بجميع بني الإنسان.
ولم يتهيأ بنو آدم وحواء لهذه المرتبة من مراتب الإيمان إلا بعد أطوار بعيدة يعجب لها العقل الإنساني كلما نظر إليها اليوم، كما يعجب لكل ماضٍ درج عليه الأولون وطال بهم عهده، وهو في رأيهم الآن لم يكن ليحتمل البقاء بضع سنين لو حكموا عليه يومئذ كما يحكمون عليه الآن.
فقد خطر لبعض بني آدم قديمًا أنهم وحدهم أصحاب الحظوة عند الله، وأن أضعاف أضعافهم من بني آدم الآخرين ملعونون محرومون!
وقد خطر لبعض بني آدم قديمًا أنهم ضائعون، صالحين أو غير صالحين، وأنهم كتب عليهم الموت؛ لأنهم هالكون، ولأنهم يولدون.
وقد كانت الأديان يومئذ لا تحتمل الدعوة ولا معنى للدعوة عند أصحابها؛ لأن الدعوة إنما تكون للهداية الممكنة وللضمير الذي يقدر عليها، ولا تكون مع «الاحتكار» والاستئثار، في حدود ترسمها الجبال والبحار، أو ترسمها سجلات الأنساب والآثار.
وها هنا مفترق الطريق التي سلكها الإسلام بالعالم الإنساني، وكان من أجل هذا دين دعوة تهدي إلى ذلك الطريق.
•••
ويتصل بأمر الدعوة كل مبحث يتناول عدد المسلمين في العالم، وتاريخ الدعوة إلى الإسلام في الأزمنة الماضية وفي الزمن الحاضر، كما يتصل بأمر الدعوة كل مبحث يتناول صلاح الإسلام للشيوع والإقناع وما ينتظر من زيادة عدد المسلمين في المستقبل بمختلف الوسائل التي تنتشر بها الأديان في سائر الأزمان.
ولا يخفى على قارئ يطلع على هذه المباحث أن يلاحظَ نفورَ أصحاب الإحصاءات من زيادة عدد المسلمين وإسراعهم إلى قبول التقديرات التي تزيد في عدد أبناء الملل من غير المسلمين مع تحفظهم الشديد في قبول التقديرات التي تكثر من عدد الداخلين في الإسلام قديمًا وحديثًا، ولا يشذون عن هذه القاعدة إلا إذا تعمدوا التهويل والتنبيه إلى خطر انتشار الإسلام في المستقبل، وضرورة المبادرة إلى اتخاذ الحيطة لهذا الخطر بوسائل التبشير والضغط السياسي أو الاقتصادي؛ حيث يستطاع الاعتماد على هذه الوسائل بغير إلجاء إلى المجاهرة بالعدوان.
وقد قرأنا في مطلع القرن العشرين أن عدة المسلمين في العالم مائة مليون، وقيل في بعض الإحصاءات المتأخرة: إن عدد المسلمين في الصين لا يزيد على عشرة ملايين، ويقول الكتاب الذي نحن بصدده: إن عددهم اليوم نحو ثلثمائة مليون، ولكنه لا ينزل بعدد البوذيين عن خمسمائة وعشرين مليونًا مع صعوبة التفرقة في الإحصاءات العامة بين الطوائف البرهمية وبين البوذية في الصين والتبت واليابان، وبين البوذية على تعدد فروعها في الهند الشمالية والهند الجنوبية.
وممن لاحظ تلك الأخطاء المتعمدة في إحصاء المسلمين الأمير شكيب أرسلان صاحب التعليقات على كتاب حاضر العالم الإسلامي، فقال في باب إحصاء المسلمين: «… أما مسلمو الصين فلا تزال الأقوال متضاربة في عددهم، فمن الجغرافيين من يحزرهم بعشرين مليونًا، ومنهم من يحزرهم بأكثرَ من ذلك بكثير، وفي هذه الأيام لما وقعت الفتنة بين الصين واليابان من أجل منشورية أبرقت الجمعية الإسلامية في الصين إلى أوروبا بتلغراف احتجاج قالوا فيه: إنهم يتكلمون باسم خمسين مليونًا من مسلمي الصين، ثم ورد تلغراف من طوكيو يرد على مسلمي الصين زاعمًا أنهم خمسة عشر مليونًا لا خمسون مليونًا، وفيه أن في منشورية مليونين من المسلمين ينزعون إلى تحرير منشورية، ومما لا شك فيه أن التلغراف الياباني بخس مسلمي الصين عددهم بما رأى من شدتهم على اليابان.»
