من غرفة العمليات
وجدت نفسي محصورًا بين ندائين مُلحَّين، كل يوم يزدادان إلحاحًا، ويزداد إلحاح كلٍّ منهما في التباعُد عن الآخر، وصُلبي مشدودًا بينهما؛ الأزمة اللبنانية تتصاعد، وجيوش إسرائيل قد بدأت تتحرَّك وتتقاطَر عبر الحدود، وكأنما بلا هدف بعيد محدَّد، وكأنما مجرَّد رد فعل لما سُمِّيَ في ذلك الوقت اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، وأخبار تُنشَر هنا وهناك، وهمهمة غامضة يعرفها إحساسي تمامًا، فهي دائمًا تَسبق وقوع الزلازل السياسية أو العسكرية الكبرى التي تَحدُث في منطقتنا …
عقلي بدأ يَرتبك إذ كُنَّا قد وصلنا إلى قرب نهاية مايو (أيار)، وكل ما يَحدث عندنا وحولنا يهيب بي دون أي سبب واضح معقول أن أبقى أُتابع وأراقب وأكتب وأُساهم في دفع الكارثة لو حدثت، وعلى الأقل بمجرَّد البقاء قريبًا منها …
ولم يكن هناك سبب واضح لهذا التدهور …
أحيانًا كنتُ أقف بجوار الشاب الصغير في العيادة والطبيب يَفحصه ويُشير إلى العلامات، ويُجهِد بهاء بصره ويُقلِّص عضلات وجهه في محاولة مُستميتة لكي يرى العلامة أو الصف، محاولات الابن المدرك للعذاب المروِّع الذي لا بُدَّ يعصف بأبيه، ورغبته أن يفعل المستحيل ليرى، لا لكي يَستعيد القدرة على الإبصار أو يفرح هو شخصيًّا بشفائه أو بنجاته، وإنما ليُفرحني أنا، وكأن استعادته للرؤية أهم عندي من أهميتها عنده وضرورتها بالنسبة إليه.
كنتُ أقف، على أطراف أصابعي أحيانًا، وأنا، رغمًا عني أُغمض عينًا وأجاهد جهاد الجبابرة لكي أرى بالأخرى، وكأنما إذا نجحت أنا في الرؤية سيستطيع بهاء بطريقة ما أن يرى … ولكن هيهات … أقف، وفي الوقت الذي أبذل فيه قصارى محاوَلاتي، يَقتحمني خاطر غريب، من تلك الخواطر التي كثيرًا ما تَقتَحِمني، وتُلغي تمامًا كل ما درسته وأُؤمن به من علوم وضعية منطقية، وتجعَلُني أُدرك، في ضوء واضح غريب، أننا لم نَعرف كل شيء بعد، وأن المسائل متَّصلة في الكون بطريقة لم نُدرك بعد كنهَ ذلك الاتصال، وأن الخيوط مُتشابكة إلى درجة يستحيل على العقل البشري إدراكها، رغم أنها موجودة هناك وكائنة، مثلها مثل الموجات الكهرومغناطيسية التي كانت موجودةً منذ كان الوجود والتي لم يَستَطِع الإنسان اكتشافها إلا قريبًا جِدًّا … يَقتحمني الخاطر، وأحسُّ أن الدمدمة التي تهيج وجداني وعقلي الباطن تجاه أحداث بيروت، هي نفسها الدمدمة التي أُحسُّها وأنا واقف بجوار بهاء أكافح معه — دون أن يُحسَّ — كفاح المستميت الصامت لكي يرى العلامات، أو لكي أراها أنا أو لكي — ويا للرَّوعة — نراها نحن الاثنين … وإنني في كل مرة أَخرُج من العيادة وأنا أحسُّ أن وضع عينِه يَتدهور، أُدرك أن الوضع على حدود لبنان وفي جنوبه يتدهور أيضًا، وفي كل صباح أقرأ أنباء التدهور في الجنوب أُدرِك — إدراكًا يقينيًّا تامًّا — أني في المساء حين أذهب مع بهاء إلى الطبيب، سأجد قدرته هي الأخرى تَتهاوى وتُهدِّد بالوصول إلى حالة «الاختيار-صفر» بالأصح: الرؤية-صفر. وشيء ثالث كنتُ أفعله، ما بين الصباح المتدهور، والمساء المتدهوِّر، هو الاتصال بالقِسم القنصلي في السفارة الأمريكية لأعرف أخبار الفيزا التي كنتُ قد قدَّمت طلبًا للحصول عليها من عشرة أيام مضَت، وكل يوم يقولون لي: فوت بكرة … وعلى فمِ الموظف ابتسامة، أعرف سببها؛ فأنا أعرف أني موضوع على قائمة الممنوعين من دخول أمريكا (القائمة السوداء)، وهؤلاء لا يُسمَح لهم بالسفر إلا بعد إجراءات في غاية السخف، ودائمًا «واشنطن» وليس القنصلية هي التي تَمنحها، والمخاطبة لواشنطن تتمُّ — فقط — ببرقيات الشيفرة التي تمرُّ على وزارة الخارجية في طريقها إلى قسم اﻟ «سي. آي. إيه» المسئول عن التصريح بهذا النوع من الفيزات، رغم كل ما قد يُقدِّمه الطالب من تقارير طبية مهما بلغت درجة العجلة، حتى لو كانت مسألة حياة أو موت، أو فقْد إبصار أو إمكان استعادته، لا تَغيُّر في قليل أو كثير من إجراءات قائمات أمريكا السوداء.
