حقائق كيسنجر وأكاذيبه
قررت بعد أن قرأت الأجزاء التي نشرَتها مجلة «تايم» عن الكتب الثلاثة التي يَنوي الدكتور هنري كيسنجر — أو التي انتهى فعلًا من كتابتها — قررتُ ألا أصدق ثلاثة أرباع ما يكتبه الساسة عن أنفسهم وعن أعمالهم، خاصةً إذا كانت عن أحداث قريبة العهد حدثت لهم أو كانت عن أنفسهم.
إن الدكتور هنري كيسنجر كذاب عظيم، والكذب أنواع، هناك الكذب الأصفر الذي نستعمله في حياتنا كثيرًا، ولكن بعض الناس يبلغ بهم غباؤهم أن يستعملوه في كتاباتهم. وذلك الكذب الذي باستطاعة أي متوسط الذكاء أن يكتشف الفجوات الكامنة فيه، بل أن يغلق الكتاب أحيانًا ويبدأ «يفكر» إن كان ما يقرؤه قد حدث حقيقة، أو أن المسألة شيء لا يستطيع أن يضع إصبعه عليه في الحال؛ إذ هو يأبى أن يمرَّ على خلايا عقله مرور الكرام، والأمثلة للكذب الأصفر كثيرة، خاصة في عالمنا العربي. لقد أُتيح لي أن أقرأ مذكِّرات بعض السياسيين العرب المُعاصِرين؛ إذ إن كتابة المذكرات هي «مودة» استُحدثت في العالم العربي بين السياسيِّين قريبًا، حين وجدوا أنها تكاد تكون شبه القاعدة للسياسيين في أوروبا، كذب السياسيين في مذكراتهم أو كتبهم التي يؤرِّخون بها للفترة التي عاصَروها من تاريخ أممهم كذب صغير، غير محبوك، وأنا لا ألومهم عليه؛ إذ إن الظروف في مجتمعاتنا العربية لم تَصِل بَعدُ إلى الدرجة التي يستطيع فيها الإنسان أن يقول عن نفسه أو حتى عن الآخَرين، الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة؛ ذلك أننا لا نزال بعد نعيش في عصور النفاق، ولفظة النفاق هنا لا أستعملها كنوع من السباب، إنما أستعملها كمرحلة علمية تمرُّ عليها أو تمر بها المجتمعات أثناء رحلتها من عصورها البدائية القبلية إلى عصر اندماج القبائل في مجتمع أو أمة أو خلق وطن؛ إذ لو أخذت هذه الجماعات الصغيرة طريق قول الحق والحقيقة لانفرَطَ عقدُها في الحال، ولما استطاعت أبدًا تخطِّي مرحلة الانقسام البدائية إلى مرحلة الالتئام الكبير اللازم لصناعة الأمة، وخيرُ مثال على هذا ما يحدث في «زيمبابوي» مثلًا. إن هناك تمثيلية كاذبة تمامًا، أطرافها جوشوا نكومو من ناحية والسيد موجابي من ناحية أخرى، والأدوار الثانوية يقوم بها حزباهما «زانو» و«زابو»، والجميع كذابون على أوسع نطاق، والتُّهم التي يُوجِّهها كل طرف إلى الآخر مليئة بالمغالطات، وإذا تصالحا — كما تصالحا قبلًا — فسيُبنى صلحهما على استعداد كل طرف لتصديق كذب الطرف الآخر، وربما يؤدي هذا الكذب الأصفر غير المصدق وهذا التصديق الأصفر غير المكذَّب إلى تكوين صلح بين القبيلتَين الكبيرتين واندماجهما معًا لتكوين أمة، وربما يؤدِّي إلى العكس تمامًا، وانفرط عقد الأمة المصطنعة المبني على تحالف واه ليعود كل إلى سيرته الأولى.
أمَّا الخطر الحقيقي، فهو ذلك الكذب الأكبر، الذي يقوم به الساسة والحُكَّام وأحيانًا المفكِّرون في الدول الكبرى الغنية التي تخطَّت من قديم الزمن حاجز القبلية والانصهار، بل ربما وصلَت إلى مرحلة «السوبر نضج» أو السوبر «باور». إنَّ كل سياسي من هؤلاء السياسيين يريد أن يَسبِق المؤرِّخين ويُحدد لهم بطباشير بيضاء كُنهَ الخط الذي عليهم أن يسيروا عليه في تاريخهم للمرحلة، ولعصره، ولدوره.