ثم قال: ولقد حزرنا عدد المسلمين في العالم في مجلتنا الأمة العربية التي نصدرها أنا وسعادة أخي إحسان بك الجابري في جنيف … وذلك بنحو من ثلثمائة وثلاثين مليونًا، هذا على تقدير أن مسلمي الصين عشرون مليونًا فقط، أما إذا ثبت أنهم خمسون مليونًا فيكون المسلمون ٣٦٣ مليون نسمة، وتفصيلها هكذا: الجزيرة العربية ١٢ مليونًا، سورية ٣ ملايين، وفلسطين وشرقي الأردن مليون، والعراق ثلاثة ملايين ونصف، وتركيا أربعة عشر مليونًا، وإيران عشرة ملايين، وأفغانستان تسعة ملايين، والهند الإنجليزية ثمانية وسبعون مليونًا، والصين عشرون مليونًا، وسيام نصف مليون، والروسية الآسيوية خمسة وعشرون مليونًا، فهذه ٢٧٦ مليونًا في آسيا، والروسية الأوروبية قازان والقريم أربعة ملايين، ولتوانيا وبولونيا عشرون ألف نسمة، ويوغسلافيا مليون ومائتان وخمسون ألفًا، والمجر ثلاثة آلاف، ورومانيا مائتان وخمسون ألفًا، وبلغارية نصف مليون، وبلاد اليونان مائة ألف، وألبانيا تسعمائة ألف، فهذه سبعة ملايين وثلاثة وعشرون ألفًا.
ومصر مع سودانها ١٨ مليونًا، وطرابلس سبعمائة ألف، وتونس مليونان، والجزائر خمسة ملايين، ومراكش ثمانية ملايين، والصحراء الكبرى ثلاثة ملايين، والحبشة ثلاثة ملايين، والغالا والصومال ستة ملايين، وشرقي أفريقيا — زنجبار وسواحلها ودار السلام — ستة ملايين، والكونغو والأوغندة مليون، والإداموا والكمرون مليونان، وغينيا وفوتاجلون مليون، والسنغال مليون، وسلطنة سوكوتو خمسة ملايين، وبرنو خمسة ملايين، وواداي خمسة ملايين، وكانم مائة ألف، فهذه ثلاثة وثمانون مليونًا في أفريقية، والمستعمرات الهولندية أربعة وستون مليونًا، والفليبين مليونان، فهذه ستة وستون مليونًا في البحر المحيط الباسفيك، فيكون جملة المسلمين ثلاثمائة وثلاثة وعشرين ألفًا وثلاثين مليونًا، أما إن صح أن المسلمين في الصين خمسون مليونًا فيكون ثلثمائة وثلاثة وستين مليونًا، هذا بالتقريب.
ومن المحقق بعد مراجعة هذه التقديرات أن العدد الذي أثبته الأمير شكيب أرسلان في تعليقاته ينقص عن العدد الصحيح بكثير؛ لأن المقارنة بين تقديراته عند كتابة تعليقاته وبين الواقع في الوقت الحاضر ممكنة على وجه الرجحان إن لم نقل على وجه اليقين، فالمسلمون في الباكستان والهند يزيدون على مائة مليون، والمسلمون في إندونيسية وسائر البلاد التي كانت تابعة لهولندة يقاربون هذا العدد، وفي وادي النيل ما يزيد على ثلاثين مليونًا عدا غيرهم من المتوسطين بين الوادي وشواطئ البحر الأحمر، وأبناء البلاد العربية في القارة الآسيوية يزيدون اليوم على ذلك التقدير بنحو عشرة ملايين، فلا مبالغة إذا قدرنا عدد المسلمين اليوم في العالم بأربعمائة وخمسين مليونًا، وأيقنا على الدوام بأن عددهم يزيد في كل حقبة على كل تقدير أوروبي يذيعه الساسة والباحثون في شئون الدعوات الدينية، وأن زيادة هذا العدد مستمرة يقابلها أولئك الساسة والباحثون بالحذر ويذكرونها منذرين لأقوامهم بما يستفزهم إلى الحيطة ومقاومة هذا الازدياد المستمر حيث تستطاع المقاومة في الخفاء وفي العلانية إن لم يكن لهم بُدٌّ منها.
