الحد الأدنى لوجود أمة
لو أنني عدو للأمة العربية وأعرف أن لديها إمكانيات تُعتبر بلغة العصر إمكانيات مخيفة؛ فتعداد سكانها يَقرب من المائة والعشرين مليونًا، وتحتلُّ مساحة رهيبة، يكفي أن دولة واحدة من دولها الثلاث والعشرين — السودان — تبلغ مساحتها مساحة أوروبا بأسرها، وأرضها التي من المُمكن زراعتها باستطاعتها أن تكفي ليس سكانها فقط من القمح وإنما تكفي العالم بأجمعه تمامًا، أمة تحتلُّ وسط الدنيا، بالضبط منطقة الوسط بحيث لا يمكن الاتصال بين شرق العالم وغربه أو بين شماله وجنوبه إلا من خلالها، والأرض التي لا تُزرع فيها صحراؤها يَحفل باطنها بأعظم كنز عرفه الجنس البشري طوال تاريخه وليس بتروله فقط، وإنما كل ما يخطر على البال من فوسفات إلى يورانيوم إلى كوبالت.
أمة كثافتها السكانية بسيطة تمامًا بالقياس إلى معدلات الكثافة في العالم؛ فهي قابلة لاستيعاب؛ ليس فقط مائة وعشرين مليون إنسان، ولكن ربما ألف مائة مليون إنسان، والحمد لله رجالها نَهِمون للخلف، ونساؤها خصيبات باستطاعة أقلهن خصوبة أن تلد خمسة أطفال.
إنه إذا أُتيح لإنسانها أن يَستقلَّ ويتعلمَ ويمتلك أمر نفسه وثرواته لأصبح العرب قوة ثالثة حقيقية تُنافس الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وتأتي قبل آسيا وأوروبا.
لو كنتُ أعادي هذه الأمة ولا أريدها أن تبلغ — إذا تُركت وشأنها — ما لا بُدَّ أن تبلغه من قوة ونفوذ، فماذا أفعل؟
أأواجه هذه الأمة مواجهة عسكرية شاملة وأكتسحُها وأحتلُّ أرضها؟
احتمال قائم، ولكنه مستحيل، فأوَّلًا قد جرَّب الغرب هذا الاكتساح فيما يُسَمَّى بالحروب الصليبية، ورفع الصدام إلى مرحلة القَداسة، ولكنه في حقيقة أمره كان مواجهة عسكرية شاملة بين حضارة مسيحية متأخِّرة في ذلك الوقت وحضارة إسلامية كانت قد بلغت ذروتها وبدأت تضمحل وتتفكَّك الدولة الكبرى إلى دويلات، لم يفعل الغزو الصليبي شيئًا، إلا أنه وحَّدها تمامًا إلى حد أن تكوَّن للعرب المسلمين جيش واحد بقيادة واحدة، وكانت النتيجة المحتَّمة أن انهزم الغرب، ولكنه في هزيمته تعلم الدرس؛ إذ كان قد أدرك أنه متخلِّف، فالتقط من الحضارة الإسلامية شرارة التقدم ومضى يطوِّرها حتى بلغ عصر النهضة، وحينئذٍ بدأ غزْوَنا من جديد، ولكن ليس بطريقة المواجهة الشاملة، وإنما بطريقة التسلُّل، وهكذا تسللت روسيا إلى الممالك الإسلامية في أزبكستان وغيرها، وتسلَّلت فرنسا إلى شمال إفريقيا، وإيطاليا إلى ليبيا، وإنجلترا إلى مصر، وما لبثت الدولتان أن اقتسمتا الغنيمة وانهزمنا.
ولكننا — ويبدو أن هذا هو قانون الحياة — من أعدائنا التقطنا شرارة الحضارة مرة أخرى، وما لبثنا أن ثُرنا ثورات متفرقة، هذا صحيح، ولكنها نجحت في تحريرنا من جيوش الغرب التي كانت تحتلنا، ولكننا لم نتحرَّر من التخلف الذي يكاد يعود بنا إلى القرون الوسطى، ولهذا لا نزال في قبضة أوروبا بغربها وشرقها بعد أن أُضيفت لها الإمبراطورية الفتية أمريكا.
المواجهة الشاملة إذن لا يُمكن استعمالها، فلا أمريكا تقدر على اكتساحنا وقوة عظمى مهولة تقف نِدًّا لها، وكذلك الاتحاد السوفيتي ولا أوروبا، فما بالك بإسرائيل!
إسرائيل هي وحدها التي تتصوَّر أنها القادرة على اكتساح العالم العربي وحكمه، ولكن ليس بالضرورة عن طريق المواجهة العسكرية الشاملة كما أخطأ الغرب وفعل، ولا عن طريق التسلل بعد أن أسفر اليهود عن أنفسهم تمامًا في دولة إسرائيل، كان باستطاعتهم هذا قبل قيام إسرائيل، وفعلًا كانوا في دولة متقدِّمة كمصر يملكون زمام الصناعة والتجارة ونفوذهم خفي ولكنه كبير، أمَّا الآن فقد اختلف الوضع ولم يعد مُمكنًا لليهود والغرب أن يعودوا إلى المكانة التي كانوا يَحتلُّونها في مصر والعراق والمغرب وحتى اليمن.
ونعود للسؤال: إذا كنتُ عدوًّا للعرب وأريد السيطرة عليهم وإبقاءهم في قبضة يدي، فماذا أفعل؟
إن أعداء هذه الأمة ليسوا أغبياء ليَكتفوا بأحلام اليقظة تراودهم بين الحين والآخر، إن المسافة بين الحلم والواقع عندهم مسألة زمن لا أكثر، أحلام الأمس هي واقع اليوم، وأحلام اليوم هي واقع الغد.
