فكر الفقر وفقر الفكر
«منذ مدة طويلة وهذ الخاطر يلحُّ عليَّ، كلما سمعت وقرأت ورأيت كثيرًا الأحاديث والفقرات والمقالات أقول لنفسي: هذا فكر فقر، وكلما قرأت الجرائد واتَّضح لي كثير من الأزمات أقول: هذا هو فقر الفكر.»
فالفقر له فكر معيَّن، وحين أقول الفقر لا أعني شدة الاحتياج فقط، ولا أعني هبوط المستوى المادي لمجتمع إلى مستوًى أقلَّ من مثيله في البلاد الأخرى، ولكن الفقر المادي الحقيقي قد يكون لأناس ميسوري الحال، ولكن طريقتهم في التصرُّف في ثرائهم فقيرة غاية ما يكون الفقر. إنَّ الفقر ليس وضعًا اقتصاديًّا فقط، إنه وضع من أوضاع البشر، وضع عام، يتصرَّف فيه الإنسان بفقر، ويُفكِّر بفقر، أفكار تؤدِّي إلى فقر أكثر واحتياج للغير أكثر، بمعنًى آخر هو مرض يُصيب الاقتصاد ويصيب العقول ويُصيب الخيال أيضًا.
ونحن مغرمون دائمًا بكلمة أزمة، نطلقها على كل شيء؛ أزمة لحمة، أزمة مساكن، أزمة ثقة، أزمة قصة، أزمة مواصلات، والذي أريده هنا هو أن نمتنع تمامًا عن ذكر كلمة أزمة، أو نتأدب ونضحك على أنفسنا ونُسمِّيها اختناقًا أو اختناقات؛ فالكلمة الحقيقية التي لا بُدَّ أن نستعملها هي كلمة فقر، وإذا أحلَلناها محل كلمة الأزمة، فإنني أعتقد أن الصورة تتَّضح بطريقة تساوي نصف الحل؛ فلو قلنا فقر لحمة، وفقر مساكن، وفقر ثقة، وفقر مسرح، وفقر سينما، وفقر صحافة، وفقر كتابة، لكانت التسمية والتشخيص أدق. الفقر هنا بالضبط هو عكس الغِنى، والغِنى ليس الغِنى المادي، إنما هو أوَّلًا وأساسًا غِنى النفس، النفس الغنية غنية حتى لو كانت تَقتات أو حتى تبيت على الطوى، والنفس الفقيرة فقيرة حتى لو كانت تملك الملايين. ذلك المليونير الذي لم يَمتلك يومًا كتابًا ولا عرف إلا أغاني «السح الدح امبو» موسيقى، والذي كلُّ متعه في الحياة أن يأكل الكباب ويَشرب الويسكي أو الحشيش ويُزاول الحج وهو لا يعرف معناه، ويعود ليشتري كاسيتات الفيديو (الثقافية-الجنسية تمامًا) أو أفلام سينما هذه الأيام؛ مليونير كهذا، أيُعَدُّ غنيًّا؟!
إذن ماذا يكون الفقير، إني أعرف فقراء يَعيشون بصعوبة، ولكن ثراءهم الروحي يُتيح لهم أن يستمتعوا ويُمتِّعوا مَن حولهم. أعرف رجلًا مليونيرًا صاحب عمارات كبرى في حين يعيش كما ذكرت وعمره ما فكَّر أن يدفع ضرائب أو زكاة أو حتى يَشتري عربة إسعاف. وأعرف السفرجي الذي يعمل عنده، والذي فوجئتُ ذات يوم بثلاجة كولدير للشرب موجودة بجوار العمارة التي يمتلكها المليونير، وظننتُ أن المليونير فتَح الله عليه وفتح نفسه لفعل الخير وإسعاد الناس؛ فالمنطقة التي توجد بها العمارة منطقة يَكثُر فيها العمال والسائرون وتتمتَّع بجو قائظ خانق، وما أروع أن توجد ثلاجة شرب مياه نقية عذبة باردة وسط هذا القيظ! غير أني فوجئت أن الثلاجة قد أقامها السفرجي بجنيهاته التي يَكسبها من الطهي في الأفراح (وطبعًا ليس من مرتبه لدى المليونير)، مات ابنه الشاب، ولو حدث هذا لرجلٍ غنيٍّ لملأ الدنيا نواحًا وأغلق على رُوحه الباب، ولكن الرجل الطيب السفرجي أحب أن يُحيي ذكر ابنه بطريقة غريبة جِدًّا، إنسانية جِدًّا، فأقام هذه الثلاجة ووهبها لروح ابنه.