ونرجع إلى أديان الدعوة لنقول: إن الإحصاءات الحديثة تحصرها في ثلاثة أديان كبرى؛ وهي: البوذية وعدة أتباعها على قولهم خمسمائة وعشرون مليونًا، والمسيحية وعدة أتباعها خمسمائة مليون، والإسلام ويختلفون في عدة أتباعه بين ثلاثمائة مليون على التقدير الأقل وأربعمائة مليون أو يزيدون على التقدير الراجح الموافق لأحدث الإحصاءات.
أما البوذية فلا ننظر إليها بكثير ولا قليل من الحذر؛ لأن دعوتها محصورة فيها؛ لتحويل أتباعها من النحل البرهمية الأخرى بوسائل التعليم التي قلما يبلغ متناولها الألوف فضلًا عن الملايين، ولم يحدث في تاريخها القريب أنها حولت إليها أناسًا من أبناء الديانات الكبرى، بل حدث أحيانًا كثيرة أن أتباعها يتحولون عنها إلى الإسلام أو المسيحية أو الجانية التي تلغي تعدد الطبقات وتناسب التفكير العصري في أطوار السياسة والاجتماع وفي العلاقات الدولية بين الشعوب والأقوام.
أما نظرة الحذر فهي ديدن المشتغلين بالتبشير والاستعمار كلما نظروا إلى شيوع الدعوة الإسلامية وسهولة انتشارها بالإقناع والقدوة مع اطراد عدد المسلمين في الزيادة بازدياد النسل من حقبة إلى حقبة، كما يرى من الفارق بين عدد المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وعددهم في منتصف هذا القرن العشرين.
وإذا خصصنا المبشرين والمستعمرين بالذكر في نظرتهم إلى أديان الدعوة وإلى الدين الإسلامي على التخصيص، فلا ينبغي أن ننسى أولئك الباحثين في حقائق الدعوات الدينية على التعميم؛ فإنهم لو أخلصوا البحث للعلم والحقيقة لما فاتهم عند المقابلة بين أديان الدعوة والأديان المقفلة المحدودة أن يقرروا النتيجة العلمية التي يخلصون إليها من مباحثهم جلية واضحة لا تخفى على طالبها، ولكنهم لا يطلبونها ولا يستريحون إليها؛ لأنها تبشرهم أن انتقال الأديان من الملل العنصرية إلى ملل الدعوة ظاهرة تدل على الانتقال من العقائد الجغرافية المحلية إلى عقائد الضمير الإنساني وعقائد التنزيه والتوحيد، وأن الإسلام قد ارتفع بالضمير والتوحيد إلى أعلى مرتقاهما بما يهدي إليه في العقيدة الإلهية وفي رسالة النبوة وفي الإيمان برشد الضمير الإنساني الذي يسأل عن عمله ولا يحمل وازرة غير وزره، وليس فهم التطور في أديان الدعوة على هذا الوجه مطلبًا يسعى إليه من يريدون أن يعللوا شيوع الإسلام فلا يستريحون إلى علة غير ما يزعمونه في موافقته للأمم المتخلفة، ولولا أنها علة تريحهم وتلائمهم لكان أقرب منها إلى مشاهدات الحس — فضلًا عن تفكير العقل — أن الإسلام حقيق بالانتشار والإقناع؛ لأنه خاتمة التطور في أديان الدعوة، وفي أحوال العالم الإنساني بعد أن بلغ إلى مرحلة الوحدة الإنسانية ومرتبة الهداية المطلقة المتحررة من حدود الأقاليم والأنساب.