وهكذا أيضًا كنت أُحسُّ أن الزلزال الكوني القادم تتجمع خيوطه، حتى لتضم بالقوة خيط حالة عين بهاء وحالة موظف اﻟ «سي. آي. إيه»، وحالة آريل شارون وبيجين وأيتان وباقي أفراد العصابة …
ولم يكن شُعوري مجرد حالة سببها الضيق العابر، أو أَعزُوه لنوبة نحسٍ؛ فالنَّحس ينصبُّ على شخص منحوس ما، لا، هذا شيء أكبر وأعمق، ولم تكن أول مرة أُزاوله، أو أوقن بوجود هذا التشابك بين الأحداث، من أوسع مُستواها العالمي أو حتى الكوني إلى أضيق مفرداتها اليومية العابرة، تشابُك أُحسُّ أنه يُمثل الجزء الكبير المَجهول من معرفتنا لحركة الذرات الصغيرة والمجرات الهائلة في تلك الوحدة العضوية المخيفة، وحدة الكون، بما فيه الإنسان، ووحدة الجهاد مع العقل مع الإشعاعات المعروفة وغير المعروفة، وحدة واتصال، ربما يتجمَّع لديَّ ذات يوم الحد الأدنى من المادة والتجربة والمُدركات التي تُمكِّنني من الكتابة بمَعقولية ما عنه، قوة تَصرُخ بي أن أبقى وقوة تُعربِد داخلي وتُهيب بي أن أسافر، وما يُبقيني قادرًا على حفظ توازني بينهما هو الإدراك أن المسألة ليسَت بيدي، وإنما تَعتمِد على «فيزا» أحصل عليها أو لا أحصل، وعلى سعي دائب واتصالات دولية لإيجاد إخصائي آخر ومستشفًى آخر في مكان ما مِن العالم لا تتحكَّم فيه اﻟ «سي آي إيه».
وأذهب، ذات ليلة ليلاء، إلى عيادة الطبيب، فيُطيل في فحص عين بهاء، وأرى وجهه يربد، ويَغتمُّ، ثُمَّ يضع أدواته جانبًا ويقول لي بلهجة ضيق عارم … ماذا حدث؟ ماذا فعلتُم لعين الولد؟
ولم نكن قد فعلنا شيئًا، كُنَّا نحافظ عليه محافظتنا على حبات العيون، وحين سألت، جافَّ الريق، لماذا يسأل؟ قال: لأن شبكية العين انفصلت تمامًا، ولا بُدَّ من محاولة إعادتها خلال ٤٨ ساعة على الأكثر، وإلا فإن نسبة عودة الإبصار إليها وإليه …
ولم يكمل …
فقد كان واضحًا أنها ستصل حينذاك إلى الرقم المخيف؛ الاختيار-صفر، ومُعتمدًا على كل ما لديَّ من رصيد ككاتب، اندفعتُ إلى القسم القنصلي، واستعنتُ بكل أصدقاء أمريكا في مصر، وآليت على نفسي ألا أكفَّ حتى أقيم الدنيا وأقعدها.
