الشَّرقُ الأدْنى الإسْلامِي
أشرفتْ على تنسيق هذا الكتاب وتوزيع موضوعاته جامعةُ «تورنتو» بكندا، وأصدرته ملحقًا لمجلتها الربعية؛ أي التي تصدر أربع مرات في السنة، وعمدت في كتابته إلى ثمانية من علماء الإسلاميات يحاضرون طلبة الجامعات في مسائل الشرق الإسلامية؛ ومنهم: سير هاملتون جب المستشرق المعروف وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والأستاذ فيضي الذي كان سفيرًا للهند بالقاهرة ووكيلًا لجامعة جامو وكشمير، والأستاذ مانجو رئيس القسم التركي بدار الإذاعة البريطاني، والأستاذ بكنجهام عميد الدراسات الإسلامية بجامعة مانشستر، والأستاذ نيازي بركيز عضو معهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماكجيل، والأستاذ سافور الذي يحاضر طلاب جامعة لندن باللغة الفارسية في الشئون الأفريقية والشرقية، والأستاذ ويكنز مؤلف كتاب «ابن سينا العالم والفيلسوف»، والأستاذ كاشا بجامعة أدنبره.
ومن بحوث هذه المجموعة بحث تكلم فيه الدكتور فيضي عن جوهر التعاليم الإسلامية كما بسطها الشاعر الفيلسوف محمد إقبال والوزير العالم أبو الكلام آزاد، وخاصة هذا البحث أن رسالة محمد إقبال تقوم على إحياء سنن الإسلام «الفعال»، واجتناب الصوفية «السلبية» التي شاعت بين المسلمين في عصور التخلف والجمود، وأن حكمة الإسلام جميعًا تتلخص في «الفاتحة» كما فسرها أبو الكلام آزاد؛ لأنها خلاصة الإيمان بالربوبية والهداية والأدب القويم والتبعة التي يناط بها الثواب والعقاب في يوم الدين.
وبحث آخر من بحوث المجموعة يعرض للدعوة الغربية في الأمة التركية، ويشرح الفرق بين المتطرفين في حركة «الاستغراب» وبين القائلين باقتباس الحضارة الغربية مع الترفق والاعتدال، ويكاد الباحث أن يرد هذا الفرق إلى مدلول كلمة «ملة» عند الحزبين؛ فإنها تشمل معنى الدين عند المتحفظين في اقتباس الحضارة الغربية، ولا تفيد غير معنى الوطن أو الأمة عند أنصار «التغرب» المطلق من القيود والتحفظ والاعتدال.
ويلي ذلك بحثان عن الأدب التركي الحديث — ولا سيما أدب القصة — وعن الأدب الفارسي الحديث — ولا سيما أدب الشعر — ويقترن به بحث آخر عن البلاد الفارسية عامة منذ إعلان الدستور وقيام الحكومة النيابية.
وقد خصصت مجلة الجامعة بحثًا من هذه البحوث للأدب العربي الحديث، انتهى كاتبه إلى المسائل الدينية التي توفر عليها بعض الأدباء المحدثين، فكان من رأيه أنها تدل على تجدد الثقة بالنفس بين كتاب العرب المسلمين، وليست لها صبغة الشعائر والعبادات.
أما البحث الشامل للوجهة العامة بين أطراف الشرق العربي الإسلامي من جميع نواحيه، فهو الموضوع الذي قدمت به المجموعة وعهد به إلى السير هاملتون جب فوفاه حقه من الدراسة العلمية مع التزام الحيدة الواجبة في المسائل السياسية، وتنجلي هذه الحيدة من تعليق الكاتب على آراء الساسة الغربيين وجلة المفكرين الاجتماعيين التي يصورون بها «حالة» الشرق الإسلامي بعد استقلال شعوبه عن سيطرة الدول الغربية، ثم يبنون عليها تقديرهم لمصير هذا الشرق كما يتصورونه أو يتمثلونه.