ولأمرٍ ما كنت أتصوَّر الدكتور كيسنجر أذكى من أن يكذب حتى يصل إلى ذلك الكذب الأكبر، كنت أضعه في مصافِّ كتاب الروايات العظام الفلتات؛ إذ إن هناك أيضًا كتاب روايات يؤثِّرون على القراء بكَذِبهم الأصفر، فيُنمِّقونه ويُدبِّجونه، بحيث في النهاية يصدقهم غالبية القراء. أمَّا الكذَّابون الكبار، أمثال تولستوي وديكنز وأندريه جيد، فهُم كأخطر وأخبث أنواع الحواة من الصعب أن تُدرك كيف صاغوا اللعبة المعجزة.
فباستطاعتهم ودون وضع المساعدة الجميلة في صندوق أن «ينشروها» بمنشار حقيقي عند منتصفها أمامك، بحيث حين ينتهون يقسمونها قسمين فعلًا، يتحرَّك أسفلهما بلا رأس على حدة ويتحرك أعلاهما بلا أرجل على حدة أخرى، ذلك أنهم في الحقيقة لا ينشرون ولا يقطعون، ولكن لديهم القدرة والموهبة على الإيحاء والتنويم المغناطيسي الجماعي ما يَستطيعون به أن يُنوِّموا جمهور مسرح أو جمهور قارة أو جماهير أجيال كثيرة متعدِّدة تنويمًا مغناطيسيًّا مجسَّدًا في رموزهم «الكلمات» وكتبهم بحيث يُصدقهم الناس بمجرد قراءتهم، حتى لو تعارض ما يكتبون مع كافة الحقائق العلمية وغير العلمية التي نعرفها جميعًا ونؤمن بها.
مستر كيسنجر أحب أن يُصبح تولستوي السياسة، ويكتب قصة الحرب والسلام (على الأقل في ذلك الجزء الذي قرأته) عن الحرب والسلام في الشرق الأوسط، ودوره «المعجز» في صناعة كلٍّ منهما، لقد جعلت أقرأ ذلك الجزء وكأني أقرأ لتولستوي مُبتدئ أرثي لجهوده الهائلة كي يَرتدي مسوح الكُتَّاب الكبار، ومستعملًا قريحة يعتقد هو أنها إحدى فلتات الزمان، ومعتمدًا على جهل قراء أمريكيِّين يُصدِّقون ما يُكتَب، وقارئ أوروبي «يتفرج» على ما يكتب، ليُنوِّمهم مغناطيسيًّا، بحيث يُقنعهم أن هذا كله قد حدث بالضبط مثلما روى، وأنه هو شمشون الجبار الذي استطاع في وقت انهارَت فيه القيادة الأمريكية الرسمية مُمثَّلة في نيكسون وفضيحة ووترجيت وقد انشقت وابتلعته، بالحق استطاع في غيبة حتى قائد أمريكا العسكري وانشغال الكونجرس بلعبة ووترجيت، أن يواجه وحده المعسكر الشيوعي بأَسرِه الذي لم يكن يُعاني من أي مشاكل داخلية، وأن يهبَّ هبَّة الإسكندر الأكبر سياسيًّا وعسكريًّا ومُفاوضًا وندًّا لبريجنيف والمكتب السياسي للحزب الشيوعي والحزب نفسه، والعرب، وأوروبا، والجيش المصري والإسرائيلي، وعالم يوشك أن يسقط «مدشدشًا» مئات الشظايا، وكأن الكرة الأرضية كرة من زجاج قذف بها فوق أرض صلبة فتكسَّرت أو كانت «ستدشدش» تمامًا. وهو وحده، بقرنه الواحد، استطاع أن يَحول بين أمريكا وبين أن تَسقُط داخليًّا، ويحول بين أمريكا العسكرية ومواجهة مؤكَّدة عسكرية رهيبة مع المعسكر الشيوعي بأَسرِه. واستطاع أيضًا أن يُنقذ إسرائيل في لحظة أوشكَت الجيوش المصرية السورية أن تَبتلعها وتُصبح في خبر كان، استطاع من بين أنياب الذئاب العربية المسعورة أن يَنتزعها ويُعيد لها توازنها، ويُعيد لها قواتها بحيث تسحق الجيش السوري في الشمال حتى لتدقَّ أبواب دمشق، وتكسر عظام العمود الفقري للجيش المصري وتحول بين إسرائيل وبين أن تَقصم ظهر الجيش الثالث وتُصبح مصر مفتحة الأبواب أمام إيريل شارون ودباباته التي أحدثَت ثغرة كانت ستدفن فيها مصر العسكرية الساداتية المهيبة.