أرأيتم غِنًى أعظم من هذا؟
من المليونير ومَن الفقير؟
•••
الفقر إذن حالة تأخذ أحيانًا شكل الجشع المادي الخارق، وفي رأيي ليس هناك «أزمة» لحمة، هناك جشع إلى اللحمة؛ إنَّ كل أسرة مصرية متوسِّطة — وهي أصبحت الآن تُعَدُّ بالملايين — لا تحسُّ أنها أكلت إلا إذا كان قوام الطعام لحمة، وهكذا يكثر الطلب ويقلُّ العرض، ويتكون المليونيرات الجزارون، وقِس على هذا كل شيء؛ الشُّقَق لا بُدَّ أن تكون من ثلاث حجرات على الأقل؛ حجرة صالون وسفرة ونوم، وأزمة سكن مُمكن أن يَحُلَّ نصفَها على الأقل نموذجُ الشقة صالة وحجرة، ويَحُلَّ معها مشكلة غلاء الموبيليا وكثيرٍ من احتياجات المنزل.
هذا وجه للفقر، وهناك الوجه الآخر دائمًا، وجه الفقر المادي الحقيقي الذي يَطحن حتى النفوس الغنية تمامًا، وهو والحمد لله متوافِر وموجود بكثرة رهيبة، وهو أمر لا خلاف عليه، وإنما أحببت أن أوضِّح أننا نُعاني في هذه الأيام بالذات فوق فقر الفقراء مِن فَقر بعض الأغنياء أيضًا، وهو أمر نادر الحدوث إلا أن يكون الغِنى نتيجة جشع شديد مسعور يُصاحب الإنسان حتى بعد أن يغتني.
•••
هذا الفقر بنوعَيه يُفرز في النهاية أفكارًا فقيرة، ومُعتقَدات أكثر فقرًا أشدها وأخطرها تمامًا، وقد حوصر المواطنون في الفقر، أن يلجأ كثير من مدَّعي التفكير والغوغائيين إلى فهم خاطئ تمامًا للدين، يُلقنونه لأولئك المحصورين في الأزمة الخانقة باعتباره الخلاص، وهي أفكار ما كان يمكن أن تزدهر أو تجد لها صدًى عند العامة لو لم تكن هناك أزمة فقر طاحن، بل الأخطر من هذه الأفكار أنها دائمًا تَحمل حلولًا متطرفةً حتى لمشاكل الحكم، حلولًا متطرفة حادة حدة الفقر ولا إنسانية مثله. والإمام علي كرم الله وجهه يقول: لو كان الفقر رجلًا لقتلته. أمَّا هؤلاء المتطرفون فيقولون: ما دمنا فقراء فلنَقتُل الرجل. والرجل هنا هو أي رجل حتى لو كان عالمًا فاضلًا كالشيخ الذهبي.