وفي نفس الليلة كانت نشرات الأخبار الأخيرة تُذيع بشكل مُلح ومُستمر أنباء عملية «السلام في الجليل» …
وقبل أن أنام قررتُ أن أذهب مع بهاء إلى المطار في الصباح وبالذَّوق أو القوة أحصل على تذاكر لأي طائرة مسافرة إلى ألمانيا أو إنجلترا أو إسبانيا، وأدقُّ أبواب كل إخصائي أو أقتحم قسم الاستقبال في أي مستشفى عيون أوروبي، وليكن ما يكون …
ولكن الصباح استيقظتُ فيه على تليفون مُلح: الفيزا لأمريكا جاهزة، ولكنها محدودة بثلاثة أسابيع لا أكثر …
وبشُبَّان مصريين، كالورد، ودون حجز، وبلفة طويلة حملتْني من القاهرة إلى فرانكفورت إلى باريس إلى واشنطن، في نفس اليوم، مع أن الرحلة لواشنطن لا يُمكن أن تتم إلا بمبيت ليلة في أوروبا، استطاع «فهلوة» الشباب المصري الموظَّف في شركات الطيران الأمريكية والألمانية والبريطانية بعد أن عقدوا «كونسلتو» أن يَصنعوا من نفس المواعيد الثابتة لطائراتهم، معجزة التوفيق، لأصل واشنطن بعد ثلاث وعشرين ساعة، وفي الصباح الباكر يكون بهاء في حجرته في مستشفى جونز هوبكنز، يستعدُّ لدخول حجرة العمليات.
ويحدث هذا كله، قبل أن تَنقضي الثماني والأربعون ساعة التي حددها الطبيب.
•••
ولنترك العملية — بالأصح العمليات الثلاث الأخيرة التي أُجرِيَت في جلسة واحدة واستغرقت خمس ساعات.
لنترك تشتُّتي بين رعايته وملازمته التي حتَّمتْها إجراءات أن ينام بوضع خاص جِدًّا، ومضايق لتنفسه جِدًّا؛ إذ هو مريض بالربو، والتي استلزمت مني أن أبقى بجواره لا أُغمض جفنًا طوال الأيام الخمسة الأول بلياليها، تشتُّتي بين دور الأب والأم والمُمرضة الخاصة (وما أسوأ التمريض في مستشفيات أمريكا) وبين متابعَتي لما بدأ يدور في الجنوب اللبناني من خلال التليفزيون الذي ركَّبتُه في الحجرة والذي كنتُ أرى صورته وأستمع إلى الصوت من خلال سماعة أذن، حتى لا أقلق بهاء …
لنترك متاعبي الخاصة ومنها ضياع حقائبنا، وطلب المستشفى ثلاثة آلاف دولار — لم تكن معي — كتأمين … وعشرات الكوارث الشخصية الأخرى.
ولنُحوِّل الكاميرا تمامًا إلى وسائل الإعلام الأمريكية، صحافةً وتليفزيونًا، وكأنني لم أسافر لأمريكا، وإني سافرتُ إلى مقر العمليات داخل إسرائيل ولبنان، كل ما في الأمر أني كنت أتابعها، ساعة بساعة، رغم وجود السبعة آلاف ميل التي تَفصِل بين عدسة الكاميرا وكاميرا العرض …
لنتركه، فستُحتِّم الأحداث أن نعود إليه …
•••
يُخيَّل إليَّ أن الفائدة الوحيدة لما جرى لنا كلنا في لبنان، وما زال يجري، هي أننا بدأنا نتعلم — أو المفروض أننا بدأنا نتعلم — أن لا تَخدعنا المظاهر أو التصريحات أو حتى المعاهدات، أو بالأصح كل ما يصدر عن الجانب الإسرائيلي — ومثله الجانب الأمريكي — من أقوال أو تصرُّفات أو مواقف خارجية …
بدأنا، أو بالأصح بدأت شخصيًّا أدرك، أن هناك مستويَين لحكاية إسرائيل وقصتنا الطويلة معها، أو لنكن دقيقين ونقول هناك خطتان؛ الخطة الحقيقية لخَلق إسرائيل، وزرعها، وتدعيمها، ثُمَّ تحويلها من مرتكَز أو رأس جسر، إلى قاعدة عسكرية استيطانية على هيئة دولة، ثُمَّ تطوير هذه الدولة إلى حدٍّ تُصبح معه القوة القادرة على هزيمة العرب عسكريًّا، ثُمَّ هزيمتهم سياسيًّا، تمهيدًا لاغتصاب أراضيهم وصنْع الإمبراطورية اليهودية الكبرى، وحتى ذلك ليس النهاية في رأيي، ولكنه فيما أعتقد الخطوة الهائلة الأولى، للانتقال إلى الخطوة الثانية الأكثر هولًا، وهي استعمال هذه الدولة نقطة انطلاق لغزو العالم كله والسيطرة عليه، ولا يعني هذا غزوه عسكريًّا والسيطرة عليه بالقوة المسلحة والاحتلال، ولكن السيطرة على كامل مقدراته من مصادر للتمويل والطاقة والغذاء والأسرار التكنولوجية العليا؛ بحيث وباستخدام هذه الاحتياجات الحيوية لا تَجدُ دول العالم أمامها إلا إمَّا أن تُسلِّم بالسيطرة حتى تُبقيَها إسرائيل على قيد الحياة، وإمَّا رفضها لكي تستخدم إسرائيل تلك الأسلحة لتركيع تلك الدولة والزحف على بطنها طلبًا لمقومات الحياة التي تقبض على ناصيتها المجموعة الإسرائيلية.