ومما يدعو الساسة الغربيين إلى هذا التفكير شيوعُ الاعتقادِ بين مراقبي الأحوال في البلاد الشرقية بانقضاء العهد الذي كان الإسلام فيه «قوة فعالة» في تكوين النظم الاجتماعية والسياسية، باعتباره «قسطاسًا» مرعيًّا في الشعائر المعمول بها والفرائض المتبعة والعادات السارية في شئون المعيشة اليومية.
يقول السير هاملتون: إن هذا التفكير لا يطابق الواقع؛ لأن المسلم هو المسلم في رأي نفسه، وليس هو المسلم على صبغة يصبغه بها الأجانب عنه حسبما يتصورونه من شعائره وفرائضه وعاداته، ولا يصح أن نفهم أن المسلمين ابتعدوا عن حظيرة الإسلام وهم أنفسهم يشعرون بأنهم مسلمون يغارون على العقيدة ويريدون البقاء في حظيرة هذه العقيدة.
يقول: وليس بين البلاد الإسلامية بلد أعلن عن رغبته الصريحة في الاستغراب أو «التغرب» باستثناء البلاد التركية، ولكن البلاد التركية أيضًا لا تعلن هذه الرغبة اليوم بتلك الثقة التي أعربت عنها منذ عشرين سنة، وفيما عدا هذا الاستثناء الضعيف يغلب على أبناء العصر من المسلمين الذي ينقمون على مساوئ العصر الحاضر أن يحملوا الغرب أوزار هذه المساوئ ولا يعلقوا آمالهم في الإصلاح بمشابهة الغرب والاقتداء بأممه في جملة أحوالها.
وقد تابع الكاتب مراحل التطور منذ مائة وخمسين سنة فقال: إن الأمم الإسلامية — منذ ثلاثة أجيال — مرت بمرحلتين قبل المرحلة الأخيرة؛ وهي المرحلة الحاضرة.
فالصدمة الأولى زعزعت دعائم التقاليد الغابرة، فانقضت المرحلة الأولى بانقضائها، وخلفتها مرحلة النظم الغربية المستعارة، إلى أن ظهر فشلها، فانقضت هي أيضًا بانقضاء عهد الأموال الأجنبية.
واليوم يعود الشرق الإسلامي إلى موارده، ويقيم مجتمعاته على الأسس التي تنجح المشروعات الشعبية في إقامتها وتدعيمها، ولا غنى عن خبرة الصناعة والإدارة ومعونة المثقفين والمستنيرين لتوطيد المشروعات الشعبية.
فالمجتمع الجديد مجتمع غير المجتمع الذي استقر زمنًا في أيدي حكام القرن الثامن عشر، وغير المجتمع الذي استقر زمنًا بمعونة «رأس المال» من الخارج وحاول القائمون به أن يؤسسوه على قواعد النظم الأوروبية الحديثة، ويتميز هذا المجتمع الجديد بظهور قوة اجتماعية غير قوة السادة حكام القرن الثامن عشر وغير قوة خلفائهم الذين حاولوا أن ينقلوا إلى الشرق نظم الغرب وأنماطه الحكومية.
هذه القوة الجديدة لا تنزع إلى التخلص من ديانتها كما تفهمها وتشعر بها على الرغم من ظنون الأجانب الذين يقيسون غيرة المسلم بمقياس الشعائر و«الطقوس» المرعية، فإذا استدعى العصر الحاضر تغييرًا في مبادئ المجتمع فإنما هو التغيير الضروري الذي تفرضه طبيعة العصر ويؤدي إليه اشتراك خبراء الصناعة والاقتصاد، والتعاون بين هؤلاء الخبراء وبين المستنيرين الكفاة لتوجيه الأعمال والاضطلاع بمطالب الحياة الحديثة، ويختتم السير هاملتون جب بحثه الموجز بهذه العبارات التي نترجمها بحروفها. قال: «إنني لا أرى أية علامة في الشرق الأوسط على احتمال قريب لقيام دولة شيوعية … أو قيام دولة ديمقراطية من طراز أية دولة غربية، ولا بد لكل هيئة من هيئات الحكم في العالم العربي يراد لها الاستقرار المعقول أن تجمع بين إرضاء الشعور العربي والشعور الإسلامي في وقت واحد.»