وبينما يُصوِّر نفسه ذلك «الكسرى» المهيب، لا ينسى بين كل حين وحين أن يذكر القارئ بأنه ما هو إلا لاجئ يهودي فارٌّ من بطش ألمانيا النازية، وأنه أول وزير خارجية يكون مولودًا خارج أمريكا، ويبلغ به الأمر حدَّ أن «يُنكِّت» ويقول إنه أول وزير خارجية أيضًا لا «يفرق شعره» الكثيف.
والقصص التي يرويها كيسنجر تكاد — لمن لا يعرف — تُشكِّل «حكاية» متقنة تمامًا، ولا بُدَّ أن الكثيرين آمنون وسيُؤمنون بها، ولكن حمدًا لله أنه ليس الشاهد الوحيد على ما جرى، وأن هناك حقائق كثيرة لا يُمكن إنكارها تروي قصة تكاد تكون مغايرة تمامًا لما رواه كيسنجر.
إن كيسنجر يصور حرب ٧٣ وكأنها شيء باغت — تمامًا — العالم، وعلى رأسِه الولايات المتحدة ببنتاجونها ووكالة مخابراتها، وباغت الاتحاد السوفيتي وأوروبا وحتى العرب أنفسهم.
وأنا لا أريد أن أصغي كثيرًا إلى الهمسات التي تُؤكِّد أن حرب أكتوبر كانت شيئًا متفقًا عليه بين السادات وأمريكا، وأن اتصالات كثيرة جرت بين السادات شخصيًّا وبين صانعي السياسة الأمريكية. أمَّا أن إسرائيل فوجئت بالحرب فهذا أمرٌ لا شك فيه، أمَّا الذي فيه شك كثير فهو أن تكون أمريكا قد فوجئت تمامًا بتلك الحرب؛ فحُكَّام الدول العربية تقريبًا يعرفون ومتأكِّدون أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة لا يُمكن أن يُسمَح لهم بحرب يلحقون بإسرائيل فيها هزيمة عسكرية ساحقة، وأن أمريكا لا يُمكن أن تسمح بقيام حرب إلا وهي عارفة وضامنة أن إسرائيل فيها ستكون المُنتصرة أو على الأقل ستكون غير مهزومة تلك الهزيمة النكراء. إن العالم كله يعرف أن طريقة كيسنجر لحل المشاكل هي التفاوض، والطريقة لإجراء مفاوضات ناجحة هي «تسخين» المشكلة أو تحريكها من وضع الركود التام إلى أن تُصبح التهابًا عالميًّا حادًّا، التهابًا عالميًّا يجهِّز المسرح لمائدة مفاوضات مباشرة بين الأطراف المعنية.
قصة بوليسية مُثيرة ساقها كيسنجر، عن المفاجأة، وعدم التصديق، ثُمَّ انهيار الجيش الإسرائيلي ووضع الجيش السوفيتي نفسه في حالة تأهُّب وعمل جسر جوي بينه وبين دمشق والقاهرة بطريقة جعلته «يأمر» الجيش الأمريكي بأن يعوض كل ما خسره الجيش الإسرائيلي في الأيام الثلاثة الأولى للقتال، وهكذا نقل في أربعة أيام فقط بواسطة الطائرات الأمريكية العملاقة عتادًا يُساوي كل ما حصلت عليه الدول العربية خلال أربعة أشهر.
سيناريو محبوك تمامًا، سيناريو متطرِّف تمامًا، وعلى النقيض منه يقول إنَّ الاتفاق على مبدأ الحرب أو «التسخين» كان موجودًا بطريقةٍ أو بأخرى بين السادات وكيسنجر، وأن السادات التزم بألا يتعدى ما يحتلُّه من الضفة الشرقية للقناة وسيناء ثلاثين كيلومترًا.
أمَّا إنه كان هناك اتفاق، فهذا أمر لا شك فيه؛ إذ إن الضباط الذين خاضوا حرب ٧٣ يؤكدون أن الجيش الإسرائيلي تهاوى برمَّته تحت أقدام الجيش المصري، وأنه بتدمير الخمسمائة دبابة المخصصة للجبهة الجنوبية أصبح الطريق مفتوحًا أمام الجيش المصري لاستعادة كل سيناء إن لم يكن احتلال صحراء النقب وقطاع غزة، وربما الوصول إلى مشارف القدس نفسها، فما الذي منع الجيش المصري من مواصلة هجومه ذلك؟ وهل معقول بعد كل هذا الانتصار أن يتوقَّف الجيش المصري ويبدأ بحفر الخنادق استعدادًا لاتخاذ موقف دفاع؟ هل المُكتسِح المنتصر يوقف زحفه متطوعًا ويتوقف كي يستطيع الجيش الإسرائيلي استعادة قدرته وجمع شمله وشن هجوم على الجيش المصري؟
هناك تفسير يقول إنَّ الجيش المصري لم يستطع التوغل أكثر في سيناء؛ لأنه كان ينقصه الغطاء الجوي الكافي واللازم، وأنه لو كان قد اندفع إلى قلب سيناء لكشف نفسه للطيران الإسرائيلي ولحدثت كارثة، وضباط مصريون كثيرون يردُّون على هذا الكلام بقولهم إنه كان باستطاعة الجيش أن يحرك قواعد صواريخه السام ٣ والسام ٦ أرض جو بحيث تُشكِّل ذلك الغطاء.
