عين قرة العين
التجربة لا تزال قريبة جِدًّا، فحين بدأ الغزو الإسرائيلي للبنان كنتُ في القاهرة أستعدُّ للذهاب إلى الولايات المتحدة، وعلى وجه التحديد مدينة بلتيمور حيث كلية طب «جونز هوبكنز» ومُستشفاها العالمي، وعلى وجه التحديد لمعهد جراحةِ وأمراض العيون الذي اشتهر به هذا المُستشفى، حتى لقد أصبح أهم معهد من نوعه تُجرى فيه أحدث الجراحات لعلاج أمراض وإصابات العين، بل وتُبتكَر فيه عمليات يقوم بها أساتذة كبار مثال رونالد مايكل (الذي أجرى جراحات في عين رئيس وزراء الصين السابق، وبطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل، وشخصيات عالمية أخرى كثيرة)؛ أساتذة كبار ليس أقلهم أكبر أخصائية في العالم في جراحة نقل وترقيع القرنية وإعادة البصر إلى ما لا يقلُّ عن عشرة آلاف مريضٍ كانوا شبهَ فاقدي الإبصار.
كنتُ في القاهرة أُجهز وثائق السفر إلى معهد جونز هوبكنز، وأرسل التلكسات والخطابات والتقارير إلى عميده الأستاذ رولاند مايكل لأطلب مُوافقتَه على إجراء العمليات الجراحية اللازمة لإعادة البصر لعين ابني بهاء الدين اليمَني، كان ذلك في شباط (فبراير) ١٩٨٢، وبالتحديد اليوم العاشر الأغبر منه، حين وقع لابني بهاء حادث سيارة مروِّع كاد يقضي عليه تمامًا هو وصديقه الذي كان معه نتيجةً لرعونة سائق عربة لوري، واصطدام السيارة التي كانا يستقلانها به صدمةً أحالتْها إلى كتلة من الصفيح المَحشو بالزجاج وبجسديهما.
ولكن …
بما يُشبه المعجزة استطعنا العثور على جراح العيون البارع الدكتور بهي الدين شلش، وفي الخامسة صباحًا «خيَّط» عين بهاء اليمنى التي كانت قد انفجَرت تمامًا ولم يبقَ من مائها الداخلي شيء يُذكَر، وحين سألت الدكتور شلش عن احتمالات إنقاذ العين، حتى لو شكلًا، خفَض بصره، وقبل أن أدوخ تمامًا أذكُر أني سألتُه: عشرة في المائة احتمال الشفاء؟ خفض بصره مرة أخرى، وخبطتُ يدًا بيدٍ، وفرَّت من عيني دمعة وأنا أقول: العوض على الله.
ولأنَّ الأهل والأصدقاء وأطبائي أيضًا قد أدركوا أن الخطر على حياتي كان أكبر من الخطر على عين بهاء، فقد حملوني فوق «تروللي» رغم مُقاومتي و«مقاوحتي»، وأخذوني إلى قسم العناية المركزة وأعطَوني أقوى ما لديهم من حقن المخدِّرات، ولكن بقيَ عقلي حادَّ اليقظة وكأن كشَّافًا قوته ألف كيلووات مسلَّط على خلاياه لا يَدَع لها لحظة واحدة من رمشة جفن.
وأخيرًا لم يجدوا مناصًا من أن يُعطوني «البنج» الذي يُبنجون به للعمليات الجراحية.
وقبل أن أَغيب تمامًا عن الوعي، والألف كيلووات التي يصبُّها الكشاف على عقلي يقظة ومقاومة، والألف تتناقَص في سرعة رهيبة، وفي الخلجة التالية كنتُ أحسُّ أني سأنتهي ويحلُّ الظلام التام والإظلام … في ذبالة الوعي تلك كان الشيء الذي يُرعبني أكثر من مشهد عزرائيل نفسه لو رأيتَه قادمًا يَقبض روحي، مشهد ابني الغض، بوسامة الثمانية عشر عامًا، وروعة أنها ملامح ابني أنا ووجناته ولون عيونه الخضراء النادرة، وإحداها وبالتحديد يُمناها، قد، للأبد، انسدل فوقها الجفن، وانخسفَت في محجرها، وكالكرة التي تَعِبت وفرغت، شُفطت إلى الداخل وانتهى الأمر.