والواقع يقول إنَّ عالمنا العربي اليوم بالضبط في الوضع الأمثل لأعدائه، وانظر إلى خريطته الداخلية، وانظر إلى موقعه في العالم، وانظر إلى صورته في أعين الدنيا، وقارن بين ما هو كائن وما كان يجب أن يكون.
الكائن اليوم أن التناقضات السياسية داخل العالم العربي أكثر بكثير من الاتفاقات أو الانسجامات، وللأسف فإن هذه التناقضات لا تخفُّ بمضي الزمن ولكنها تتكاثر، وإذا كُنَّا في ظل الإقطاع والاستعمارَين الإنجليزي والفرنسي استطعنا أن نَدخل كدول عربية مجتمعة حربًا ضد إسرائيل التي لم تكن قد أصبحت بعد دولة، بل مجرَّد عصابات مُقاتلة ومستوطنات، اليوم توحَّدت إسرائيل في دولة، وتفرق العرب، بحيث إنك لا يمكن أن تجد ثلاث دول عربية (وقد بلغ عددها ٢٣) ثلاث دول فقط قد اتَّحدت إلا لساعات أو لأيام، أو حتى نسَّقت خطوطها السياسية.
والسؤال هو: هل هذا الوضع الأمثل لأعداء الأمة العربية هو وضع جاء حول نقطة واحدة ومن الممكن الوصول إلى اتفاقات أخرى؟
لو أخذنا الوحدة الفكرية المحتَّمة باعتبارنا أبناء لغة واحدة ومُنحدِرِين من تراث ثقافي واحد، لكان مفروضًا أن نظلَّ — رغم هزائمنا — في وحدة فكرية واحدة، إلا أن التناحُر الفكري بيننا قد ازداد كلما ازداد استقلالنا رسوخًا؛ إذ إنَّ كل بلد عربي يريد أن يناطح البلد العربي الآخر، والعدو يُزكِّي هذه الروح تمامًا، وليس أقرب إلى الذاكرة من فكرة الفرعونية مثلًا والفينيقية والبابلية، أو فكرة حتمية انتقال مراكز التفكير إلى مراكز الثروة، أو فكرة أن يفرض هذا التحزب فكره على الأمة كلها، ليس باعتبارها رافدًا من روافدها إنما باعتباره النهر الفكري الوحيد الذي لا بُدَّ أن يكون شاملًا ومسيطرًا.
موقفنا من الثقافة الإسلامية مثلًا … هل نرتدُّ إلى السلف الصالح أم نتقدَّم بأفكارنا الإسلامية حتى لنحتوي العصر الحديث بكلِّ علومه وأدواته، بحيث نُثري الثقافة العالَمية نفسها، إن ما يَحفل به إسلامنا من قيم العدل وديمقراطية الحاكم وحتمية الضريبة التصاعُدية بحيث لا تعود منة وإنما هي واجب أساسي أسمَيناه الزكاة لا الإحسان ولا حتى الضريبة؛ ففي «فرض» الضريبة نوع من العنوة التي ترفضها روح الإسلام السَّمحة، بينما في دفع الزكاة نوع من العمل الاختياري الحر الذي لا يَتيه به مسلم على آخر، أو غنيٌّ على فقير … كثيرٌ جِدًّا من مبادئ الإسلام كان مفروضًا أن نتَّخذها جميعًا، ومهما كانت دياناتنا أساسًا من أسس وجودنا باعتبارها أكثر عدلًا وإنسانيةً مما جاءت به مذاهب جديدة، كالاشتراكية وحتى الديمقراطية، ليست عالمًا طويل الباع في هذا المجال، ولكن ما أريد قَوله هو أننا لم نتَّفق ويبدو أننا لن نتَّفق في القريب العاجل على مبدأ واحد أو حلٍّ واحد أو حتى موقف واحد، لا تجاه العدو ولا تجاه الصديق.
وليت الجامعة العربية هي الحل؛ فعند إنشائها كان العرب أكثر اتفاقًا في الرأي مما هم الآن، ونادرًا ما تَحُلُّ قوانينُها غير المُلزِمة أي إشكال.
ولا يُمكن أن يكون هذا هو الوضع الطبيعي للأمور.
لا يُمكِن أن يكون هذا الكم الوافر العنيف من الخلافات والاختلافات من صنعنا نحن، أو من صنع الزمن. إن يدًا إرادية داهية تَلعب بنا.
فلماذا لا نعقد مؤتمرًا شعبيًّا فكريًّا تفكيريًّا لنبحث فيه هذه الظاهرة وعلى الأقل لنحصر الخلافات والاختلافات، ونتتبَّعَها لنعرف إلى أين تؤدِّي وإلى أي ناحية تشير.
إنَّ وجودنا لم يعد يحتمل أبدًا أن نؤجل اتفاقنا أو الحد الأدنى من اتفاقنا؛ فهو وجودٌ كما نرى جميعًا ينهار أمام أعينِنا كل يوم.
من هنا أرسل النداء لكل المثقفين والمفكِّرين العرب، لماذا أيها الأصدقاء لا نقوم بشن حملة شعواء وعقد المؤتمرات وأخذ زمام الأمور في أيدينا؛ إذ ربما استطاعت أيادينا الفكرية أن تحلَّ ما استعصَى على السياسيين حله.
أو ربما نستطيع ولا بُدَّ أننا سنَستطيع أن نجد أساسًا فكريًّا واحدًا للاتفاق، أيَّ أساس، ونجد نقطة، أيَّ نقطة، منها نَنطلِق أو على الأقل نُوقف هذا الانهيار المرعب.