لقد ظللت لثلاث حلقات مُتتابعة في التليفزيون أستمع إلى داعيةٍ إسلاميٍّ فاضل يناقش قضية الاسم والفعل والحرف في اللغة العربية في مجال شرحه لآيات من آيات القرآن الكريم، والناس قد شملهم الوَجدُ من روعة آيات الإعراب والشرح لمعنى الحرف والاسم والفعل ومواقعها من الجملة، ويَحدُث هذا في الوقت الذي كان لبنان فيه تجتاحُه جيوش النازية الجديدة وتقصف وتدكُّ بيوت المسلمين وتَنتزِع أرواح أطفال المسلمين ونسائهم وشيوخهم ورجالهم، والعالم الجليل يهتزُّ مُستمِعُوه على وقع شرحه لحرف الألف أو الياء؛ أو عالم آخر يستورد لنا أفلامًا من أمريكا ويُرى الجمهور المسكين هول ما تفعله الزلازل والبراكين، ويقول كلُّ هذا يحدث لأن الإنسان لم يَرعَوِ، ولأنه فاسق وكاذب ولص، وأن الكرة الأرضية ليست سوى قُنبلة زمنية سوف تنفجر لتُرسل أجساد الناس ودنياهم شعاعًا.
والجماهير مخلوعة القلب تتلظى بالخوف وبالرَّهبة، ولو كان العالم المذكور قد عرض فقط بعض أفلام تليفزيوننا التي أخَذَها مراسلون أجانب للهول الذي تُحدثه الشياطين والأسلحة الفتاكة في بيوت المسلمين فقط في لبنان لأرانا جهنم أخرى من صنع البشر الزنادقة أعداء البشرية وأعداء المسلمين بشكلٍ خاص، ولاستطاع أن يُجنِّد مشاعر جمهوره المسكين «للوعي» بما يَحدث لهم ولأمتهم، وﻟ «مقاومة» هذا الحادث؛ تطبيقًا لقول الله سبحانه وتعالى: وَقَاتِلُوهُمْ، وليس لتَنتهزوا فرصة أزمتهم الروحية والمادية ﻟ «تُغيبوهم» عن الوعي بأعدائهم و«تخدروهم» تحت زعم تفسيراتكم الشخصية للدين والله والإيمان. إنَّ المؤمن الحق هو من يدافع عن إخوته في الدين وليس من يُغيبهم عن الوعي بأعدائهم وليس من يتصوَّف «على الهواء»؛ فالمتصوفون القدامى كانوا يلجئون للمَغارات في المقطم وبعيدًا عن الناس ليتأملوا لأنفسهم أوَّلًا، ولخلاصهم الذاتي، أمَّا من يتصوَّف «على الهواء» ليجعل الناس يهزُّون رءوسهم ذات اليمين وذات اليسار إعجابًا بمعسول قوله وببراعته في صياغة تشبيهاته وروعته في إرهابهم أو ترغيبهم بتمثيله، إنما — أيها الناس — يخدعنا عن حقيقة الخطر الماحق الذي يُحيط بنا، إنه يفعل معنا ما فعله أهل بيزنطة، ظلُّوا يُناقشون المنطق وأعداؤهم يُحيطون بهم حتى اقتَحموا المدينة وحتى المكان الذي كانوا يَتجادَلون فيه وقتلوهم عن آخرهم.
لقد زوَّد الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل وبالحواس لكي يَعيَ ويُدرك الفرق بين الطعام الجيد والطعام المسموم، وبين الحلال وبين الحرام، وبين الأعداء وبين الأصدقاء وأهل الدين، وهذا الذي يحدث أمامنا صباح مساء من إهمالٍ كامل لأمور حياتنا، وهلوسَةِ دينِنا الحنيف على هذا النحو شيء خطير خطير، ويعود بنا إلى ما ذكرتُ من كونه الفقر الحقيقي للفكر المتولِّد عن فقر حقيقي مادي وروحي.
(١) الفقر في الأقوال والأفعال
وليس الفقر خاصًّا بالدعاة وحدَهم، إنه فقر عام، فكثيرًا ما أُراجع قرارات اللجان التي تَنعقِد وتنفضُّ، كثيرًا ما أمر على قرارات المؤتمرات وهي كثيرة، والشيء الغريب الذي أُلاحظه هو الفقر الشديد في ابتكار الحلول للمشاكل، ودليل واحد آخذه من هذا التخبُّط في قوانين كقوانين الجمارك والضرائب؛ فالقرار يَصدُر غير مدروس، وبعد صدوره يُعدَّل بقرار آخر، وقلَّة الدراسة راجعة لفراغ صبر مُعدِّ القرار وفقر اطِّلاعه على الواقع وعلى النُّظم المثيلة والحالات السابقة. مثل آخر: ألم يَستَطِع واحد، مجرد واحد فقط، أن يخرج لنا بفكرة نستطيع أن نُحضِر بها سمك السد العالي الذي يتوحَّش من تركه دون صيد إلى بقية أنحاء القطر لنَحُلَّ كثيرًا من أزمة اللحمة والبروتين.