وقبل أن أصرخ بأعلى ما أستطيعه من صوت، أو أثبَ ملسوعًا بالهول، أو يَختلِج بدني اختلاجة الضربة الأخيرة القاضية بالموت، إن هي إلا مرة واحدة، وعلى آخر ذبالة للوعي، تراءى المشهد، وفي الحال انتهى، لأني كنتُ أنا انتهَيت، ولم أَعُد هناك …
•••
ليس في نيتي أبدًا، ولم يكن، أن أحكي؛ فأنا أعتبر الفواجع، وبالذات ما كان منها يتعلَّق بشخصي أو بشخص أي كاتب، مسألة لا يصحُّ أن يَنساق لإغراء روايتها الإنسان، فأنا شخصيًّا لا أستحبُّ من الناس أن يَروُوا لي، ليس ما يؤلمهم الآن، فتلك قضية أخرى ومشاركة إنسانية واجبة، ولكن ما آلَمهم في الماضي، بَعُد أم قَرُب، فإن في روايتهم للألم الهائل الذي مضى، نوعًا من تعذيب القائل وتعذيب السامع على حدٍّ سواء، والناس لديهم من آلامهم ما يكفي، وشعاري ألا أشارك غيري لا في ما قد يجلب له السعادة، أمَّا أن أخفف عن مراري بتذويبها في آذان أو مصمصات أو مشاركات المعارف أو الأصدقاء أو الآخرين، فهو في رأيي سوء استغلال لشهامة الآخرين في المشاركة أو في الاستماع.
ولكن، ماذا أفعل، ومشاعرنا الخاصة كثيرًا ما تَغلبنا وتجعلنا لا نستطيع إذا جاءت سيرتها أن نعبرها وكأنها للغير حدثت، نحن بشر، وضعفنا هنا جزء لا يتجزأ من بشريتنا نفسها.
لقد كنت بصدد الحديث عن اجتياح لبنان الذي بدأ يُسفِر عن نفسه واضحًا تمامًا في النصف الأخير من أيار (مايو) ١٩٨٢، وكنت أريد أن أذكر حادثة عين ابني في سطر واحد، رغم أنها وقعت ذات ليلة من ليالي شباط (فبراير)، واضطرُّوا أن يُبقوني غائبًا عن الوعي حتى تُجرى العملية التي استغرقت خمس ساعات، ليتمكَّن فيها الجراح من لملمة العين الممزقة، و«تخييط» «القرنية» و«الملتحمة» و«الشبكية» التي تهتَّكَت جميعها في أكثر من موضع، ناهيك عن عدسة العين التي قذف بها انفجار الكرة العينية وأضاعتها، واضطرارهم لتغييبي عن الوعي لم يكن مبالغةً منهم في الحرص على مشاعري، وإنما كان خوفًا على قلبي؛ فمنذ سنوات كنت قد أُصبت بأزمة قلبية رهيبة على أثر صدام مع المسئولين عن الجريدة التي أعمل بها، وللأسف كان الصدام مدعَّمًا بموقف باطش من الرئيس السابق، وكان فارسه ومُنفِّذه بلا أدنى شفقة أو هوادة رئيس التحرير الذي كان في نفس الوقت «زميلًا» وروائيًّا وكاتبًا، وفجأة وجدت نفسي أمام نظام عارٍ بَشِع، وأدوات للنظام لا تقلُّ عنه خسة، ونوايا تجاه الشعب والمستقبل الحاضر غير معلَنة، ولكن أنا وغيري رأيناها رؤية العين، وتبدَّى لنا الأمر على حقيقته بلا أي ورقة توت، وبنظرات تَحفل بخيانة وغدر واتفاقات ومؤامرات أكثر بشاعة بكثير من أي «كامب ديفيد»؛ فقد كُنَّا قبل «كامب ديفيد» بخمس سنوات، وحتى قبل انتفاضة ١٨ و١٩ كانون الثاني (يناير) ٧٧ بكثير، كُنَّا طلائع شعب، ومن زمن، نرى، ونتصوَّر أنها خيالاتنا المستقلة وكُرهنا الشخصي للنظام، وأن شيئًا ما نتصوَّره لا يمكن أن يحدث أو يمر، وأنهم أضعف وأجبن من أن يتآمَروا على الشعب بكل ذلك الكم من انعدام الضمير والتهتُّك العلني والدعارة التي لا تُقيم وزنًا لأي قيمة أو رأي عام، ولكن الأحداث، موضوعية، ودون احتمال لأي ذرة شك أو غموض، وعيني عينك، وفي وضح النهار، مضَت تتوالى، وتتَّسع دوائر الوعي بها وتتَّسع حدقات الواعين قبلًا، وقطار الخيانة والعار والفساد سائر، لا تُوقفه قوة، من الداخل أو من الخارج، والوجوه التي كانت تتجمَّل وتتنكَّر وتدعي تسفر عن نفسها، ولا تعود ترى في الجهر بنفسها وحقارتها أي خجل أو مدعاة للحرج.