هذه هي الخطة الحقيقية غير المُعلَنة أبدًا، وهي خطة متكامِلة، تتَّصل استراتيجيتها بتكتيكها؛ بحيث تَتوه الأهداف في الوسائل، والاستراتيجية بالتكتيك، بحيث ينشغل العالم بالرد على ما يتصوَّر أنه تحرُّكات تكتيكية ستتوقَّف حينًا بعد حين، وبهذا لا يفطن العالم إلى الهزيمة الكبرى، أنه بمجرَّد التسليم أو التهوين من شأن أي خطوة تكتيكية تُقدم عليها إسرائيل، إنما يَعمى ويغفل عن الهدف الاستراتيجي وراء كل خطة تكتيكية، بحيث بموافقته عليها إنما يوافق دون أن يدري، أو بالأصح يُتيح لإسرائيل أن تُحقِّق خطوة عظمى غير ظاهرة، وقد تبدو لا أهمية لها بالمرة، جزءًا من الخط الاستراتيجي العميق المبيَّت؛ ذلك الذي بَيَّنَّا أن هدفه في النهاية تحويل إسرائيل إلى غرفة عمليات، أو مجمع كونترولات، تتحكَّم بواسطته الأقلية اليهودية التي لا تتعدى بضعة ملايين من سكان العالم وثرواته ودُوَلِه، في حياة مليارات الملايين، تلك هي الخطة العميقة المدفونة في سابع أرض …
أمَّا الخطة الظاهرة، فعلى عكسها تمامًا، واضحة تمامًا، وتدور أمام أعيُن الدنيا وأبصارها، ومقصود بها أن تكون من الوضوح بحيث تُربِك حتى المتشكِّكين أو مَن يَميلون إلى التعمُّق وراء الأهداف، وتجعلهم يتشكَّكون من سوء نواياهم هم وليس من سوء نوايا إسرائيل …
•••
وإذا طبَّقنا هذا على ما حدث في لبنان، لأمكَنَنا أن ندرك أننا لا نخرف أو نتجنَّى، وإنما فقط — وهذا هو أضعف الإيمان — نستعمل ذكاءنا ونستفيد من مذاكرتنا لربع قرن من الأحداث التي طبقت فيها إسرائيل هذا قبل أن تبدأ الحقيقة تنبلج لنا — وليس بسبب عبقريتنا للأسف — إنما بسبب عامل تدخل، ولم تعمل له العقول التي تُفكر وتخطِّط وتدبر لإسرائيل حسابًا … إذا طبقنا هذا على ما حدث في لبنان، وجدنا أن أحدًا لم يكن يتصوَّر أن تلك «التجريدة» المحدودة التي قيل إنها قد جُرِّدت لتأديب الجنوبيِّين اللبنانيِّين من لبنانيين وفلسطينيين، سوف تَنتهي إلى ذلك المشهد الذي لم يكن حتى أشد الناس قدرةً على التخيُّل أن يتصوَّره، مشهد لبنان وقد اكتُسح، وحصار بيروت يتم في ساعات، والعرب قد فقدوا القُدرة على التصرف، والمقاومة وقد خرجت من بيروت كما تخرج الشَّعرة من العجين، وأصبح الموقف بعد أن كان الرأي العام كله عالميًّا وعربيًّا وغربيًّا وشرقيًّا يُطالب لفلسطين بوجودِها ودولتها، أصبحت مشكلته الملحَّة أن يعود لبنان نفسه لبنانًا لنفسِه، وأن تَجلو إسرائيل ليس عن الضفة أو غزة أو الجولان، وإنما عن لبنان، وأن لا تَجلو فقط وإنما لا يكون ثمنُ الجلاء دخول لبنان تحت الحماية الإسرائيلية …
منظر لم يكن أحد يتخيَّله أبدًا …
ذلك أننا كُنَّا دائمًا مشغولين بالتحركات الظاهرة لإسرائيل، مشغولين بالردِّ التكتيكي على كل فعل لإسرائيل، مشغولين «بالكاموفلاج» عن الأسلحة الثقيلة المدمِّرة التي يخفيها …
فهل تعلمنا؟
لنتأمل، وبخطورة تحشد لنا كل ذكائنا وقدراتنا، فربما، حينذاك فقط، نبدأ نتعلَّم …