هذا العدد الرهيب من السيارات الخاصة والسوزوكي والنقل، الذي ذكَر لي وزير اقتصاد سابق أنه نتيجة لاستيراد عربات النقل بلا أيِّ ضابط، فإن ٧٠٪ من قطارات البضاعة لا تَعمل، والأسفلت تحت العربات الرهيبة يتآكَل والطُّرق تتحوَّل إلى مطبات وتراب.
كل أزمة في مصر لا يوجد لها أيُّ حلٍّ مدروس أو غير مدروس، والنتيجة بالطبع أن الفقر يؤدِّي إلى فقر، والأزمة تؤدِّي إلى أزمات، بل إن هذه الأزمات نفسها، وهذا الفقر الفكري، يؤدِّيان في النهاية إلى قرارات فقيرة تؤدِّي بالضرورة إلى ازدياد الفقر.
(٢) وماذا عن فقر الفن؟
وإذا كُنَّا نتكلم عن فقر الفكر فلا بُدَّ أيضًا أن نتكلم عن فقر الفن، وأظن من يدخل مسارحنا ودور السينما لدينا ويتفرج على العيِّنات من «الفن» التي تُقدَّم يجد أنها ليست كما يقولون «فن فقراء»، ولكنه يَجدها إنتاج «الفقر الفني»، ولأن كثيرًا من القراء قد كفُّوا عن الذهاب لدور العرض للمُتفرِّجين «الكسيبة» جِدًّا، «الفقراء» جِدًّا، الذين يملئونها ببذاءاتهم وتبجُّحهم وقلَّة أدبهم وخروجهم عن كلِّ ما يمتُّ إلى الطبيعة بصلة، أبناء المدن المَهروسين في حاراتها، المَصفوعين من أُسطواتها، الذين بدءوا يَكسِبون ويُصبِحون بفضل «فقر الأيدي العاملة وهِجرتها» معلِّمين وهم يَطغون بأفلام تُخاطب نصفهم الأسفل، ومسرحيات تُخاطب دبورهم، وأغان، واسمح لي أن أستعرض معك إعلاناتها منقولة عن صحيفة يومية كبرى: الفنان الشعبي عزام «البنجاوي» في كاسيت «سيدي يا سيدي»، والفنان أبو الوفا السوهاجي وطبلة العربي (اسم مطرب أو مطربة لا أعرف)، وبس حنون أو حنون بس لا أعرف، والضَّحك أنه إنتاج «صوت الفضاء»، الفضاء يا عالم وفي عصر الفضاء، والفنان الشعبي مصطفى دبوس وأغنية يامه الدبور قرصني.
مظاهرة لفن الفقر وفقر الفن، وتأكيد مُطلَق أن الفقر يولِّد فكرًا مُتخلِّفًا يُؤدِّي بدوره إلى فقرٍ أكثر.
وإنَّ الفن الفقير يُؤدي إلى أرواح فقيرة تُنتج بدورها وتستقبل فنًّا فقيرًا يؤدي إلى فكر مادي حقيقي.
•••
أقول هذا كله لأن مشكلتنا الأساسية أصبَحَت إمَّا أن نُنتج وإمَّا أن نموت استهلاكًا وفقرًا.
ولهذا كان لا بُدَّ لنا أن نتوقف طويلًا عند فقرنا الفكري وفكرنا الفقير كي نُناقش الخروج المحتَّم من الأزمة، وإلى الأسبوع القادم بإذن الله.