وكان مشهد فاصل في مكتب رئيس التحرير الذي أطلب له رغم كل شيء الرحمة في آخرته، فقطعًا سيحتاجها لفرط ما ارتكبه، وارتكبه بكل الوعي الإجرامي الجاهل، وظل يرتكبه إلى أن أورد نفسه بنفسه موارد الحتف الذي لم يكن يتمناه له أحد، حتى من أشد ضحاياه تأذيًّا بأفعاله.
وأنا شقي.
ولستُ شقيًّا بما ارتكبتُه، ولكني في أغلب الأحيان أَشقى بما يُرتكب في حقي.
فقد نجحَتِ العملية، ونجوت.
ولكن عُقدة «القلب» مثلما تتحكَّم في بعض مرضاه أو مَن كانوا مرضاه، فهي أيضًا، وفي الغالب تتحكم في معظم أطبائه، أطباء القلب؛ فهم يَخافون ويُخيفونك من أي انفعال، ويجعلونك، لو أعطاك الله الصبر والسكينة لإطاعتهم، يجعلونك تحيا في قفص من زجاج يَعزلك، لو استطاعوا، عن كل وأي انفعال، يَعزلونك لو أمكَنَهم تمامًا، لدرجة أن تموت من شدة أنك لا تنفعل أو تتفاعَل أو يَنتابُك أيُّ رضًا أو أي غضب أو أي حب أو أي كره، ولو رضختَ لجعلوك — خوفًا عليك — وإذا عنَّ لك أن تبتسم، أن تذرف الابتسامة، وإذا عنَّ لك أن تبكي تُزغزغ دمعتك، لتهبط من عينيك راقصة، عذبة، تتراقص، فما بالك والأمر أبشع وأمرُّ، انفعال ممكن أن يرقَّ له قلب بشر؟
ما بالك وهم يعرفون أن حادثًا جللًا قد حدث لعين قرة عينك، وأن جراحة كبرى تُجرى له، وسيَخرج الجرَّاح من الغرفة لكي يَحكم في ثانية على شعور الأبوة الكامن فيك، أقوى شعور يمتلكه الرجل، أن تَنزل به ضربة ساحقة تُذهبه ربما إلى الأبد شعاعًا، وتقول له إن بصر ابنه وقرَّة قرة عينه قد إلى الأبد ذهبَت، أو أدفع بالاحتمال مائة وثمانية درجة إلى العكس تمامًا، ويقول لك وجه الجراح إن العملية مبدئيًّا نجحت، والعين المنفجرة قد رُتقت كل جروحها، ومرةً أخرى تكورت، وأن الأمل لا يزال هناك.
هذا السائل أو الجسم الزجاجي إذا انفجرت العين يتناثَر من جروحها و«تُصفى» كرة العين، ومصير العين والإبصار يتوقَّف على قدرة الأنسجة الداخلية على إعادة إفراز هذا الجسم الزجاجي وفي فترة لا تتجاوز الأربعين ساعة أو أقل؛ إذ لو لم يحدث هذا لانفصلَت الشبكية اللاصقة برهافة بحائط العين الداخلي، والتي لا يُبقيها مُلتصقةً في موضعها إلا هذا الجسم الزجاجي الذي — بضغطه ووجوده — يثبتها في مكانها، ويحفظ لها اتزانها مهما وأنَّى تحرَّكت العين داخل محجرها.
إذا لم تملأ العين نفسَها بنفسِها في هذه الساعات القليلة التي تعقُب العملية، فقُلِ العوض على الله في العين، هذا إذا سَلِمت العملية من التلوث، ومِن ألفِ خطرٍ آخر وإن تكن درجاتها أهون …
•••
ما بالك، وأطباؤك أنت الوالد، يَعرفون أن قلب الرجل، أي رجل، قلب الأب، ولو كان مقدودًا من صخر، لا يستطيع أن يتحمَّل تأرجُح أن يَخرج وجه الجراح يقول سابع سماء (نجحَت)، أو يَخرج منخفض البصر إلى سابع سجيل (فشلَت)، إلى العناية المركزة إذن خذوه.
وغلُّوه بالمهدئات، إن نفعت، ولم تنفَع، وبالمُخدِّرات إن غَيَّبت، ولم تُغيِّب، وإذا لم يكن هناك مناصٌ، فبغاز النيتروز المبنِّج بنِّجُوه، وحين يطول الأمر، عليكم بمزيج الأيتير والأوكسيجين والتخدير الطويل المدى …
الطويل المدى إلى أقصى ما تَملكون من طول.
فالعملية قد تطول إلى الساعات الخمس.
وإذا أوقفتُم البنجَ خوفًا عليه.
فعليكم أن تُبقوه نائمًا.
للثماني والأربعين ساعة المقبلة.