ولكن هناك رأيًا آخر يقول: إن توقف الجيش عن مواصلة الهجوم كان وحدث لأن الاتفاق الذي تم قبيل الحرب كان ينصُّ على أن الجيش المصري لا يتوغل في سيناء أكثر من ٣٠ كيلومترًا.
شيءٌ آخر تناساه الدكتور كيسنجر تمامًا، وهو كيف انتقل الجيش الإسرائيلي من جيش مهزوم مُحطَّم المدرعات إلى جيش مُهاجم، بحيث كانت أكبر معركة دبابات حدثت في العصر الحديث واشترك فيها أكثر من ٢٠٠٠ دبابة، وخسر الجيش المصري فيها ٣٥٠ دبابة، هنا يسكت كيسنجر تمامًا، ولا يُفصح عما حدث فعلًا. والذي حدث أن إسرائيل — كجيش — كانت قد هُزمت تمامًا بحلول يوم ١٠ أكتوبر أي بعد أربعة أيام من الحرب، وأن الجسر الجوي الذي حدث بين أمريكا وإسرائيل لم يكن جسرًا لنقل معدات وذخائر ودبابات، وإنما كان جسرًا لنقل «الجيش الأمريكي» نفسه ليقاتل الجيش المصري.
بمعنى أن الجيش المصري بعد أن هدم إسرائيل أصبح الذي يتصدَّى له هو الجيش الأمريكي بقضِّه وقضيضه، وبالذات بصواريخه الحديثة جِدًّا المضادة للدبابات، تلك الدبابات التي أُسر بعضُها وعداد كيلومتراته لم يتجاوز العشرين كيلومترًا، وهي المسافة الكائنة بين المطار الذي هبطت به الطائرة الحاملة العملاقة وأرض المعركة، جيش ليس فقط بمعداته وإنما بجنوده وضباطه الأمريكيين؛ فالمعروف أن مطلق الصاروخ الراداري المضاد للدبابات لا بُدَّ أن يتمرن على ٩ آلاف صاروخ قبل أن يتمكَّن من القدرة على إصابة الهدف، وهكذا فإن المقاتلين الأمريكيين المدرَّبين كانوا هم الذين أيضًا يُقاتلون، بمعنى أننا بدءًا من يوم ١٠ أكتوبر كُنَّا نقاتل أمريكا، وهذا هو الذي دفع الاتحاد السوفيتي إلى توجيه إنذاره الخطير الذي أيقظ به دوبرنين، سفير الاتحاد السوفيتي في أمريكا، كيسنجر من نومه، مهدِّدًا بأن الجيش السوفيتي سيخوض المعركة هو الآخر بجوار حلفائه العرب ما دامت أمريكا قد تورَّطت وبنفسها تُقاتلهم، مما جعل كيسنجر يقول إنه ضرب عرض الحائط بتهديدات الروس ووضع القوات الأمريكية في حالة استنفار الحرب التي أشرنا إليها.
وما ذكرتُه ليس سوى جزء يسير من مغالطات علنية ومفتراة، وكان من واجبنا كعرب أن نتصدى فورًا لما جاء في الكتاب، وأن نذكر كل ما لدينا من حقائق تَقلب منطق كيسنجر المعكوس، والعالم الآن على استعداد لأن يَفهم ويتبيَّن الصدق من الكذب، وما يُدهشني أن أحدًا سواء من عاصروا الأحداث أو شاركوا فيها لم يتصدَّ بعد لما ذكره الرجل، حتى ليُوشك ما ذكره كيسنجر أن يتحوَّل بطول الصمت أو بالمؤامرة الصامتة إلى حقائق، أعرف أنا، مثلما يعرف كل من عاش تلك الفترة أنها أكاذيب غاية في الجرأة والصفاقة، ولهذا فحلالٌ تمامًا أن نمزِّق عنها الأقنعة، وأن نعيد كتابة سيناريو الأحداث من وجهة نظرنا نحن، أو بالأصح كما حدثت تمامًا.
فالأمر لا يُمكن السكوت عليه.